الفصل السادس

انحرَفَت أشعة الشمس الصباحية أعلى الميدان، وانعكسَت بصُفرةِ رقاقة الذهب، على واجهة الكوخ البيضاء. هبطت أربعة غربان بلونٍ أسود خالطه اللون الأرجواني وجثَمَت على سور الشرفة، مُتحيِّنة الفرصة للانطلاق للداخل وسرقة الخبز والزبد اللذَين وضعهما كو سلا بجانب فراش فلوري. زحف فلوري من وراء الناموسية، وصاح في كو سلا ليأتيه ببعض الجين، ثم ذهب إلى دورة المياه وجلس لبعض الوقت في حوض استحمام من الزنك مُلِئ بمياه كان حريًّا أن تكون باردة. شعر فلوري بتحسُّن بعد الجين، فأقبل على حلاقَة ذقنه. كان دائمًا ما يُؤجِّل الحلاقة إلى المساء؛ إذ كانت لحيته سوداء وتنمو سريعًا.

بينما كان فلوري جالسًا بمزاج نكد في حمامه، كان السيد ماكجريجور لابسًا سروالًا قصيرًا وقميصًا تحتانيًّا على بساط من الخيزران مخصَّصًا لهذا الغرض في مخدعِه، يُؤدِّي بمشقةٍ التمارين رقم خمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة من كتاب نوردينفليخت «تمارين رياضية للأشخاص القليلي الحركة». كان السيد ماكجريجور لا يُفوِّت تمارين الصباح قط، إلا في حالات نادرة. التمرين رقم ثمانية (الاستلقاء على الظهر، ورفع الساقين في وضع قائم دون ثنْي الركبتين) كان مؤلمًا جدًّا لرجل في عمر الثالثة والأربعين؛ بل وكان رقم تسعة (الاستلقاء على الظهر، والنهوض لوضع الجلوس ولمس أصابع القدمين بأطراف الأصابع) أسوأ. لكن مهما يكن من الأمر، لا بدَّ للمرء من المحافَظة على لياقتِه! مع اندفاع السيد ماكجريجور متوجعًا في اتجاه أصابع قدميه، تصاعد من عنقه لونٌ في حمرة قوالب البناء واحتبس في وجهه منذرًا بسكتة دماغية. وتلألأ العرق على صدره الكبير الشحيم. استمر، استمر! لا بدَّ أن يحافظ المرء على لياقته بأي ثمن. كان يشاهده من خلال انفراج الباب، محمد علي، الشيال، وقد بسط على ذارعِه ملابس السيد ماكجريجور النظيفة، دون أن يبدو على وجهه العربي أمارات فهم أو فضول. فقد ظلَّ يُشاهد تلك الانثناءات — التي تخيَّلها بلا اكتراث بذلًا لإله غامِض مُتعسِّف — كل صباح طيلة خمس سنوات.

في الوقت ذاته أيضًا، كان ويستفيلد الذي خرَجَ مُبكِّرًا، مستندًا إلى طاولة قسم الشرطة التي كستْها الثقوب وبُقَع الحبر، بينما كان المحقق المساعد البدين يستجوب أحد المتهمين الذي تولى شرطيان حراسته. كان المتَّهم رجلًا في الأربعين، ذا وجه رمادي مفزوع، لا يرتدي سوى إزارٍ مهلهلٍ ثني حتى الركبتين، اللتين بدَت أسفلهما قصبتا ساقَيه النحيلتين المُعوجَّتين مُبقَّعتين بقرصات القراد.

تساءل ويستفيلد: «من هذا الشخص؟»

«لصٌّ يا سيدي. لقد قبضْنا عليه وفي حَوزتِه هذا الخاتم بفصَّين من الزمرد النفيس جدًّا. ولا يوجد تفسير. من أين له — وهو عامل فقير — بخاتم زمرد؟ لقد سرَقَه.»

اتجه محتدًّا إلى المتَّهم، واقترب بوجهه مثل قط هائج حتى كاد يُلامس وجهَه، وزأر بصوت جهير:

«لقد سرقت الخاتم!»

«لا.»

«إنك مجرم عتيد!»

«لا.»

«لقد دخلت السجن!»

«لا.»

جأر المُحقِّق وقد أتاه إلهام قائلًا: «استدِر! انحنِ!»

حوَّل المتَّهم وجهَه الرمادي في ألم نحو ويستفيلد الذي رنا بعيدًا. أمسك به الشرطيان، وأداراه وأحنيا قامته؛ مزَّق المُحقِّق إزاره، وعرَّى مؤخِّرته.

قال وهو يشير إلى بعض الندبات: «انظر إلى هذا يا سيدي! لقد ضُرب بالخيزران. إنه متَّهم عتيد. ومن ثم فقد سرق الخاتم!»

قال ويستفيلد متكدِّرًا وهو يتراجع بكسل عن الطاولة واضعًا يديه في جيوبه: «حسنًا، فلتضعه في الزنزانة.» كان في قرارة نفسه يكره القبض على أولئك الأشقياء المساكين من اللصوص. رجال العصابات والمُتمرِّدُون نعم؛ لكن ليس تلك الجرذان الذليلة المسكينة!

قال ويستفيلد: «كم لديك في الزنزانة الآن يا مونج با؟»

«ثلاثة يا سيدي.»

كان الحجز في الطابق العُلوي، عبارة عن قفص أحاط به قُضبان خشبية بعرض ستِّ بوصات، ويحرسُه شرطي مُتسلِّح ببندقية قصيرة. وكان مُعتمًا جدًّا، وحارًّا لدرجة خانقة، وليس به أي متاع سوى حُفرة لقضاء الحاجة تصاعَدَ نتنُها إلى السماء. عند القضبان جلَسَ سجينان القرفصاء، مبتعدَين عن سجين ثالث، عامل هندي، غطَّته القوباء الحَلقية من رأسه إلى أخمص قدمَيه مثل درع من الحلقات المعدنية. وكان خارج القفص سيدة بورمية مُمتلئة، زوجة أحد الشرطيَّين، جاثية تغترف الأرز والعدس السائل في أقداح من الصفيح.

قال ويستفيلد: «هل الطعام طيِّب؟»

ردَّد السجناء مثل كورس: «إنه طيِّب يا سيدنا الكريم.»

كانت الحكومة تُخصِّص لغذاء السجناء قيمة آنتين ونصف للرجل في الوجبة، تتطلَّع زوجة الشرطي إلى ربح آنة منها.

خرج فلوري وتسكَّع في المجمع السَّكني، وهو يضرِب الحشائش في الأرض بعَصاه. في تلك الساعة كانت ثمَّة ألوانٌ جميلة هادئة في كل شيء — أخضر رقيق في أوراق الأشجار، وبُني مائل للوردي في التربة وجذوع الأشجار — مثل دهان بألوان مائية لن يلبث يختفي في وهج الشمس القادم. بعيدًا في الميدان كانت ثمَّة أسرابٌ من حمام بُني صغير يُحلِّق على ارتفاع مُنخفِض يطارد كلٌّ منها الآخَر هنا وهناك، ووروار، أخضر مثل الزمرد، يتقافَز مثل طيور سنونو بطيئة. وكان هناك صفٌّ من الكنَّاسين، توارى حملُ كلٍّ منهم جزئيًّا خلفَ ملابسه، يسيرون متَّجِهين إلى حفرة مُقزِّزة للنفايات واقعة على حدود الغابة. كانوا وهم بُؤساء مَهزولون، بأطرافٍ ورُكَب مثل العِصي وهَنَت حتى استعصَت على الاستقامة، مُكتسِين بأسمالٍ بلونِ الوحل، مثل موكب سائر من الهياكل العَظمية التي غطَّاها الكفن.

كان البستاني يحفر الأرض من أجل حوض زهور جديد، بجوار بُرجِ الحمام القائم قربَ البوابة. كان شابًّا هندوسيًّا غبيًّا بليدًا، عاش حياته في شبه صمت مُطبِق؛ لأنه كان يتحدث إحدى لهجات مانيبور التي لم يفقهها أحد آخر، ولا حتى زوجته الزربادية. كما أن لسانه كان كبيرًا جدًّا على فمِه. وقد انحنى لتحية فلوري، مُغطيًا وجهَه بيدِه، ثم رفع فأسه عاليًا مرةً أخرى واخترق الأرض الجافَّة بضربات خرقاء ثقيلة، فيما ارتعشَت عضلات ظهرِه الرخوة.

صدرَت صرخة حادَّة مُزعِجة «كوااا!» من حُجرات الخدم؛ كانت زوجتا كو سلا قد بدأتا شجارهما الصباحي. وفي الممر تبخترَ ديكُ المصارعة المروض، المسمى نيرو، في خطٍّ مُتعرِّج، بينما خرَج با بي بوعاء أرز وأطعم نيرو والحمام. تصاعدت صيحات أخرى من حُجرات الخدم وأصوات الرجال الخَشِنة وهم يُحاوِلُون وقف الشجار. كان كو سلا يعاني كثيرًا من زوجتيه. ما بو، زوجته الأولى، امرأة نحيلة جامدة الوجه، جعلتْها كثرة الحمل نحيفة، وكانت ما يي (الزوجة الصغيرة)، هرَّة بدينة كسولة تصغرُها ببضع سنوات. وكانت المرأتان تتشاجَران بلا انقطاع متى كان فلوري في المقر وكانتا معًا. ذات مرة بينما كانت ما بو تطارد كو سلا بعَصا خيزران، توارى وراء فلوري مُتحاميًا، فتلقَّى فلوري ضربةً مُؤلِمة على ساقه.

كان السيد ماكجريجور يرتقي الطريق، بخُطوات خفيفة وهو يُؤرجِح عصا مشْي غليظة. كان يرتدي قميصًا كاكيًّا من قُماش العَمائم، وسروالًا قصيرًا من قماش الدريل القُطني، وخُوذة صيد خفيفة. فقد كان إلى جانب أدائه التمارين، يذهب في تمشية خفيفة مسافة ميلين كل صباح متى استطاع توفير الوقت.

صاح السيد ماكجريجور بفلوري بصوتٍ صباحي مِلؤه الود، مُصطنعًا اللكنة الإيرلندية، قائلًا: «أجمل صباح صباحك!» راعَى أن يكون سُلوكه مفعمًا بالنشاط مُنتعشًا كمن أخذ حمَّامًا باردًا في هذه الساعة من الصباح. كما أن مقال «بورميز باتريوت» التشهيري، الذي قرأه في الليلة الماضية، كان قد ساءه لذا فقد تظاهَرَ بمرح استثنائي للتستُّر على الأمر.

ردَّ عليه فلوري صائحًا بأقصى ما استطاع من ود قائلًا: «صباح!»

يا له من أصلع عجوز بغيض! هذا ما جال بخلده وهو يشاهده في ارتقائه الطريق. كم تنتأ هذه العجيزة حقًّا في هذا السروال القصير الكاكي الضيق. إنه كواحد من رؤساء فرق الكشافة الكريهين الكَهلة أولئك، المثليِّين جنسيًّا جميعًا دون استثناء، الذين ترى صورهم في الصحف المصورة. إنه يتأنق في تلك الملابس السخيفة ويكشف عن ركبتيه السمينتين ذاتَي التعاريج، لأنه من طباع السيد الأبيض أن يؤدي التمارين الرياضية قبل الإفطار، يا للقرف!

جاء رجل بورمي صاعدًا التل، بقعة من اللونين الأبيض والأرجواني. كان هذا كاتب فلوري، قادمًا من المكتب الصغير، الذي لم يكن بعيدًا عن الكنيسة. حين بلغ البوابة، هبط إلى ركبتيه مُحيِّيًا وقدَّم ظرفًا متَّسخًا، مختومًا على طرف الغطاء كما جرت الطريقة البورمية.

«صباح الخير يا سيدي.»

«صباح الخير. ما هذا الشيء؟»

«خطاب محلِّي، سعادتك. جاء هذا الصباح. أعتقد أنه خطاب مجهول المصدر يا سيدي.»

«اللعنة. حسنًا، سأنزل إلى المكتب قرب الساعة الحادية عشرة.»

فتح فلوري الخطاب، الذي كان مكتوبًا في ورقة فولسكاب، وجاء فيه:

السيد جون فلوري

سيدي، أودُّ أنا الموقع أدناه أن أوعز لسيادتك وأعلِمك ببعض المعلومات النافعة التي من شأنها أن تُفيد سيادتك فائدة كبرى يا سيدي.

لقد لُوحظ يا سيدي في كياوكتادا صداقتك الوطيدة للدكتور فيراسوامي، الجراح المدني، وتردُّدك عليه، ودعوته إلى منزلك … إلخ. ونودُّ يا سيدي أن نعلمك بأن الدكتور فيراسوامي المذكور ليس رجلًا صالحًا وغير جدير على الإطلاق بصداقة سيد أوروبي. فالطبيب موظَّف حكومي محتال وخائن وفاسد إلى حدٍّ بالغ. فهو يُعطي المرضى ماءً ملوثًا ويبيع لهم الدواء لحسابه الخاص، فضلًا عن العديد من الرشاوى وعمليات الابتزاز … إلخ. وقد جلد اثنَين من المساجين بالخيزران، ثم دعَك مكان الضرب بالفلفل الحار حين لم يُرسِل أقاربهما مالًا. بالإضافة إلى هذا فهو متورِّط مع الحزب الوطني وتقدم مؤخَّرًا بمعلومات لمقال خبيث جدًّا ظهر في «بورميز باتريوت»، هوجم فيه السيد ماكجريجور، نائب المفوض المحترم.

كما أنه يُعاشر المريضات في المستشفى بالإكراه.

وبناءً عليه فإننا نرجو بشدة أن تتحاشَى سيادتك الدكتور فيراسوامي وألا تُرافِق أشخاصًا لا يجلبون لشخصِكَ الكريم إلا الشر.

ولكم منا خالص الدعاء بالصحَّة والرخاء.

(التوقيع): صديق

كان الخطاب مكتوبًا بحُروف مُرتجِفة مُستديرة؛ أسلوب كتبة الخطابات في البازار، الشبيه بكراسة تمارين كتبها شخصٌ ثَمِل. بيد أن كاتب الخطاب ما كان ليرقى بمُستواه لكلمة مثل «تتحاشى». لا بدَّ أن الخطاب قد أملاه أحد الكتبة، ولا شك أنه جاء في الأساس من عند يو بو كين أو «التمساح»، كانت هذه هي الفكرة التي راودَت عقل فلوري بعد تفكير.

لم ترُقْه نبرة الخطاب؛ إذ كان من الجليِّ أنه خطاب تهديد تحت قناع من الخُضوع. وما قصده حقًّا: «فلتتخلَّ عن الطبيب وإلا سنُسبِّب لك المَتاعب.» لكن لم يكن ذلك بالأمر الجلل؛ فما من رجل إنجليزي يشعر بتهديد حقيقي من رجل شرقي.

انتاب فلوري التردُّد والخطاب في يدَيه. ثمة شيئان يُمكن فعلهما بخطاب مجهول المصدر. يُمكن ألا يبوح بشيء عنه، أو أن يُريه الشخص المعني به. كان التصرُّف البديهي، اللائق أن يُعطي الدكتور فيراسوامي الخطاب ويدعه يتخذ الإجراء الذي يختاره.

إلا أنه كان من الآمن أن ينأى بجانبه عن هذا الأمر كليةً. فمن الأهمية بمكان (ربما الأهم بين المبادئ العشرة جمعاء للسادة البيض) ألا تتورَّط في مشاحَنات «أهل البلد». فلا بدَّ ألا ينشأ إخلاص أو صداقة حقيقية مع الهنود. عاطفة، أو حتى حب. نعم. وكثيرًا ما يحب الإنجليز الهنود حقًّا؛ أهل البلد الموظَّفون، وحراس الغابات، والصيادون، والكَتَبة، والخَدَم. فالجنود يبكون كالأطفال حين يتقاعَد الكولونيل الذي يتبعونه. بل حتى الإخاء مسموح به، في اللحظات المناسبة. لكن التحالف، المُناصرة، كلا مطلقًا! كان مجرد معرفة تفاصيل مشاجرة من مشاجرات «أهل البلد» تُفقِد الهيبة.

إن أفشى أمر الخطاب سيثور خلاف وسيُجرى تحقيق رسمي، وفي نهاية المطاف سيقرن مصيره بمصير الطبيب في مواجَهة يو بو كين. ليس يو بو كين ذا بال، لكن يظلُّ هناك الأوروبيُّون؛ إن كان هو، فلوري، مُناصِرًا للطبيب في سفور شديد، فقد يكون لهذا ثمن باهظ. من الأفضل كثيرًا أن يتظاهَر بأن الخطاب لم يصِله مُطلقًا. كان الطبيب صديقًا طيبًا، لكن أن يناصره في مواجهة جام غضب السادة البيض … كلا، كلا! ماذا يفيد الرجل إن أنقذ رُوحه وخسر العالم بأسره؟ شرع فلوري يُمزِّق الخطاب. كان الخطر الناتج عن إذاعة خبره ضئيلًا جدًّا، مبهمًا جدًّا. لكن لا بدَّ من توخِّي الحذر من المخاطر المبهَمة في الهند. فحتى الهيبة، قوام الحياة، هي نفسها مبهمة. مزَّق الخطاب بحرص قطعًا صغيرة وألقى بها من فوق البوابة.

في هذه اللحظة تردَّدت صرخة مُرتاعة، مختلفة تمامًا عن صوتي زوجتَي كو سلا. أنزل البستاني فأسه وحملَقَ فاغِرًا فاه في اتجاه الصوت، وجاء كو سلا الذي سمعها هو الآخر، راكضًا حاسر الرأس من حجرات الخدم، فيما هبَّت فلو واقفة ونبَحَت بحدَّة. تكرَّرت الصرخة التي كانت صادِرة من الغابة خلف المنزل، وكان الصوت إنجليزيًّا، امرأة تصرخ مفزوعة.

لم يكن ثمة طريق إلى الخارج من الخلف. وثَبَ فلوري من فوق البوابة وهبَطَ وركبتُه تنزِف دمًا من أثر شظية. وركض حول سُور المجمع مُنطلقًا إلى الغابة، تتبَّعه فلو. خلف المنزل تمامًا، وراء أول طوق من الشجيرات، كان ثمة وادٍ صغير، يرتادُه الجاموس من نيانجليبين لوجود بركة من المياه الراكِدة فيه. شق فلوري طريقه وسط الأجمة، وفي الوادي كانت فتاة إنجليزية، مُمتقعة الوجه، منكمشة أمام إحدى الشجيرات فيما تتهدَّدها جاموسة ضخمة بقرنَيها الهلاليَّي الشكل، وقد وقف عجل مشعر في الخلفية، كان بلا شك السبب في المُشكلة. في الوقت ذاته كان جاموس آخر غمره وحل البركة حتى عنقه، يتطلَّع بوجه هادئ يعود إلى أزمنة ما قبل التاريخ، مُتسائلًا ما الأمر.

ولَّت الفتاة وجهًا مكروبًا إلى فلوري حين ظهر. هتفت بالنبرة الغاضبة الملحَّة التي تغشى صوت الناس المذعورة: «فلتُسرِع! أرجوك! أنجدني! أنجدني!»

كان فلوري في غاية من الاندهاش ليطرح أي أسئلة. هكذا هُرع إليها، ولعدم وجود عصا، فقد صفع الجاموسة صفعة شديدة على أنفها. فتنحت جانبًا، بحركة خائفة ثقيلة، ثم رحلَت بخُطوات مُتثاقِلة يتبعها العجل. كذلك خلَّص الجاموسُ الآخر نفسَه من الوحل ورحَلَ بخُطوات مُتعثِّرة. أما الفتاة فارتمَت على فلوري، تكاد تكون بين ذراعَيه، وقد غلَبها الذُّعر تمامًا.

«شكرًا، شكرًا! يا لها من أشياء مُريعة! ماذا تكون؟ خلتُ أنها ستقتُلُني. يا لها من كائنات رهيبة! ماذا تكون؟»

«ليس سوى جاموس الماء. إنه يأتي من القرية التي هناك.»

«جاموس؟»

«ليس جاموسًا بريًّا، الذي نُسمِّيه البيسون. إنه مجرَّد نوع من الماشية التي يُربِّيها البورميُّون. أعتقد أنها سبَّبت لكِ صدمة فظيعة. يؤسفني ذلك.»

كانت لا تزال مُتشبِّثة بذراعه لصيقةً به، فاستطاع أن يشعر بها ترتعِد. خفَضَ ناظرَيه، لكنه لم يستطِع رؤية وجهها، فقط أعلى رأسها، من دون قبَّعة، بشعر أشقر قصير مثل شعر صبي. واستطاع رؤية إحدى يدَيها على ذراعه؛ كانت يدًا طويلة رشيقة شابَّة، ذات رسْغ ملطَّخ بالألوان مثل رسْغ تلميذة. لم يكن قد رأى يدًا كهذه منذ عدة سنوات. انتبه فلوري إلى الجسد الليِّن النضير الضاغط على جسده، والدفء النافذ منه؛ فبدا كأن شيئًا ينبض بداخله ويُذيب جليد قلبه.

قال فلوري: «لا بأس، لقد رحلت. ليس هناك ما يدعو إلى الخوف.»

كانت الفتاة لا تزال تستفيق من ذعرها، ووقفت مُبتعدة قليلًا عنه، وإحدى يديها لا تزال على ذراعه. قالت: «إنني بخير. لا بأس، لم أُصب بأذًى. فهي لم تمسَّني. شكلُها فقط كان مريعًا.»

«حقًّا، إنها غير مُؤذية على الإطلاق. فقُرونها واقعة بعيدًا جدًّا في مؤخِّرة رءوسها فلا يُمكنها أن تنطحك. إنها حيوانات غبية جدًّا، تتظاهَر فقط بالهجوم حين يكون لديها عُجول.»

وقف الاثنان مُتباعدَين الآن، وغشَّاهما حرج طفيف في الحال. وكان فلوري قد استدار قليلًا بالفعل ليُخفي عنها وحمته. ثم قال:

«حسنًا، إنه نوع غريب من التعارُف! لم أسألك بعد كيف جئتِ إلى هنا. من أيِّ مكان جئتِ، إذا لم يكن في السؤال وقاحة؟»

«لقد خرجت للتوِّ من حديقة عمِّي. بدا الصباح جميلًا للغاية، فارتأيت أن أذهب في تمشية. ثم جاءت تلك الأشياء المريعة خلفي. فإنني جديدة تمامًا في هذا البلد.»

«عمكِ؟ بالتأكيد! أنتِ ابنة أخ السيد لاكرستين. لقد سمعنا بقُدومكِ. حسنًا، هلا خرجنا إلى الميدان؟ سنجد مسارًا في مكانٍ ما. يا لها من بداية لأول صباح لكِ في كياوكتادا! أخشى أن هذا حريٌّ أن يُعطيكِ انطباعًا سيئًا عن بورما.»

«كلا؛ جلُّ ما هناك أن الأمر برمَّته غريب بعض الشيء. كم تنمو بكثافة هذه الأجمة! وكلها ملتفة معًا وغريبة المنظَر. من الممكن أن تضلَّ السبيل هنا في لحظة. هل هذا ما يُسمُّونه غابة؟»

«أدغال. بورما في أغلبها أدغال؛ ما أُسمِّيه أرضًا خضراء كريهة. لو كنتُ مكانكِ ما كنت سأخوض وسط تلك الحشائش. فالبذور تتخلَّل الجوارب وتصل إلى الجلد.»

ترك الفتاة تسير أمامه، شاعرًا براحة أكبر أنها لن تستطيع رؤية وجهه. كانت طويلة بعض الشيء بالنسبة إلى فتاة، هيفاء، ترتدي فستانًا قطنيًّا لونه بنفسجي فاتح. مِن لَفتاتها لم يبدُ له أنها ناهزت العشرين بكثير. لم يكن قد أمعن النظر في وجهِها بعد، سوى أنها كانت ترتدي نظارة مُستديرة مصنوعة من صدفة سُلحفاة، وأن شَعرها قصير مثل شعره. لم يكن قد رأى من قبلُ امرأة بشعر حليق، سوى في الصحف المصورة.

مع دخولهما الميدان تقدم بمحاذاتها، فالتفتت لتُواجهه. كان وجهها بيضاويًّا، متناسِق الملامح رقيقها؛ ربما ليست جميلة، لكنها بدَت كذلك هناك، في بورما، حيث كل النساء الإنجليزيات شاحبات ونحيلات. سريعًا ما أشاح فلوري بوجهه جانبًا، مع أن الوحمة كانت مُستترة عنها. لم يُطِق أن ترى وجهه الكامد عن كثب شديد. تحسس الجلد الذابل حول عينَيه وشعر كأنه جرح. بيد أنه تذكر أنه كان قد حلَق ذلك الصباح، مما منحَه شجاعة.

قال: «أعتقد أنكِ حتمًا مصدومة قليلًا من بعد هذا الأمر. هل تودِّين أن تأتي إلى مسكني لتستريحي بضعَ دقائق قبل الذهاب إلى المنزل؟ كما أن الوقت مُتأخِّر بعض الشيء للخروج من دون قبعة.»

قالت الفتاة: «شكرًا، أودُّ ذلك.» خطر لفلوري أنها لا يُمكن أن يكون لديها أي علم بأفكار الهنود عن الأصول «هل هذا منزلك؟»

«نعم. لا بدَّ أن ندور حول الطريق الأمامي. سوف أجعل الخدم يأتون بمظلَّة من أجلكِ. فهذه الشمس خطيرة عليكِ، بشَعركِ القصير.»

سار الاثنان في ممشى الحديقة، وفلو تمرح حولَهما وتُحاول لفت الانتباه إلى نفسِها. كانت دائمًا ما تنبح على الشرقيِّين الأغراب، لكن راقت لها رائحة المرأة الأوروبية. اشتدَّت حرارة الشمس، وسرَتْ من زهور البتونيا على جانب الممشى رائحة الكشمش الأسود، وهبطَت واحِدة من الحمام إلى الأرض، لتنطلق في الهواء مرةً أخرى في الحال حين حاولَت فلو الإمساك بها. توقَّف فلوري والفتاة مرةً واحدة، لينظرا إلى الزهور، وفجأةً سرى فيهما شعور بالسعادة لا سبب له.

أعاد قوله: «حقًّا لا بدَّ ألا تخرجي في الشمس من دون اعتمار قبعة.» وبطريقة ما كان ثمَّة شعور بالألفة في قول هذا. لم يستطِع أن يمنع نفسه من الإشارة إلى شعرها القصير بطريقة أو بأخرى، فقد بدا له جميلًا جدًّا. وكان بحديثه عنه كأنه لمَسَه بيده.

قالت الفتاة: «انظر، إن ركبتك تنزِف. هل حدث هذا حين كنت آتيًا لإنقاذي؟»

كان ثمَّة خيط رفيع من الدم الذي تجلط قرمزيًّا على جوَربِه الكاكي. قال: «الأمر هيِّن.» لكن لم يشعر أيٌّ منهما في تلك اللحظة أنه أمر هيِّن. طفقا يُثرثران بحماس غير عادي حول الزهور. قالت الفتاة إنها «تعشق» الزهور. تقدَّمها فلوري في الممشى، وهو يتحدَّث مبالغًا في الحديث حول نبات تلو الآخر.

«انظري إلى زهور الفلوكس هذه كيف تنمو. إنها تظلُّ مُزهرة طوال ستة أشهر في هذا البلد. فهي تحبُّ الشمس وتزدهِر معها. أعتقد أن تلك الزهور الصفراء تكاد تكون في لونِ زهور الربيع. أنا لم أرَ زهرة ربيع منذ خمس عشرة سنة، ولا زهرة منثور. تلك الزينيا جميلة، أليس كذلك؟ تبدو كأنَّها زهور مرسومة، بتلك الألوان المطفية الخلابة. هذه زهور القطيفة الأفريقية. إنها خشنة الملمَس، تكاد تكون مثل الحشائش، لكن لا يسعك إلا أن تُحبِّيها، فهي زاهية وقوية جدًّا. لدى الهنود ولعٌ خاصٌّ بها؛ فأينما وجدتِ هنودًا تجدين زهور القطيفة، ولو بعد سنوات بعد أن تكون الغابة قد محَت كلَّ أثر لها. لكنني أرجو أن تأتي إلى الشُّرفة لرؤية الأوركيد. لديَّ منها بعض الزهور التي يجب رؤيتها فهي تبدو تمامًا كأنها أجراس من الذهب — مثل الذهب حرفيًّا. وتفوح منها رائحة عسل، تكاد تكون نفَّاذة. هذه هي المزية الوحيدة تقريبًا في هذا البلد، إنها مُناسِبة لنمو الزهور. أرجو أن تكوني هاوية للبستنة؟ فهي عزاؤنا الأكبر في هذا البلد.»

قالت الفتاة: «إنني أعشق البستنة حقًّا.»

ودخل الاثنان الشرفة. كان كو سلا قد ارتدى على عجل قميصه وأفضل عصابات رأسه العصابة الحريرية الوردية، فجاء من داخل المنزل بصينية عليها دَورق جين وكئوس وصندوق سجائر. وضعها على المنضدة، وضم يدَيه معًا وهبط إلى ركبتيه محيِّيًا، وهو يرنُو إلى الفتاة ببعض الترقُّب.

قال فلوري: «أظن أنه لا جدوى من عرض الشراب عليكِ في هذه الساعة من الصباح؟ لا يُمكنني إقناع خادِمي قطُّ أن بعض الناس تستطيع أن تعيش من دون تناول الجين قبل الإفطار.»

وضمَّ نفسه لأولئك الناس بأن لوَّح بيده رافضًا الشراب الذي عرَضَه عليه كو سلا. كانت الفتاة قد جلسَت على المقعد الخوص الذي وضَعه لها كو سلا في نهاية الشُّرفة. كانت زهور الأوركيد بأوراقها الداكنة معلَّقة وراء رأسِها، بباقاتها الذهبية الزهر، تنشر عبير عسلٍ دافئ، بينما وقف فلوري أمام سور الشرفة، مولِّيًا الفتاة إحدى صفحتي وجهِه، محتفظًا بوجنتِه الموحومة خفية.

قالت وهي تُرسِل نظرها إلى سفح التل: «ترى من هنا منظرًا غاية في الروعة.»

«نعم، أليس كذلك؟ إنه بديع في هذا الضوء الأصفر، قبل أن تصعد الشمس في كبد السماء. أحب ذلك اللون الأصفر الداكن للميدان، وأشجار البوانسيانا الملكية تلك، كأنها بقع من اللون القرمزي. وتلك التلال في الأفق، شبه سوداء.» ثم أضاف قائلًا: «يقع مُعسكري على الجانب الآخر من تلك التلال.»

خلعت الفتاة، التي كانت بعيدة النظر، نظارتها لتُرسل بصرها بعيدًا. فلاحَظَ أن عينَيها كانتا ذاتَي زرقة فاتحة شديدة الصفاء، أفتح من زهرة الجريسة. ولاحظ نعومة الجِلد حول عينَيها، يكاد يكون في نعومة بتلات الزهور. وهو ما ذكره بسنِّه ووجهِه المُنهك مرةً أخرى، حتى إنه أشاح بوجهه قليلًا عنها. لكنه قال بعفوية:

«حسنًا، يا له من حظٍّ الذي أتى بكِ إلى كياوكتادا! لا يمكن أن تتخيَّلي تأثير أن نرى وجهًا جديدًا في هذه الأماكن. بعد أشهر من مخالطة مجتمعِنا البائس، وما يعرض من جولات أحد المسئولين، وإبحار رحَّالة أمريكان إلى منبع نهر إيراواداي بكاميراتهم. أعتقد أنكِ قدمتِ من إنجلترا مباشرة؟»

«حسنًا، ليس إنجلترا تحديدًا. كنت أعيش في باريس قبل أن آتي إلى هنا؛ ذلك لأنَّ أمي كانت فنَّانة.»

«باريس! هل عشتِ حقًّا في باريس؟ يا إلهي، تصوَّري أن تأتي من باريس إلى كياوكتادا! دعيني أقُل لكِ إنه من المُستعصِي تمامًا على المرء في حُفرة كهذه أن يُصدِّق أن ثمة أماكن مثل باريس.»

سألته الفتاة: «هل تحبُّ باريس؟»

«بل إنني لم أرَها قط. لكن، ويحي، كم تصوَّرتُها! باريس … إنها في ذِهني خليط من صور شتَّى؛ المقاهي والشوارع ومراسم الفنَّانين وفيون وبودلير وموباسان كلها متراكبة. إنكِ لا تعلمين كيف تبدو لنا تلك البلدات الأوروبية. هل عشتِ في باريس حقًّا؟ هل جلستِ في مقاهٍ مع دارسي فن أجانب، تحتسُون النبيذ الأبيض وتتحدَّثون عن مارسيل بروست؟»

قالت الفتاة ضاحكةً: «شيء من هذا القبيل على ما أظن.»

«يا للاختلاف الذي ستجدينه هنا! فلا يُوجد هنا نبيذ أبيض ولا مارسيل بروست؛ وإنما ويسكي وإدجار والاس على الأرجَح. لكن إذا أردتِ كتبًا على الإطلاق، فربما تجِدين شيئًا يرُوق لكِ بين كتبي؛ إذ لا يوجد في مكتبة النادي سوى حُثالة الكتب. لكن لا شكَّ أن كتبي عفا عليها الدهر حدَّ اليأس. أَعتقد أنكِ قرأتِ كل الكتب الموجودة.»

قالت الفتاة: «لا، لكنني بالطبع أعشق القراءة للغاية.»

«ما أجمل أن تلتقي بشخص له اهتمام بالكتب! أقصد الكتب التي تستحِق القراءة، وليس تلك النفايات التي في مكتبات النادي. أرجو حقًّا أن تُسامحيني إن كنت أطيل عليكِ في الكلام. أخشى إنَّني أنطلق مثل زجاجة جعة دافئة حين ألتقي بشخصٍ على علم بالكتب. إنه ذنبٌ لا بدَّ أن تغفريه في هذه البلاد.»

«لكنني أحب الحديث عن الكتب. أعتقد أن القراءة شيء في غاية الروعة. أقصد، كيف كانت الحياة ستصير من دونها؟ إنها … إنها …»

«إنها ملاذ خاص. أجل!»

استغرق الاثنان في حديث طويل ومتحمِّس، عن الكتب أولًا، ثم الرماية، التي بدا أن للفتاة اهتمامًا بها، والتي حثَّت فلوري على الحديث عنها. كانت من الإثارة في غاية حين وصَفَ حادثةَ مقتلِ أحد الأفيال التي كان قد أقدم عليها قبل عدة سنوات. بالكاد انتبه فلوري، وربما الفتاة كذلك، إلى أنه استأثَرَ بكل الحديث. فهو لم يستطِع أن يكبح جماح نفسِه؛ إذ كانت بهجة الدردشة كبرى. وكانت الفتاة على استعدادٍ للإنصات. فقد أنقَذَها من الجاموس على أيِّ حال، وهي التي كانت حتى تلك اللحظة لا تُصدِّق أن تلك الحيوانات الضَّخمة قد تكون غير مُؤذية؛ ومن ثمَّ فقد كان في تلك اللحظة بمثابة بطل في عينَيها. متى نُسبَ للإنسان أي فضل في الحياة، فهو غالبًا على شيء لم يفعلْه. كانت هذه واحدة من المرات التي يتدفَّق فيها الحديث بسلاسة شديدة، وبتلقائية شديدة، حتى إنه ليستطيع الإنسان أن يستمرَّ في الكلام إلى الأبد. لكن بغتةً تبخَّرت سعادتهما، وجفَلا ولاذا بالصَّمت. فقد لاحظا أنهما لم يعُودا بمفردهما.

كان على الجانب الآخر من الشُّرفة، من بين القضبان، وجه بشاربٍ كبير في سواد الفحم يختلِس النظر بفُضولٍ عظيم. كان ذلك وجه سامي العجوز، الطاهي الماجي. وخلفه وقفت ما بو وما يي وأبناء كو سلا الأربعة الكبار، وطفل عارٍ من دون صاحب، وامرأتان عجوزان جاءتا من القرية عند سماع الخبر بأن ثمَّة سيدة إنجليزية ظاهرة للعيان. مثل تمثالَين منحوتين من خشب الساج اندسَّ في الوجه الخشبي الجامد لكلٍّ منهما سيجار طوله قدم، راحت الكائنتان الهرمتان تُحدِّقان في السيدة الإنجليزية كما قد يُحدِّق فلاح إنجليزي في مُحارِبٍ من شَعب الزولو بحلته الرسمية كاملة.

قالت الفتاة في ضيق وهي ترنو نحوهم: «أولئك الناس …»

لما رأى سامي أن وجودَه صار ملحوظًا، بدا عليه أسف شديد وتظاهر بأنه يُعيد لفَّ عمامته. أما بقية المتفرجين فقد شعروا بقليل من الإحراج، ما عدا العجوزَين ذاتَي الوجهين الخشبيين.

قال فلوري: «سُحقًا لوقاحتِهم!» وتخلَّله شعورٌ بارد بالإحباط. على كل حال، لم يعُد مناسبًا أن تمكث الفتاة في شرفته أكثر من ذلك. كان الاثنان قد تذكَّرا في آنٍ واحد أنهما غريبان تمامًا. فتورَّد وجهُها قليلًا، وبدأت ترتدي نظارتها.

قال فلوري: «أخشى أن وجود فتاة إنجليزية أشبه ببدعة لهؤلاء الناس. إنهم لا يقصدون أي أذى.» ثم أردف في غضب، ملوِّحًا بيده للمُتفرجين، الذين اختفوا بعدئذٍ: «اغربوا من هنا!»

قالت الفتاة وقد نهَضَت واقفة: «أعتقد أنني لا بدَّ أن أرحل إذا سمحت. لقد مكثت بالخارج لوقت طويل جدًّا. لعلَّهم يتساءلون أين ذهبت.»

«هل ضروري حقًّا؟ فما زال الوقت مبكرًا جدًّا. سأَحرِص على ألا تعودي إلى المنزل برأس مكشوف في الشمس.»

أنشأت تقول مرة أخرى: «يجب حقًّا …»

ثم توقَّفَت، ناظرةً إلى عتبة الباب؛ حيث كانت ما هلا ماي خارجة إلى الشُّرفة.

تقدمت ما هلا ماي واضعة يدها على ردفها. كانت قد أتت من داخل المنزل، بهدوء يؤكد حقها في الوجود هناك. ووقفت الفتاتان وجهًا لوجه، لا يفصلهما سوى ست أقدام.

كان التناقُض بينهما لا يُدانيه أي تناقض آخر غرابةً؛ فإحداهما باهتة اللون مثل زهر التفاح، والأخرى داكنة ومُبهرَجة، ينعكِس بريق شبه معدني على كعكة شعرها الأبنوسي وحرير إزارها البرتقالي الوردي. خطرَ لفلوري أنه لم يلحظ من قبل قط كم يبدو وجه ما هلا ماي داكنًا، وكم هو غريب جسدها الضئيل المتيبِّس، المستقيم مثل جسد الجنود، الخالي من أي منحنيات ما عدا منحنى أردافها الشبيه بمُنحنى المزهرية. وقف أمام سور الشرفة وراح يُراقِب الفتاتين، منسيًّا تمامًا. لم تستطع أي منهما أن ترفع عينَيها عن الأخرى طيلة دقيقة تقريبًا؛ لكن من الصعب أن نعرف أيًّا منهما وجدت المشهد أكثر شذوذًا وإثارة للدهشة.

حولت ما هلا ماي وجهها صوب فلوري، وتساءلت بتجهُّم وقد ضمَّت حاجبَيها الأسودَين الرفيعَين كخطَّي قلم رصاص، قائلة: «مَن هذه المرأة؟»

أجاب بلا اكتراث، كأنه يُعطي أمرًا لأحد الخدم:

«انصرفي الآن. إن أثرتِ أيَّ مشكلة سآتي لاحقًا بخيزرانة وأبرحكِ ضربًا حتى لا أترك ضلعًا من ضلوعكِ سليمًا.»

تردَّدت ما هلا ماي وهزَّت منكبَيها الصغيرين واختفت، فيما تساءلت الأخرى بفضول وهي تتبعها بعينَين محدقتين:

«هل كان ذلك رجلًا أم امرأة؟»

فقال: «امرأة. زوجة أحد الخدم على ما أعتقد. جاءت لتسأل عن الغسيل، هذا جلُّ ما في الأمر.»

«هل هكذا تبدو النساء البورميات؟ إنهن كائنات صغيرة عجيبة! لقد رأيت الكثير منهنَّ في طريقي إلى هُنا بالقطار، لكنني في الحقيقة ظنَنتهنَّ جميعًا صِبية. إنهنَّ يبدون مثل نوع من الدمى الخشب الألمانية، أليس كذلك؟»

كانت قد شرعت في التحرك صوب سلم الشرفة، بعد أن فقدت اهتمامها بما هلا ماي التي كانت قد اختفَت، ولم يوقفها؛ إذ شعر أن ما هلا ماي خليقة تمامًا بالعودة وإحداث فضيحة. بيد أن ذلك لم يكن ذا بال؛ إذ لم تكن أيٌّ من الفتاتين تعرف كلمة من لغة الأخرى. هكذا نادى على كو سلا، فجاء كو سلا راكضًا معه مظلَّة كبيرة من الحرير المشمَّع ذات أضلاع من الخيزران، ليفتحها برزانة أسفل السلَّم ويرفعها فوق رأس الفتاة عند نزولها. وقد سار فلوري معهما حتى البوابة، حيث توقَّفا ليتصافَحا، وهو مُتنحٍّ جانبًا قليلًا في أشعة الشمس القوية، مواريًا وحمته.

«سيرافقك صاحبي هذا إلى المنزل. كان كرمًا شديدًا منكِ أن أتيتِ إلى هنا. لا يُمكنني أن أصف لكِ كم أنا سعيد بمُقابلتكِ. فسوف تحدثين فرقًا كبيرًا هنا في كياوكتادا.»

«إلى اللقاء يا سيد … يا للعجب! إنني لا أعرف اسمك حتى.»

«فلوري، جون فلوري. وأنتِ … الآنسة لاكرستين، أليس كذلك؟»

«نعم، إليزابيث. إلى اللقاء يا سيد فلوري. وأشكرك شكرًا جزيلًا. فقد أنقذتني حقًّا من تلك الجاموسة الفظيعة.»

«كان أمرًا بسيطًا. أرجو أن أراكِ هذا المساء في النادي؟ أعتقد أن عمكِ وزوجته سيأتيان. الوداع مؤقتًا إذن.»

وقف عند البوابة، يُشاهدهما يذهبان. إليزابيث! اسم جميل، نادر جدًّا هذه الأيام. تمنَّى لو كانت تكتبه بحرف الزاي. هرول كو سلا خلفها بخطوات طريفة مرتبكة، مادًّا المظلَّة فوق رأسها مع الابتعاد بجسمِه عنها بقدر الإمكان. وهبَّت على التل ريحٌ باردة؛ كانت واحدة من تلك الرياح العابرة التي تهبُّ أحيانًا في الجو البارد في بورما، آتية بغتةً، لتملأ المرء عطشًا وحنينًا إلى حمامات السباحة المملوءة بمياه البحر الباردة وأحضان حوريات البحر والشلالات وكهوف الجليد. وقد أحدثت حفيفًا بين الرءوس العريضة لأشجار البوانسيانا الملكية، وأثارت أجزاء الخطاب المجهول المصدر الذي كان فلوري قد ألقاه من فوق البوابة قبل نصف ساعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤