الفصل الثاني

بنك هايزنبرج

عندما عبرت أليس المدخل وجدَت نفسها في قاعة كبيرة ذات أعمدة وجدران رخامية. بدا قريبَ الشبه للغاية من البنوك الأخرى التي رأتها من قبل لكنها كانت أكبر حجمًا، على ما يبدو. كان هناك صف من نوافذ الصرافين على طول الجدار البعيد، وكانت المساحة الفسيحة أمام هذه النوافذ مقسَّمة بحواجز من الشريط المتحرك؛ حتى يمكن إرشاد العملاء للسير في خطوط منتظمة بينما ينتظرون الحصول على الخدمة. ومع ذلك فقد بدا المكان في هذه اللحظة خاليًا من أي عملاء على الإطلاق. فبخلاف الصرافين خلف نوافذهم وحارس البنك الواقف بجوار الباب، لم ترَ أليس أحدًا.

وبما أنها نُصحت بأن تبحث عن معلومات في البنك، بدأت تسير في تصميمٍ نحو صفِّ النوافذِ البعيد. صاح الحارس بجوار الباب: «أنتِ، فلتنتظري لحظة من فضلك! أين تظنين نفسك ذاهبة، أيتها الآنسة الصغيرة؟ ألا تستطيعين رؤية الصف؟»

ردَّت أليس: «أنا آسفة، لكني في الحقيقة لا أستطيع رؤية أي صف. فلا يوجد أحد هنا.»

أجابها الحارس بشكل قاطع: «بكل تأكيد يُوجد الكثير من الناس هنا! فيبدو أن لدينا زحامًا من «لا أحد» اليوم. إلا أننا عادةً ما نشير إليهم بكلمة «افتراضيِّين». فلم أرَ قط في حياتي مثل هذا العدد الكبير للغاية من الجسيمات الافتراضية في انتظار الحصول على قروضها من الطاقة.»

بات لدى أليس شعور مألوف الآن بأن الأشياء لن تتَّضح أكثر بسرعة كبيرة. نظرت نحو النوافذ ورأت أنه على الرغم من أن المساحة أمامها ما زالت تبدو خالية تمامًا، إلا أن جميع الصرافين كانوا مشغولين للغاية. ومع استمرار مراقبتها لهم رأت أجسامًا لامعة تظهر، واحدًا تلو الآخر ويقفون أمام إحدى نوافذ الصرف ثم يندفعون سريعًا إلى خارج البنك. رأت أمام إحدى نوافذ الصرف زوجًا من الأجسام يتَّخذان معًا شكلًا مرئيًّا أمام إحدى الشبكات. تعرَّفت على أحدهما أنه إلكترون، وبدا الآخر شبيهًا له تمامًا، ولكنه كان نوعًا من الصورة السالبة للأول، على العكس تمامًا من جميع الإلكترونات التي رأتها من قبلُ في كل شيء.

همس صوت في أذنها: «هذا بوزيترون، وهو مضادٌّ للإلكترون.» نظرت أليس حولها فرأت سيدةً شابةً حادةَ الملامح وأنيقة الملابس.

سألتها: «من أنتِ، يا سيدتي؟»

ردَّت مرافقتها: «أنا مديرة البنك. أنا المسئولة عن توزيع قروض الطاقة لكل الجسيمات الافتراضية هنا. معظم هذه الجسيمات تكون فوتونات، كما ترَين، لكن يأتي إلينا أحيانًا أزواج من الجسيمات والجسيمات المضادة، التي تأتي إلينا معًا تطلب قرضًا، مثل زوج الإلكترون والبوزيترون اللذَين كنتِ تنظرين إليهما منذ قليل.»

سألت أليس: «لماذا تحتاج إلى قروض الطاقة؟ ولماذا لا أستطيع رؤيتها قبل أن تحصل عليها؟»

ردَّت مديرة البنك: «حسنًا، كما تعلمين حتى يوجد الجسيم بصورة صحيحة، بحيث يصبح جسيمًا حرًّا قادرًا على الحركة في كل مكان ويمكن ملاحظته بشكل طبيعي وما إلى ذلك، فلا بد أن يتمتع، على الأقل، بالحد الأدنى من الطاقة التي نطلق عليها اسم «طاقة كتلة السكون». هذه الجسيمات الافتراضية المسكينة لا تَمتلك حتى هذه الطاقة، وأغلبها لا توجد لديه أي طاقة على الإطلاق، ولهذا ليس لها وجود فعلي. ولحسن حظها يمكنها الحصول على قرض من الطاقة في البنك هنا، ويسمح لها هذا بالوجود فترة زمنية قصيرة.» أشارت إلى لافتة على الجدار مكتوب فيها:
شروط القرض
E∆t = h/2

نشكر لكم التسديد الفوري.

«تُدعى هذه علاقة هايزنبرج، وهي تحكم جميع معاملاتنا التجارية. تُسمى القيمة h ثابت بلانك، وهي القيمة المختزلة على نحو صحيح، بالطبع. تُوضِّح هذه العلاقة سعر الصرف لقروض الطاقة التي نُقدمها. كما أن المقدار ∆E هو مقدار الطاقة المقترضة، و∆t هي مدة هذا القرض، كما ترَين.»

قالت أليس محاوِلةً متابعة ما تقوله المديرة: «تقصدين أن هذا يشبه سعر الصرف بين عملات مختلفة، وعليه فكلما زادت مدة القرض، زادت الطاقة التي يُمكن الحصول عليها.»

«لا، لا العكس تمامًا! إن حاصل ضرب الطاقة في الزمن يساوي قيمة ثابتة، ولذلك كلما زاد مقدار الطاقة، قصرت الفترة الزمنية المسموح لهم بالاحتفاظ بها خلالها. وإذا أردت رؤية ما أقصده، فقط انظري إلى ذلك الجسيم الغريب ومضاد الجسيم اللذَين حصَلا للتوِّ على قرضٍ من النافذة رقم ٧.»

نظرت أليس إلى حيث أشارت المديرة فرأت ما أثار دهشتها كثيرًا. فقد وقف أمام النافذة زوج من الأشكال، أحدهما عكس الآخر، على النحو نفسه الذي كان عليه الإلكترون والبوزيترون اللذَان رأتهما من قبل. إلا أن هذا الزوج كان يلمع لمعانًا متوهِّجًا، ويشغل مساحة كبيرة للغاية لدرجة أن الصراف لم يكن يُرى من ورائه. لم تملك أليس إلا الإعجاب ببهاء هذين الاثنين، لكنها ما كادت تفتح فمها كي تُعلِّق حتى أصبَحا ضبابيَّين ثم تلاشيا تمامًا.

لدى معظم الجُسيمات كتلة سكون وهي تعادل كميةً كبيرةً من الطاقة. والجسيمات الافتراضية التي لا تَمتلك أي طاقة ابتدائية بإمكانها أن يظلَّ لها وجود لفترة وجيزة، وذلك عن طريق اقتراض الطاقة التي تحتاج إليها من أجل كتلة سكونها في شكل تموج كمومي.

واصلت المديرة حديثها في هدوء: «هذا توضيحٌ لما كنت أقوله، فقد أخذ هذا الزوج قرضَ طاقةٍ هائلًا حتى يدعم كتلة سكونه التي يحتاج إليها من أجل نمط حياته. ولأن القرض كان كبيرًا للغاية، كان وقت السداد قصيرًا للغاية أيضًا. لقد كان قصيرًا جدًّا لدرجة أن موعد سداده جاء قبل أن يتمكن هذا الزوج حتى من مغادرة نافذة الصراف. ونظرًا لأن مثل هذه الجسيمات الضخمة لا يُمكنها الابتعاد كثيرًا قبل أن يكون لزامًا عليها سداد قرض الطاقة، فإنها تُعرف في مجالنا هذا بالجسيمات القصيرة الأجل.»

سألت أليس، التي شعرت بأنها ربما تكون قد اكتشفت أخيرًا شيئًا محدَّدًا: «وهل العلاقة بين الزمن والطاقة ثابتة لكل فرد إذن؟»

«نعم، بالفعل؛ فثابت بلانك هو دائمًا نفسه في كل مكان وكل زمان يستخدم فيه، فهو يُسمى «ثابت كوني»، وهذا يعني ببساطة أنه لا يتغير أبدًا في كل مكان.»

ثم واصلت المديرة حديثها: «نحن نتعامل بالطاقة هنا في البنك، وهذا لأن الطاقة هي العملة هنا في بلاد الكَم. فكما تستخدمين الجنيهات أو الدولارات عملةً لكِ، فإن وحدة الطاقة التي نستخدمها نحن في أغلب الوقت تُدعى إلكترون فولت. كما أن كمية الطاقة الموجودة لدى الجسيم هي التي تُحدِّد ما يقدر على فعله، ومقدار السرعة التي يُمكنه التحرك بها، والحالة التي يُمكنه الدخول فيها، ومقدار تأثيره في النُّظُم الأخرى، فيعتمد كل هذا على مقدار الطاقة التي يَمتلكها.

ليس جميع الجُسيمات مُعدمة تمامًا مثل تلك المُصطفَّة هنا؛ فكثير من الجُسَيمات لديها كمية كافية من الطاقة في حوزتها، وفي هذه الحالة يُمكنها الاحتفاظ بها طالَما شاءت. ويُمكنكِ رؤية تلك الجسيمات وهي تتجوَّل في الخارج. فأي جسيم يحتاج إلى وجود كتلة له، لا بد له من امتلاك طاقة تكفل وجوده من الأساس.»

أشارت إلى لافتة أخرى داخل إطار على الحائط مكتوب فيها:

الكتلة هي طاقة.

والطاقة هي كتلة.

أضافت قائلة: «فإذا أراد جسيم أن تُصبح له كتلة فمن الضروري له العثور على طاقة تدعم هذا بطريقةٍ ما. وإذا كان لديه أي فائض من الطاقة فيمكنه استخدامها في فعل أشياء أخرى. هذا ولا تهتم جميع الجُسَيمات بموضوع الكتلة. فثمة بعضٌ منها جسيمات بوهيمية تتصرف بحرية وبساطة، وليست لها كتلة سكون على الإطلاق. هذه الجسيمات ليست مقيدة الحرية كباقي الجسيمات التي عليها أن تتكفَّل بكتلتها، حتى تستطيع الاستفادة بأقل قدر من الطاقة؛ والفوتون خير مثال على هذا. فالفوتون ليست له كتلة سكون، ولهذا فإن الفوتون في حالة السكون لا يكون له وزن له على الإطلاق. ولعلِّي ألفت انتباهك إلى أننا لا نجد الفوتونات في حالة سكون في المعتاد؛ فهي دائمة الاندفاع في كل مكان بسرعة الضوء؛ إذ إن الضوء يتكوَّن في الأساس من فوتونات. والضوء ليس تيارًا متدفِّقًا سلسًا ومستمرًّا. فهو يتكون من عدد كبير من «الكوانتا» أو الكمَّات؛ وهي تشبه حزمًا صغيرة من الطاقة، ولهذا يكون تدفُّق الضوء وعرًا ومليئًا بالنتوءات. ويُطلَق على هذه الكَمَّات، أو جسيمات الضوء هذه، الفوتونات. فعمليًّا كل شيء يأتي في صورة كَمَّات بأحجام مختلفة. وهذا هو مصدر تسمية ميكانيكا الكَم، لو تَعرفين. انظري إلى كل تلك الفوتونات التي تُغادِر البنك الآن. الفوتونات كلها مُتماثِلة في الأساس؛ فهي يُشبه بعضها بعضًا تمامًا مثلما تشبه جميع الإلكترونات بعضها بعضًا، لكنَّكِ قد تلاحظين أن كثيرًا من هذه الفوتونات تبدو مُختلفة كثيرًا، وهذا يَرجع إلى اختلاف كمياتها من الطاقة. فيوجد لدى بعضٍ منها كمياتٌ قليلة جدًّا من الطاقة، مثل فوتونات التردُّد اللاسلكي التي تخرج من البنك الآن.»

نظرت أليس إلى الأسفل نحو حشد من الفوتونات التي كانت تندفع عبرها، إذ كانت تتدفق حول قدميها ثم تخرج من الباب. وفي أثناء ذهابها تسمع أصوات موسيقى متقطعة ومثيرة وبعضها يقول: «نتناول الغذاء معًا يوم الخميس.» قالت أليس معترفة: «لم أكن أعلم أن الموجات اللاسلكية مكونة من فوتونات.» ابتسمت مرافقتها وقالت: «أجل، إنها كذلك بالفعل. فهي في الواقع فوتونات موجتها طويلة للغاية، وتردُّدها منخفض وطاقتها ضئيلة جدًّا. إنها اجتماعية للغاية، فحتى يكون لها تأثير ملحوظ لا بد من وجود عدد كبير منها في المرة الواحدة. يا لها من جسيمات صغيرة ودودة، أليس كذلك؟ أما الفوتونات المرئية الآن، تلك التي يتكون منها الضوء الذي يستخدمه الناس لرؤية الأشياء، فتردُّدها أعلى وطاقتها أكبر، ويمكن للواحد من هؤلاء أن يكون له تأثير ملحوظ. على الرغم من ذلك فإن أكثرها بذخًا بحق؛ أكبر المنفقين، هي فوتونات أشعة إكس وجاما. فيحمل كل واحد من هؤلاء الكثير من الطاقة من حوله ويمكنها بالفعل أن تجعل تأثيرها محسوسًا على ما يحيط بها إذا ما اختارت أن تتفاعل.»

قالت أليس دون أن يكون في كلامها مجاملة على خلاف الحقيقة: «هذا بالتأكيد مثير للغاية، لكني ما زلت أشعر ببعض الارتباك بشأن فكرة الطاقة بأكملها، هل يمكنكِ أن تخبريني ما هي الطاقة تحديدًا؟»

ردَّت المديرة بارتياح: «حسنًا، هذا سؤال منطقي للغاية، ومع الأسف فإن إجابتَه ليست سهلةً على الإطلاق. ادخلي إلى مكتبي وسأحاول أن أشرح لك.»

أرشدت المديرة أليس برشاقة عبر القاعة الرئيسية ذات الأرضية القرميدية، ومرورًا ببابٍ خفيٍّ ولكنه منيع إلى حدٍّ ما في أحد الأركان. حين دخلت رأت غرفة مكتب حديثة وضخمة. أومأت لأليس أن تجلس على كرسي مريح أمام مكتب عريض، دارت المديرة من حوله ثم جلست على الكرسي خلفه.

بدأت الحديث: «حسنًا، الطاقة أشبه إلى حدٍّ ما بالمال في عالَمك، وليس من السهل وصف المال وصفًا دقيقًا أيضًا.»

أجابت أليس: «أعتقد على الأغلب أن هذا سهل؛ فالمال هو إما عملات معدنية، مثل مصروفي، أو من الممكن أن يكون أوراقًا نقدية.»

«هذه هي النقود، وهي في الواقع أحد أنواع المال، لكن المال لا يكون بالضرورة في صورة عملات معدنية أو أوراق نقدية فقط؛ فمن الممكن أن يكون في صورة حسابات ادخار مثلًا، أو في صورة أوراق مالية وأسهم، أو يُمكِن استثماره في عقار. على النحو نفسه تقريبًا يُمكن للطاقة أن تتَّخذ أشكالًا عديدة، قد تبدو مختلفة إلى حدٍّ ما بعضها عن بعض.»

ثم قالت المديرة، وهي تَعتدل في جلستها لتجلس براحة أكبر في مقعدها، وأصبحت نبرة صوتها أشبه بنبرة من يوشك على إعطاء محاضرة طويلة لمستمعةٍ مصغية بانتباه: «إنَّ أوضح هذه الأشكال هو الطاقة الحركية. فيوجد لدى أي جسيم أو أي جسم آخر من هذا النوع طاقة حركية إن كان في حالة حركة. فكما تعلمين أن الطاقة الحركية تعني وجود حركة … وثمة أشكال أخرى من الطاقة أيضًا؛ فلدينا طاقة الوضع مثل طاقة الجاذبية التي يكتسبها الحجر إن كان أعلى تلٍّ وفي وضعيةٍ تَسمح له بالتدحرج إلى أسفل. توجد أيضًا الطاقة الكهربائية أو الطاقة الكيميائية، وهي طاقة وضع تُوجد لدى الإلكترونات عندما تكون داخل الذرات. ثم توجد، كما ذكرتُ من قبل طاقة كتلة السكون، وهي لا بد من وجودها لدى كثير من الجسيمات حتى يكون لها وجود، وحتى تكون لها بعض الكتلة. كذلك يُمكن تحوُّل الطاقة من صورة لأخرى، بالضبط كما يُمكنك وضع أموالٍ نقدًا في حساب الإيداع. ويُمكنني توضيح ما أعنيه لكِ إن نظرتِ فقط عبر هذه النافذة المستديرة.» انحنت للأمام وضغطت زرًّا على مكتبها، ففُتحت النافذة المستديرة في الحائط أمام أليس. استطاعت أليس أن ترى من خلالها لعبةَ الأفعوانية كتلك التي تُوجد في مدينة الملاهي. وبينما كانت تنظر رأت عربةً تصعد إلى قمة أحد المنحنيات الصاعدة وتوقَّفت هناك للحظة قبل أن تَندفِع إلى أسفل المنحنى على الجانب الآخر.

توجد صور عدَّة للطاقة. فمن الممكن أن تأتي في صورة طاقة كتلة السكون للجسيم، وفي صورة الطاقة الحركية المسئولة عن حركة أي جسم، وكذلك في شكل الصور المتنوِّعة لطاقة الوضع. وإحدى صور طاقة الوضع هي طاقة الوضع الجذبية للجسم والتي تقل مع سقوطه.

«هذه العربة، كما ترَين، لا تتحرَّك في هذه اللحظة، ولذلك ليس لها طاقة حركية، ولكنها تقف في مكانٍ مرتفع، ولهذا تتمتَّع بطاقة وضع بسبب موضعها. والآن حين بدأت في السقوط على المنحدر فقدت ارتفاعها، ولهذا فقدت قدرًا من طاقة الوضع الخاصة بها. وهكذا فإن هذه الطاقة تتحول إلى طاقة حركية، ولهذا مع استمرار سقوطها تتحرَّك أسرع فأسرع.» استطاعت أليس سماع صرخات الحماس الخافتة القادمة من الركَّاب البعيدين في العربة بينما انطلقت العربة إلى أسفل المضمار.

واصلت المتحدِّثة محاضرتها بحيادية: «إذا كان المضمار أملس للغاية والعجلات تسير عليه دون احتكاك، فإن العربة ستعود إلى حالة السكون مرةً أخرى عند الارتفاع نفسه.» انحنت مجددًا وعبثت بأصابعها في شيء ما على مكتبها مرةً أخرى. أما الأشكال البعيدة التي كانت تستقل الأفعوانية فقد صرخت من المفاجأة حين ارتفع المنحدر التالي الذي كان عليهم صعودُه إلى ارتفاع شاهق أمامهم. أبطأت عربتهم ثم توقَّفَت بالكامل قبل أن تبلغ القمة. هتفت أليس في تعجب: «كيف استطعتِ فعل هذا؟» غمغمت مرافقتها وقالت: «لا تستهيني أبدًا بقدرة البنك على التأثير، والآن انظري لما يحدث.»

بدأت العربة تتراجَع إلى الوراء على المضمار، وصحِب هذا صرخات أكثر ما زالت تظهر عليها الحماسة لكن لا يظهر عليها المرح كالمرة السابقة. ظلت تكتسب سرعةً مع هبوطها حتى عبرت سريعًا أكثر نقطة مُنخفضة في المنحنى، ومنها بدأت في تسلُّق المنحدر المقابل، وظلت سرعتها تقلُّ مع تقدُّمها. وصلت إلى نقطة سكون بالضبط عند النقطة التي رأتْها فيها أليس في أول مرة، ثم بدأت في الانزلاق للأسفل مرةً أخرى.

«سيستمرُّ هذا إلى الأبد الآن مع تحوُّل طاقة العربة من طاقة وضع إلى طاقة حركية والعكس صحيح، لكنكِ أدركتِ الفكرة.» ضغطت المديرة زرًّا آخر على مكتبها فأغلقت النافذة المُستديرة واختفى المشهد.

«هذا هو أوضح مثال لطريقة رؤية الطاقة في العالم الكلاسيكي. فهي تتحوَّل من صورةٍ لأخرى بأسلوبٍ سلس ومُستمر. فقد رأيتِ كيف ازدادت سرعة العربة باطراد وهي تنزلق بسرعة على المنحدر، مع عدم وجود قفزات كبيرة، ولا توجد أي قيود على مقدار الطاقة التي يمكن للجسم اكتسابها. إلا أن الأمور لا تسير على هذا النحو دائمًا هنا في بلاد الكَم. ففي كثير من الأحيان يُسمح للجسيم بالحصول فقط على مجموعة واحدة من القيم المحددة ولا يُمكنه قبول الطاقة أو منحها إلا في شكل كتل كبيرة، نطلق عليها اسم «كُموم». ففي العالم الكلاسيكي يحدث تسديد الطاقة وفق نظام دفع بالتقسيط، بتقديم دفعات متكررة ومتناهية الصغر؛ أما هنا فدائمًا يكون لزامًا عليهم التسديد في دفعة إجمالية واحدة.»

«فالطاقة الحركية، كما رأيتِ، هي نوع مُثير من الطاقة ومحب للاستعراض؛ فهي شيء يوجد لدى الجسم لمجرَّد تحرُّكه. فكلما زاد حجم الجسم، زادت طاقته الحركية، وكلما زادت سرعة تحرُّكه، زادت طاقته الحركية، لكن مقدار هذه الطاقة لا يعتمد مطلقًا على اتجاه هذه الحركة، وإنما فقط على السرعة. وفي هذا الصدد هي تَختلف عن مقدار آخر مهم يُخبرنا عن طريقة تحرك الجسيم؛ ونُطلِق على هذا «زخم الحركة». وزخم الحركة هذا هو نوع من أنواع المقاييس لعناد الجسيم. فكل جسيم يكون عازمًا على الاستمرار في التحرُّك تمامًا بالطريقة التي كان يتحرَّك بها من قبل، دون أي تغيير على الإطلاق. فإن كان ثمة شيء يتحرَّك بسرعة كبيرة فإن عملية إبطائه تتطلب قوة كبيرة. كذلك يتطلَّب إجباره على تحويل مسار تحرُّكه قوة هائلة، حتى إن لم تتغيَّر سرعته. إن أي تغيير في اتجاه الجسيم لا يتسبب في فقدانه لأي قدر من طاقته الحركية الغالية، إذ تعتمِد هذه الطاقة فقط على سرعة تحرُّكه، ولكنه يظلُّ غير راغب في تغيير اتجاهه وهذا لأن زخمه لا بد أن يتغيَّر. وتكون الجسيمات شديدة التحفظ في هذا الشأن إلى حدٍّ كبير.

في نظرية الكَم لا تقل أهمية دراسة الطاقة وزخم الحركة عن أهمية دراسة الموضع والزمن. بل في الواقع ربما يكون هذا أكثر أهمية؛ إذ يكون من الأسهل قياس طاقة ذرة من تحديد مكان وجودها. الطاقة تشبه المال إلى حدٍّ ما في عالَمنا المادي. وتُعريف الطاقة كلاسيكيًّا على أنها «القدرة على بذل شغل»، ومن الضروري للجسيمات أن تَمتلِك طاقة كي تستطيع فعل شيء ما؛ حتى تتحوَّل مثلًا من حالة إلى أخرى. أما زخم الحركة فهو كمية تشبه السرعة إلى حدٍّ كبير. ولكن الزخم كمية متجهة ترتبط بسير الجسم في اتجاه معيَّن بينما تكون للطاقة كميةٌ فحسب. فحين تقول كمية الطاقة الموجودة، لا يتبقى شيء آخر لتقوله عنها. فالإلكترونات التي تتحرَّك من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين بالسرعة نفسها، تكون طاقاتها الحركية واحدة، لكن لها زخم عكسي.

واصلت المديرة حديثها في حماس فقالت: «تَنحصِر القضية كلها فيما نطلق عليه المعاملات. فعندما تريدين وصفَ جسيم ما عليكِ أن تستخدمي المعاملات الصحيحة. فعلى سبيل المثال، إذا أردتِ تحديد مكانه، فعليكِ الحديث عن موضعه وزمنه.»

اعترضت أليس قائلة: «كنت أعتقد أن عليك فقط أن تحدِّدي مكانه، فذلك سيخبرك بموضعه، أليس كذلك؟»

«لا، بالطبع لا. فعليكِ تحديد الزمن بالإضافة إلى موضعه. فإذا أردتِ معرفة مكان شيء ما الآن أو أين سيكون في الغد، فمن غير المفيد أبدًا أن أخبرك فقط بمكانه إذا كان في المكان نفسه الذي كان فيه الأسبوع الماضي. فيجب عليك معرفة الموضع والزمن؛ إذ إن الأشياء تميل إلى التحرك في كل مكان كما تعرفين. فهذا كما لو أنك تريدين معرفة ما الذي يفعله الجسيم، ولهذا عليكِ وصف هذا من حيث زخمه وطاقته؛ فبشكلٍ عام عليكِ تحديد كلٍّ من زمن الجسيم وموضعه إن أردتِ معرفة موقعه.»

توجد صور عديدة للطاقة؛ تنتج الطاقة الحركية مباشرةً من وجود حركة. فقذيفة المدفع متحرِّكةً لديها طاقة لا توجد لدى القذيفة الساكنة. وثمة شكل آخر من أشكال الطاقة وهو طاقة كتلة السكون. وتكون طاقة كتلة السكون لأي جسم كبيرة للغاية. ففي ميكانيكا نيوتن لم يكن يوجد داعٍ لأخذ طاقة كتلة السكون في الاعتبار، وهذا لأنها لا تتغيَّر أبدًا، ولهذا لم تكن تؤثر في أي تحول للطاقة. أما في العمليات الكمية، فتتغير كتل الجسيمات طوال الوقت، والتغير في طاقة كتلة السكون من الممكن تحوله إلى أي من صور الطاقة الأخرى. على سبيل المثال، يتم إطلاق أقل من ١ في المائة من طاقة كتلة السكون لجزء صغير من المادة في السلاح النووي. إن هذا لا يمثل تغيرًا كبيرًا في الطاقة بالنسبة لجسيم واحد مقارنة بالعديد من العمليات الأخرى التي أجريت عليها الأبحاث في فيزياء الجسيمات، ولكنها تكون مُدمرة عند إطلاقها من عدد كبير من الجسيمات في حياتنا اليومية.

«هنا في بلاد الكَم توجد علاقة ترابط بين المعاملات. فإذا حاولتِ رؤية مكان وجود شيء ما، فإن هذا يُؤثِّر في زخَمِه، وفي مدى السرعة التي يتحرَّك بها. إن هذه صورة أخرى لعلاقة هايزنبرج التي أوضحتُها لكِ في البنك.»

صاحت أليس مُسترجعةً مشهدًا سابقًا: «آه، هل لهذا السبب لم يستطع الإلكترون الذي رأيته في وقت مبكِّر الوقوف ثابتًا حتى أتمكَّن من رؤيته دون أن يُصبح ضبابيًّا ومبهمَ المعالم؟»

«أجل، بلا شك. فالعلاقات غير المؤكَّدة تُؤثر في جميع الجسيمات بتلك الطريقة. فتبدو دائمًا غير محدَّدة المعالم، ولا يُمكنك أبدًا تثبيتها بدقة تامة.»

هتفَت المديرة: «أعرف ما سأفعله! سأجعل محاسبَ عدم اليقين يشرح لك. فإن وظيفته تقتضي فحص الحسابات وموازنتها، ولهذا فإنَّ شغله الشاغل دائمًا هو التذبذبات الكَميَّة أو الكمومية.» مدَّت أحد أصابعها الجميلة وضغطت على زرٍّ آخر من الأزرار التي كان مكتبها عامرًا بها.

ساد الصمت برهةً ثم انفتح أحد الأبواب المنتشرة على مسافات متباعِدة في أنحاء الغرفة ودخل شخصٌ ما. كان يبدو إلى حدٍّ ما مثل صورة إبنيزر سكروج من نسخةٍ مصورة لرواية «ترنيمة عيد الميلاد»، عدا أنه بدا على وجهه تعبيرٌ من الذهول إلى حدٍّ ما ورعشةٌ عصبية يصعب السيطرة عليها. كان يحمل دفتر حسابات ضخمًا أغلفتُه منتفخة، بالإضافة إلى أنها كانت تتلوى كما لو أن محتوياتها في حركة مستمرة.

قال منتصرًا وهو يرتعش بشدة بالغة حتى كاد يُسقط الدفتر: «أعتقد أنني فعلتُها. لقد رصدتُ الحسابات!» ثم أضاف قائلًا بحماسٍ أقل: «هذا بالطبع بصرف النظر عن التذبذبات الكَميَّة المتبقية.»

أجابته المديرة وهي شاردة الذهن: «عظيم جدًّا. والآن، أريد منك أن تأخذ هذه الفتاة الصغيرة، أليس، وتشرح لها عدم اليقين والتذبذبات الكَميَّة في طاقة أي نظام وكل الأشياء من هذا القبيل.» عقب توديع أليس استدارت المديرة نحو مكتبها وانهمكت في فعل شيء ما معقَّدٍ بدرجة كبيرة مستعينةً بكل الأزرار عليه. أرشد المحاسب أليس إلى الخارج سريعًا قبل أن يحدث أي شيء آخر.

من المنطقي أن نتحدث عن علاقة عدم اليقين لهايزنبرج عند وصف المزج الغريب بين الطاقة والزمن وبين الموضع وزخم الحركة الموجودة في النُّظم الكَميَّة. والخطير في مثل هذا الوصف أنه يُعزِّز الاعتقاد في أن الطبيعة — في أساسها — لا يقينية تمامًا؛ إذ لا يمكن التنبؤ بشيء ما يقينًا، وفي الحقيقة أن كل شيء قابل للحدوث. فهذا ليس صحيحًا!

وصَلا إلى حجرة مكتب أصغر حجمًا وأكثر فوضى، تَحتوي على مكتب مرتفع وقديم الطراز ومُغطًّى بدفاتر الحسابات، وقصاصات أوراق مكدَّسة في كل مكان على الأرض. نظرت أليس في واحد من الدفاتر المفتوحة. كانت الصفحة مليئة بأعمدة من الأرقام، تبدو تمامًا مثل دفاتر الحسابات الأخرى التي سبق ورأتها، فيما عدا أن الأرقام في هذا الدفتر كانت تتغير باستمرار على نحو طفيف كلما نظرَت إليها.

قال الرجل ذو المظهر الفيكتوري الواقف أمام أليس: «حسنًا! أنتِ ترغبين في معرفة معلومات عن عدم اليقين، أليس كذلك أيتها السيدة الصغيرة؟»

ردَّت أليس في أدب: «بلى، من فضلك، إنْ لم يسبب لك هذا إزعاجًا!»

بدأ حديثه وقد جلس أمام مكتبه: «حسنًا، الآن.» وقد ضم أطراف أصابعه معًا بالطريقة الوقورة المعتادة كي يَمنح مظهره مهابة أكبر. إلا أن هذه لم تكن فكرة جيدة؛ لأنه سرعان ما أصيب برعشة عصبية عنيفة، إذ تشابكت جميع أصابعه وكان عليه أن يتوقَّف ويَفصلَ بعضها عن بعض.

كرَّر ما قاله، وقد دس يديه بعمق في جيوبه لأجل السلامة: «حسنًا، الآن؛ إنَّ الشيء الذي يجب عليك تذكُّره بشأن الطاقة أنها محفوظة؛ وهذا يعني أن مقدار الطاقة الموجود هو نفسه طوال الوقت. فمن الممكن لها أن تتحول من صورة إلى أخرى، إلا أن كميتها الكلية لا تتغير أبدًا، على الأقل، هذا إن نظرتِ بمنظور بعيد المدى.» قال هذا في حزن وتنهد، وحدق في حسرة إلى الأفق البعيد.

سألته أليس التي رأت أن عليها أن تقول شيئًا ما حتى تظل المحادثة مستمرة: «ألا ينطبق هذا على الفترات القصيرة؟»

«حسنًا، لا، ليس تمامًا. ففي الحقيقة، هذا لا يحدث على الإطلاق إذا كانت الفترة قصيرة بدرجة كبيرة. لقد رأيتِ علاقة هايزنبرج في اللافتة الموجودة خارج البنك، أليس كذلك؟»

«أجل، بالفعل، وقد قيل لي إنها تخص شروط قروض الطاقة.»

«أجل، هي كذلك بطريقةٍ ما، لكن من أين تظنِّين أن قروض الطاقة تأتي؟»

«من البنك بكل تأكيد.»

قال المحاسب وقد بدا عليه بعض الرعب: «يا إلهي، لا! بكل تأكيد لا! فسيكون أمرًا لطيفًا إن بدأ البنك في إقراض الطاقة من مخزونه الخاص.»

واصل حديثه وهو متوجس، ويتلفَّت حوله في حرص: «لا، على الرغم من أنه ليس أمرًا معروفًا على نطاق واسع، فإن الطاقة لا تأتي من البنك. في الواقع، هي لا تأتي فعليًّا من أي مكان. إنها تذبذبات كَميَّة؛ فكمية الطاقة الموجودة في أي نظام محدد لا تكون واضحة بالكامل، بل تتفاوت صعودًا وهبوطًا؛ وكلما قصر الوقت الذي نقيسها فيه، زاد احتمال تفاوتها.

وفي هذا الصدد لا تُشبه الطاقة المال على الإطلاق. فالمال يمكن الاحتفاظ به جيدًا في فترات زمنية قصيرة. فإذا أردتِ الحصول على المال لغرض ما، عليك أخذه من مكان ما، أليس كذلك؟ فيمكنك سحبه من حساب بنكي، أو اقتراضه من شخص ما، أو ربما يمكنك حتى سرقته!»

صاحت أليس في سخط: «ما كانت لأفعل هذا.» لكن المحاسب واصل حديثه وتجاهَلَها.

«لا يهم من أين تحصلين عليه، فلا بد للمال أن يأتي من مكان ما. وإذا حصلتِ على المزيد منه، فإنه يقل عند شخص آخر. فهذا ما يحدث على المدى القصير على أي حال.»

«أما في الفترات الزمنية الطويلة فالوضع يكون مختلفًا، قد يحدث تضخم وتجدين المزيد والمزيد من المال من حولك. فيوجد الكثير من المال مع الجميع، لكن لا يبدو أنه يشتري القدر نفسه من الأشياء التي كان يشتريها في السابق. أما الطاقة فهي إلى حدٍّ ما عكس هذا كله. فهي تكون محفوظة على المدى الطويل؛ فتبقى كميتها الإجمالية كما هي، ولا يمكن حدوث أي شيء مثل التضخُّم الاقتصادي. وفي كل عام تحتاجين إلى القدر نفسه من الطاقة في المتوسط من أجل التحويل من حالة إلى حالة أخرى داخل الذرة. أما على المدى القصير فلا يُمكن الحفاظ على الطاقة جيدًا. ويستطيع الجُسيم التقاط الطاقة التي يحتاجها دون الحاجة إلى أن تأتيَ من أي مكان آخر؛ فهي تظهر فحسب في صورة تذبذبات كَميَّة. وتنتج هذه التذبذبات عن علاقة عدم اليقين؛ فكمية الطاقة التي تَمتلكينها غير مؤكَّدة، وكلما قصر وقت امتلاك هذه الطاقة، زاد عدم التأكد من كميتها.»

قالت أليس: «هذا يبدو مربكًا للغاية.»

ردَّ مرافقها بحسم: «لستِ في حاجة إلى أن تُخبريني! فأنا أعرف أنه كذلك، فكيف للمرء أن يعمل محاسبًا بينما تتغيَّر الأرقام التي يُحاول موازنتها طوال الوقت؟»

قالت أليس في تعاطف: «هذا يبدو رهيبًا. كيف تستطيع التعامل مع هذا؟»

واصل حديثه في جدية: «حسنًا، أحاول عادة أن أستغرق أطول وقت ممكن في إجراء الحسابات؛ فهذا يساعد قليلًا. فكما ترين كلما طالت الفترة الزمنية التي أقضيها، قلت التذبذبات الكَميَّة المتبقية. ولسوء الحظ ينفد صبر الناس ويأتون ليسألوني إن كنت أعتزم العمل إلى الأبد في موازنة الحسابات. فكما ترين هذه هي الطريقة الوحيدة لإنجاز هذا العمل.» ثم صاح في انتصار: «كلما استغرقت وقتًا أطول، قلت تذبذبات الطاقة، ولهذا إن استغرقت إلى الأبد في أداء الحسابات، فستختفي التذبذبات في الطاقة وستتوازن حساباتي تمامًا. إنما لسوء الحظ هم لا يتركونني بمفردي أبدًا. فالجميع على قدر كبير من عدم الصبر والقلق حتى إنهم لا يتوقَّفون عن التحول من حالة إلى أخرى طوال الوقت.»

يُمكن تحويل الطاقة من صورة إلى أخرى، لكن الطاقة الكلية للنظام تبقى ثابتة (ما دام لا يحدث انتقال للطاقة من محيطه أو إليه). يحدث هذا بالتأكيد في الميكانيكا الكلاسيكية. ويحدث أيضًا في النظم الكَميَّة على المدى الطويل، لكن على المدى القصير فقيمة الطاقة تتعرَّض لتذبذبات. وكلمة «تذبذبات» أفضل من كلمة «عدم اليقين»، نظرًا لوجود تبعات فيزيائية فعلية. ويتمثل أحد هذه التداعيات في اختراق الحاجز خلال انحلال ألفا للنوى؛ وسنتعرَّض لانحلال ألفا في الفصل الثامن، وقد تعرَّضنا بالفعل لاختراق الحاجز في الفصل الأول.

تذكرت أليس فقالت: «هذا شيء آخر أردتُ سؤالك عنه. ما كل هذه الحالات التي أسمع عنها باستمرار طوال الوقت؟ هل يُمكنك أن تشرحها لي من فضلك؟»

«في الحقيقة أنا لست أفضل شخص لأداء هذه المهمة؛ فهذا كله جزء من ميكانيكا الكَم، ولهذا عليكِ الذهاب إلى معهد الميكانيكا وسؤالهم هناك.»

قالت أليس: «هذا ما قيل لي من قبل. فإن كان هذا هو أفضل مكان أسأل فيه، هلا أخبرتني من فضلك كيف يمكنني الذهاب إلى هناك؟»

«أخشى أني لا أستطيع فعليًّا إخبارك بكيفية الذهاب إلى هناك. فهذه ليست الطريقة المتبَعة هنا. لكن يمكنني ترتيب الأمور لكِ بحيث يزيد احتمال وصولك إلى هناك.»

توجَّه إلى الحائط البعيد من حجرة مكتبه والذي كان مغطًّى بستارة مكسوة بالتراب. عندما أزاحها جانبًا بحركة عصبية مفاجئة، استطاعت أليس رؤية صفٍّ من الأبواب المتباعدة على طول الحائط. سألت أليس: «إلى أين يؤدِّي كلٌّ من هذه الأبواب؟ هل يؤدِّي أحدها إلى هذا المعهد الذي كنت تتحدَّث عنه؟»

«يمكن لكل واحد منها أن يأخذك إلى أي مكان تقريبًا، بما في ذلك، بالطبع، إلى المعهد. لكن الفكرة في أن جميعها من المحتمَل جدًّا أن يقودَك إلى باب المعهد.»

قالت أليس في تذمُّر، وقد تملَّكها الشعور المعتاد بالتشوش المتزايد: «أنا لا أفهم؛ ما الفارق بينها؟ فإن كان كل واحد منها من الممكن أن يأخذني إلى أيِّ مكان تقريبًا، فإن هذا بالضبط كأن تقول إن جميعها يمكن أن تأخذني إلى أي مكان تقريبًا.»

«لا، على الإطلاق، فهذا أمر مختلف كليًّا. فإن دخلتِ عبر أي باب منها، فالأكيد أنك على الأرجح ستذهبين إلى أي مكان تقريبًا، ولكن إن دخلتِ عبرها جميعًا في ذات الوقت فإن الاحتمال الأغلب أنك ستذهَبين إلى حيث تريدين، في ذروة نمط التداخل.»

صاحت أليس: «يا له من كلام غير منطقي! فمن غير المحتمَل أن أتمكَّن من الدخول عبر كل الأبواب في الوقت نفسه، فكما ترى لا يُمكن للمرء إلا الدخول عبر باب واحد في المرة الواحدة.»

«آه، ولكن هذا أمر مختلف! فبكل تأكيد، إذا رأيتكِ تمرِّين عبر أحد الأبواب، فأنت لن تمرِّي إلا عبر هذا الباب وليس عبر أي باب غيره، ولكن إذا لم أرَكِ، فمن الممكن تمامًا لكِ المرور عبر أي باب. وفي هذه الحالة سينطبق عليكِ القانون العام.»

لوَّح بيده وأشار إلى لافتة كبيرة بارزة، كانت مثبَّتة على الحائط أمام مكتبه، حيث لا يستطيع تجنُّب رؤيتها، مكتوب فيها:

ما ليس ممنوعًا، يكون إلزاميًّا!

«هذه واحدة من أكثر القواعد الأساسية الموجودة هنا، فإن كان من الممكن فعل العديد من الأشياء، فلا ينبغي للمرء فعل شيء واحد فقط منها، بل يجب عليه فعلها جميعًا. بهذه الطريقة يرفع هذا عنكِ عبء اتخاذ قرارات في كثير من الأحيان. والآن عليكِ أن تذهبي، فما عليكِ إلا المرور عبر جميع هذه الأبواب، وعندما تفعلين هذا، عليكِ الانطلاق في جميع الاتجاهات في وقتٍ واحد. سوف تَجدين أن الأمر بالغ السهولة وسرعان ما ستصلين إلى المكان الصحيح.»

قالت أليس في احتجاج: «هذا أمرٌ سخيف! فلا سبيل أبدًا لأن أتمكَّن من المرور عبر العديد من الأبواب في ذات اللحظة!»

«كيف يُمكنكِ أن تقولي هذا وأنت لم تُحاولي حتى الآن؟ ألم تفعلي قط شيئين معًا في الوقت نفسه؟»

أجابت أليس: «حسنًا، بالطبع قد فعلت. فقد كنت أشاهد التليفزيون وأنا أحلُّ واجبي المدرسي؛ لكن هذا ليس الشيء نفسه على الإطلاق. فأنا لم يسبق لي أن ذهبتُ في اتجاهين في وقت واحد.»

ردَّ عليها المحاسب بنوعٍ من السخط: «أقترح إذن أن تجرِّبي هذا. فأنتِ لن تعرفي أبدًا إن كان في إمكانك فعل شيء ما، حتى تجربيه. فهذا تمامًا هو نوع التفكير السلبي الذي يعوق دائمًا إحراز أي تقدُّم. فإذا أردتِ الذهاب إلى أي مكان فعليكِ بفعل كل ما في وسعك وعليكِ بفعل كل هذا في وقت واحد. فعليكِ ألا تقلقي بخصوص المكان الذي ستذهبين إليه، فالتداخل سيهتم بهذا!»

صاحت أليس: «ماذا تقصد؟ وما هو التداخل؟»

«لا يوجد وقتٌ للشرح؛ فالميكانيكا ستخبركِ بكل شيء عن هذا. والآن اذهبي وسيتكفَّلُون هم بالشرح لكِ عندما تصلين.»

فكرت أليس في نفسها: «هذا سيئ جدًّا! فكل شخص أتحدَّث معه يُحيلني إلى مكانٍ آخر ويعدُني بأني سأجد تفسيرًا بمجرد وصولي إلى هناك. أتمنى فقط أن يشرح لي شخصٌ ما الأمور كما ينبغي، مرةً واحدة ونهائيًّا! فمن المؤكَّد أني لا أعرف كيف يُمكنني الذهاب في العديد من الطرق في الوقت نفسه. فالأمر يبدو لي مستحيلًا تمامًا، لكنه بدا متأكدًا جدًّا من أنه يمكنني فعل هذا هنا؛ لذلك فالأحرى بي أن أحاول، على ما أعتقد.»

فتحت أليس بابًا ودخلت فيه.

مسارات أليس الكثيرة

دخلت أليس عبر الباب جهة اليسار ووجدَت نفسها في ميدانٍ صغير مرصوف بالحصى، وبه ثلاثة أزقة ضيقة تقود إلى خارجه. سارت في الزقاق جهة اليسار، وقبل أن تَبتعدَ كثيرًا وجدت نفسها على أطراف مساحة واسعة ممهَّدة، في منتصفها رأت مبنًى طويلًا معتمًا، بلا نوافذ في أدواره السُّفلى، وبدا منيعًا للغاية.

•••

دخلت أليس عبر الباب جهة اليسار، ووجدت نفسها في ميدان صغير مرصوف بالحصى، به ثلاثة أزقَّة ضيقة تقود إلى خارجه. فسارت في الزقاق جهة اليمين، وقبل أن تبتعد كثيرًا وصلت إلى حديقة، بها ممرات من الحصى مترعة بالأعشاب تمتد عبر أشجار متدلية موحشة. كانت الحديقة محاطة بدرابزين حديدي مرتفع والمشهد كله كان يغشاه ضباب بارد.

•••

دخلت أليس عبر الباب جهة اليسار، ووجدت نفسها في ميدان صغير مرصوف بالحصى به ثلاثة أزقَّة ضيِّقة تقود إلى خارجه. سارت في الممر الأوسط، وقبل أن تبتعد كثيرًا وصلت إلى ميدان آخر صغير أمام مبنًى يبدو باليًا.

•••

دخلت أليس عبر الباب جهة اليمين ووجدت نفسها في ممرِّ ضيق، يتفرَّع منه ممران آخران، سارت في الممرِّ جهة اليسار. وقبل أن تبتعد كثيرًا وجدت نفسها على أطراف مساحة واسعة ممهَّدة، في منتصفها رأت مبنًى طويلًا معتمًا، بلا نوافذ في أدواره السُّفلى، بدا مرعبًا للغاية، وانتابها شعور واضح بأنه يَنبغي عليها عدم الوجود في هذا المكان.

•••

دخلَت أليس عبر الباب جهة اليمين ووجدت نفسها في ممرٍّ ضيق، يتفرع منه ممران آخران. سارت في الممر جهة اليمين، وقبل أن تَبتعِد كثيرًا وصلت إلى حديقة، لها ممرَّات من الحصى مُترعة بالأعشاب تمتدُّ بين أشجار مُتدلية موحشة. كانت الحديقة محاطة بدرابزين حديدي مرتفع والمشهد كله كان يَغشاه ضباب بارد. انتابها شعور واضح بأنها يجب ألَّا توجد في هذا المكان.

•••

دخلت أليس عبر الباب جهة اليمين ووجدت نفسها في ممر ضيق، يتفرع منه ممران آخران، دخلت في الممر الأوسط، وقبل أن تَبتعِد كثيرًا وجدت نفسها في ميدان آخر صغير أمام مبنى يبدو باليًا. بدا لها بطريقةٍ ما أن هذا هو المكان الصحيح الذي عليها الوجود فيه.

•••

دخلت أليس عبر الباب الأوسط ووجدت نفسها أمام حائط، به ثلاث بوابات مقوَّسة، تؤدِّي إلى أزقَّة. سارت في الزقاق جهة اليسار، وقبل أن تبتعد كثيرًا وجدت نفسها على أطراف مساحة واسعة ممهدة، في منتصفها رأت مبنًى طويلًا معتمًا، بلا نوافذ في أدواره السفلى، وبدا مرعبًا للغاية. انتابها الآن شعور قوي بأنه يَنبغي عليها عدم الوجود في هذا المكان.

•••

دخلَت أليس عبر الباب الأوسط ووجدت نفسها في مواجهة حائط، به ثلاث بوابات مقوَّسة، تؤدي إلى أزقَّة. لم تدخل في الزقاق الأيمن على الإطلاق؛ إذ بدا لها الدخول في هذا الطريق خطأً تمامًا.

•••

دخلت أليس عبر الباب الأوسط ووجدت نفسها في مواجهة حائط، به ثلاث بوابات مقوَّسة، تؤدِّي إلى أزقَّة. سارت عبر البوابة المؤدِّية إلى الزقاق الأوسط، وقبل أن تَبتعد كثيرًا وصلت إلى ميدان آخر صغير أمام مبنًى يبدو باليًا. باتت متأكِّدة الآن أن هذا هو المكان الصحيح الذي عليها الوجود فيه.

•••

أمعنت أليس النظر أكثر في المبنى، فاستطاعت أن تقرأ على لوحةٍ باهتةٍ عند الباب «معهد الميكانيكا». فهذا هو المكان الذي أرادت الوصول إليه بالفعل!

الجسيمات التي يُحتمَل أن تتخذ مساراتٍ مختلفة تظهر في صورة تراكب (مجموع) من السعات الكَميَّة. فكل مسار محتمل يمثل سعة كَميَّة، أو اختيارًا، لسلوك الجسيم، وتوجد السعات جميعها معًا. قد يحدث تداخلٌ بين السعات المختلفة، فتندمج معًا، مما يُؤدِّي إلى تراكُبها في بعض المناطق كي تزيد من احتمال العثور على الجسيمات في هذا المكان. أما في أماكن أخرى فقد تلغي بعضها مما يُقلِّل من احتمال العثور على أي جسيمات. وسنُناقش كلًّا من السعات والتداخُل في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤