الطريق

نجيب محفوظ نشر رواية «الطريق» في عام ١٩٦٤م، وتتكوَّن الرواية من ١٧ فصلًا، في ١٣٤ صفحة من القطع الصغيرة، وهي رواية جدليَّة تعتمد على الحوار المُكثَّف، ولا تخلو من الوصف الغزير والمونولوج الداخلي الذي اعتاد عليه في مرحلته الثانية.
وقبل أن نتوقف عند الرواية والرؤى العديدة من الجانب الفلسفي الذي حاول النقاد إضفائها على معنى البحث بدون الوصول إلى هدف، للرحلة الضيِّقة للغاية من مدينةٍ لأخرى التي قام بها صابر الرحيمي بحثًا عن أبيه، فقط من الإسكندرية إلى القاهرة، وهو الرجل الذي جاب العالَم والدنيا، فصار في كل مكان، ولا مكان، أمَّا صابر نفسه فقد تم حبسه داخل فندق صغير ارتكب فيه جريمته، وقبل أن نتوقف عند وصف الرواية، وتفسيراتها، ثُم الفيلم، من المُهمِّ الإشارة إلى التشابه الواضح، الأقرب إلى اقتباس الفكرة بين هذه الرواية، ورواية للكاتب الأمريكي جيمس كين تحت عنوان «ساعي البريد يدُقُّ الجرس مرَّتين» كتبها عام ١٩٤٢م، ليس فقط للتشابه بين الموضوع غالبه، ولكن أيضًا أن كين قد كتب روايته بالأسلوب التلغرافي نفسه الذي أُعجب به نجيب محفوظ وطبَّقه في تلك المرحلة، فالرواية تعتمد على الحوار، وعلى جُمل قصيرة بين الحوارات وبعضها.
وفرانك تشامبرز بطل الرواية الأمريكية، هو لصٌّ يختبئ في منطقة شِبه ريفية، ومعه حقيبة من المسروقات المالية، يقع في غرام الشابَّة الناضجة الفاتنة زوجِ صاحب الفندق العجوز، فتدفعه أن يقوم بقتل زوجها، وبعد ضغوط عليه فإنه يفعل، ونكتشف أن هناك رجلًا آخر في حياتها، وهي النقطة التي استفاد منها فيلم «وصمة عار» لأشرف فهمي.
تبدأ رواية «الطريق» بموت شخص عزيز، مثلما بدأت رواية «بداية ونهاية» بموت الأب، فإن الأمَّ بسيمة عمران هنا تموت، وفي الصفحات الأولى تتمُّ مراسيم دفنها، ونفهم أن صابر في الخامسة والعشرين من العمر؛ أيْ إن رشدي أباظة غير مناسب تمامًا لأداء مثل هذه الشخصية، ويعود الشابُّ بعد ذلك إلى مسكنه في «النبي دانيال» الذي شهد فترة بهيجة من حياته، ويتذكَّر أمَّه التي وهنت وهزلت وكبرت ثلاثين عامًا فوق عمرها الحقيقيِّ الذي لم يجاوز الخمسين.

الفلاش باك الروائيُّ يتحدَّث عن بسيمة عمران التي خرجت من السجن مريضةً معدمة، كتبت لابنها بعض ممتلكاتها، ثُم باعتها الواحدَ وراء الآخر، إنه ابن بلا مستقبل، وهي تريده في حياةٍ أفضل، فهي العاهرة السابقة التي لا تريد لابنها أن يدخل سجنًا «بسيمة أيام زمان لن تعود، ولا سبيل إلى العمل من جديد، لا الصحَّة تسمح بذلك ولا البوليس.» الحوار الذي يتذكَّره صابر طويل، يبدو أنه تمَّ في جلسة واحدة، تخبره أنه يجب أن يهجرها إلى أبيه الذي تصوَّره ميتًا «أبي حي! شيء مُذهل حقًّا، إن أبي حي!» وتطلب بسيمة أن يستعدَّ للبحث عنه، إنه أبٌ لعله مات، ولعله حيٌّ، لعله كان عشيقًا لها أو زوجًا، اسمه مسجَّل في شهادة ميلاده، سيد سيد الرحيمي «أحبَّني منذ ثلاثين عامًا، وكان ذلك في القاهرة.» هذا الأب لا يعرف أن له ابنًا، فصابر إذَن ابن سفاح تقريبًا، أمَّا الأب فهو سيِّد، ووجيه بكل معنى الكلمة، لا حد لثروته ولا نفوذه، ومن هنا تأتي التفسيرات الفلسفية، فهل هو أقرب إلى المطلق.

والأمُّ تخبر ابنها أن سيد الرحيمي تزوَّجها، وكان لا يزال طالبًا، وأنها هربت منه بعد معاشرة أعوامٍ وهي حُبلى إلى الإسكندرية مع رجل آخر، وحسب الحوار فإن هناك شهادة زواج وصورة زفاف. (تم تحويل اسم سيد إلى صابر في الفيلم.)

تضع الأمُّ أمام ابنها العديد من الألغاز وما لديها من معلومات كي ينتهي الفصل بتساؤلات: «أين الحقيقة وأين الحُلم؟! فالأمُّ قد ماتت، والأب الميِّت يبعث حيًّا، وهو المُفلس المُطارَد بماضٍ ملوَّث بالدعارة والجريمة، يتطلَّع بمعجزةٍ إلى الكرامة والحرية والسلام.»

وتبدأ رحلة البحث في المجهول، فسيد الرحيمي أشبه بسيزيف، عليه أن يصعد الجبل؛ لأنه تلقَّى الأمر من الأمِّ قبل موتها، فيظل طوال الرواية مصابًا بالهاجس، أن يعثر على أبيه، وما الباقي إلا تفصيلات، فكل مَن سيقابلهم في حياته بعد ذلك وسيؤثرون فيها سألهم عن أبيه، ابتداءً من صاحب المكتبة في الإسكندرية، وتبدأ مشاعر الخيبة تأتيه الواحدةَ تلو الأخرى.

الحيرة تستبدُّ بالشابِّ منذ بداية المعرفة، ثُم البحث في مشايخ الحارات وزيارة الشيوخ، والإعلان في الصُّحف، كل هذا قبل أن يغادر الإسكندرية، التي رآها مدينة الأطياف مغروسة في حُلم الخريف تحت مظلَّة هائلة من السُّحب، التي نازعته نفسه إلى العودة إليها في أول قطار، لكنه بعد ساعة وجد نفسه في فندق في شارع الفسقية داي البواكي، مبنًى قديم، ترابيُّ الجدران، من أربعة أدوار، بدا كأنه جاءه على موعد، إلى أن رآها، كريمة، صاحبة السُّمرة النقية، والعينين اللَّوزتين الدَّعجاوَين، متزوجة من عجوز. لقد قرر صابر الإقامة في الفندق أكثر من شهر.
أهمُّ ما يميِّز صابر هو الفضول؛ فهو لا يكاد يقابل شخصًا إلا وسأله عن سيد الرحيمي المزعوم، لقد جاء الشابُّ من مدينة ومنزل إلى فندقٍ ضيِّق، وأشخاص محدودين رغم الزبائن الذين يأتون كل يوم، هؤلاء الأشخاص هُم كريمة، وزوجها خليل، ومحمد الساوي، وهو أيضًا عجوز يعمل فرَّاشًا.

صابر يعيش داخل حُلمه، إنه في حاجةٍ إلى أبيه الرمز، ووسط ذلك يتعرَّف على العالم الضيِّق من حوله، خاصةً كريمة، التي اشتراها العجوز من عاطفة القرشي، وصنع منها امرأةً حسناءَ طاغية، ويبدو قانون الفنادق واضحًا، فلا أحد يجيء إلى الفندق للإقامة، ولكن لمَهمَّة تستغرق ليلةً أو أسبوعًا أو شهرًا، ثُم يمضي إلى حال سبيله، لكن سرعان ما تصبح مَهمَّة صابر البقاء في الفندق، وذلك بسبب الزوجة المدملكة الجسم.

صحيح أن صابر حاول المرَّةَ تلو المرَّةِ أن يصل إلى أبيه، فالتقى بطبيبٍ في عيادة، وسأل النادل في مقهى، وذهب إلى جريدة «أبي الهول» بميدان التحرير لينشر إعلانًا، لكنه في النهاية استقرَّ عند كريمة، وفي أثناء التجوال عثر أيضًا على إلهام، التي تعمل بالجريدة، التي التقاها مرَّةً ثانية في مطعم للشطائر.

فبينما الطريق يبدو طويلًا، مليئًا بالمتاهات المتشابكة، بالنسبة للابن، فإن المرأتين تدخلان حياته بسهولةٍ للغاية، تقول له كريمة: «إذَن فأنت من النوع المُقتحم. لم أفطن إلى طبعك بسبب دهائك الجميل.» يشعل لها سيجارة، وتبدو متأهِّبةً له: «عندما رأيتك قادمًا منذ عشرة أيام قلت لنفسي هذا هو.»

وهنا تبدأ رحلة البحث في الخفوت، ويعرف طريقًا آخر هو حضورها إليه، «قال: إنه يشعر لأول مرَّة بأنه يحتمل أن يستغني عن أبيه.» وتذوب الرحلة قليلًا، وهو يعمِّق علاقته بإلهام، وكأنما الرحلة المجهولة هي مفتاح لعلاقتين متناقضتين؛ الأولى حسيَّة، والثانية راقية، على الأقل من طرف الفتاة.

ثُم تأتي المرحلة الأقرب إلى رواية جيمس كين، فالزوجة التي تطمع في التخلُّص من زوجها العجوز تُلحُّ على صابر في التخلُّص منه: «عند اليأس نهرب.» ثُم يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنه سيدفنني، وتتنهَّد مُكرِّرة: «الموت» أكثر من مرَّة، حيث تبدو القصة الرئيسة هنا هي علاقته مع كريمة، حتى وإن التقى إلهام في الصباح، فهو يستضيف كريمة في فِراشه ليلًا، تغيب عنه كأنها تُلقِّنه درسًا، أو تحطم تردُّده في أن يقتل العجوز، وتخبره أن أمرهما كاد أن ينكشف.

– لا حيلة لنا، ويجب أن أذهب الآن.

– ولا أراك إلا بعد موته؟

– قلت لا حيلة لنا.

– بل هنالك حيلة.

إن كل شيء يتمُّ بسرعة، توطَّدت العلاقة، وإلحاح كريمة في أن تتمَّ الجريمة، ثُم الاستعداد لها وتنفيذها؛ فهي تُدخله غرفتها وتُخفيه تحت سريرها، ثُم خرج وهوى عليه بالقضيب بقوةٍ وإحكام، وباعتبار أنه ينام وحده في تلك الليلة، إنها جريمة مقصودة أشبه بما فعله راسكولنيكوف في «الجريمة والعقاب».

الباقي كله تفصيلات لمحاولة اكتشاف الفاعل، يقلُّ اهتمام صابر بالبحث عن أبيه، ويحاول لملمة جريمته حتى لا يتمَّ اكتشافُه، لكنه يقع في المحظور. هناك أسئلة من محقِّق، ومراوغات، وحوار طويل للغاية في الفصل «١٢»، إلى أن يدرك فيما بعد أنه الآن محور بحث وتحرٍّ، وغير بعيدٍ أن يكون هدفًا لِعَين أو أكثر، فينشغل حتى عن إلهام التي تطلبه في هاتف الفندق.

القسم الثاني من الرواية، يعتمد على حوار أقرب إلى الشكل الإذاعي، وهو حوار قصير للغاية، أشبه بما قرأناه في روايات كين وهيمنجواي، ويجد الرجل نفسه وسط امرأتين وجريمة قتل: «إلهام، لست إلا عذابًا، أمَّا كريمة فقد جمعت بينكما الجريمة برباط لن ينقصم حتى الموت، وحاجتك إليها كالجوع الكافر، وإن قذف بك في أعماق الجحيم.»
لقد استبدل الكاتبُ شخصيةَ ابنة صاحب الفندق البريئة بإلهام، وإذا كان القاتل قد صرع المرأة عند كين، فإن محفوظ يترك بطله يدخل السجن، بعد أن تمَّ القبض عليه بخطَّة مدبَّرة، حين يبلغه الساوي أن علي سريقوس قد تمَّ القبض عليه، وأن هناك علاقة ما به؛ مما يثير غيرة صابر، فيسعى إلى مقابلتها خارج الفندق في مكانٍ بعيد، في بيتها القديم، ويواجهها بعنف: «كذابة، ماكرة، حطمت حياتها كلها بكذبةٍ قصيرة.» وهي تقسم له أنها تحبه، وأنها دبَّرت كل شيء من أجله، ويدخل البوليس ويقوم بخنقها قبل أن يمسكوا به.
انتهى الفيلم، وصابر تحت المقصلة، بعد أن قبضوا عليه، عقب لقاء عقده مع إلهام، فأرشدت الشرطة عليه، من أجله هو، أمَّا الرواية فإن الفصل الأخير كله يدور في السجن، أقرب إلى ميرسو، في «الغريب»، حيث يعود محفوظ إلى المونولوج الداخلي الطويل، ثُم يأتيه المحامي، أرسلته إلهام، إنه الأخ الأكبر لإحسان الطنطاوي مدير الإعلانات بجريدة «أبو الهول»، والحوار الذي بين الرجلين أشبه بما دار بين ميرسو والقسِّ، خاصةً بعد إحالة أوراق صابر إلى المفتي، يبلغه أنه تمَّ التوصُّل إلى الوجيه الغنيِّ الجميل سيد سيد الرحيمي، لقد صار رجلًا ضريرًا، وإنه كان يتزوَّج لما كان يرافقه، وكان يمارس الحب بشتَّى أنواعه؛ الجنسي والعُذري، ولا يعتق ناضجة أو مراهقة، أرملة أو متزوِّجة أو مطلَّقة. إنه الآن أطلال رجل، كلما وقع في مأزقٍ هاجر من مدينةٍ إلى مدينة، ثُم راح ينتقل من بلدٍ لآخر، ومن قارةٍ إلى أخرى، معتمدًا على ملايينه، جاريًا وراء النساء من كل شكلٍ ولون، وقد جاوز التسعين من العمر، لا أسرة له في مصر، كان أبوه مهاجرًا من الهند.

لقد جعل محفوظ من الأب مخلوقًا أسطوريًّا، لا يمكن اللقاء به، ولا ذاكرة له، قابله صحفيٌّ قبل عام وهو في طريقه إلى الهند، لا يزال يحتفظ بحيوية الشباب وأفكاره وضحكاته، إنها رحلة بحث سيزيفية بلا جدوى أو معنى، ليس فقط لأن الابن في السجن ينتظر الإعدام أو الاستئناف، ولكن الأب لا يقرأ الصحف، ولا يهتم إلا بذاته، ويعيش أشبه بالطيف في الحياة.

الفيلم الذي أخرجه حسام الدين مصطفى، يبدو أقرب إلى أفلام الحركة، حتى وإن كان النَّص قد التزم إلى حدٍّ كبيرٍ بالرواية، فهناك جريمة وجنس، ومطاردات، وفي الفيلم هناك أربعة نجوم كبار، لكن هناك توحُّد بين الفيلم والرواية، فنجيب محفوظ مجدَّدًا يتوقَّف عند بطلٍ واحد، يتتبعه، لا يكاد يفارقه، وصابر الرحيمي حاضر أمامنا دومًا في العملين، إنه المحور، وهو الباحث في وجوه وأجساد الآخرين عن انتماء، والأشخاص بالنسبة له أسباب، أو كمال يقول الوجوديون: «موجود لذاته، وليس في ذاته.» ابتداءً من كريمة، ثُم إلهام، وانتهاءً بالزوج، ومحمد الساوي، ورجال الشرطة، وبالطبع الأب الغائب الذي لا نعرف شيئًا عنه، ولا أحد يعرف أيَّ شيء عنه.

فالأب هو امتداد للمُطلَق الذي يوجد من حولنا، لكننا لا نعرف الكثير عنه، وهو يتلاشى كثيرًا بمجرد أن ينشغل الابن في معترك الحياة؛ جنس، وجريمة، وعلاقة رومانسية قائمة على المصلحة، وإن كانت إلهام قد أحبَّت صابر، فإنه لم يبادلها نفس الحب، وهو شخص أوروبيُّ الإحساس، يسير على ما دفعته أمه أن يفعل.

وليس هناك تفسير لعدم قيام الأمِّ بالاعتراف لابنها بحقيقة الأب عند دخولها السجن، ربما لأن ابنها كان في العشرين، لكنه بلا شكٍّ عاش بعيدًا عنها، وإذا كانت الرواية تبدأ من جنازة الأم، ثُم تذكر الابن للحوارات الأخيرة معها، فإن الفيلم بدأ بالسقوط المُدوِّي لبسيمة عمران، في أيدي الشرطة في إطار حملة آداب، وتُساق إلى السجن الذي يزورها فيه الابن، وبعد خروجها من السجن — ٥ سنوات — تبوح له بحكايتها مع أبيه، وهي تركب عربة حنطور، وتموت، كأنما هي خرجت من السجن كي تبوح، ثُم تموت. وهنا تنزل العناوين.

الحوار الذي باحت به الأم كان طويلًا، من الماضي، دون إشارة لنوع المرض، كانت بداية الرواية حول موت الأم أقرب إلى ما ردَّده ميرسو عن موت أمِّه بشكل عبثي، ولم يعبر لنا الكاتب عن حالة الحزن التي انتابت صابر إلا من خلال التذكر، أمَّا الفيلم فقد حكى الأمر من خلال مشاهد.

أهدى الفيلم للنَّص السينمائي قصة محبوكة متكاملة، ليست في حاجةٍ إلى المزيد من الشخصيات، وإن كان الفيلم حذف بعض الشخصيات الزائدة لصالح تفصيلاتٍ أخرى، مثل نمو العلاقة الجنسية بين صابر وكريمة، وارتقاء علاقة أخرى مع إلهام، ولعل من الشخصيات التي ألغاها الفيلم المحامي الذي أتى له بما يشبه اليقين أن هناك رجلًا أقرب إلى الخيال في الترحال، يحمل اسم أبيه، وهذا المحامي هو أقرب إلى شخصية القسِّ في رواية «الغريب» لألبير كامي، التي لم يستطع المُخرج لوكينو فيسكونتي أن يتجاهلها حين حوَّل الرواية إلى فيلم.

في المقابل، فإن الفيلم أضاف حدث هروب صابر من الشرطة لحظةَ القبض عليه، وقيامه بالقفز بين أسطح الفنادق المجاورة، ثُم اتصاله بإلهام التي جاءت تقابله في وسط المقابر الواقعة عند أطراف المدينة، وتبوح له أنها تحبه، وأنها فعلت ذلك من أجل مصلحته، ويكتشف أنها أبلغت الشرطة، أو أن الشرطة قد استخدمتها كذريعة للتعرُّف على مكانه، مثلما فعلت مع محمد الساوي الذي شارك في مكيدة الإيقاع به.

وقد استعاض الفيلم بهذا المشهد الأخير بكافة الفصل السابع عشر من الرواية؛ حيث يعرف صابر أن أباه موجود، وأنه تمَّ التعرُّف عليه، لكن بعد فوات الأوان.

أما ما عدا هذا، فإن الشخصيات غالبًا موجودة بين الفيلم والرواية، تؤدِّي العمل نفسه، وتمارس كافَّة الحياة، فلم تتغيَّر وظائفها ولا مصائرها، فكريمة فاتنة، وبسيمة عاهرة، وصابر باحث عن أبيه، ثُم قاتل للزوج العجوز، ونهايته الإعدام، والأب يلوح شبح له في الأفق؛ أيْ إن كاتب السيناريو حسين حلمي المهندس قد تحرك خارج الرواية في أضيق الحدود؛ مما يؤكد أن محفوظ في تلك الفترة كان يكتب ما يمكن تسميته الرواية السيناريو، لكن حسام الدين مصطفى لا ينسى أنه مخرج لأفلام حركة، فيبتدع مشهدًا مع كاتب السيناريو، ربما يقوم فيه رشدي أباظة، ولا أقول صابر الرحيمي، بضرب أحد أصدقاء الملهى بعنفٍ ملحوظٍ لمجرَّد أنه سخر من أمِّه، وهذه لغة السينما التجارية التي تأتي بمُمثِّل فائق العضلات كي يمكنه أن يضرب، ويملأ صدر كريمة، وقد ذكرني هذا أن فيسكونتي استعان بمارشيللو ماستروياني كي يؤدِّي شخصية ميرسو، وكان الدَّور أنسب للورانس هارفي، وأرى أن صابر أنسب لشكري سرحان، الذي سبق وأن جسَّد سعيد مهران بتفوقٍ ملحوظ.
وغير حقيقي أن نجيب محفوظ يبحث عن المُطلق في الرواية، في صورة الأب، ولعل ذلك واضح في الخبر الذي نشرته «مجلة الكواكب» — ٢٨ ديسمبر عام ١٩٦٤م — يحذِّر فيه الكاتب من إنتاج رواية «الطريق» في السينما: «إن الفكرة هي البحث عن الله، فكيف نخرج الله على الشاشة؟!»

إلا أن الفيلم حوَّل البحث إلى غرقٍ في الدم والجنس والجريمة المتعمدة، لكن من المُهمِّ الإشارة أن قارئ الرواية نفسه قد لا يلحظ مسألة المُطلَق بالمعنى المقصود عند الكاتب، وتبقى مسألة البحث عن الأب — التيه — ذات مفهومٍ فانتازي؛ فالأب غير الموجود يكاد يمرُّ عابرًا في حياة صابر.

ومما يؤكد أن محفوظ كانت عيناه، وهو يؤلِّف هذه الروايات، على السينما أن عدد صفحات الروايات أقرب إلى السيناريو السينمائي، وميله أن تكون هناك شخصية محورية تعيش حالات من التحوُّل الملحوظ يرتبط بعضها بالجريمة والقتل، مثلما حدث في «اللِّص والكلاب»، و«الطريق» و«الشحاذ»، وقد وجد حسام الدين مصطفى نفسه هنا أكثر من أعمال الكاتب السابقة، فأقدم عليها، وأخرج منها قدر ما استطاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤