خان الخليلي

تدور أحداث رواية «خان الخليلي» في نفس الفترة الزمنية التي دارت فيها أحداث النصف الثاني من رواية «السكرية»، وهي فترة الحرب العالمية الثانية، وقد حدَّد نجيب محفوظ الزمن في السطر الأول من روايته، سبتمبر عام ١٩٤١م، حيث يغير الموظف أحمد عاكف وجهة عودته من السكاكيني إلى الأزهر، بعد إقامة امتدت أعوامًا هناك، ووصف الكاتب تفاصيل الاتجاه نحو البيت، والترام الذي استقلَّه، وقد حدث نفس الشيء في الرواية.
إلا أن الفيلم الذي أخرجه عاطف سالم، وكتبه محمد مصطفى سامي، بدأ بغارة جويَّة، وهروب الناس من الخطر، ولجوء أُسرة عاكف كلها إلى الملجأ؛ الأم وزوجها وابنها أحمد (٤٠ عامًا)، ثُم رشدي الذي سوف يصطاد امرأة وحيدة بحاسَّته في التعرُّف على النساء. وفي اليوم التالي، يستيقظ في بيتها مذعورًا، باعتبار أن عليه أن يسافر إلى أسيوط كي يعمل هناك، ثُم يدور حوار مع أخيه الذي سيرافقه حتى المحطة، والذي يعاتبه على نزقه، فيبدو رشدي لطيفًا وزئر نساء.

وقد رأى السيناريو أن يكرِّر مسألة الغارة ونزول الأُسرة إلى الملجأ بدون رشدي الذي سافر، إلا أن الغارة هذه المرَّةَ تكون أشدَّ، ثُم يأتي صوت أحمد وهو يكتب رسالة إلى أخيه: «تركنا السكاكيني، وما به من ذكريات الشباب.» وهو الوصف الذي جاء في الصفحة الثانية من الرواية.

ثُم يبدأ الفيلم من حيث بدأت الرواية؛ حيث سيبدو مدى ارتباط أحمد بالكتب، فهو يتصفح الكتب التي تُباع في الترام لدى أحد الباعة، ويردِّد: كل دا قريناه، ثُم يكمل: إيش يكون جنب الكتب اللي عندي؟

في الرواية كان بواب إحدى العمارات هو أول مَن التقى به في خان الخليلي، بينما كان المعلم نونو الخطاط، صاحب عبارة «ملعون أبو الدنيا» هو أول مَن قابله صوته، ثُم هو الذي دلَّه إلى مسكنه الجديد؛ حيث يصعد السلم، ويرى التلميذة نوال وهي تطلب من أخيها شراء البقدونس. أمَّا في الرواية فقد وصف محفوظ معالم المنطقة، ولم تكن هناك نوال على السلم، ثُم محاولة استيعاب المكان وهو يستمع إلى السِّباب بين الناس، وهو أمر لم يعتدْ عليه.
في الفصل «٢» بدأ محفوظ يعرفنا أكثر على المكان، وعلى الرجل نفسه الذي حصل على البكالوريا عام ١٩٢١م، وأدمن القراءة إدمانًا قاتلًا، ولم يكمل تعليمه، لكنه استوعب نيوتن وأينشتاين، وقد أسهب الكاتب في وصف مسيرته بشكل لم نتعرَّف عليه في الفيلم، فما إن دخل الرجل البيت حتى بدت حوارات الجيران كأنها داخل البيت، ويدور حديث بين أبطال الفيلم عن صلاة الجمعة في المسجد الحسيني، وحول سبب «الهجرة» من السكاكيني، هكذا جاء التعبير في الفيلم.

في الفيلم، سرعان ما تمَّ التعارف على المعلم نونو، وعرف منه كم عدد أفراد أُسرته، ونعرف أننا في شهر رمضان؛ حيث يقول نونو: فات يوم ما فاضلش إلا ٢٩ يومًا. ويقدم الفيلم ما يشبه النَّص السينمائي التسجيلي لمظاهر الحياة في رمضان في هذه المنطقة (أغنيات، بائع كنافة، بائع ياميش، شراء الفانوس، المسحراتي، شخص يردِّد: «صلوا على النبي»)، وقد أشار الفيلم أن الغارات الحربية تتمُّ أيضًا في شهر رمضان، ويردِّد أحدهم: ع المخبأ يا صايم وصلي على النبي.

في الفصول التالية، وصف الكاتب تفاصيل حياة كلٍّ من الأب عاكف، وزوجته المريضة التي لم يُحسَّ أحد بمرضها، وكيف بدأ أحمد في التأقلم مع المكان الجديد، ولم تكن هناك إشارة في الفصول الأولى للنَّص الأدبيِّ إلى شهر رمضان، ففي الفصل «٤» يتناول أحمد فطوره في السابعة صباحًا قبل أن يذهب إلى عمله، ووصف الكاتب الأنثى في حياة بطله: «اجتاح صدره انفعال عنيف قاتم شأنه إذا اقترب من أنثى أو اقتربت أنثى منه.»
ولعلَّ المقارنة بين النَّص الأدبيِّ والفيلم السينمائيِّ لرواية «خان الخليلي» خير دليل أن كاتب السيناريو يُهمُّه الحدوتة في المقام الأول، فقد كتب محفوظ روايته بطريقة الحكي عند توماس هاردي مثلًا في رواية «تس دربرفيل»، حيث هو آخذ في التفاصيل، ويحكي لنا أن الرجل أحبَّ فتاة يهودية حسناء، خطبها شابٌّ من بني جنسها.
ثُم تحدَّث الكاتب في نفس الفصل عن أخيه رشدي، وعن شقيق له مات منذ سنوات بعيدة، إلا أننا حين وصلنا إلى الفصل «٥» لم تكن الرواية قد بدأت؛ حيث عكف الكاتب على وصف العالم المحيط ببطله أُسريًّا، وعن تاريخه، كي يمهِّد لنا ما سوف يعيشه في «خان الخليلي»، حيث يتعرَّف على نونو الخطَّاط، ويدور نفس الحوار الذي نقله كاتب السيناريو، بشكلٍ مختصر إلى الفيلم، هو حديث عن أُسرته، وعن النساء، وعن الحيِّ. ويبدو الكاتب كأنه يدوِّن وقائع الأيام التي بدأ أحمد عاكف يعيشها في المكان، حيث يبدأ حديثه في الفصل «٦» ﺑ «وعند مساء اليوم الثاني غادر العمارة ووجهته قهوة «الزهرة».» وهناك بدت خبرات الشخصية الرئيسة مثل الكثير من أبطال محفوظ في أغلب رواياته، فالمقهى هو منتهى المكان الذي يذهب إليه، حدث هذا في رواياته العديدة، ولأبطاله الذين لا يميلون إلى مغادرة المكان، فهناك تدور الحوارات في السياسة، وحول الحرب والعلماء وعظماء العصر.
ومثلما أشرنا أن محفوظ يدوِّن وقائع حياة الرجل يومًا وراء يوم، فإن الفصل «٧» يبدأ ﺑ «ونهض في الصباح المبكِّر نشيطًا.» أمَّا الفيلم فسرعان ما تعرفنا على أناسٍ آخرين، ورجال ونساء في الغارة التي لم تحدث بشكلٍ مبكِّر في الرواية، ففي الفيلم وعند إعلان عن الغارة تذهب نوال وأُسرتها وأيضًا المعلمة عليات، التي تردِّد: أيوه كده اتعلموا الأدب، وهي تقصد الغارة، كذلك نتعرَّف على زوجها المعلم زفتة وأسماء أخرى سوف نرى مثيلًا لهم في روايات محفوظ التالية مثل: «زقاق المدق»، و«الثلاثية»، و«الكرنك»، وغيرها.

وفي المخبأ تقوم النساء بالغناء، خاصةً عليات، ويتمُّ ترديد جُمل من طراز «الناس ما تعرفش ربنا إلا وقت الزنقة.»

وفي الفيلم سرعان ما سيعود رشدي من أسيوط، ونعرف السبب، إنه رمى بمغازلته على فتاة، وعلَّقها فأسرع أبوها الباشا بنقله خوفًا على ابنته، ونعرف أن أحمد أيضًا قد عاد في اليوم الأول لعيد الفطر. أما الفصل «٨» فيبدأ على طريق الوقائع «وعندما أتى المساء مضى إلى «الزهرة».» وفي هذا الفصل تحدث الغارة التي حدثت في الفيلم، ويدور الحوار على طريقة أن السكاكيني ضُربت؛ لأنه حيٌّ غالبية سكانه من اليهود، ويتمُّ الحديث عن هتلر، وإعجاب المصريين به، والدعاء بالنصر له؛ لأنه نصر للمسلمين، وهناك حوار مشابه بين أبطال رواية «السكَّرية»، والفيلم أيضًا، ويقدِّم لنا الكاتب من خلال الحوار كافَّة أبطاله الرئيسيين، وخاصةً نوال «له محمد ونوال وفتاة كبرى متزوجة.» هذه المتزوجة اسمها إحسان، وسيظهر اسمها في الحوار الأول بين رشدي ونوال، عندما يناديها إحسان؛ لأن أمَّها هي أمُّ إحسان.
بدأ الفيلم مع شهر رمضان، اليوم الأول، أمَّا الفصل «٩» فإن رمضان لم يعُد يفصل بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل، «وفي الفصل العاشر» في اليوم الأول من الصيام كان أحمد عاطف تعِبًا مرهَقًا، فشقَّ عليه ألَّا يشرب قهوته ويدخن سيجارته على الريق، ومضى إلى الوزارة متوجع الرأس متثائبًا. وفي هذا اليوم رأى نوال من شرفته، وهي تطرِّز، ونعرف أن أحمد عاكف أصلع، وليس كثيف الشَّعر مثل عماد حمدي. ويقول محفوظ في أول الفصل «١١» إن أهل القاهرة، لا يؤدُّون فريضة الصوم، فيقول المعلم زفتة: إن الناس تستطيع الامتناع عن الطعام والشراب، أمَّا الكيف فأمر يهون دونه الدين.
وفي الرواية هناك حوارات مطوَّلة تدور في المقهى بين أحمد عاكف، ورفاقه الجدد، وفي الفصل «١٢» بدا مدى التغيُّر في حياة الرجل الذي يرتدي الجلباب النظيف، ويضع طاقية على رأسه لإخفاء الصلعة، ويقرر أن يحلق ذقنه كل يوم، ويُبدي اهتمامًا بنوال. وكما أشرنا فإن أبعد مكان يذهب إليه في خان الخليلي، هو المقهى، ويتكرَّر الحديث عن هتلر، وتبدو الليلة الرمضانية الأولى شبيهةً بالثانية؛ حيث يعكف على القراءة عقب عودته، ثُم يقرر أن يكتب رسالة إلى نوال. وفي الفصل «١٤» تحلُّ ليلة القدر دون أن نرى أيَّ غارة، مثلما تكرَّر الأمر في الفيلم؛ حيث إن السيناريو لم يشأ أن يبتعد رشدي كثيرًا، أمَّا مسألة الرسالة فقد قرر أحمد كتابتها في نفس اليوم الذي صرَّح له أخوه بأنه يحبُّ نوال، ويريد أن يتزوَّجها.
في الفصل «١٦»، أيْ يوم ٢٧ رمضان، تأتي الأخبار بقدوم رشدي مع الوقفة، ويُحسُّ أحمد بالأسف على اقتراب نهاية الشهر المكرَّم. وبدأ الإعداد لاستقبال رشدي، حيث ذهب الأخ لاستقبال أخيه عند المحطة (كانا ذوَي طولٍ واحد، وكافَّة مشابهة، فملامحهما متقاربة). وقد وصف الكاتب وسامة رشدي، أمَّا الفيلم فقد أعطاه وجه الممثِّل حسن يوسف، الذي ملأ الأحداث بخفَّة ظلِّه، وردَّد نفس العبارة التي سمعناها في الفيلم: «إذا اجتمع موظفان في بلدةٍ كانت مائدة القِمار ثالثهما.» وفي الفصل «١٧» اجتمعت الأسرة حول المائدة؛ مما يعني أن الفيلم كان أقرب إلى تلخيص الرواية، كي تدخل الرواية في الفصل التالي إلى عالم رشدي الذي كان موجودًا منذ المشهد الأول.

بدأت مراسم عيد الفطر في الفصل «١٩»، بشكل أقرب إلى الوصف، وفي هذا اليوم رأى نوال وأخاها وتتبَّعهما، وركب معهما الترام، وبدأ يُلقي شِباكه عليها، كما صوَّره الفيلم فيما بعد، وقبل أن تُستكمل الأحداث، حيث تعرَّفنا على نوال، ابنة السادسة عشرة، التي تعُدُّ أمَّها أستاذتها الأولى تتلقَّى عنها فنون الحياة المنزلية، والجدير بالذكر أن الفيلم رأى كل العالم من وجهة نظر بيت عاكف، وليس هناك مشهد يصف الأشياء والأشخاص من وجهة نظر نوال، التي سلطت الرواية عليها فصلين. وفي أيام العيد، كرَّر رشدي أسطوانته عليها، بينما الفيلم لم يصوِّر توطيد علاقة نوال بالشابِّ إلا عن طريق ذهابها إلى المدرسة «عينيكي فيها إنسان بيحبك»، فتردِّد: «اتأخرت ع المدرسة.»

ثُم يعود الحكْي مجدَّدًا من خلال عيون أحمد عاكف، في الفصل «٢٣»، حتى مضت أيام العيد وأحمد يراقب نوال من نافذته، بينما هي منشغلة بأخيه، الذي لم يعرف قطُّ أن أخاه غارق في حُب الجارة. إلى أن يدرك حقيقة المشاعر، فينتابه الغمُّ؛ أيْ إن عاكف قد عرف الأمر من خلال ملاحظاته، وليس عن طريق أخيه الذي أخبره أنه يحبُّها وسوف يتقدَّم لخِطبتها.

لذا، فإنه في المشهد «٢٥» سيذهب إلى مقهى «الزهرة» وهو حزين، ملتمسًا العزاء في وجوده هناك، وهو أمر لم يحدث في الفيلم، ورغم حرارة الحوار فإن أحمد أحسَّ أنه كالسابح الذي تخُور قُواه، فيغوص تحت سطح الماء.

في الفيلم، وبعد صدمة، فإن أحمد عاطف لا يذهب إلى المقهى ملتمسًا العزاء، بل هو يعكف على تجميع مراجعه لتأليف الكتاب الذي عزف عنه، ولم يبدأ بحرف واحد في تأليفه إلا بعد صدمته. وقد تمادى الفيلم في مشاهد التقارُب بين رشدي ونوال، مثل مشهد نسيان المفتاح، ومحاولته تقبيلها، كما أن الغارات لم تتوقف في الفيلم، ومع كل غارة نسمع أغنية جديدة آنذاك لعبد الوهاب، وفي هذه الغارة يكون أحمد قد جهَّز رسالته، وتكون أول كحَّة قد انطلقت من حنجرة رشدي، وهنا (في الفيلم) يبوح الأخ لأخيه بقصَّة حبه، وعندما يغادر أحمد المخبأ يمزِّق الرسالة المكتوبة على خلفيَّة لموسيقى «خايف اقول اللي في قلبي»، وعندما يخرج الناس من المخبأ يدوسون فوق أوراق الرسالة الممزَّقة.

في الفيلم، وعقب الصدمة، فإن أحمد عاكف يذهب إلى بيت عليات التي ترقص على أغنية «على بياعين العنب»، وتردِّد له: دا انت مغموم قوي، ويدور حوار رائع بينه وبين عليات؛ حيث يدَّعي أن له صديقًا في حالة حُب، «٤٠ سنة بيكافح، عمره ما فكر في نفسه، لما ابتدا يعيش ويحب، هجرته إلى واحد تاني، راحت للشباب اللي زيه.» وتقول عليات بسخرية في آخر الحديث: «ما أنا عارفة إنه صاحبك.»

الفصل «٢٦» وما يليه في الرواية، يصف كيف تطورت علاقة رشدي بنوال، وليست هناك أيُّ إشارة إلى أن رشدي زير نساء مثلما في الفيلم؛ حيث إنه سرعان ما وقع في غرام الفتاة من النظرة الأولى، ويردِّد لها ذلك فعلًا «النظرة الأولى تكفي لاكتشاف مَن تربطهم بنا صِلة روحية عَسِيَّة أن تصير الحب نفسه!» وهناك حوار طويل بين الاثنين في طريق القبور، متشابه بين الفيلم والرواية.

يحدث تغيُّر ملحوظ لدى رشدي عاكف، يدركه أخوه، وقد أشارت الرواية في الفصل «٣٠» أن رشدي أصابته إنفلونزا، وأنه لم يكن يعبأ بوعكات المرض، وأن المرض اشتدَّ عليه في اليوم التالي، أمَّا الفيلم، فقد جعل السُّعال يصيب أحمد بشكل تدريجي، وقد برأ رشدي مما ألمَّ به، وأحسَّ بالحسرة على الأسبوع الذي فلت منه، ثُم اعترف لأخيه في المنزل عن حُبه لنوال وليس في المخبأ.

المقهى هو المكان الذي تدور الرواية فيه، أكثر من أيِّ مكانٍ آخر، وهو حديث متكرِّر كما أشرنا، اختصره السيناريو في الكثير من الأحيان، وقد يمتدُّ الحديث الطويل إلى بيت عليات. أمَّا رشدي فإنه يهمل صحته، فأصابه الهزال والشحوب، وقال له أخوه: استعصى شفاؤك من مرضك الأول، وأصابك هذا السُّعال الشديد.

ويشير النَّص الأدبيُّ أن «٣٣» فصلًا من الرواية قد داروا بين سبتمبر ١٩٤١م، ويناير ١٩٤٢م؛ أيْ أقلُّ من أربعة أشهر، حيث حلَّ عيد الأضحى، وفي هذا التاريخ ذهب رشدي إلى طبيب، فأخبره أن بالرئة اليسرى مبادئ سُلٍّ. أمَّا الفيلم فإن الدم يسقط كبُصاق في الحوض في تشابهٍ بين الفيلم والرواية إلى حدٍّ كبيرٍ بالنسبة لإصابة رشدي بالدَّرن، ومشهد الطبيب الذي يذهب إليه رشدي غير موجود في الفيلم بنفس الصورة، إلا أن طبيبًا آخر يبلغه أن أمامه ستَّة أشهر كي يشفى، ومن هنا تأتي فكرة المصحَّة.

صار الاهتمام بعد ذلك برشدي الذي توثب لمقاومة مرضه الخطير، وواظب على تناول ما أشار به الطبيب من الحقن والأدوية، وأغذية ملحوظة الفائدة، إلا أنه وقع فريسة للأوهام والمخاوف، وألحَّ عليه حُبه العميق لمسرَّات الحياة، فلم يعُد المرض وخطره شغله الشاغل، وهو أمر لم نرَه في الفيلم؛ حيث إن رشدي — الفيلم — قد انكسر تمامًا بالمرض، فجاء فبراير برياحه العاصفة وزوابعه، وفي الرواية يقول لنوال: أدركت وأنا أنظر إلى القبور على ضوء عينيك معنى القول إن الحياة الحُب.

ومثلما حدث في الفيلم فإن رشدي أخفى مسألة مرضه على كل مَن يحيط به، عدا أسرته، إلا أن حالته حسب الفصل «٣٨» ازدادت سوءًا، واشتدَّ هزاله وشحوبه، وجاءت فكرة المصحَّة، لنعرف أنه مصاب بماء الرئة، وهو طبيًّا مرض مختلف عن السُّل.

وكما أشرنا فهناك تطابقٌ ملحوظ بين الفيلم والرواية في الفصول الأخيرة، عدا بعض التفاصيل، وفي الرواية، فإن كمال خليل، والد نوال، قد أخذ أُسرته لزيارة رشدي في المصحَّة، أما في الفيلم فقد منع الرجل على ابنته أن تختلط بالشابِّ تمامًا. وفي الفصل «٤١» فإن رشدي يرسل إلى أخيه أن يعيده من المصحَّة إلى البيت، وأنه في حالة يأسٍ شديد. وفي البيت جاءت نوال لزيارته «والتقت عيناه بعيني نوال مرَّات» بما يختلف عن الفيلم، ومع الفصول اشتد المرض والألم.

في الفصل «٤٣» بدأت نوال في الانقطاع عن الحضور، ويكشف الأب لابنته: «يؤسفني أن أصارحك أن الشابَّ مصاب بالسُّلِّ، وهو مرض كما تعلمين فظيع، ورحمة الله واسعة.» وأمرها — كما في الفيلم — بعدم الذهاب إلى المريض؛ مما يسبِّب لها الألم ومحاولة التمرُّد.

عايشنا في الرواية والفيلم والأيام الأخيرة لرشدي عاكف الذي فُصل من وظيفته واستردَّ وديعته من المصرف، ودخن سيجارة، وقد نفَّذ الفيلم مشهد وفاته بدقَّة كما وصفها المؤلِّف: «انفتح باب الحجرة بقوة، وبدت أمُّه على عتبته، وقد رفعت ذراعيها فوق رأسها كمَن يستغيث، ثُم هوت على خدَّيها تلطم بعنفٍ وجنون.»

في الفيلم، بعد وفاة رشدي، هجرت الأسرة خان الخليلي متجهةً إلى مسكن جديد غير معلوم، وفي الفصل «٤٩» من الرواية يقول محفوظ إنه تلا وقت حافل بالأحداث الحربية الهائلة، فانسحب الجيش الثامن من جسر الفرسان، وفي النصف الثاني من يونيو سقطت طبرق في أيدي الألمان، وكان قد انقضى على وفاة رشدي أربعة أسابيع، وقد جاءت نوال إلى الأمِّ تعتذر لها عن موقفها السلبيِّ، بما يعني أن نوال لم تأتِ إليه تتوسَّل لقاءه. وفي المشهد الأخير، اهتم محفوظ بالجانب السياسيِّ الذي شهدته البلاد، فالإسكندرية ضربتها القنابل، وفي أغسطس اهتدى أحمد عاطف إلى شقَّة خالية بضاحية الزيتون؛ أيْ إن الانتقال إلى مسكن جديد قد تمَّ بعد رحيله بستَّة أشهر على الأقل، وقد تمَّ الرحيل ليلة النصف من شعبان، بما يعني أن زمن الرواية استغرق عامًا، ولم يلحظ مُشاهد الفيلم هذه السِّمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤