الجوع

هي أصغر الحكايات مساحة من بين حكايات «الحرافيش».
هي الحكاية التاسعة المعنونة «سارق النعمة»، حول بطلها سماحة شمس الدين الناجي الذي نجا من الموت واسترد قوَّته.

ومن الملاحظ أن الحكايتين؛ التاسعة والعاشرة، هما الأقصر من حيث المساحة، وكأنما الكاتب قد تعب من كتابة كل هذه الملحمة الطويلة، فلجأ إلى الاختصار.

وإذا كان الكاتب قد اختار لكل قصة جذورًا ما في الحياة، مثل الصراع بين قابيل وهابيل، أو حكاية ملكة النحل في حكاياتٍ أخرى، فإنه هنا يقترب من أوديب، ففوز الفتوَّة بمكانته انعكس على سعادة أمِّه بحظها وبانتصارها الحاسم على ضرتها.
خلق سماحة أسطورة حول ذاته، وسوف نرى أن بداية الفيلم اختلفت تمامًا عن النصِّ الأدبيِّ، وقد أوجز الكاتب مسيرة سماحة في الصفحات الأولى بأسلوب الحكْي، دون اللجوء بالمرَّة إلى الحوار الذي تمتلئ به هذه الروايات عادةً، لقد رفع سماحة من مكانة الفتوَّات، وأرجع إليها الهيبة والجلال، وأنشأ بماله ومال أخيه فتح الباب دارًا جميلة أقامت بها أمُّه نور الصباح.

وقد تولى سماحة رعاية أخيه، منذ أن كان في التاسعة، يبدو بخيلًا، ثُم تخلَّص منه إلى امرأة عجوز كي تتولى تربيته، كانت تقيم في بيتٍ فقير.

تزوج سماحة من فتاة جميلة، ولم تكُن موضع قبول أمِّه في البداية، هي فردوس، هو صاحب وجه قبيح، وهي جميلة ذات وجه عذب، أمَّا الوجه القبيح له فبسبب ضربات النبابيت، وبفضل الزواج صار سماحة مديرًا لمحلِّ الغلال ومالكه الفعلي، فصار يتصرف في شئون المال والمعارك بإرادة من صوان، فالزوجة هنا تختلف عنها في الفيلم، على الأقل من حيث الجمال والحسن «أدَّت الدور سناء يونس».
أمَّا زوجته فردوس فهي تركية، خصبة الإنجاب، أمَّا البطل الرئيس الثاني، فتح الباب، فقد نما يتعلم في الكتَّاب، هو كما يُقال من أنبل الأصول، ترعرع حاملًا لجدِّه الذكرى الطيبة، عاشور الناجي، الذي اختفى وطال اختفاؤه، فتصوَّر الناس أنه مات، وتمنى البعض عودته، إنه يرى جدَّه عاشور في كل مكان، ينبض في قلبه وخياله، ويشتعل في أشواقه وآماله. إذن فهو يرمز إلى الحرافيش الذين ينتظرون يوم الخلاص.
وحسب النصِّ الأدبيِّ فإن نجيب محفوظ خصَّص له مساحات كبيرة، باعتباره البطل المنتظر، وهو يعمل في محلِّ أخيه بناءً على توصية من الزوجة فردوس، يراه أخوه رقيقًا مثل فتاة «إني أخاف الله وأحبُّ جدِّي.» يردُّ عليه سماحة: «جدُّك عاشور أول مَن علَّمنا السرقة.»

يتفانى فتح الباب في عمله، ويلقى ارتياحًا من أخيه «إني أشجع المجتهد وأبطش بالكسول.»

يلتقي بأمِّ سماحة، كنوع من تقديم فروض الطاعة، كما يزور فردوس فتقابله ببرود وتعالٍ، لكنه بالعمل يكتسب ثقةً وعزة، أطلق شاربه كي يتشبَّه بالرجال، ويعرف طريقه إلى الزاوية، ويقاوم الإغراءات ويحين وقت زواجه.

جاءت الهمسات من خارج الحارة أن الفيضان ذلك العام شحيح، وأن الطعام سيصبح نادرًا، وزحفت أشباح القلق، واندفعت عجلة البلاء بلا تدرُّج، فارتفعت الأسعار، وتلاطمت الشكاوى والأزمات، ولم يعُد للناس من حديث إلا الطعام، إنه الوباء، وكما يردِّد سماحة: «لم يعُد يبقى ما يكفي العصافير.» لكن فتح الباب يقول: «ما أكذبه! المخزن ملآن.» ويصف أخاه أنه وحش لا تعرف الرحمةُ قلبَه.

وأمام هذه الندرة تتعدد السرقات، والنهب يزداد، وتكثر عصابات الخطف، ويتضخم شبح الجوع، وشاع أن الناس يأكلون الخيل والحمير والكلاب والقطط، وأنهم عمَّا قليل سيأكل بعضهم البعض، ووسط ذلك يشهد الناس حفلًا مليئًا بالبذخ بمناسبة زفاف ابنة سماحة، يتجمهر الجياع، ويتخاطفون الطعام، وثمل الناس بالفوضى والشغب.

في اليوم التالي تعرضت الحارة لحملة تأديب وإرهاب، انتشر فيها رجال الفتوَّة، ولم ينجُ الناس من علقة أو إهانة، وتفشَّى الذُّعر؛ مما يزيد الإحساس بالغضب لدى فتح الباب، وفي الليل يظهر فاعل خير، يوزِّع صرر الطعام على الناس على أنها من عاشور الناجي، فانبعثت النشوة والفرح في الألسنة، وتردَّد اسم عاشور حتى تجسَّد، وتزعج هذه الأقاويل عن عودة عاشور الفتوَّة سماحة.

وصار الظلام الذي يظهر فيه عاشور الناجي بمثابة السحر بين الناس، ويكتشف سماحة أن مخازنه قد سُرقت، ويعرف أن فتح الباب هو الذي يتسلل إلى باب المخزن، فدبَّر له فخًّا ليكشفه، يردِّد الأخ: «جئت لأنقذ أرواحًا من الموت.» وسرعان ما نفهم أن عاشور الناجي هو فتح الباب.

وفي الفيلم قام سماحة بتعذيب أخيه أمام زوجته، وهي شخصية غير موجودة في النصِّ، أمَّا في الحارة فإن ما حدث قد ولَّد الغضب وسط الحرافيش، فانقسموا إلى جماعات، وتسللت كل جماعة إلى مسكن رجل من رجال العصابات، وغلبوهم، ثُم اقتحم الحرافيش المخازن، ونهبوا كل مخزن بها، وأول هدف لهم كان مخزن سماحة الفتوَّة، وشوهد فتح الباب معلَّقًا في عِرق من عروق السقف، مُدلَّى الذراعين، مُغمًى عليه أو ميتًا، ففكَّ وثاقه، وسيطروا على الحارة تمامًا.

وكانت المواجهة بين سماحة والحرافيش، يردِّد: «ماذا فعلتم بأبناء الزواني؟» فيقول له أحدهم: «جدُّك كان ابن الزانية.» وينهالون عليه بالضرب، إلى أن ينفلت النبوت من يده، وينقض الجميع على الدار.

وسرعان ما ينادى على فتح الباب كفتوَّة للحارة، رغم أنه لم يمسك نبوتًا في حياته، ورغم ضعفه الجسماني، فإن فتح الباب سيطر سيطرةً مطلقة بسحره الخاص، وقوة الحرافيش المتمثلة في كثرتهم، إنها ثورة الجياع والفقراء الكثيرين، وصار الأمل هو إحياء عهد عاشور الناجي، ويوعز أحد المساعدين إلى فتح الباب أن يعيش حياة الأغنياء، فيردِّد: «إذا لم نبدأ بأنفسنا فلن يتحقَّق خير.» يردِّد الآخر: «إذا بدأنا بأنفسنا تزعزعت أركان الفتوَنة.»

ومن المعروف أن أحداث الفيلم قد توقفت عند وفاة سماحة، أو فرج الجبالي، واعتلاء الحرافيش عرش الفتوَنة، أمَّا النصُّ الأدبيُّ فقد تابع رحلة فتح الباب الذي ودَّ لو تخلى عن الفتوَنة؛ فهو يودُّ أن يسود الحرافيش، ويستذلَّ الوجهاء، لذا فإن مساعديه يعارضون تخلِّيه عن الفتوَنة، كي يبقى بمثابة الصورة والأمل، حتى يستمر الحرافيش «حرافيش»، وتكون الحقيقة المُرَّة أنه إذا قرر فتح الباب التخلي عن الفتوَنة فإن رجال العصابات سوف يقتلونه، فآثر الانزواء، يعلم بأن حياته رهن بتحمُّس الحرافيش، وأنه سيتلاشى يوم تتلاشى أسطورتهم ويركبون الهوان، فاشتدَّ الحذر بالعصابة، ولم يتوانوا عن مراقبة الحرافيش وممارسة الإرهاب.
أيْ إنه مثلما صار العدل جماعةً صار الطغيان جماعةً أيضًا، ودار الصراع بين مساعدي فتح الباب، فقتل أحدهما الآخر، واعتلى فتوَّة الحارة، وأعلن عن الإبقاء على فتح الباب رهينة منزله، لكنه ذات صباح عثر عليه جثَّة مهشَّمة، وقيل إنه جُنَّ حزنًا على ضياع الفتوَنة من بين يديه، فتسلَّل ليلًا إلى مندرة جدِّه المجنون جلال، فرمى بنفسه للهلاك والكفر.

أيْ إنَّ النصَّ الأدبيَّ حول فتح الباب وليس سماحة، وسوف نرى أن الفيلم قد غير الكثير من التفاصيل.

وقد يبدو للوهلة الأولى أننا أمام حكاية فتوَّات تقليدية يقوم فيها الصراع من أجل امتلاك الحارة والمرأة والثروة من خلال معارك ضارية لا تعرف الرحمة، لكننا في «الجوع» أمام حكاية أزلية تتعلق بعلاقة الفرد بالسُّلطة.
ففرج الجبالي «محمود عبد العزيز» ليس سوى شخص هامشيٍّ يعيش في حارة مصرية خلال عام ١٨٨٧م، يعمل على عربة كارو يجرُّها حمار لينقل البضائع نظير أجر زهيد يعيش به هو وأُسرته التي تتكون من أمٍّ متمردة، وزوجة عاقر تسعى إلى توفير الحبِّ والراحة لزوجها. وفي الجزء التمهيدي من الفيلم الذي يسبق تولِّي فرج منصب الفتوة حامي الحارة يؤكد الفيلم أنه لم يكُن يحلم يومًا بهذه المكانة، فهو لم يعرف التمرُّد مرَّة واحدة في حياته، ولا يطمح إلى التغيُّر إلا في أضيق الحدود، مثل حلمه بشراء عربة كارو، بل إنه يتلقى صفعات الفتوَّات دون أدنى مقاومة.
وبالرغم من أنه يسمع أخاه جابر «عبد العزيز مخيون» يؤكد عنه أنه يمتلك قوة جسمانية لا بأس بها، إلا أنه لا يسعى إلى استخدامها قطُّ سوى عندما يشتدُّ الضغط عليه من قبل الفتوَّات، فيجد نفسه — من قبيل المصادفة — يدخل في معركة يتولى على إثرها مهامَّ الفتوة.
ويظل فرج نموذجًا للفتوَّة الطيب في الفترة الأولى، فهو يستهلُّ هذه الفترة بالدعوة إلى الخير من خلال دعوة السكان إلى بناء مسجد، وإيقاف فرض الإتاوة، ويمثل الأمل للفقراء الذين طُحنوا على أيدي فتوَّات سابقين. ويرفض الانتقال بأُسرته إلى مستوًى اجتماعيٍّ أعلى، ويظل يعمل فوق عربة السوارس ينقل فوقها البضائع والنساء. ويؤكد الفيلم أن فرجًا لم يكشف قوته بالمصادفة وحدها، بل إنه في مواجهةٍ أخرى مع فتوَّات أشدَّ شراسة يتمكن من قهر خصومه، وتكون معركة فاصلة في حياة الفتوَّة فرج، فيسعى إلى الزواج من الستِّ ملك «يسرا»، وهي واحدة من أثرياء الحارة، والتي تنقله — رغمًا عنه — إلى طبقة اجتماعية أعلى، فيرتدي ملابس أكثر أناقة، ويرقد على فراش وثير، ويستحمُّ في حمَّام خاص فيه الماء الساخن، ويهمل لفترة زوجته الأولى زنوبة «سناء يونس»، ويبدأ بالتعامل كتاجر من خلال أموال زوجته، ويبدأ التحوُّل من خلال الانفتاح على العالم الجديد.
فالرجل الذي كان يؤمن بأن «البرميل المليء يجب أن يفيض في الفارغ» يملأ فيما بعد مخازنه وخزائنه في الوقت الذي تجفُّ فيه مياه الحارة التي أصابها الجفاف لعدم وفاء نهر النيل، إذَن فهو عام جفاف، ويتكلم فرج بلهجة مختلفة عن متعة الجلوس مع التجار، وارتفاع الأسعار إلى الضِّعف، إنها نفس الظروف التي تحوط بمَن يجلس على المقعد، فتفرض عليه سلوكًا بعينه، ويختار علي بدرخان لفيلمه ظروفًا حساسة، وهي غزو الجوع للحارة، فعلى الناس أن تربط الأحزمة حول بطونها حتى تمر الأزمة، رغم أن خزائن الفتوة مليئة بما يساعد على مواجهة الكارثة.
وعندما يجنح الفتوَّة إلى الجور يجب أن يظهر متمردٌ لتغيير الظروف، والتمرُّد الجديد هنا ليس شخصًا يمتلك العضلات ويمكنه التغلب على الفتوة بقبضة يد أو بهراوة تسقط فوق الرأس، كما أنه لا يسعى إلى إحداث تغيير في المناصب مثلما حدث لفرج من قبل، إنه يسعى قدر الإمكان على أن يعطي الفقراء من أموال الأغنياء، هو روبن هود مصري، فجابر «عبد العزيز مخيون» هو الأخ غير الشقيق للفتوَّة، وهو رجل مسالم مثالي، يتزوج من زبيدة «سعاد حسني» التي غرَّر بها أحد الفتوَّات السابقين، ويتبنى رضيعها الذي وُلد حديثًا بعد زواجه منها، ويمنحه اسمه دون أن يعرف أحد ذلك، بل إنه يختار له اسم فضل رمز العدالة. ويقوم جابر بدور المُبشر الجديد لأمل قادم، يقوم وسط الليل ليلقي بلقمات الطعام إلى الجياع والفقراء، وهو يردِّد اسم فضل الجبالي، وجابر هذا يأخذ من مخازن الفتوَّة كي يمنح الجياع، وهو فيما بعد يرفض أن يكون فتوَّة جديدًا بعد إسقاط فرج.

ومما ساعد على تحطيم فرج أيضًا تخلِّي أتباعه عنه، ثُم فكرة التمرُّد التي تبنتها زبيدة بعد أن جلد زوجها — أعني أخاه — وعلَّقه في وسط الحارة.

وفي الأفلام التي تحدَّثنا عنها قام ممثلون عديدون بأداء دور الفتوَّة، منهم فريد شوقي وصلاح قابيل ومحمود ياسين ونور الشريف وعزت العلايلي. أمَّا محمود عبد العزيز فيبدو أن الدور كان مختلفًا بالنسبة إليه؛ لأن عينيه مليئتان بطيبة غريبة، وهو يمزج الشرَّ الذي يجسِّده بخفَّة ظلٍّ وإلقاء تعليقات، وقد بدا محمود عبد العزيز بدينًا إلى حدٍّ ما، ويخلو من رشاقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤