المطارد

تأتي عبقرية رواية «ملحمة الحرافيش» أن الكاتب قام على مدى عشر حكايات بتحريك الأجيال والأشخاص، وتثبيت الزمن باعتبار أن كل هذه الأجيال المتتالية يمكنها أن تستمرَّ قرابة خمسة قرون، لكن بقراءة النصِّ الأدبيِّ يمكن إدراك أنها قد تدور في نفس الزمن، رغم تتابع الأجيال، وقد اكتشف كُتَّاب أفلام نجيب محفوظ أن هذه الرواية يمكنها أن تتحول إلى أفلام منفصلة تمامًا، كلٌّ منها عن الآخر، باعتبار أن أبناء وأحفاد الناجي قد عاشوا أزمنة منفصلة في نفس الأماكن.
وعليه فإن هذه الأفلام قد كتبها كُتَّاب سيناريو بأعينهم، وتعاقب عليها مُخرجون، ومنها فيلم «المطارد» الذي كتب له السيناريو أحمد صالح وأخرجه سمير سيف عام ١٩٨٥م، وهي الحكاية الرابعة من الملحمة التي تبدأ بما يوحي ما أشرنا إليه «الشمس تشرق الشمس تغرب، النور يسفر الظلام يخيم، الأناشيد تشدو في جوف الليل.»
وهناك جُمل واحدة تشير أن «غابت رضوانة في باطن الأرض، غاب إبراهيم في السجن، غاب بكر في المجهول.» ثُم إشارة إلى أنه لم يرث أحدٌ القتيلة، ويصف الكاتب ما حدث للأُسرة والفتوَنة بعد سليمان الناجي، أن خضر ابن سليمان صار يؤدي الإتاوة للقللي.
أمَّا الفيلم فيبدأ بالفتى سماحة الناجي الذي ينتظر وصول مجموعة الحرافيش، ويعرف أنه لم يتمَّ الاتفاق بعدُ على مَن يكون الفتوَّة الجديد، فالغالب هو الفتوَّة الجديد. يردِّد أحد الحرافيش إلى سماحة أن الفتوات الحقيقيين هم أجداد سماحة؛ عاشور، شمس الدين، سليمان، وهم أبطال القصص الثلاث الأولى من الملحمة «أيامها كانت الفتوَنة جدعنة.»

يعني هذا أن الفتوَّة الجديد لن يكون من عيلة الناجي، ولن يكون عادلًا، إنه القللي، رغم أن سماحة يراجع حبيبته رضوانة أن القللي لن يقهر المساكين.

تدور المَشاهد الأولى من الفيلم، قبل مقتل رضوانة، فهناك حديث مليء بالمودَّة بين أفراد الناجي، الأخ الأكبر وزوجته والعمِّ الذين يعيشون في رضاء، وأيضًا سماحة الذي يحبُّ جارته رضوانة، ويذهبان للقاء في المقابر، ووسط القبلات يسمعان ثلاثة رجال يقرِّرون التخلُّص من الفتوَّة القللي.

في الفصل «٢» من الرواية يصف الكاتب سماحة: «فائض الحيوية، قويُّ العضلات، في وجهه ملامح شعبية من وجه جدِّه سليمان، أتمَّ تعليمه في الكُتَّاب، واكتسب من عالم الفضيلة شهامةً وكرمًا وبعض الورع.»

وسماحة يسمع من عمِّه أن أجداده كانوا فتوَّات لا بلطجية، أمَّا الفصل «٣» فإن سماحة قد انضمَّ إلى عصابة القللي، وأصبح رجلًا من رجاله، وكما رأينا في الفيلم فإن هذا الانضمام حدث بعد أن شارك سماحة في إنقاذ حياة القللي، لكن هذا الأخير لن يحنو قطُّ على ابن الفتوات السابقين؛ حيث سيفعل ما فعله فتوَّات آخرون في أفلام مثل «فتوات بولاق»، و«الشيطان يعظ».
فالقللي يودُّ إذلال سماحة، حيث يطلب منه أن يخطب له مهلبية، وهو يعرف أنه سوف يتزوجها، وعلى سماحة الطاعة، وأن يوافق على زواج الفتوة من مهلبية، «يا بخت من كان مرسال المعلم.» كما أن الفتوَّة يطلب النبوت الخاص بالفتوَّة سليمان الناجي، فلا يرفض.

يقرر سماحة أن يطيع الفتوَّة في الظاهر، في وقتٍ ترفض الأمُّ أن تتزوج ابنتها من سماحة، خوفًا من الفتوَّة، ويقرِّر سماحة الهرب مع مهلبية في جنح الليل، وفي الشارع المُظلم يتمُّ ذبح مهلبية، وقبل أن يهرب سماحة يمنحه عمُّه النبوت «العصا دي يا ما شافت أمجاد، وكتبت بيها تواريخ.»

ويطلب العمُّ من سماحة أن يعود كي يؤدِّب القللي، وإعادة الفتوَنة، ثُم ينهار كل شيء، ونفهم أن أمَّ مهلبية التي بُلِّغت بهروب ابنتها، محافظة على حياتها.
في الرواية فإن العمَّ أصابه الأسى من موقف ابن أخيه المتخاذل، لكن ابن أخيه يطمئنه أنه يضمن إعادة الفتوَنة، كما أن خضر هو الذي دبَّر زواج سماحة من بنت الحلال، والعم هو الذي اختار أنسية كريمة محمد البسيوني العطار، وجسَّ النبض فلقي ترحابًا؛ أيْ إن مهلبية لم تكُن مقبولة من العم، وقد حكى الكاتب في الفصل «٦»، وهي فصول قصيرة لا تتعدى أن تكون فقرة، كيف تعرَّف سماحة على مهلبية، كما وصفها، ضاربة للسواد، ممشوقة القد، وقد أقبل عليها رغم حرفة أمِّها كودية الزار الملعونة، وقد ذهب إليها سماحة وحده، فتمَّت قراءة الفاتحة، بينما في الفيلم تمَّ تهميش دور العمِّ خضر في مسألة زواجه، حيث إن أنسية قد تزوجت من رضوان في الرواية.
في النصِّ الأدبيِّ والسينمائي فإن الأمور تتشابه تمامًا، حين ذهب سماحة لدعوة الفتوَّة لحضور الفرح، حين يخبره حمودة، رجل القللي، أنه قبل ساعة قرر الفتوَّة اختيار سماحة ليكون رسوله إلى صباح ليطلب يد ابنتها، والبقية مثلما أشرنا آنفًا. فالأمُّ ترفض الهرب مع الاثنين؛ لأن رزقها هنا، حتى تمَّ قتل مهلبية، ونسبت التهمة إليه بقتلها؛ مما دفعه إلى الهرب «لا مفرَّ من الهروب كما هرب أبوه بكر وجدَّته سنية، كما اختفى عاشور».
مثل هذه النصوص الأدبية من الصعب الخروج عليها كثيرًا أو اختصارها، فهي مكتوبة بشكلٍ مكثَّف، ولا تحتاج إلى إضافات، فقد كتبها المؤلِّف أقرب إلى المَشاهد السريعة المختصرة، لدرجة أن الفصل «٢١» عبارة عن فقرة من ثلاثة أسطر لا أكثر، وفي الفصل التالي انتقل سماحة إلى ما وراء النيل، وأطلق لحيته، وصار اسمه بدر الصعيدي، وصارت حرفته بيع الحلبة والعدس، وأقام في بدروم ببولاق، وعُرف بسلوكٍ طيب، وهو يعرف أنه محكومٌ عليه بالإعدام؛ لذا فإن المقارنة للعثور على إضافات أو محذوفات، سواء في الشخصيات أو الحكايات، تبدو غير ثرية، وكأن محفوظ كتب الرواية بما يشبه السيناريو، وأرى أنه من الظلم ألَّا يُذكر اسمه ككاتب السيناريو، وهناك نماذج بسيطة من المحذوفات، مثل شيخ الحارة الذي يعرف أن سماحة قادم من الصعيد، وفي الفيلم نسمع سماحة يتكلم بلكنة صعيدية.
سرعان ما دخل الفيلم، مثل الرواية، ليعرِّفنا على محاسن بائعة الكبدة، وهي مطمع كل شاب، سرعان ما تُشهر أسلحة الدفاع من لسانٍ سامٍّ وأظافرَ حادة، وهي تنادي سماحة ﺑ «السني»، وقد نضجت بينهما عاطفة قوية. وفي الفصل «٢٤» وعن طريق الحوار يتعرف سماحة على تاريخها، وفي الفيلم فإنها تفتعل اشتعال مشاجرة نصبتها كي يعمل على إنقاذها، وفي الرواية يتقدم سماحة للزواج منها.

«أعلنت الخِطبة، وبعد أشهر تمَّ الزفاف.»

لكن حتى هذه اللحظة لم يكُن المُخبر قد ظهر في الرواية، وإن كان قد كشف عن سخافاته في الفيلم، كما غيَّر السيناريو من سمات الحماة، أمِّ محاسن؛ فهي في الرواية عمياء، عجوز، وقحة، سليطة اللسان، وكثيرًا ما تبادلت الشتائم مع زوج ابنتها، وكم دبَّت الخلافات بينهما، وقد بدا ذلك في الفصل «٢٩» من الرواية، إلا أنه في بداية الفصل التالي ماتت العجوز عندما سقطت من نافذة الصالة المطلَّة على المنور فتهشَّم رأسها.

في الفيلم رأينا سماحة وزوجته وحماته يقيمون في مسكن بالدور الأرض، كما ظلت أمُّ محاسن على قيد الحياة تؤازر ابنتها طوال الفيلم، وقد حذَّر سماحة زوجته من البكاء على أمِّها لأنها حامل، إلا أنها واجهته بأنه سعيد لرحيلها، وعندما جاء الطفل أحسَّ الزوجان بالسعادة، وقد أنجبت له أربعة أبناء دون أن نرى المُخبر، وصار الزوج وجيهًا من وجهاء الحارة، أمَّا المعنى في الفيلم فقد أشار أن سماحة ظل في حالة مطاردة طوال حياته «مرَّت الأيام وتعاقبت الأعوام حتى آمن الرجل على مصيره وانجلت عنه المخاوف أو كادت.»

بدأ القسم التالي من الرواية في الفصل «٣٣»، بحيث توطَّدت صداقة بين فتوَّة بولاق والقللي؛ مما زلزل كيان سماحة، فهذا يعني أن يأتي رجال القللي إلى بولاق، وكان أول ظهور هو لمحمد توكل شيخ حارته الأصلية الذي يسعى لمصاهرة تاجر الخردة. تسأله زوجته عما به، وبعد إلحاحٍ يروي لها، مثلما في الفيلم، قصة المطارد المظلوم.
لذا ودَّع الرجل زوجته وأولاده قُبيل الفجر، وصار على محاسن أن تدير الدكان، وتخبر مَن يسألها، خاصةً شيخ حارته، أنه سيغيب أعوامًا. وفي الفصل «٤٠» يظهر حلمي المُخبر الذي جاء مع كبسة عسكرية، فيسوقها إلى قسم الشُّرطة، ويتمُّ الإفراج عنها.

بدأت بعض الأحداث في التغيُّر بين الفيلم والرواية؛ حيث إن زمن فتوَنة القللي في الرواية قد انتهى، وسعت محاسن إلى أن تتعرف بأهل زوجها، وعرفت أنهم من صلب فتوَّات قدامى يروون عن سيرهم ما يشبه المعجزات. وابتداءً من الفصل «٤٥» يبدأ حلمي في رمي شِباكه حول محاسن، وتمرُّ الأيام وسط إرهاق متواصل وحرمان، ومحاسن في داخلها تحاكم زوجها وتدينه وتعاني في تدبير الأموال لتربية الأبناء، ويبدو حلمي هنا أقلَّ شرًّا، وهو يحوم حولها ويتحدث إليها بحنان، ويلمِّح لها أنه ابن الحلال الذي في إمكانه أن يطلبها.

الجزء الأخير من الفيلم يختلف عن الرواية؛ فالقللي لا يزال موجودًا، وسماحة يزور امرأته في ملابس امرأة منتقبة، والحماة تكاد تكشف الأمر، وتدور مشادَّة بين القللي وأُسرة الناجي، فيضرب رجاله «خضر»، ويذبحون رضوان في مشهدٍ عنيفٍ مأساوي، وعلى جانبٍ آخر فإن محاسن تطرد حلمي من منزلها، بينما أمُّها تحاول أن تقنعها بالزواج منه، فهو الحكومة، أمَّا سماحة فهو يعيش في الجبل، وينزل إلى القللي ليقاتله بعد أن تدرَّب، وفي الفيلم مَشاهد تروح فيها محاسن وراء زوجها إلى حيث يتدرب على القتال عند الفجر، وعند المواجهة فإن القتال يدور بين سماحة والقللي فردًا لفرد، وفي نهاية المعركة يعترف القللي بالحقيقة، وهي أنه القاتل؛ أيْ إن سماحة بريء، لكنه لا يلبث أن يطعنه طعنةَ موت.

تنتشر الشائعات بموت سماحة، وتحزن الزوجة وتحاول الهروب ليلًا، إلا أن حلمي يعترضها ويحرمها من الخروج، ويعلن أن سيتزوجها، وفي ليلة زفافها إلى حلمي تقول لها الأمُّ: «ارضي بما قسمه الله لكِ.» وفي الليل يتسلل سماحة إلى بيته بعد زفاف زوجته، وتُفاجأ به امرأته يطرق الباب، فتنوح، وتدور مواجهة جديدة، يحمل حلمي مسدَّسه، ويقذفه سماحة بالقلة، ثُم يقتله ويهرب كي يعود مطاردًا من جديد.

أمَّا في الفصول الأخيرة من الرواية فنرى الأشياء بشكلٍ مختلف؛ حيث يفقد أصغرُ أبناء سماحة عينَه؛ مما يزيد من همِّ الدنيا، ويأتي خضر إلى محاسن، ويعلن لها أن الأُسرة في خدمتها، وفي الفصل «٤٩» نرى رضوان على قيد الحياة، وعندما يعرف حلمي بأمر الزيارة يبلغها أنه من الخير أن يذهب الأبناء إلى أعمامهم، وتفعل الأمُّ وسط أجواء حزينة، ثُم تتزوج من حلمي، عقب طلاقها من سماحة القاتل الهارب.

في الفصل «٥٤» يبدأ النزاع بين الزوجين الجديدين، فحلمي يودُّ من المرأة أن تصرف عليه «كلاهما يتسم بالعنف والعناد»، أمَّا سماحة فإن السنوات تمرُّ عليه انتظارًا للعام الذي سيسقط فيه العقاب «كلما مرَّ منه يومٌ اشتد العذاب»، لم يكُن يعرف أن محاسن قد أنجبت ستة أولاد من المُخبر. وهكذا فإن الثلث الأخير من الرواية، لم يتمَّ الالتفات إليه بالمرَّة في الفيلم، وتمَّت كتابة سيناريو، يتفق مع فيلم عن الفتوَّات والأخذ بالثأر، عدا الفصل «٥٩» الذي يعود فيه سماحة إلى بيته، ليُفاجأ أن بالبيت رجلًا آخر وأبناءً، ويتخذ سماحة من أحد أبناء المُخبر رهينة، وتتوسل محاسن إلى زوجها أن يدعه يذهب، وتدور معركة بين الرجلين تنتهي بصوت شيخ الحارة يصيح: «سلم نفسك يا سماحة، قتلت حلمي عبد الباسط مُخبر الحكومة.»

المشهد الأخير في الرواية حين يذهب سماحة إلى بيت الناجي القديم، ويلقي نظرات حنان على أولاده النائمين، وفي هذه السطور، نعرف أن القللي مات منذ عامين، وأن الفسخاني حلَّ مكانه، وأن أحداثًا عديدة دارت في الحارة، وعليه أن يبدأ رحلة هروب جديدة في دنيا العذاب والمطاردة، وأنه سيرجع إذن شيخًا بلا حول.
إذن فقد كتب كلٌّ من أحمد صالح، وسمير سيف فيلمًا فيه نصف النصِّ الأدبيِّ، أمَّا النصف التالي فهو يتفق مع رؤية مُخرج عُرف عنه شغفه الشديد بأفلام الحركة، ورغم ما بالفيلم من أجواء مطاردات ومعارك، فإنه التزم بالمعنى الكبير في الرواية؛ أن سماحة سيظل مطاردًا «هكذا كتب في دفتر أحواله الحياتية، وأنه في الفيلم أفضل حالًا من الرواية، فزوجته وفية له حتى وإن قتل زوجها، وكما أشرنا فإن الفيلم امتلأ بالعنف والمعارك، خاصةً مشهد ذبح رضوان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤