الفصل الرابع والعشرون

كانت الساعة السادسة مساءً تقريبًا، حين أخذ يدقُّ الجرس الغبي في البرج الصفيح ذي الستة أقدام للكنيسة كلانك-كلانك، كلانك-كلانك! حين شدَّ ماتو العجوز الحبل من الداخل. كانت أشعة شمس الغروب، التي كسرتها العواصف المُمطرة البعيدة، تغمر الميدان بضوء متألِّق جميل. تساقطت الأمطار في وقت سابق من اليوم، وسوف تُمطر مرة أخرى. اجتمعت الطائفة المسيحية في كياوكتادا، وعددها خمسة عشر شخصًا، عند باب الكنيسة في انتظار قداس المساء.

كان فلوري هناك بالفعل، والسيد ماكجريجور بقبَّعته الرمادية وملابسه المعتادة، والسيد فرانسيس والسيد صامويل، اللذان كان يتجوَّلان مبتهجين في بذلتين من قماش الدريل غُسلتا لتوهما؛ فقد كان قداس الكنيسة الذي يقام كل ستة أسابيع أهمَّ حدث اجتماعي في حياتهما. القس، الذي كان رجلًا طويل القامة ذا شعر أشيب ووجه مهذَّب حائل اللون، يرتدي نظارة أنف، كان واقفًا على سلم الكنيسة في ثوبه الكهنوتي وروبه، اللذَين كان قد وضعهما في منزل السيد ماكجريجور. كان يبتسم ابتسامة ودية لكن عاجزة بعض الشيء لأربعة مسيحيين من جماعة الكارين الإثنية في بورما بخدود متورِّدة كانوا قد جاءوا لينحنوا له تحيةً؛ فلم يكن يتحدث كلمة من لغتهم ولا يتحدثون هم لغته. كان ثمة مسيحي شرقي آخر، هندي أسمر محزون، من عِرق غير محدَّد، وقف في الخلفية على استحياء. كان حاضرًا دائمًا في قداسات الكنيسة، لكن لم يكن أحد يعلم من هو أو لماذا كان مسيحيًّا. لا شك أن المبشرين أسروه صغيرًا وعمَّدُوه؛ فالهنود الذين يعتنقون المسيحية وهم كبار يرتدُّون جميعًا بلا استثناء تقريبًا.

استطاع فلوري أن يرى إليزابيث وهي تنزل التل، ترتدي ثوبًا بنفسجيًّا فاتحًا، مع عمها وزوجته. كان قد رآها ذلك الصباح في النادي، تسنَّت لهما دقيقة فقط بمفردهما قبل مجيء الآخرين. كان قد سألها سؤالًا واحدًا فحسب.

«هل رحل فيرال إلى الأبد؟»

«نعم.»

لم يكن هناك حاجة لقول شيء آخر. أمسك ذراعَيها ببساطة وجذبها إليه. وقد ذهبت طوعًا، بل وبسعادة أيضًا، هناك في ضوء النهار الساطع، القاسي على وجهه المشوَّه. ظلَّت للحظة متشبثة به تشبُّثًا يُشبه الأطفال. كان كأنه قد أنقَذَها أو حماها من شيء ما. رفع وجهها ليُقبِّلَها واندهش حين وجد أنها كانت تبكي. لم يكن هناك وقت للكلام حينذاك، ولا حتى ليسألها: «هل تتزوجينَني؟» لا يُهم، بعد القداس سيتوفر وقتٌ كاف. وربما يزوجهما القس، في زيارته التالية، بعد ستة أسابيع فقط من ذلك الوقت.

كان إليس وويستفيلد وضابط الشرطة العسكرية الجديد آتيِن من النادي، حيث احتسوا بضعة مشروبات سريعة ليصمُدوا في القداس. كان يتبعهم ضابط الغابات الذي أُرسل ليشغل منصب ماكسويل، والذي كان رجلًا شاحبًا، طويلًا، أصلع تمامًا إلا من خصلتين مثل الشارب أمام أذنيه. لم يتسنَّ لفلوري وقت ليزيد عن قول: «مساء الخير.» لإليزابيث حين وصلت. لما رأى ماتو أن الجميع كانوا حاضرين، توقَّفَ عن قرع الجرس، وتقدمهم الكاهن في الدخول، يتبعه السيد ماكجريجور، حاملًا قبعته أمام بطنه، وآل لاكرستين والمسيحيون من أهل البلد. قرَصَ إليس فلوري في مرفقه وهمس في أذنه ثملًا:

«هيا، قف في الصف. حان وقت عرض التباكي. سريعًا سِر!»

دخل هو والضابط العسكري وراء الآخرين، يتأبط كل منهما ذراع الآخر، بحركات راقصة. ظلَّ ضابط الشرطة يهز عجيزته الممتلئة مقلدًا راقصة مهرجان البوي، حتى وصل إلى الداخل. جلس فلوري في نفس المقعد مع هذَين الاثنين، في الجهة المقابلة لإليزابيث، إلى يمينها. كانت المرة الأولى على الإطلاق التي يُجازِف فيها بالجلوس بوحمتِه في مواجهتها. همس إليس وهم يجلسون، مُجترًّا ضحكة من رجل الشرطة: «أغمضوا عيونكم وعُدُّوا حتى خمسة وعشرين.» كانت السيدة لاكرستين قد اتَّخذت مجلسها خلف الهارمونيوم، الذي لم يكن أكبر حجمًا من طاولة الكتابة. أقام ماتو عند الباب وبدأ يسحب المروحة، كانت مُعدَّةً بحيث تُهوِّي على المقاعد الأمامية فقط؛ حيث يجلس الأوروبيون. جاءت فلو تتشمَّم الممر، حتى وجدت مقعد فلوري وجلست أسفله، وبدأ القداس.

كان فلوري ينتبه لكن انتباهًا متقطعًا. كان بالكاد واعيًا بالوقوف والركوع والتمتمة «آمين» على الصلوات اللامتناهية، وبإليس وهو يلكزه ويهمس بسباب المقدَّسات من خلف كتاب التراتيل. لكنه كان في غاية السعادة لدرجة العجز عن لملمة أفكاره. فقد رد الجحيم يوريديس. كان الضوء الأصفر يفيض من خلال الباب المفتوح، ويطلي بالذهب الظهر العريض لمعطف السيد ماكجريجور الحرير كأنه قماش منسوج من الذهب. كانت إليزابيث، وهي على الجانب الآخر من الممر الضيق، قريبة جدًّا من فلوري حتى إنه استطاع سماع كل حفيف لفستانها ويشعر، كما هُيِّئ له، بدفء جسدها؛ إلا أنه لم يجرُؤ على النظر إليها ولو مرة، خيفةَ أن يُلاحظ الآخرون. راح الهارمونيوم يطلق أنغامًا متهدِّجة كالمصاب بالتهاب الشعب الهوائية والسيدة لاكرستين تُحاول جاهدة أن تضخ إليه هواءً كافيًا بالدواسة الوحيدة السليمة. وكان الغناء جلَبة مُتنافِرة غريبة؛ صدحًا جادًّا من السيد ماكجريجور، ونوعًا من الهمهمة الخجلانة من سائر الأوروبيِّين، ومن الخلف خوار مُرتفِع بلا كلمات؛ فقد كان المسيحيون الكارين يحفظون ألحان التراتيل لكن من دون الكلمات.

شرعوا يجثُون مرة أخرى. فهمس إليس قائلًا: «المزيد من الجثو اللعين.» ساد الجو عتمة، وتردَّد نقرٌ خفيف من سقوط المطر على السطح؛ اهتزَّت الأشجار بالخارج مصدرة أصوات خشخشة، ودارت سحابة من أوراق الشجر الصفراء خارج النافذة. شاهدَها فلوري من خلال فتحات أصابعه. منذ عشرين عامًا، في أيام الآحاد في الشتاء، وهو جالس على مقعده في كنيسة الرعية في الوطن، كان من دأبه أن يُشاهد الأوراق الصفراء، كما يفعل في هذه اللحظة، وهي تنجرف وتخفق في السماوات الرمادية. هل من الممكن، الآن، أن يبدأ من جديد كأن تلك السنوات الدنسة لم تمسَّه قط؟ رمق إليزابيث بنظرة مواربة من خلال أصابعه، وهي جاثية وقد أحنَت رأسها واختفَى وجهها وراء يدَيها المبقعتين. حين يتزوَّجان، حين يتزوَّجان، أي متعة سيحظيان بها معًا في هذه الأرض الأجنبية لكن الطيبة! تخيَّلَ إليزابيث في معسكره، وهي تستقبله عند عودته متعبًا من العمل وكو سلا وهو يأتي مسرعًا من الخيمة بزجاجة جعة؛ رآها وهي تسير معه في الغابة، وتشاهد طيور أبو قرن على أشجار التين المجوسي وتقطف زهورًا مجهولة الأسماء، ورآها وهي تخوض بخطوات ثقيلة وسط ضباب الجو البارد تطارد طيور الشنقب والبط البري في المراعي السبخة. رأى منزله كما ستتولَّى تجديده. رأى صالونه ولم يعُد مُهمَلًا ومثل بيوت العزاب، بأثاث جديد من رانجون، ووعاء زهور بلسم وردية مثل البراعم على الطاولة، وكُتبٍ وألوان مائية وبيانو أسود. البيانو قبل أي شيء! لبث يتأمل البيانو في ذهنه؛ فهو رمز للحياة المتحضرة والمستقرة، ربما لأنه لم يكن ماهرًا في الموسيقى. لقد انعتق إلى الأبد من شبه الحياة التي عاشها العقد الماضي، بمجونها وأكاذيبها وألم المنفى والوحدة والتعامل مع العاهرات والمرابين والسادة البيض.

تقدم الكاهن من منصة القراءة الصغيرة التي كانت تُستخدَم أيضًا كمنبر، ونزع الرباط عن لفافة بورق العظة، وسعل، وأعلن عن النص الذي سيقرؤه. «باسم الآب والابن والروح القدس. آمين.»

همس إليس قائلًا: «فلتختصِر كلامك، بحق المسيح.»

لم يلحظ فلوري كم دقيقة مرت؛ فقد انسابت كلمات العظة إلى رأسه هادئة، همهمة غير واضحة، تكاد تكون غير مسموعة. كان لا يزال يتخيَّل حياتهما حين يتزوجان، حين يتزوجان …

مهلًا! ماذا حدث؟

توقف الكاهن دون أن يكمل الكلمة. وخلع نظارته الأنفية وراح يُلوِّح بها في قلق لشخص في المدخل. كان هناك صراخ صاخب مخيف.

«بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك!»

هبَّ الكل في مقاعدهم والتفتُوا. كانت ما هلا ماي. مع الْتفاتِهم دخلت الكنيسة ودفعت ماتو العجوز جانبًا. ثم لوحت بقبضتها لفلوري.

«بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك! هذا هو الذي أقصده، فلوري، فلوري! (نطقته بورلي.) ذلك الشخص الجالس في المقدمة هناك، ذو الشعر الأسود! استدِر وواجهني يا أيها الجبان! أين النقود التي وعدتني بها؟»

كانت تصرخ مثل المجنونة، والناس يُحدِّقون فيها بأفواه مفتوحة، وقد منعهم فرط الذهول من الحركة أو الكلام. كان وجهها رماديًّا من البودرة، وشعرها الملبَّد مشعثًا، وطرف إزارها متآكلًا. بدت مثل شمطاوات البازار في صراخهن. كأن باطن فلوري قد تحوَّل إلى جليد. يا إلهي، يا إلهي! هل سيعلمون … هل ستعلم إليزابيث … أن تلك هي المرأة التي كانت عشيقته؟ لكن لم يكن ثمة أمل، ولا ذرة أمل، في أي الْتباس. لقد صرخت باسمه مرارًا وتكرارًا. حين سمعت فلو الصوت المألوف، تملَّصت من أسفل المقعد، وسارت في الممر وهزت ذيلها لما هلا ماي. كانت المرأة الخسيسة تصيح بحكاية مفصلة لما فعله بها فلوري.

«انظروا إليَّ، أيها الرجال البيض، والنساء كذلك، انظرن إليَّ! انظروا كيف قضى عليَّ! انظروا إلى هذه الأسمال التي أرتديها! وهو جالس هناك، الكاذب، الجبان، يتظاهر بأنه لا يراني! إنه يتركني أتضور جوعًا عند بوابته مثل الكلب الضال. آه، لكنني سوف أفضحك! استدر وانظر إليَّ! انظر إلى الجسم الذي قبَّلته ألف مرة، انظر، انظر …»

وبدأت تُمزِّق ثيابها فعلًا؛ آخر البذاءات التي تقوم بها النساء البورميات الوضيعات النشأة. صدر صرير عن الهارمونيوم إذ تشنَّجت السيدة لاكرستين. كان الناس قد استعادوا وعيهم وطفقُوا يتحركون. استعاد الكاهن صوته، بعد أن ظلَّ يُهمهِم دون جدوى، وقال بحدة: «أَخرِجوا تلك المرأة!» كسا وجه فلوري الشحوب. كان بعد اللحظة الأولى قد أشاح برأسه عن الباب وجزَّ على أسنانه في جهد يائس ليبدو غير مُكترِث. لكن دون جدوى، دون جدوى مطلقًا. كان وجهه شاحبًا مثل العظم، والعرق يلمع على جبينِه. أقدم فرانسيس وصامويل على أول فعل مفيد في حياتهما ربما، فهبَّا عن مقعديهما فجأة، وأمسكا ذراعَي ما هلا ماي وجرجراها إلى الخارج، وهي لا تزال تصرخ.

بدت الأجواء هادئة جدًّا في الكنيسة حين سحباها أخيرًا بعيدًا عن مجال السمع. كان المشهد شديد الثورة، وشديد الحقارة، حتى إنه أثار استياء الكل. حتى إليس بدا مُشمئزًّا. لم يستطع فلوري كلامًا أو حركة. إنما جلس يحدق متسمرًّا في المذبح، بوجه جامد شديد الشحوب، حتى إن وحمته بدت فيه كأنها بقعة طلاء أزرق لامع. نظرت إليه إليزابيث عبر الممر، فكاد شعورها بالاشمئزاز أن يُصيبها بالغثيان. لم تكن قد فهمت كلمةً مما قالته ما هلا ماي، لكن كان مغزى المشهد واضحًا تمامًا. محض التفكير في أنه كان حبيب تلك المخلوقة المخبولة الرمادية الوجه جعل فرائصها ترتعِد. لكن ما كان أسوأ من ذلك، وأسوأ من أي شيء، هو دمامته في هذه اللحظة. فقد روَّعها وجهُه؛ إذ كان شديد الشحوب والتجهُّم والهرم. لم يبدُ فيه شيء حيًّا سوى الوحمة. عندئذٍ كرهته من أجل وحمته. لم تكن حتى هذه اللحظة قد أدركت كم هي شيء مُخزٍ، ولا يُغتفَر.

مثل التمساح، هاجم يو بو كين نقطة الضَّعف. فغني عن القول أن هذه الفضيحة كانت من تدبير يو بو كين. كان قد رأى فرصته كالعادة، ولقَّن ما هلا ماي دورها باهتمام. أنهى الكاهن عظته في الحال تقريبًا. وبمجرد انتهائها هرع فلوري إلى الخارج، دون أن ينظر إلى أيٍّ من الآخرين. كان الظلام قد حل، حمدًا لله. على بُعد خمسين ياردة من الكنيسة توقف، وأخذ يراقب الآخرين وهم يقصدون النادي أزواجًا. بدا له أنهم يسارعون في الذهاب. لا بد لهم من ذلك، بالطبع! فسيكون هناك شيء ليتحدثوا عنه في النادي الليلة! انقلبت فلو على ظهرها قبالة كاحلَيه، طالبة اللهو. فقال لها: «ابتعدي أيتها الحيوانة اللعينة!» وركلها. توقفت إليزابيث عند باب الكنيسة. بدا أن السيد ماكجريجور كان، لحسن الحظ، سيُعرِّفها على الكاهن. بعد قليل ذهب الرجلان في اتجاه منزل السيد ماكجريجور؛ حيث كان الكاهن سيبيت الليلة، واتبعت إليزابيث الآخرين، فكانت على بعد ثلاثين ياردة خلفهم. ركض فلوري خلفها ولحق بها قرب بوابة النادي.

«إليزابيث!»

التفتت، ورأته، فبهت لونها، وكانت ستمضي مسرعة دون أن تنبس بكلمة. لكنه كان في جزع مفرط، فقبَض على معصمها.

«إليزابيث! يجب عليَّ أن أتحدث معكِ!»

«اتركْني أمضي، إذا سمحت!»

بدآ يقاومان، ثم توقَّفا سريعًا. كان اثنان من المسيحيين الكارين الذين خرجوا من الكنيسة، واقفين على بُعد خمسين ياردة، ويحدقان فيهما في الظلام الجزئي باهتمام شديد. بدأ فلوري يتحدث ثانية بنبرة أخفض:

«أعلم يا إليزابيث أنه ليس من حقِّي أن أوقفك هكذا. لكن لا بد أن أتحدث إليكِ، لا بد! أرجوكِ أن تسمعي ما لدي لأقوله. لا تهربي مني، أرجوكِ!»

«ماذا تفعل؟ لماذا تمسك بذراعي؟ دعني أذهب في الحال!»

«سوف أترككِ تذهبين، مهلًا! لكن أصغي إليَّ، أرجوكِ! أجيبي على هذا السؤال. هل بإمكانكِ أن تُسامحيني على الإطلاق، بعد ما حدث؟»

«أسامحك؟ ماذا تقصد بأن أسامحك؟»

«أعلم أنني في حالٍ من الخزي. كان موقفًا غاية في الوضاعة! لكنه بشكل ما ليس ذنبي. سوف تُدركين ذلك حين تهدئين. هل تعتقدين — ليس الآن، فقد كان موقفًا رديئًا للغاية، لكن لاحقًا — هل تعتقدين أن بإمكانكِ نسيانه؟»

«لا أعلم حقًّا ما الذي تتحدث عنه. أنساه؟ ما دخلي بالأمر. أعتقد أنه شيء مقزِّز جدًّا، لكنه ليس من شأني. لا أفهم لماذا تستجوبُني هكذا على الإطلاق.»

عند ذاك كاد اليأس أن يتملَّكه. فقد كانت نبرتها بل وكلماتها هي بالضبط نفسها التي استخدمتها في شجارهما السابق. كانت هي الحركة ذاتها مجددًا. بدلًا من سماعه للنهاية كانت ستتهرَّب منه وتثني عزيمته، تزدريه بدعوى أنه ليس له حكم عليها.

«إليزابيث! أجيبيني أرجوكِ. أرجوكِ كوني منصفة معي! الأمر جادٌّ هذه المرة. لا أتوقع أن تعودي إليَّ في الحال. لا يُمكنكِ هذا بعد أن فُضحتُ علانيةً هكذا. لكنكِ رغم كل هذا، كدتِ تعدينني أن نتزوَّج …»

«ماذا! وعدت بأن أتزوجك؟ متى وعدت بأن أتزوَّجك؟»

«أعلم أنه لم يكن بالكلمات. لكنه كان شيئًا متفقًا عليه بيننا.»

«لم يكن بيننا اتفاق على شيء من هذا القبيل! أعتقد أنك تتصرف بطريقة في غاية البشاعة. سوف أمضي إلى النادي في الحال. عمت مساءً!»

«إليزابيث! إليزابيث! اسمعيني. ليس من العدل أن تدينيني دون أن تسمعي دفاعي. كنتِ تعلمين من قبلُ بما فعلته، وتعلمين أنني صرت أعيش حياة مختلفة منذ التقيت بكِ. ما حدث هذا المساء كان محضَ صدفة. تلك المرأة الحقيرة، التي أُقر بأنها كانت في السابق … حسنًا.»

«لن أُصغي، لن أُصغي إلى تلك الأشياء! إنني ذاهبة!»

أمسك معصمَيها مجددًا، وضمها هذه المرة. فقد كان المسيحيان الكارين قد اختفَيا لحسن الحظ.

«كلا، كلا، سوف تسمعينني! أفضِّل أن أكدركِ كدرًا بالغًا عن أن تتركيني لهذه الحيرة. لقد مر أسبوع تلو الآخر، وشهر تلو الآخر، دون أن يتسنَّى لي الحديث معكِ مباشرةً ولو مرة. ولا يبدو أنكِ تعلمين أو تأبهين لمقدار ما تُسببينه لي من عذاب. لكن هذه المرة يجب أن تجيبيني.»

راحت تُقاوم قبضته، وكانت قوية لدرجة مدهشة. كان وجهها أشد حنقًا مما رآه أو تخيله قط. كانت تبغضه لدرجة أنها كانت ستضربه لو كانت يداها سائبتين.

«دعني أذهب! أيها الحيوان، دعني أذهب أيها الحيوان!»

«يا إلهي، يا إلهي، ويحي أن نتعارك هكذا! لكن ماذا في يدي؟ لا يُمكنني أن أترككِ تذهبين دون أن تسمعيني. يجب أن تسمعيني يا إليزابيث!»

«لن أسمعك! لن أناقش الأمر! بأي حق تطرح عليَّ الأسئلة؟ اتركني أذهب!»

«سامحيني، سامحيني! أجيبي على هذا السؤال الوحيد. هل تقبلين — ليس الآن، لكن لاحقًا، حين يُنسى هذا الموضوع المشين — هل تقبلين الزواج مني؟»

«لا، أبدًا، أبدًا!»

«لا تُجيبي هكذا! لا تجعليه نهائيًّا. قولي لا للوقت الحاضر كما تُريدين، لكن بعد شهر، سنة، خمس سنوات …»

«ألم أقل لا؟ لماذا تصر على الإلحاح؟»

«أصغي إليَّ يا إليزابيث. لقد حاولت مرارًا وتكرارًا أن أُخبركِ ماذا تعنين لي! آه، لا فائدة من الكلام في الأمر! لكن فلتحاولي أن تفهمي. ألم أخبركِ شيئًا عن الحياة التي نعيشها هنا؟ ذلك النوع البشع من الموت أحياءً! التردي، الوحدة، الحسرة على الذات؟ حاولي أن تفهمي معنى ذلك، وأنكِ الشخص الوحيد في الكون الذي يستطيع إنقاذي منه.»

«هلا تركتني أذهب؟ لماذا تُصرُّ على افتعال هذه الفضيحة القبيحة؟»

«ألا يعني لكِ أي شيء أن أقول لكِ أني أحبكِ؟ لا أعتقد أنكِ أدركتِ قط ما الذي أريده منكِ. إذا أردتِ سوف أتزوجكِ وأَعدكِ ألا أمسَّكِ حتى أبدًا. لن آبه لذلك حتى، ما دمتِ معي. لكنني لا أستطيع أن أَمضي في حياتي وحيدًا، وحيدًا دائمًا. ألا يُمكنكِ أن تحملي نفسكِ على أن تسامحيني أبدًا؟»

«أبدًا، أبدًا! لن أتزوجك حتى لو كنت الرجل الأخير على وجه الأرض. أُفضِّل أن أتزوج اﻟ… الكناس!»

ثم أجهشت بالبكاء. فأدرك أنها كانت تقصد ما قالته، وصعدت الدموع إلى عينيه. قال مرة أخرى:

«للمرة الأخيرة. تذكَّري أنه شيء مهمٌّ أن يكون لديكِ شخص واحد يُحبكِ. تذكري أنه رغم أنكِ ستجدين رجالًا أكثر ثراءً وشبابًا وأفضل مني في كل شيء فإنكِ لن تجدي أحدًا يهتم بكِ بقدر ما أهتم أنا. ومع أنني لست ثريًّا فعلى الأقل أستطيع أن أوفر لكِ منزلًا. هناك معيشة متحضِّرة ومحترمة.»

قالت بهدوء أكثر: «ألم تقُل ما يكفي؟ هلا تركتني أذهب قبل أن يأتي أحد؟»

أرخى قبضته حول معصمَيها. لقد خسرها، كان ذلك أكيدًا. مرةً أخرى راودته رؤية منزلهما كما كان قد تخيَّله، مثل هلوسة، جلية إلى حدٍّ مؤلم؛ رأى حديقتهما، وإليزابيث وهي تُطعم نيرو والحمام على الممر لدى زهور الفلوكس الصفراء كالكبريت التي ارتفعت حتى بلغت كتفيها؛ والصالون، بألوان الماء على الجدران، وزهور البلسم في الوعاء الخزف وقد انعكست على الطاولة، ورفوف الكتب، والبيانو الأسود. البيانو الخرافي المستحيل؛ رمز لكل شيء أودى به ذلك الموقف التافه!

قال في يأس: «لا بدَّ أن تمتلكي بيانو.»

«إنني لا أعزف على البيانو.»

تركها تذهب. فلم يكن ثمة جدوى من الاستمرار. لم تلبث أن تحرَّرت منه حتى أطلقت ساقيها للريح وركضت فعلًا إلى حديقة النادي؛ إذ كان وجوده شيئًا بغيضًا جدًّا لها. توقَّفت بين الأشجار لتخلع نظارتها وتمسح آثار الدموع عن وجهها. يا له من حيوان، حيوان! لقد آلمَ معصمَيها بشدة. كم كان حيوانًا بشعًا! حين خطر لها وجهه كما بدا في الكنيسة، شاحبًا تومض فيه الوحمة البشعة، كادت تتمنَّى أن يموت. لم يكن ما فعله هو الذي روعها. كان من الممكن أن تغفر له ألف إثم ارتكبه. لكن ليس بعد تلك الفضيحة المخزية المزرية، وما كان عليه وجهه المشوَّه من دمامة خبيثة في تلك اللحظة. كانت وحمته، في نهاية المطاف، التي حكمت عليه بالهلاك. ستغتاظ زوجة عمها حين تعرف أنها رفضت فلوري. وتذكَّرت عمها وقرصه لساقيها … ما بينهما، فأدركت أن الحياة سوف تكون مستحيلة هنا. ربما عليها العودة إلى الوطن من دون زواج بعد كل ما كان. والخنافس السوداء! فليكن. إن أي شيء — سواء العنوسة أو العمل الشاق، أي شيء — لهو أفضل من البديل. الموت نفسه أفضل، أفضل كثيرًا. وإذا كانت المادة قد شغلت بالها قبل ساعة، فقد نسيتها. إنها لا تذكر حتى أن فيرال نبذها وأن الزواج من فلوري كان سيُنقِذ ماء وجهها. كان جلُّ ما أدركته أنه قد حُط من شرفه ورجولته، وأنها تبغضه كما لو كان مصابًا بالخبل أو البرص. كانت الغريزة أبلغ من المنطق بل وحتى المصلحة، ولم تكن تستطيع الاستمرار في مقاومتها كما لا تستطيع التوقف عن التنفس.

أما فلوري، فحين اتجه إلى التل صاعدًا، صحيح أنه لم يركض، لكنه سار بأسرع ما في طاقته. فلا بد أن يفعل ما عليه فعله سريعًا. كان الظلام قد اشتدَّ للغاية. هرولت فلو المسكينة على مقربة من قدمَيه، غير مدركة حتى ذلك الوقت أن في الأمر أي شيء خطير، وهي تئنُّ في رثاء على نفسها لتُؤنبه على الركلة التي سددها إليها. حين وصل إلى الممر هبت ريح على أشجار الموز، فهزت الأوراق الممزقة وبعثت رائحة رطوبة. إذن ستتساقط الأمطار مرة أخرى. كان كو سلا قد وضع المائدة وأخذ يُزيل بعض الخنافس الطائرة التي انتحرت بالاصطدام بالمصباح الكيروسين. من الواضح أنه لم يسمع بالفضيحة التي كانت في الكنيسة بعد.

«عشاء مولاي جاهز. هل سيتناول مولاي عشاءه الآن؟»

«لا، ليس بعد. أعطني ذلك المصباح.»

أخذ المصباح، ودخل المخدع وأغلق الباب. استقبلتْه رائحة الغبار ودخان السجائر، واستطاع أن يرى على الوهج الأبيض المرتعش للمصباح الكتب المتعفِّنة والسَّحالي التي على الحائط. إذن فقد عاد مجدَّدًا إلى هذا — إلى الحياة الخفية القديمة — بعد كل شيء، عاد إلى حيث كان من قبل.

أليس من الممكن أن يتحمَّلها! لقد تحمَّلَها قبل ذلك. كان هناك مسكنات؛ الكتب وحديقته والشراب والعمل والمومسات والصيد وأحاديثه مع الطبيب.

لا، لم تعُد مُحتمَلة. منذ مجيء إليزابيث بُعث إلى الحياة مجددًا إحساسه بالألم وأهم من ذلك الأمل، الذي كان يظن أنه مات بداخله. تداعى الخمول شبه المريح الذي كان يعيش فيه. وإذا كان يعاني الآن، فالآتي أسوأ كثيرًا. بعد قليل سوف يتزوَّجها شخص آخر. لشد ما يستطيع تصور الأمر — لحظة سماعه الخبر! — «هل عرفت أن فتاة لاكرستين سترحل عنه أخيرًا؟ لقد حجز «فلان» المسكين المذبح، فليكن الرب في عونه … إلخ.» والسؤال المعتاد: «حقًّا؟ متى سيكون ذلك؟» مع مراعاة جمود الوجه، تظاهرًا بعدم الاكتراث. ثم اقتراب يوم عرسها، ليلة دخلتها. آه، ليس ذلك! مناظر فاحشة، فاحشة. فلتُبقِ عينيكِ مركزتين على ذلك. الفحش. أخرج حقيبة المعدات العسكرية الصفيح من أسفل الفراش، وأخرج مسدَّسه الآلي، وأدخل مشط خراطيش في خزانة الذخيرة، وسحب واحدًا إلى المغلاق.

كان كو سلا مذكورًا في وصيته. تبقَّت فلو. وضع المسدس على المنضدة وخرج. كانت فلو تلعب مع با شين، أصغر أبناء كو سلا، أسفل ساتر المطبخ، حيث كان الخدم قد تركوا بقايا حطب. كانت ترقص حوله كاشفة عن أسنانها الصغيرة، تتظاهر بعضِّه، بينما الصبي الصغير، الذي احمرَّت بطنه في وهج الجمر، يصفعها صفعات واهنة، ضاحكًا لكن شبه خائف.

«فلو! تعالَي يا فلو!»

سمعته وجاءت طائعة، ثم توقَّفت بغتةً لدى باب مخدع النوم. بدا أنها أدركت حينئذٍ أن ثمة شيئًا خطأً. فتراجعت قليلًا ووقفت تنظر إليه مرعوبة، راغبة عن دخول المخدع.

«ادخلي!»

هزَّت ذيلها لكنها لم تتزحزح.

«تعالي يا فلو! يا عزيزتي فلو! تعالي!»

أصيبت فلو بالهلع فجأةً، فجعلَت تئن وسقط ذيلها وتراجعت منكمشة. صاح فلوري: «تعالي، عليكِ اللعنة!» ثم أخذها من طوقها وألقى بها في الحجرة، وأغلق الباب وراءها. ثم ذهب إلى المنضدة من أجل المسدس.

«تعالَي هنا! افعلي ما أمرتكِ به!»

جثمَت على الأرض وراحت تئن طلبًا للسماح. وقد أوجعه أن يسمع أنينها «تعالَي يا فتاتي العزيزة! يا عزيزتي فلو! لن يُؤذيكِ سيدكِ. فلتأتي.» زحفت إلى قدميه ببطء شديد، متمدِّدة على بطنها، وهي تبكي، ورأسها مَحنيٌّ كأنها خائفة من النظر إليه. حين صارت على بعد ياردة منه أطلق النار، فتفجرت جمجمتها أشلاءً.

بدا دماغها مثل المخمل الأحمر. هل هكذا سيبدو هو؟ فليكن القلب إذن، وليس الرأس. وصله صوت الخدم وهم يركضون خارجين من حجراتهم ويصيحون؛ لا بد أنهم قد سمعوا صوت الطلقة. هنا شقَّ معطفَه سريعًا وسدَّد فوَّهة المسدس إلى قميصه. على امتداد حافة المنضدة كانت سحلية صغيرة، شفافة كأنها مخلوق جيلاتيني، تُلاحق فراشة بيضاء. سحب فلوري الزناد بإبهامه.

حين اندفع كو سلا إلى الغرفة، لم يرَ من أول وهلة سوى جثة الكلبة. ثم رأى قدمي سيده، بالكعبين لفوق، بارزتين من وراء الفراش. فهتف بالآخرين لإبعاد الأطفال خارج الغرفة، فتراجعوا جميعًا عن المدخل وهم يُطلقون الصيحات. خر كو سلا على ركبتيه خلف جثة فلوري، في نفس اللحظة التي أتى فيها با بي مُهرولًا من الشرفة.

«هل أطلق النار على نفسه؟»

«أعتقد ذلك. اقلبه على ظهره. مهلًا، انظر! فلتركض إلى الطبيب الهندي! اجرِ بأقصى سرعة!»

كان في قميص فلوري ثقب دقيق، لا يزيد عن الثقب الناتج عن مرور قلم رصاص في فرخ من الورق النشاف. كان واضحًا تمامًا أنه جثة هامدة. تمكن كو سلا بصعوبة بالغة أن يجره إلى الفراش، فقد رفض الخدم الآخرون أن يلمسوا الجثة. وبعد عشرين دقيقة ليس إلا حضر الطبيب. كان قد تلقى خبرًا مُبهمًا بأن فلوري مُصاب، فقاد دراجته صاعدًا التل بأقصى سرعة رغم هبوب ريح ممطرة. ثم ألقى دراجته في حوض الزهور وأسرع بالدخول من خلال الشرفة. كان مقطوع النفس، غير قادر على الرؤية بنظارته. فخلعها، وحدق حاسر البصر في الفراش. قال مهتاجًا: «ما الأمر يا صديقي؟ أين أُصبت؟» ثم دنا أكثر، ورأى ما على الفراش، فأطلق صوتًا مبحوحًا.

«آه، ما هذا؟ ماذا ألم به؟»

خر الطبيب على ركبتيه، ومزق قميص فلوري ووضع أذنه على صدره. ارتسم على وجهه الألم، وقبض على منكبَي الرجل الميت وأخذ يهزه كأن الشدة وحدها تستطيع أن تعيده للحياة. سقطت إحدى ذراعيه بارتخاء على حافة الفراش. رفعها الطبيب مرة أخرى، ثم انفجر في البكاء فجأة، آخذًا اليد الميتة بين يديه. كان كو سلا واقفًا عند نهاية الفراش، وقد امتلأ وجهه الأسمر بالتجاعيد. نهض الطبيب، ثم فقَد السيطرة على نفسه لوهلة، فاستند إلى عمود الفراش وبكى بكاءً صاخبًا بشعًا، موليًا كو سلا ظهره، وكتفاه السمينتان ترتجفان. وبعد قليل تمالك نفسه واستدار مرة أخرى.

«كيف حدث هذا؟»

«لقد سمعنا طلقتين. لقد أطلقهما بنفسه، هذا أكيد. لكنني لا أعلم لماذا.»

«كيف عرفت أنه فعل ذلك عمدًا؟ كيف عرفت أنها لم تكن حادثة؟»

على سبيل الإجابة، أشار كو سلا صامتًا إلى جثة فلو. استغرَق الطبيب في التفكير للحظة، ثم لف الرجل المحتضر في الملاءة وعقدها عند القدمين والرأس، بيدين خفيفتين متمرستين. مع وفاته، انطمست الوحمة في الحال، حتى إنها لم تبدُ سوى بقعة رمادية باهتة.

«ادفن الكلبة على الفور. وأنا سأخبر السيد ماكجريجور أنها كانت حادثة بينما كان يُنظِّف مسدسه. تأكد من دفن الكلبة. كان سيدك صديقي. لن أرضى أن يُكتب على شاهد قبره أنه مات منتحرًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤