نور العيون

في السنوات الأخيرة من حياة نجيب محفوظ كانت أغلب رواياته المشهورة قد تحولت إلى أفلام مهمَّة أثارت الكثير من الجدل، ولم يجد بعض كتَّاب السيناريو سوى إعادة كتابة روايات قديمة تمَّ إنتاجها كأفلام في أوائل الستينيَّات مثل «اللص والكلاب» و«الطريق»، وتمَّ تحويل ستِّ حكايات من «الحرافيش» إلى ستة أفلام في فترةٍ زمنيةٍ متقاربة، وركز كتَّاب السيناريو على القصص القصيرة، وأغلبها لا يصحُّ للسينما؛ لذا جاءت الهوَّة بعيدة بين الأفلام والنصوص الأدبية المأخوذة عنها، وقد ساعد في ذلك أن محفوظ كان في تلك الفترة ضمن قائمة الأسماء الممنوعة من التوزيع في الدول العربية بسبب موقفه من معاهدة كامب دافيد، لدرجة أن اسمه كان يتمُّ حذفه من طاقم الأفلام، مثل فيلم «دنيا الله» لحسن الإمام عام ١٩٨٥م، وكان من الغريب أن أسماء هذه الأفلام مختلفة تمامًا عن أسماء النصوص الأدبية، مثل «فتوات بولاق»، و«الخادمة» و«وصمة عار» و«ليل وخونة» و«نور العيون».
فيلم «نور العيون» لحسين كمال عام ١٩٩١م مأخوذ عن قصة قصيرة في بداية المجموعة القصصية «خمارة القط الأسود» المنشورة عام ١٩٦٩م، وكانت قد نُشرت في جريدة الأهرام قبل ذلك، وهي بعنوان «كلمة غير مفهومة»، وتختلف تمامًا عن الفيلم؛ فهي تدور في أجواء الفتوَّات، في عالم الحارات المصرية، حول المعلم حندس الذي حلم حلمًا مزعجًا، ولمَّا استيقظ راح يحكي لزوجته عمَّا شاهده، فقد رأى نفسه في الحلم مع حسونة الطرابيشي الذي طمع يومًا ما في الفتوَنة، وقد صارع كلٌّ منهما الآخر، فقتله، ورآه تحت قدميه والدم يغطي فاه، لقد أخبره حسونة أنه سيقتله وهو في القبر.

في الكابوس تغيرت أماكن المجالسة بين الرجلين، وقد تغيَّر موقفه، وأخبره أن ينسى كل شيء، وأنه زار ابنه وأخبره أن يدع مسألة قتل حندس جانبًا، تبدو الزوجة مندهشة، ويخبرها أنه يوم دفن حسونة فإن زوجته وضعت طفله فوق القبر، ونذرت إن عاش الطفل أن يكون مقتل حندس على يديه.

واختفت زوجة حسونة، ومرت السنوات، وها هو الأمر يوقظ نفسه، لا يزال حندس هو سيِّد الحيِّ. ولأن الحلم يفسَّر بعكس ظاهره، بما يعني أن ابنه سوف ينتقم، ويتمُّ البحث عن ابن الطرابيشي، ويرسل رجاله للبحث عن الأمِّ وابنها إلى أن يأتي الشيخ الدرديري، وهو مقرئ ضرير، يتعيَّش من التلاوة في المقاهي والغُرز، ويخبره أنه يعرف مكان ابن حسونة منذ عام، وأنه حين دُعي للقراءة في المدفن بالمجاورين عرفه، كما عرف أمَّه، من صوتيهما، ويقرر حندس الذهاب إلى المقابر في عيد الأضحى للبحث عن ابن حسونة، لكن الأُسرة لا تجيء، ويتمُّ تعنيف الأعمى، ويتمُّ السؤال عن الشابِّ الذي يُقال إنه غامض حقًّا، أو إنه يحيط نفسه بالأسرار، وإنه خطير يجب أن يُحسب له حساب. ويذهب الشيخ للبحث عن الشابِّ، ويقابله، وعلم سبب تخلُّفه عن زيارة قبر أبيه في العيد، وهو مرض أمِّه وأخبر حندس ورجاله بأقصر طريق إلى المسكن من ناحية الخلاء، إذ لا يدري بهم أحد.

وفي ليلة شديدة الظلام يخرج حندس ورجاله، ويصعدون إلى البيت المُحاط بالخرائب ومعهم الشيخ، ووسط حذرٍ انطلقت صرخة من حلقه كالعواء، وإذا بجسم حندس يتهاوى على الأرض، لقد قُتل وسط رجاله.

لم يشعر رجاله من قبلُ بعجزٍ مهينٍ كهذا العجز، فهم لم يرفعوا نبوتًا ولا سلُّوا خنجرًا ولا قذفوا طوبة، ولم يكُن هناك منزل، بل ضريح وليٍّ في خلاء تشتعل في كوَّة بجداره شمعتان، ولم يشعر أحد بالقاتل عند تسلُّله ولا عند انفلاته.

هذه الأقصوصة التي تقع في صفحات قليلة تنتمي إلى نوعية القصص التي كتبها محفوظ في تلك الآونة، مبهمة النهاية، تترك للقارئ أن يفسِّر الحدث كما يشاء، فلا أحد يدري هل هو حُلم أم واقع، ومَن يكون القاتل، وكيف قتل، وما هو دور الشيخ الضرير، هل تواطأ مع الابن وجرجر القاتل إلى تلك المنطقة من الخواء كي يتمَّ التخلُّص من حندس؟ وهناك عشرات الأسئلة حول هذه القصة القصيرة وملابسات الأحداث فيها، ونهايتها ومصائر الأشخاص.

الشيء الذي يجمع بين الفيلم والنصِّ الأدبيِّ هنا أن ابن القتيل يسعى لقتل الطاغية القاتل، مهما مرَّت السنون، وأنه منذور لهذا العمل، وفي النصِّ الأدبيِّ لم نرَ الابن، وكانت المفاجأة في الفيلم أن المنذور بالانتقام للأب هو فتاةٌ ليس ذكرًا.

تمَّ تغيير الأحداث والأسماء؛ فالقاتل هو دعبس، وهو يذهب لقتل حسونة ليلة ميلاد وليده الوحيد، حيث يأتي دعبس ويطعن حسونة الذي يقول له: «ح أدفنك وأنا جوه قبري.» وهي الجملة الموجودة في النصِّ الأدبيِّ. ويموت الأب، وينزف دمًا، والزغاريد تنطلق من بيته، ونرى فتاةً في سنِّ العاشرة شاهدة على ما يحدث، ويدخل حسونة على امرأته: دعبس قتلني يا زنوبة. التي تمسح يد وليدها، وتنذره للانتقام «يوم ما تقتل دعبس أبو السعود تبقى كده سددت الدين اللي عليك.»

هذه البداية في الفيلم موجودة بوضوح في النصِّ الأدبيِّ، نعرفها على لسان حندس وهو يذكِّر زوجته بما حدث.

المشهد التالي نعرف أن زوجة دعبس أنكرت أنها تعرف أيَّ شيء عن قاتل زوجها، وفي حوار بين دعبس ورجاله نعرف أن زنوبة هربت من الحارة.

عندما تنزل عناوين الفيلم يُكتب أمام اسم محفوظ «عملاق الأدب العربيِّ والعالمي» بما يعني أن الحظر على اسمه قد أُلغي، وكان قد حصل على جائزة نوبل في الأدب قبل ثلاث سنوات.

اعتمدت بطولة الفيلم الذي كتب له السيناريو وحيد حامد على الممثلة الراقصة فيفي عبده، وتبدأ الأحداث في السجن، حيث تنتظر نور الخروج بعد انقضاء مدَّة سجنها، ونعرف أن نور قد دخلت السجن ظلمًا، وأن القضية كانت دعارة، وقد تسلَّلت وراء زوجها الذي يخونها، ثُم دخلت الشُّرطة وقبضت عليها.
في السجن، وقبل أن تخرج، تتعرف على الراقصة المسجونة لآلئ مظلوم، وتقرر أن تعلِّمها الرقص بهدف أنها ستخرج من السجن وهي في السابعة والخمسين، بما يعني أن تدبِّر لها نور حياتها بعد خروج لآلئ من السجن.

يظهر الشيخ دريري في الفيلم، مثلما هو موجود في النصِّ الأدبيِّ، هو ضرير، يستند على طفلٍ صغير، ويذهب لزيارة دعبس الذي صار من كبار رجال الصناعة، خاصةً في مجال السجاد والكليم، وعادةً ما يمنح دعبس للشيخ مبلغًا من المال. يدور حديث دينيٌّ بين الرجلين، يتضح فيه مدى إيمان دعبس الذي يقرر عدم طبع أسماء الله الحسنى على السجاد، كما يبدو دعبس رجلَ خيرٍ وهو يمنح مبالغ إضافية للعاملات عنده.

ونعرف فيما بعد أن دعبس يتخذ من العاملات عنده خليلات، وأنه يأخذهن في سيارته إلى منطقة المقابر، حيث يخرج له شبح حسونة الذي يطعنه ويدفنه حيًّا في المقابر، ويكتشف أن الأمر كابوس يطارده.

وعندما يتحدث دعبس إلى الشيخ درديري يحذِّره أن هذا الحلم قد يتحقَّق، وأن عليه أن يحذر ذريته؛ أيْ إن وحيد حامد قد أخذ الجوَّ العام من الأقصوصة في بداية الفيلم، حيث يطلب دعبس، ويطلب من رجاله البحث عن ابن حسونة الطرابيشي، ويبدأ البحث عن أصول العمال الذكور الذين يعملون في مؤسسته.

تصيب الوسوسة دعبس، فيأمر بسيوني رجل الأمن بالتدقيق في الأشخاص الذين تقلُّ أعمارهم عن ربع قرن حين دخولهم المصنع.
المشهد التالي يدور في أحد الفنادق، حيث يجلس محسن الطرابيشي مع بعض البنات، ونكتشف أنه خارج على القانون، وأنه يستغل البنات ويقوم بتسريحهن، ويتضح أن نور هي زوجة لمحسن.

تأتي الأخبار عن محسن إلى دعبس، وينصحه أحد رجاله أن محسن سوف يأتي إليه بنفسه، أمَّا محسن فإنه يحجز غرفة له بمناسبة خروج امرأته من السجن، ونعرف من الأحداث أن شقيق نور يشعر بالعار من استقبالها، ويقرر السفر خارج البلاد، امتلأ الفيلم بالرقصات باعتبار أننا أمام راقصة تقوم بالبطولة، ولكن ما يهمُّني هنا هو المقارنة بين النصِّ الأدبيِّ والفيلم السينمائيِّ، فالزوج يستقبل امرأته في القسم، ويذهب بها إلى الفندق، ويقدِّم لها حقيبة مليئة بالملابس الجديدة الأنيقة، وتبدو نور كأنها غير راغبة في الحياة معه، فهي تطلب منه الطلاق بعد أن تدرك أن زوجها سوف يقدِّمها للرجل الذي اشترى الملابس وزجاجة الشمبانيا.

وبعد أن يتمَّ الطلاق تعود نور إلى بيتها القديم، ونراها تقيم في منطقة المقابر، كما أقام الابن الغامض في النصِّ الأدبيِّ، ويكشف السيناريو أن الغرفة التي تقيم فيها إلى جوار غرفة يسكن فيها الشيخ الدرديري الذي تناديه «آبا» أحيانًا و«سيدنا» أحيانًا أخرى، تخبره أن زوجها كان وراء سجنها، وأن أخاها تخلَّى عنها.

يدفع محسن البنات للبحث عن نور، بينما ينجح الشيخ درديري في أن يعثر على وظيفة لنور في مصنع دعبس الذي يراها كأنثى من النظرة الأولى، فيرمي شِباكه حولها ويعطيها مرتبًا طيبًا، ومكافأةً خاصة عندما يكسب قضية الضرائب.

في الليل يأخذها معه في سيارته، ويدعوها إلى عشاء في الفيوم، ويسعى للمبيت في المدينة، ويدخل عليها في غرفتها المجاورة وهي تستحمُّ، ويخبرها أنه دبَّر كل ذلك، وترفضه بحزم «البسي هدومك، ح نسافر دلوقتي.»

يصرُّ دعبس على الحصول على نور، خاصةً حين يعرف من درديري أنها خريجة السجن، يقول لها بكل طيبة: «مش ح أبوظ التوبة عليكي.»

تذهب المرأة إلى كرم، وتخبره أنها من طرف لآلئ، وترفض أن تبدأ في فرقة عوالم، وتنجح كراقصة، وتقيم في أحد الفنادق الصغيرة، وفي المصنع تتنامى مشاعر عاطفية مع عزوز، ويضبطهما دعبس فوق السطح، فيصفعها، ويطردها كي تحترف الرقص ويصعد نجمها، كي يشاهدها عزوز في إحدى سهراته، وقد مرَّت أربع سنوات؛ أيْ إن نور لم تكُن تدبِّر قطُّ مسألة الانتقام، وأن كل شيء قد تمَّ بالمصادفة وعن غير عمد، ويحسُّ المُتفرج طوال هذه الأحداث أن محسن هو الابن المقصود، وأن الخدعة التي ستحدُث في نهاية الفيلم لم تكُن متوقعة.

يظهر محسن في حيات زوجته السابقة، ويطلب منها خدمات من خلال علاقاتها مع رجال عديدين، ويهدِّدها.

في الرواية لم ينجب حندس أبناءً، أمَّا دعبس فإنه يطرد ابنه من المنزل، بعد أن يحذِّره ابنه من تبذير أمواله مع الراقصة، ويقرر أن يمتع حياته مع نور العيون، فيشتري لها الشقق الفاخرة، وتصبح خليلته. وفي إحدى الحفلات يتواجد محسن ويصفق بحرارة، ثُم يدور حوار غاضب مع نور، ويعرف أن هذا هو الرجل الموعود بأن يقتله، فيسبق هو ويطلق عليه النيران، ويعترف له قبل أن يصير زوجها بما ارتكبه من قتل، والكابوس الذي يأتيه من وقتٍ لآخر، وأنه تخلَّص من آخر أعدائه، محسن الطرابيشي، ويخبرها أنه بدأ يحسُّ بالأمان، تخبره أنها محرَّمة عليه، وأنها ابنة حسونة الطرابيشي، وأن ابن حسونة هو شقيقها الذي سافر إلى الكويت، ولم يشأ الانتقام، لو كان حسونة لم يمُت ما عانت في حياتها، وأنها قد دبَّرت كل شيء للانتقام، وتخبره أن الشيخ درديري كان زوجًا لأمِّها بعد مصرع أبيها، وتفتح باب الشقَّة كي يدخل رجال الشُّرطة ويقبضوا عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤