الفصل الثالث عشر

مع دخول فلوري من بوابة مجمع المستشفى مر به أربعة كناسين ملابسهم رثة، حاملين جثة عامل، ملفوفة في خيش، إلى لحدٍ يبلُغ عمقه قدمًا في الغابة. عبر فلوري الأرض الشبيهة بالقرميد إلى الساحة الواقعة بين سقائف المستشفى. في أنحاء الشرفات الواسعة على أسرَّة من دون شراشف، رقدت صفوف من رجال بوجوه رمادية صامتين بلا حراك. وكان ثمة بعض الكلاب الهجينة القذرة المنظَر، كان يُقال إنها تلتهم الأعضاء المبتورة، وقد راحت تغفو أو تنهش براغيثها بين دعامات المباني. لفَّ المكان بأسره جوٌّ من القذارة والعفن. وكان الدكتور فيراسوامي يُحاول جاهدًا الحفاظ على نظافته، لكن لا شيء كان سيتغلب على الغبار وسوء الموارد المائية، وكسل الكناسين ومساعدي الجراحين غير الحاصلين على تدريبٍ كافٍ.

أُخبر فلوري أن الطبيب كان في قسم العيادات الخارجية، وهو حجرة جدرانها من الجص ليس بها من المتاع إلا طاولة وكرسيان، وصورة مُتربة للملكة فيكتوريا، مالت ميلًا شديدًا. كان جمع من البورميِّين، فلاحون بعضلات مُتيبِّسة تحت أسمالهم الباهتة يدخلون الحجرة في طابور، ويصطفُّون لدى الطاولة. كان الطبيب مرتديًا قميصًا من دون سترة ويتصبَّب عرقًا. وقد هبَّ واقفًا وهو يهتف معبرًا عن سروره، وبأسلوبه النيق السريع المعتاد دفع بفلوري على كرسي شاغر وأخرج علبة سجائر من الصفيح من درج الطاولة.

«يا لها من زيارة سارَّة! فلتكن على راحتك رجاءً، هذا إن كان يُمكن لأحد الشعور بأي راحة في مكانٍ كهذا، ها ها! سوف نتحدَّث فيما بعد، في منزلي، مع الجعة ووسائل الراحة. أرجو أن تسمح لي بالانصراف إلى شئون الجمهور.»

جلس فلوري، فراح العرق الساخن يتدفَّق منه في الحال حتى بلل قميصه؛ إذ كانت حرارة الحجرة خانقة، ورائحة الثوم تنبعث من كل مسامِّ الفلاحين. مع وصول كل رجل إلى الطاولة كان الطبيب يهبُّ من مقعده، وينكز المريض في ظهره، ويضع أذنه السوداء على صدره، ويسأل مُتعجِّلًا عدة أسئلة بلُغة بورمية ركيكة، ثم يعود سريعًا إلى الطاولة ويُدوِّن الروشتة على عُجالة. فيأخذ المرضى الروشتات ويعبُرون الساحة إلى صانع التركيبات، الذي كان يُعطيهم زجاجات مليئة بالماء وأصباغ نباتية مُتنوِّعة. كان صانع التركيبات يتعيش إلى حدٍّ كبير من بيع المخدرات؛ إذ كانت الحكومة تدفع له خمسًا وعشرين رُوبية فقط شهريًّا. إلا أن الطبيب لم يكن لديه علمٌ بهذا.

في صباح أغلب الأيام كان لا يُتاح للطبيب متَّسعٌ من الوقت للكشف على مرضى العيادة الخارجية بنفسه، فكان يتركهم لمساعد جرَّاح، كان يتبع أساليبَ وجيزةً في التشخيص. إذ كان بكلِّ بساطة يسأل كل مريض: «أين تشعر بالألم؟ في الرأس، أم الظهر، أم البطن؟» وعند الإجابة يُناولونه وصفةً من إحدى ثلاث رُزَم كانوا قد حضَّروها مسبقًا. وكان المرضى يُفضِّلون هذا الأسلوب كثيرًا عن أسلوب الطبيب. إذ كان من دأب الطبيب أن يسألهم ما إذا كانوا قد عانَوا من أمراضٍ تناسُلية — سؤال غير لائق وغير مُجدٍ — وكان أحيانًا يُروِّعهم أكثر من ذلك بالنصح بإجراء عمليات، وهو ما كانوا يُشيرون إليه بعبارة «فتح البطن». كان أغلبهم يُفضِّلون أن يمُوتوا عشر مرات على أن يخضعوا لعملية «فتح بطن».

بمجرَّد أن ذهب المريض الأخير ارتمى الطبيب على كرسيِّه، وجعل يُهوِّي على وجهِه بدفتر الروشتات.

«أفٍّ لهذا الحر! في صباح بعض الأيام أشعر أن رائحة الثوم لن تُبارح أنفي أبدًا! أتعجَّب كيف يصير دمهم ذاته مشبعًا به! ألا تشعر باختناق يا سيد فلوري؟ فحاسة الشم لديكم أنتم الإنجليز متطوِّرة للغاية. يا لها من عذابات تلك التي تعانونها جميعًا حتمًا في شرقنا القذر!»

«ربما يجدر أن يكتبوا فوق قناة السويس: «على جميع من سيدخلون من هنا ترك أنوفهم»، أليس كذلك؟ تبدو مشغولًا هذا الصباح؟»

«كالعادة، لكن كم هو محبط عمل الطبيب في هذا البلد يا صديقي! هؤلاء القرويون … يا لهم من همج جهَلة قَذِرين! جُل ما يُمكننا عمله هو أن نحملهم على المجيء إلى المُستشفى، لكنهم يفضلون الموت بالغرغرينا أو العيش بورم بحجم الشمامة لعشر سنوات على أن يخضعوا للمشرط. ويا للأدوية التي يُعطيها لهم أطباؤهم المزعومون! أعشاب حُصدت تحت ضوء الهلال، وشوارب نمر، وقرون خرتيت، وبول، ودم حيض! إنه لمقزز أن يشرب إنسان مثل تلك التركيبات.»

«لكنه بالأحرى مذهل. لا بد أن تُؤلِّف دستورًا بالأدوية البورمية يا دكتور. سيكون بنفس جودة دستور كلبيبر.»

قال الطبيب وقد بدأ يرتدي معطفه الأبيض بعصبية: «بهائم همج، بهائم همج. هلا عدنا إلى منزلي؟ يوجد جعة وأظن القليل من قطع الثلج المتبقية. لدي عملية الساعة العاشرة، فتق مختنق، مُستعجِلة جدًّا. حتى ذلك الوقت أنا حر.»

«حسنًا. في الواقع ثمَّة شيء كنت أودُّ حقًّا أن أحدثك بشأنه.»

عبر المرضى الساحة عائدين وصعدوا سلم شرفة الطبيب، الذي راح يتحسَّس صندوق الثلج ليجد أنه قد ذاب كله إلى مياه فاترة، ففتح زجاجة جعة ونادى على الخدم بعصبية ليضعوا بضع زجاجات أخرى في حامل من القش المُبتلِّ ويُعلقونه في الهواء. كان فلوري واقفًا يُطلُّ من سور الشرفة، وقبَّعته ما زالت على رأسه. كان في الحقيقة قد جاء ليُقدِّم اعتذارًا، بعد أن ظلَّ يتحاشى الطبيب طوال أسبوعَين تقريبًا، بالفعل منذ اليوم الذي وضع فيه اسمه في الإعلان المُسيء في النادي. لكن كان لا بد من النُّطق بالاعتذار. كان يو بو كين خبيرًا جيدًا جدًّا بالرجال، لكنه أخطأ حين افترض أن خطابَين مجهولَي المصدر كافيين لإبعاد فلوري مذعورًا عن صديقه إلى الأبد.

«فلتسمَع يا دكتور، أتعلم ما أردتُ قوله؟»

«أنا؟ لا.»

«بل تعلم. إنه بشأن تلك المكيدة الكريهة التي كدتُها لك ذلك الأسبوع. حين علَّق إليس ذلك الإعلان على لوحة النادي ووقَّعتُ أنا عليه. لا بدَّ أنك سمعت بالأمر. أودُّ أن أشرح …»

«كلا، كلا يا صديقي، لا، لا!» كان الطبيب في ضيقٍ شديد حتى إنه عبَرَ الشرفة مُسرعًا وقبَضَ على ذراعِ فلوري. «لا تُفسر شيئًا! لا تذكُر الأمر أبدًا أرجوك! إنني مُتفهِّم تمامًا، تمامًا جدًّا.»

«لا، إنك لا تدري. لا يُمكنك ذلك. فأنت لا تُدرِك أي نوع من الضغط يُمارَس علينا لنفعل أشياءَ مثل تلك. لم يكن ثمَّة شيء ليجعلَني أوقع ذلك الإعلان. لم يكن شيء ليحدُث لو أنني رفضت. لا يوجد قانون يُطالبنا بأن نُعامل الشرقيِّين معاملةً كريهة، بل العكس تمامًا، لكن جل ما هناك أن المرء لا يجرُؤ على إخلاص الودِّ لشرقيٍّ ما دام هذا يعني معارضة الآخرين. إنه ليس من المعقول. لو كنتُ عارضتُ الإعلان معارضة صريحة لكان لحقني العار في النادي طوال أسبوع أو أسبوعين. لذلك جبنتُ كالعادة.»

«أرجوك يا سيد فلوري، أرجوك! إذا واصلت الكلام ستجعلُني أشعر بالحرج حقًّا؛ كما لو أنني لم أستطع أن ألتمس لك الأعذار على موقفك.»

«إن شعارنا، كما تعلم: «في الهند تصرَّف كما يتصرف الإنجليز».»

«بالطبع، بالطبع. وإنه لشِعار نبيل للغاية «مُتآزِرين معًا»، كما تُسميه. إنه سرُّ تفوقكم علينا نحن الشرقيِّين.»

«حسنًا، إنَّ الاعتذار لن يُجدي أبدًا. أما ما جئت هنا لأقوله فهو أن ذلك لن يحدث ثانيةً. في الواقع …»

«مهلًا، مهلًا يا سيد فلوري، فلتُسدِني معروفًا بألا تزيدَ كلامًا في هذا الموضوع. لقد انتهى ونُسي تمامًا. فلتشرب جعتك قبل أن تصير ساخنة كالشاي، رجاءً. كما أن لديَّ شيئًا أودُّ إخبارك به. فلم تسألْني عن أخباري بعد.»

«أجل، أخبارك. صحيح، كيف أخبارك؟ كيف جرت الأحوال طوال هذا الوقت. كيف حال السيدة بريطانيا؟ ما زالت على فراش الموت؟»

«أجل، حالتها سيئة جدًّا، غاية في السوء! لكنها ليست في سوء حالتي. إنني في مأزق يا صديقي.»

«ما الأمر؟ يو بو كين مجددًا؟ هل ما زال يشهر بك؟»

«ليته كان يُشهِّر بي! هذه المرة … حسنًا، إنه عمل شيطاني. هل سمعت يا صديقي بالتمرُّد المفترض أنه على وشك الاندلاع في المنطقة؟»

«سمعت أقوالًا كثيرة. كان ويستفيلد قد مضى ناويًا القتال، لكنني سمعت أنه لم يستطع العثور على أي مُتمرِّدين. وإنما المُعتاد من المعارضين القرويِّين الذين يرفضون سداد ضرائبهم.»

«صحيح. يا لهم من حمقى مساكين! هل تعلم كم تبلغ الضريبة التي رفض أغلبهم سدادها؟ خمس روبيات! سرعان ما سيسأمون ويدفعون. تُواجِهُنا هذه المشكلة كل عام. لكن فيما يتعلَّق بالتمرُّد — التمرُّد المزعوم يا سيد فلوري — أرجو أن تعلم أن ما خفي كان أعظم.»

«حقًّا؟ ما الأمر؟»

تفاجأ فلوري حين بدرت من الطبيب حركة غضب عنيفة حتى إنه سكب أغلب الجعة من يده. ثم وضَعَ كوبه على سور الشرفة وقال مُنفعلًا:

«إنه يو بو كين مجددًا! ذلك الوغد الذي يجلُّ عن الوصف! ذلك التمساح الذي عدم المشاعر الطبيعية! ذلك … ذلك …»

«أكمل. «ذلك الصندوق المليء بالآفات البشرية؛ ذلك الجوال المُفعَم بالأسقام، ذلك البرميل الذي صُفِّيت فيه كل الشرور» … استمر. ما الذي ينويه الآن؟»

«خسة لا يُضاهيها خسة»، وهنا راح الطبيب يُوضِّح مؤامرة التمرُّد الزائف، تمامًا كما شرحها يو بو كين لما كين. التفصيلة الوحيدة التي لم يكن يعلمها هي نية يو بو كين أن يجعل نفسه يُختار لعُضوية النادي الأوروبي. لا يُمكن القول بأن وجه الطبيب كان متورِّدًا بالضبط، لكنه صار أشد سوادًا بعدة درجات في فورة غضبِه. أما فلوري فقد كان من الاندهاش في غاية حتى إنه ظلَّ واقفًا.

«يا له من شيطان خبيث! من كان يتخيَّل أنه يستطيع ذلك؟ لكن كيف استطعت معرفة كل هذا؟»

«تبقَّى لي القليل من الأصدقاء. لكن هل رأيت يا صديقي أي دمار يُدبِّره لي؟ لقد انهال عليَّ بافتراءات شتَّى بالفعل. وحين يندلِع هذا التمرُّد الغبي، سيبذل كل ما في وسعه ليربط اسمِي به. وأؤكد لك أن أقل شُبهة تمسُّ ولائي من الممكن أن تتسبَّب في هلاكي، هلاكي! إذا هُمس أيُّ خبر بمجرَّد تعاطُفي مع هذا التمرُّد، سوف تكون نهايتي.»

«لكن تبًّا، هذا لا يُعقَل! لا بد أن بإمكانك الدفاع عن نفسك بطريقة ما.»

«كيف يُمكنني الدفاع عن نفسي وأنا لا أستطيع إثبات شيء؟ أعلم أن كل هذا صحيح، لكن ما الجدوى؟ حتى إذا طالبت بتحقيق عام، مقابل كل شاهد سآتي به سيأتي يو بو كين بخمسين. إنك لا تدري بنفوذ ذلك الرجل في المنطقة. فلا أحد يجرؤ على الشهادة ضده.»

«لكن ما حاجتك لإثبات أي شيء؟ لماذا لا تذهب لماكجريجور وتخبره بالأمر؟ إنه رجل حقاني جدًّا بطريقته، وسوف يُنصت لك حتى النهاية.»

«لا جدوى، لا جدوى. ليس لديك عقلية شخص مُتآمِر يا سيد فلوري. تقديم التبريرات يدلُّ على ارتكاب الذنب، أليس كذلك؟ لا فائدة تُرجى من الصياح بأن هناك مؤامَرة ضدي.»

«حسنًا، ماذا ستفعل إذن؟»

«ليس هناك ما يسعُني فعله. عليَّ ببساطة أن أنتظر على رجاء أن تُنقذني مكانتي. في مثل هذه الأمور، حين تكون سمعة أحد المسئولين من أهل البلد على المحك، لا يهمُّ الإثبات أو الدليل. إنما يتوقَّف الأمر برمته على منزلته لدى الأوروبيِّين. إذا كان لي منزلة حسنة لن يُصدِّقوا عني ذلك؛ إذا كانت سيئة فسوف يصدقون. المكانة هي كل شيء.»

لاذ الاثنان بالصمت لحظة. فهمَ فلوري جيدًا أن «المكانة هي كل شيء». كان مُعتادًا على هذه النزاعات المبهَمة؛ حيث الشك أهم من الإثبات، والصيت أوقع من أكثر من ألف شاهد. ثم طرأت على باله فكرة، فكرة تبعث على القلق والخوف، ما كانت لتخطر على باله قبل ثلاثة أسابيع. كانت إحدى تلك اللحظات التي يرى فيها المرء بوضوح تام ما هو واجبه، ويرغب بشدة أن يتملص منه، لكن يُساوره يقين أنه لا بد أن يقوم به. هكذا قال: «لنفترض مثلًا أنك انتُخبت لعضوية النادي. هل سيكون في ذلك أيُّ فائدة لمكانتك؟»

«إذا انتُخبت لعضوية النادي! أجل، بالتأكيد! النادي! إنه قلعة حصينة. بمجرد أن أدخله، لن يُنصِت أحد إلى تلك الحكايات التي تُقال عني إلا كأنها عنك أنت أو السيد ماكجريجور أو أي سيد أوروبي آخر. لكن أي أمل يحدوني في أن ينتخبوني بعد أن سُممت أفكارهم عني؟»

«حسنًا، اسمعني يا دكتور، لدي فكرة. سأَقترح اسمك في الجمعية العمومية التالية. المفترض أن المسألة ستُطرح عندئذٍ على حدِّ علمي، وأعتقد أنه إذا تقدم أحدٌ باسم مرشح فلن يُصوت أحد ضده سوى إليس. وفي الوقت ذاته …»

«آهِ يا صديقي، يا صديقي العزيز!» كاد الطبيب يختنِق من فرط التأثر. ثم قبض على يده وقال: «آه يا صديقي، هذا تصرف نبيل! تصرف نبيل حقًّا! لكن هذا كثير جدًّا. أخشى أن تقع في مشكلة مع أصدقائك الأوروبيين مرةً أخرى. السيد إليس مثلًا، هل سيتغاضى عن اقتراحِك اسمي؟»

«أفٍّ لإليس. عليك أن تفهم أنني لا أستطيع أن أعدَ بانتخابك. فالأمر يتوقف على ما سيقوله ماكجريجور والحالة المزاجية التي سيكون عليها الآخَرون. وقد ينتهي الأمر برمَّته إلى لا شيء.»

كان الطبيب لا يزال مُمسكًا بيد فلوري بين يدَيه، اللتين كانتا مُكتنزتين ورطبتين. وكانت الدموع قد تصاعَدَت فعلًا إلى عينَيه، اللتين جعلتهما نظارته تبدوان مكبَّرتين، يُطالع بريقهما فلوري مثل عينَين لامعتين لكلب.

«آه يا صديقي! ليتني أُنتخب! فأي نهاية ستكون لكل متاعبي! لكن كما قلت لك من قبل يا صديقي، لا تكن شديد التهور في هذا الأمر. فلتحترِس من يو بو كين! لا بدَّ أنه قد احتسبَكَ بالفعل بين أعدائه. ومن الممكن أن تكون عداوتُه خطيرة حتى عليك.»

«يا إلهي، ليس بإمكانه أن يمسَّني. ولم يفعل شيئًا حتى الآن، فقط القليل من الخطابات المجهولة المصدر التافهة.»

«ما كنتُ لأُفرِّط في الاطمئنان لو كنتُ مكانك؛ فهو لديه أساليب خفية للهجوم. ومن المؤكد أنه سيُقيم الدنيا ويُقعدها للحوْلِ دون انتخابي لعضوية النادي. إذا كان لديك نقطة ضعف فلتحرسها يا صديقي. فسوف يكتشفها. إنه دائمًا ما يُصيب نقاط الضعف.»

أفاد فلوري قائلًا: «مثل التمساح.»

وافَقَه الطبيب بجدية قائلًا: «مثل التمساح، لكن كم سيسرُّني أن أصير عُضوًا في ناديك الأوروبي يا صديقي! يا له من شرف أن أكون زميلًا لرجال أوروبيِّين مُهذَّبين! لكن ثمة مسألة أخرى يا سيد فلوري لم أكترث لذكرها من قبل. وهي — أرجو أنه يكون هذا مفهومًا بوضوح — أنني لا أنوي استغلال النادي بأي طريقة. فالعُضوية هي كل ما أرغب فيه. وحتى إذا انتُخبت، لن أَجرُؤ قط بالطبع على الذهاب إلى النادي.»

«لن تأتي إلى النادي؟»

«لا، لا! معاذ الله أن أَفرض صحبتي على السادة الأوروبيِّين المهذبين! سوف أُسدِّد اشتراكاتي فحسب. يكفيني ذلك الامتياز الرفيع. أعتقد أنك تُدرك قصدي، أليس كذلك؟»

«تمامًا يا دكتور، تمامًا.»

لم يستطِع فلوري أن يمنع نفسه من الضحك وهو يسير صاعدًا التل. صار الآن ملزمًا حتمًا باقتراح انتخاب الطبيب. وستثُور مشاجرة عارمة حين يسمع الآخرون بالأمر. يا لها من مشاجرة عويصة! لكن المدهش أن ذلك لم يفعل به شيئًا سوى أن جعله يضحك. الاحتمال الذي كان حقيقًا أن يُروِّعه قبل شهر يكاد يُبهجه الآن.

لماذا؟ ولماذا أعطى وعدًا من الأساس؟ كان أمرًا بسيطًا، مجازفة صغيرة — ليس بها شيء بطولي — إلا أنه كان مخالفًا لطبعه. لماذا، بعد كل هذه السنوات — سنوات من العيش بحذر مثل واحد من سائر السادة الأوروبيِّين الواعين — يُحطِّم كل القواعد فجأةً؟

كان يعلم السبب. كان السبب أن إليزابيث، بدخولها حياته، غيَّرتها وجدَّدتْها تمامًا كأنه لم تمرَّ عليه كل تلك السنوات من القذارة والبؤس قط؛ إذ غيَّر وجودُها مدارَ تفكيره كليةً. فقد أعادت له هواء إنجلترا، إنجلترا العزيزة؛ حيث التفكير حرٌّ ولا يُحكَم على المرء باتِّباع سلوك «البوكا صاحب» إلى الأبد من أجل تهذيب الأعراق الدنيا. تساءل في نفسه: ماذا حدث للحياة التي كنتُ أعيشها مؤخرًا؟ مجرد وجودها جعل التصرف بلياقة ممكنًا بل وطبيعيًّا.

تساءل مرةً أخرى مع مروره من بوابة الحديقة: ماذا حدث للحياة التي كنت أعيشها مؤخرًا؟ كان سعيدًا، سعيدًا. فقد أدرك أن المتقين على حق حين يقولون إن ثمة خلاصًا وإن الحياة من الممكن أن تبدأ من جديد. سار الممشى، وبدا له أن منزله، وزهوره، وخدمه، حياته بأسرها التي كانت منذ وقت قصير غارقة في ضجر وشوق للوطن، جُعلت بطريقة ما جديدة وذات معنًى وجميلة بلا حدود. كم من الممكن أن يصير كل شيء مُمتعًا، فقط إذا كان لديك شخص لتشاركه إياه! كم من الممكن أن تهوى هذا البلد، فقط إذا لم تكن وحيدًا! كان نيرو بالخارج على الممشى متحديًا الشمس من أجل بعضٍ من حبوب الأرز التي أسقطها البستاني وهو يأخذ الطعام إلى عنزاته. اندفعت فلو إليه، لاهثةً، وانطلق نيرو في الهواء بنشاط وحط على كتف فلوري. سار فلوري إلى المنزل بالديك الأحمر الصغير بين ذراعيه، مربتًا على طوقه الحريري الملمس وريش ظهره الناعم المتَّخذ شكل الألماس.

لم يكد يطأ الشرفة حتى علم أن ما هلا ماي في المنزل. لم يكن بحاجة لأن يأتيه كو سلا من الداخل مسرعًا بوجهٍ عليه نذر الشر. فقد كان فلوري قد اشتمَّ رائحة الصندل والثوم وزيت جوز الهند والياسمين الذي في شعرها. فأنزل نيرو على سور الشرفة.

قال كو سلا: «لقد عادت المرأة.»

كان فلوري قد شحب بشدة. وكان حين يشحب تجعله الوحمة يبدو قبيحًا حد البشاعة. شعر بوخزٍ كأن شفرة من جليد قد اخترقَت أحشاءه. كانت ما هلا ماي قد ظهرت في مدخل مخدع النوم؛ إذ وقفت خافضة وجهها، وهي تنظر إليه من أسفل حاجبَين مرتخيين.

قالت بصوتٍ خفيض، تناصَفَت فيه نبرتا الحزن والاستعجال: «سيدي.»

قال فلوري بغضبٍ لكو سلا، مُنفثًا عن خوفه وغضبه عليه: «انصرف!»

قالت: «فلتأتِ إلى المخدع يا سيدي. لديَّ شيء لأقوله لك.»

تبعها إلى المخدع. خلال أسبوع — كان أسبوعًا فحسب — تدهور مظهرها بشكلٍ غير عادي. فقد بدا شعرها ملبَّدًا. واختفَت كل قلاداتها، وكانت ترتدي إزارًا من قماش قطني منقوش بزهور صُنعَ في مانشستر، بروبيتين وثماني آنات. وكانت قد دهنت وجهَها بطبقة سميكة جدًّا من البودرة حتى بدا كأنه قناع مُهرِّج، وعند منبت شعرها، حيث انتهت طبقة البودرة، ظهر خطٌّ من جلدها بلونِه البُني الأصلي. بدت عليها سيماء العاهرات. أبى فلوري أن يواجهها، وإنما وقف ينظر بعبوس من خلال الباب المفتوح على الشرفة.

«ماذا تُريدين بالرجوع هكذا؟ لماذا لم تعُودي إلى قريتك؟»

«إنني مقيمة في كياوكتادا، في منزل ابن عمي. كيف يُمكنني العودة إلى قريتي بعد ما حدث؟»

«وماذا تقصدين بإرسالك رجالًا للمطالبة بمالٍ منِّي؟ كيف يُمكنك أن تحتاجي إلى مزيد من المال بهذه السرعة، وقد أعطيتكِ مائة روبية منذ أسبوع فقط؟»

أعادت قولها، مُتجاهلة ما قاله: «كيف يُمكنني العودة؟» ارتفع صوتها ارتفاعًا شديدًا فجأةً حتى إنه استدار. كانت واقفةً بقامة شديدة الانتصاب، متجهِّمة، وقد ضمَّت حاجبَيها الأسودين وزمَّت شفتيها.

«لماذا لا تستطيعين العودة؟»

«بعد ذلك! بعد ما فعلته بي!»

انفجرت فجأةً في ملامة مطوَّلة مهتاجة، وقد علا صوتها بالصراخ الهستيري الوقح الذي يصدر عن نساء البازار حين يتعاركْن.

«كيف يُمكنني العودة، ليسخر منِّي أولئك الفلاحون الوضعاء الأغبياء الذين أحتقرُهم ويُشيرون إليَّ؟ أنا التي كنتُ «بوكاداو»، زوجة رجل أبيض، أعود إلى بيت أبي، وأهزُّ سلال الأرز مع الشمطاوات والنساء البالغات القبح اللواتي لم يجدْنَ أزواجًا! آه، يا للعار، يا للعار! طيلة سنتين كنت زوجتك، أحببتني واعتنيت بي، وفجأةً من دون إنذار، من دون سبب طردتني من منزلك مثل كلب. والآن عليَّ أن أعود إلى قريتي، بلا مال، وقد ذهب كل مصاغي وأزري الحرير، حتى يشير إليَّ الناس ويقولون: «ها هي ما هلا ماي التي ظنَّت أنها أذكى منَّا. انظروا! لقد فعل بها رجلها الأبيض كما يفعلون دائمًا.» لقد قُضي عليَّ، قُضي عليَّ! أي رجل سوف يتزوَّجني بعد أن عشت في منزلك عامين؟ لقد سلبتني شبابي. آه، يا للعار، يا للعار!»

لم يستطع النظر إليها؛ وقف عاجزًا، شاحبًا، خجلان. كانت كل كلمة نطقَت بها لها تبرير، فكيف يُخبرها أنه لم يستطع أن يفعل غير ما فعله؟ كيف يخبرها أن الاستمرار عشيقًا لها كان سيصير فضيحة وخطيئة؟ كاد ينكمش منها، وبرزت الوحمة في وجهه الأصفر كأنَّها بُقعة حبر. قال بفتور، لاجئًا تلقائيًّا إلى المال؛ فالمال لم يخفق قطُّ مع ما هلا ماي:

«سوف أُعطيكِ مالًا. ستحصلين على الخمسين روبية التي طلبتِها منِّي، والمزيد فيما بعد. فلن يكون لديَّ نقودٌ أخرى حتى الشهر القادم.»

كان هذا حقيقيًّا. فقد أتت المائة روبية التي كان قد أعطاها لها، وما أنفقه على الملابس على أغلب ما لدَيه من نقدٍ سائل. هنا انفجرت في عويل مُدوٍّ أربكه. تقلَّص قناعها الأبيض وانهمرَت الدموع سريعًا وتدفَّقت على وجنتيها. وقبل أن يتسنَّى له أن يوقفها كانت قد خرت على ركبتيها أمامه وسجَدَت لامسةً الأرض بجبهتها في وضع الانبطاح بالكامل أمام السادة بمذلته المُطلقة.

هتف فلوري: «انهضي، انهضي!» فطالما روَّعه وضعُ الانبطاح المُخزي المُذِل، من رأس مطأطئ وجسدٍ مُنحنٍ كأنه يدعو للضرب. «لا قِبَل لي بهذا. انهضي في الحال.» نوَّحت مرةً أخرى، وحاولت التشبث بكاحلَيه، لكنه تراجع سريعًا.

«انهضي في الحال وكفِّي عن ذلك الصخب الفظيع. إنني لا أعلم علامَ تبكين.»

لم تنهض، وإنما قامت على ركبتيها وأخذت تنوح له. «لماذا تُقدم لي مالًا؟ هل تعتقد أنني عدت من أجل المال فقط؟ هل كنت تظنُّ أنني لا أكترث إلا للنُّقود حين طردتني من منزلك مثل الكلب؟»

قال مجددًا: «انهضي.» كان قد ابتعد بضعَ خطوات، خشية أن تمسك به. ثم قال: «ماذا تريدين إذا لم يكن مالًا؟»

نوَّحت قائلة: «لماذا تكرهني؟ ما الأذى الذي ارتكبته؟ لقد سرقت علبة سجائرك، لكنك لم تكن غاضبًا من ذلك. لكنك سوف تتزوَّج تلك المرأة البيضاء، أعلم ذلك، والجميع يعلمون. لكن ماذا في ذلك، لماذا تُصرُّ على طردي؟ لماذا تكرهني؟»

«إنني لا أكرهكِ. لا أستطيع شرح الأمر. فلتنهضي، انهضي أرجوكِ.»

كانت آنذاك تبكي بلا أدنى خجل. فلم تكن سوى طفلة على أيِّ حال. نظرت إليه من خلال دموعها، تتفرَّسه بلهفة بحثًا عن أثر لشفقة. ثم أتت حركة مروعة؛ إذ تمدَّدت بالكامل على وجهها.

صاح فلوري بالإنجليزية: «انهضي، انهضي! إنني لا أُطيق هذا، هذا شنيع للغاية!»

لم تنهض، وإنما زحفت، مثل الدودة، عابرة الأرض إلى قدمَيه مباشرةً. وقد صنع جسدها خطًّا عريضًا في الأرض المُغبرة. استلقَت مُنبطِحة أمامه، وجهُها مختبئ، وذراعاها ممدودان، كأنها أمام مذبح أحد الآلهة.

قالت بنشيج: «سيدي، سيدي، هلا غفرت لي؟ هذه المرة، هذه المرة فقط! فلتُرِد ما هلا ماي. سوف أكون أَمَتك، بل أدنى من أَمَتِك. أي شيء أفضل من أن تطردني.»

كانت قد لفَّت ذراعَيها حول كاحلَيه، وراحت تقبل أصابع قدميه فعليًّا. وقف هو ينظر إليها واضعًا يدَيه في جيوبه، عاجزًا. دخلت فلو الحجرة تتهادى، وسارت إلى حيث كانت ما هلا ماي مُستلقية وجعلت تتشمَّم إزارها. وهزت ذيلها قليلًا لتعرفها على الرائحة. لم يستطع فلوري الصبر. فانحنى وأمسك ما هلا ماي من منكبَيها، ورفعها إلى ركبتيها.

قال: «فلتنهضي حالًا. يُؤلمني أن أراكِ هكذا. سوف أفعل ما بوسعي من أجلكِ. فما فائدة البكاء؟»

في الحال هتفَت وقد تجدَّد لها الأمل: «هل ستردُّني إذن؟ فلتردَّ ما هلا ماي يا سيدي! لن يعلم أحد أبدًا. سأبقى هنا وحين تأتي السيدة البيضاء تلك، ستعتقد أنني زوجة أحد الخدم. هلا رددتني؟»

قال متوليًا عنها مرة أخرى: «لا أستطيع. هذا مُستحيل.»

سمعت الحسم في نبرتِه، فأطلقت صرخة حادَّة قبيحة. وانبطحَت مُستلقية مرةً أخرى، وراحت تضرب الأرض بجبهتها. كان الأمر بشعًا. لكن ما كان أكثر بشاعة من كل ذلك، الألم الذي أوجع صدره، هو الوضاعة المُطلقة، ودناءة المشاعر الكامنة وراء تلك التوسلات. فلم يكن في هذا كله شرارة حب له. إذا كانت تبكي وتتذلَّل فقد كان فقط من أجل الوضع الذي تمتَّعت به وهي عشيقتُه، والحياة الخامِلة، والملابس الغالية، والسيادة على الخدم. وكان في ذلك شيء مُثير للشفقة لدرجة تعجز الكلمات عن وصفها. لو كانت تحبه لكان استطاع صرفها شاعرًا بذنب أقل كثيرًا. فلا توجد أحزان في مرارة تلك الخالية من أي كرامة. انحنى ورفعها إلى ذراعَيه.

وقال لها: «اسمعيني يا ما هلا ماي، إنَّني لا أكرهك؛ فلم تُسيئي إليَّ. أنا الذي أسأت إليكِ. لكن لا مناص من ذلك الآن. لا بدَّ أن تعودي لدارك، وسوف أرسل إليك مالًا لاحقًا. إذا أردتِ فلتنشئي متجرًا في البازار. إنكِ صغيرة. لن تهتمِّي للأمر حين يصير معكِ مال وستستطيعين العثور على زوج.»

رفعت صوتها بالبكاء مرةً أخرى قائلة: «لقد قُضي عليَّ! سوف أقتل نفسي. سأقفز في النهر من على المرسى. كيف يُمكنني العيش بعد هذا العار؟»

كان يضمُّها، يكاد يُربت عليها، وكانت هي متشبِّثة به بشدة، وقد دسَّت وجهها في قميصه، وارتجف جسدها بالنشيج. سرَت رائحة الصندل إلى منخارَيه. ربما كانت تعتقد حتى في هذه اللحظة أن باستطاعتها استعادة سيطرتها عليه وهي تُطوِّقه بذراعَيها وجسدها لصيق جسده. خلص فلوري نفسه منها برفْق، ولما رأى أنها لن تخرَّ على ركبتيها، وقف مبتعدًا عنها.

«حسبكِ هذا. لا بد أن ترحلي حالًا. وانظري، سأعطيكِ الخمسين روبية التي وعدتكِ بها.»

أخرج الحقيبة الصفيح لملابسه الرسمية من أسفل الفراش وأخرج خمس ورقات بنكنوت بعشر روبيات. ودسَّتها هي بصمت في صَدر بلوزتها، وكانت دموعها قد توقفَت عن التدفق على حين غرة. ومن دون أن تتكلم ذهبَت إلى الحمام للحظة، ورجعت وقد استعاد وجهها بالغسيل لونَه البُني الطبيعي، واستعاد شعرها وزيها هندامهما. كانت تبدو متجهمة لكنها لم تعُد في حالة هستيرية.

«للمرة الأخيرة يا سيدي: ألا تُريد أن تردَّني؟ هل هذه كلمتك الأخيرة؟»

«نعم، ليس الأمر بيدي.»

«سأذهَب إذن يا سيدي.»

«حسنًا جدًّا. ليصحبكِ الرب.»

استند إلى العمود الخشبي للشرفة وهو يشاهدها تسير في الممشى تحت أشعة الشمس المتقدة. كانت تسير بانتصاب شديد، وقد تركت الإهانة المريرة أثرها على هيئة ظهرها ورأسها. كان صحيحًا ما قالته، لقد سلبها شبابها. راحت ركبتاه ترتجفان بلا سيطرة. جاء كو سلا من خلفه بخطوات غير مسموعة، وسعَلَ سعلةً صغيرة لجَذب انتباه فلوري.

«ما الأمر الآن؟»

«إفطار سيدي الكريم أوشكَ أن يبرد.»

«لا أريد أي إفطار. ائتِ لي بشيء لأشربه؛ جين.»

ماذا حدث للحياة التي كنتُ أعيشُها مؤخرًا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤