الحرافيش

إنه الصراع الأزليُّ بين قابيل وهابيل، يتجسَّد في الحكاية الثالثة من ملحمة «الحرافيش»، تحت عنوان أدبيٍّ هو «الحب والقضبان»، أمَّا العنوان السينمائي فهو «الحرافيش» حسب الفيلم الذي كتبه أحمد صالح، وأخرجه حسام الدين مصطفى.
فالحكاية تبدأ، مثل كافَّة الحكايات، بالحديث عن موت الفتوَّة، إنه هنا شمس الدين الناجي الذي كان يمثل العدالة والحكمة، والذي خلفه سليمان شمس الدين الناجي، وهو عملاق مثل جدِّه عاشور، إنه آية في الجمال والرشاقة، لم يتقدم لمنافسته أحد، ظل حاميًا للحرافيش، وهو في العشرين من العمر، ثُم تزوج من فتحية شقيقة صديقه عتريس، حين شعر أن الزواج يصون فتوَنته من المباذل، فأنجبت منه البنات.
بعد سنواتٍ من الزواج رأى سنية السمري، ابنة كبير تجار الدقيق، وقبل أن يتزوج منها، أخبر عتريس أنه سوف يتزوج مع الاحتفاظ بفتحية «الحبُّ ذو رائحة نفاذة.» وتمَّ الزواج بين سواق الكارو، الفتوة، وبين ابنة الأغنياء في زفافٍ لم تشهد له الحارة مثيلًا.
غيَّره الزواج، فترك الكارو، وصار من وجهاء الحيِّ الذين أثنوا على عدله، وأنجبت له سنية الذكور؛ «بكر»، ثُم «خضر»، وتغيرت الدار والأحوال، واستولت سنية على قلبه ورغباته، وصار رجاله أيضًا من الوجهاء، ونشأ الولدان نشأة مرفَّهة ناعمة، إنهما مختلفا المظهر؛ بكر يشبه أمَّه في جمالها ورقتها، أمَّا خضر فأشبه بأبيه، أدارا المحلَّات عندما صارا يافعين، وتمنى لهما الأب سليمان أن يصيرا من الفتوات، أمَّا الأمُّ فأعدَّت لهما حياة الرفاهية.
اختارت الأمُّ لابنها بكر أن تزوِّجه من رضوانة كريمة العطار، وزُفت إليه، جاءت إلى البيت، وعشقها زوجها منذ الليلة الأولى؛ شعر ذهبي، وعينان زرقاوان، وفارعة الطول، وتتعثر في الحياء.
في الفيلم هناك إشارة إلى أن الأخ الأصغر خضر قد رآها قبل أن تختارها أمُّه لأخيه، وأنه أحبَّها، أمَّا في الرواية فقد انعقدت بين رضوانة وخضر صداقة وأخوَّة، فكان يقوم بخدمتها كلما غاب بكر في إحدى رحلاته التجارية، وفي أثناء ذلك عرف شقيقتها الصغرى وفاء، وهي غير موجودة في الفيلم، وفي أثناء رحلة للزوج، تقول رضوانة لخضر أنها رأته ذات يوم وهي بنتٌ في دار أبيها، وأنها أُعجبت به، وعندما علمت أن سنية هانم السمري خطبتها لابنها، تصورت أن خضر هو المراد، وصدمت عندما كان العريس «بكر»، وعندما يتجاهل مشاعرها تقول: «تخاف أخاك، تخاف أباك، تخاف نفسك.»

الأنثى هنا هي التي تعرض نفسها إلى الأخ، وتستفزه كي تجذبه إليها، لكنه يتجنب رؤيتها، وتبدأ الأحزام في العصف به، ويفكر في هجرة الحارة، أما هي فتوقع بين الأخوين، بأكذوبة أن أخاه غدر به «أودُّ أن نعيش بعيدًا عن هذه الدار.» ويبدأ اصطدام قابيل وهابيل الأزلي، لكن في بيت لسليمان الناجي، فيصرخ فيه: «تطمع في زوجة شقيقك!» وليس هناك سبب واضح لموقف رضوانة أن يدور صراع دامٍ بين زوجها وحبيبها، سوى أن خضر رفض حبَّها، تردِّد: «الشيطان يندس بيننا.»

وتجري الفضيحة على كل لسان، فتؤثر على تاريخ الأب سليمان، الذي مرَّ به الزمن، وصار رجلًا ضعيفًا، أصابته الشيخوخة، والشلل، ورحل الابن، وصار عتريس فتوة بالنيابة، ثُم استولى على نصيب سليمان من الإتاوات، وفكر أن يطلق سنية السمري، ويعود إلى منزل زوجته القديمة فتحية التي تراعيه.

أمَّا بكر، فإن زوجته تنجب منه ثلاث أبناء، يعيش في حالٍ أفضل كتاجر، تحوم الشائعات الأليمة من حوله بعد طلاق أمِّه، وفي حياته الزوجية اضطراب، وتسوء العلاقات بين سنية ورضوانة، تطلب الأمُّ من ابنها أن يطلق امرأته، فيردِّد في ضعف: «إبليس نفسه يعجز عن فعل ذلك.»

تتغير الأحوال بالناس، ويشتري بكر منزل حميه عندما تعصف بهذا الحياة، وتزداد الفضائح بعد هروب سنية من الحارة مع شابٍّ سقاء، وتتزوج منه دون أن يعرف أحد مكانها، ويموت سليمان، وتعاير رضوانة زوجها بضعفه وهزيمته في سوق التجارة، ويُعقد المزاد لتصفية تجارة بكر، وفي اللحظة الحاسمة يظهر خضر كي ينقذ أخاه من الإفلاس، يردِّد بكر: «الخراب أحبُّ إليَّ من النجاة على يدك.» تثور الأقاويل أن عودة خضر كانت من أجل إنقاذ رضوانة، وليس الأخ، وبكل جرأة تردِّد الزوجة لزوجها: «لم أفقده طيلة معاشرتي لك!» مما يشعل نيران الصراع، فيهجم عليه وسط الدائنين، ويتضاربان، إنه الصراع الدامي بين قابيل وهابيل، ثُم يهاجم بكر زوجته ويطعنها، ويهرب دون أن يعلم أنها لم تمُت.

ثُم تبدأ المواجهة مع الفتوَّة عتريس، وتتقرب رضوانة من جديد إلى الرجل الذي تحبُّه، هناك تشابهٌ واضح بين زهيرة في «شهد الملكة»، وبين رضوانة في «الحب والقضبان»؛ فالزوج يهرب ويعود فيما بعد، وهي امرأة يتصارع من أجلها الرجال في عالم بين الفتوات والحرافيش والتجار، والصراع على النبوت، تقول رضوانة لبكر: «أعترف بأنني كنت شريرة، وأنني ظلمتك ظلم الحسن والحسين.» يقول: «في البدء كانت اللعنة، والآن الجنون.» وفي نهاية حوار طويل يقول بجدِّية بالغة: «كنت أحبُّك، ما زلت أحبُّك، ولكن علينا أن نفكر طويلًا.» وتعود الشائعات تربط بينهما حول وجود علاقة غير شرعية.

رضوانة لا تموت على يد زوجها الغائب، مثلما يحدُث مع زهيرة، بل إن أخاها يأتي إليها، وبعد حوارٍ حول علاقتها ومشاعرها نحو خضر، فإنه ينقضُّ عليها، ويخنقها حتى تعلن العدم.

إنها رواية صغيرة، أو فصل منفصل من رواية، يعتمد على الحوار، يصلح أن يكون فيلمًا بنفس الصورة التي نقرأها كنصٍّ أدبيٍّ، دون أيِّ تغيُّر ملحوظ، وخاصةً مع مُخرج من طراز حسام الدين مصطفى في الفترة التي تمَّ فيها إنتاج فيلم «الحرافيش» عام ١٩٨٥م، كثرت الحواديت السينمائية التي تقوم على صراع الأشقَّاء على نفس المرأة، خاصةً أنها زوجة لأحدهما، ومن هذه الأفلام «الأنثى» إخراج حسين الوكيل، وفيه قامت ليلى علوي أيضًا بهذا الدور؛ زوجة بين شقيقين، تزوجت من أحدهما، وتقيم علاقة جنسية مع الآخر، وقد تكرر هذا في فيلم «الصعاليك» لداود عبد السيد، وإن كانت الصداقة هنا أقوى من الأخوَّة.
من ناحيةٍ أخرى بدا تكالب المُخرجين على قصص الحرافيش في منظور ناقد مثل سامي السلاموني باعتبار أنه الوباء القادم إلى السينما، وذلك مثلما جاء في مقالٍ له نُشر ضمن أعماله الكاملة، ويقول الناقد حول هذا النوع من الأفلام: فتوَّة نجيب محفوظ هو جماع لعدَّة قيم ومبادئ؛ أولها قوة الشجاعة والشرف، ثُم الإيمان بالعدل، وهو يفرضه بالنبوت أو بالشمروخ، لا أدري ما هو اسمه بالضبط، وهو نموذج شعبيٌّ أفرزته الحارة المصرية في ظروفٍ خاصة للبطل أو الزعيم، وفيه من روبن هود الذي يأخذ من الغنيِّ ليعطي للفقير، وله معانٍ ودلالات وتفسيرات واسعة جدًّا.
وفيلم «الحرافيش» الذي تمَّ إخراجه في نفس وقت إخراج «شهد الملكة» استعان فيه المُخرج بنفس الديكور وأحيانًا الممثلين أنفسهم، مثل صلاح قابيل الذي قام بدور الفتوَّة في الفيلمين، في «شهد الملكة» أدَّى دور نوح الغراب، وفي «الحرافيش» أدَّى دور عتريس الذي يطمع في المنصب بعد أن ضعفت الأحوال بالأب سليمان، فظهر الابن عند الضرورة كي ينتصر لأبيه، وهو أمر لم يحدُث في الرواية.

الفيلم والنصُّ الأدبيُّ يستفيدان من الصراع الأزليِّ بين قابيل وهابيل، كما أن هناك إشارة في نهاية النصِّ الأدبيِّ حول تشابه هذا الصراع مع امرأة العزيز؛ فالمرأة هنا شريرة تغوي حبيبها الذي يتمنع عنها، وهي تؤذيه، وعندما يظهر مرَّةً أخرى، تحاول التودُّد إليه، لكن الصراع هو بين شقيقين حول المرأة نفسها، وإن تمَّ ذلك في حارة شعبية فيها الصراع الأزليُّ بين الفقراء والأغنياء، وفيها الصعود ثُم الهبوط الاقتصاديُّ والاجتماعي، والنهاية الحتمية لامرأة تحاول أن تخون زوجها مع أخيه، ثُم إذا هي عندما تفشل تسعى للإيقاع فيما بين الأخوَين.

والأخوان هنا لا يقتتلان من أجل المرأة نفسها، فخضر يترك الحارة بمَن فيها، ولا يظهر إلا من أجل إنقاذ أخيه وأُسرته.

الخلافات الواضحة بين الفيلم والرواية أن عتريس هو المنافس الأزليُّ لسليمان الناجي، ففي بداية الفيلم يقف عتريس معلنًا أنه الفتوَّة، عند أطراف المنطقة، وهنا يظهر سليمان كي يواجه خصمه، أمَّا في النصِّ الأدبيِّ فإن العلاقة التي تربط بين الرجلين وطيدة، فعتريس هو شقيق الزوجة فتحية، وحين يودُّ سليمان أن يتزوج للمرَّة الثانية يستشير عتريس، عندما يمرض سليمان، فإن عتريس ينوب عنه، ثُم لا يلبث أن يصبح الفتوَّة دون أن ينازعه أحد على المنصب، أمَّا عتريس الفيلم فهو شرير، يطمع في المنصب، ويربض في مكانه حتى تحين الظروف، وحين يمرض سليمان ويصاب بالشلل يقفز عتريس إلى مكان الفتوَّة ويعلن نفسه فتوَّة المكان، وفي اللحظة المناسبة يظهر خضر ويعود من غربته الاختيارية.

وفي الفيلم سعت سنية للتقرُّب من سليمان، معجبة بقوته، بينما في الرواية فإن سليمان هو الذي شاهدها بعد عشر سنواتٍ من زواجه بفتحية، وهو الذي سعى إلى ذلك حبًّا فيها، وبتردُّدٍ ملحوظ، وهي كلها اختلافات شكلية، أمَّا باقي الحوادث فإنها تكاد تطابق النصَّ الأدبيَّ، وقد انتهى الفيلم بقيام بكر بطعن امرأته وقتلها، أمَّا النصُّ الأدبيُّ، فإن الأخ قد هرب، وتعافت رضوانة التي ظلت على حبِّها لخضر، وأن الذي قتلها خنقًا هذه المرَّة هو أخوها إبراهيم الشوبشكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤