مقدمة المترجم

«تتمثل المحصلة النهائية، ونحن أسرى الكلمة وغياب الفعل، بالخضوع لمركز القوة في الحياة أو في ما وراء الطبيعة، أعني أنه في حالة الإخفاق والعجز يجري تغييب الإرادة، إرادة الفعل والفكر الجديدين لحساب إرادة الآخر، وليس التصدي والتحدي انتزاع عوامل القوة.»

المترجم

العقل ليس مجرد تراكم كمي للمعارف، وليس كذلك نموًّا ذاتيًّا، وليس قسمة عادلة بين البشر، وليس ثمة عقل كامل مكتفٍ بذاته إلا في تخييلات المرضى. وليس العقل خزانة معلومات، وإنما العقل منتِج ومنسِّق شبكي للفعل والتفاعل الاجتماعي في إطار إيكولوجي؛ أي إطار جامع للإنسان/المجتمع والبيئة في وحدة تكاملية. العقل انفتاح من خلال التفاعل الجدلي بين الفكر والفعل للذات وللآخر معًا، وأداة صراع مع ذاته ومع الآخر في آنٍ … إنه عملية ديناميكية متطورة في تجدُّد مطرد.

ونحن كثيرًا ما نتحدث عن العقل العربي أو الإسلامي وكأنه بنية كاملة مطلقة الصدق منذ لحظة في الزمان وموقع في المكان، ومقطوع الصلة بالسابق واللاحق، وهكذا نسقط الماضي السابق، ونصادر الحاضر والمستقبل، بل نجعل الجميع أسرى عقل ماضوي انتقائي، وهكذا ألفنا على مدى القرون تقليدًا يتمثل في وضع رءوسنا على وسادة اليقين الموروث المطلق زمانًا ومكانًا، وغاب الفعل الاجتماعي مما أفضى إلى جمود الفكر؛ ومن ثَم غابت عن الوعي دينامية الحياة النابعة من جدل الفكر والفعل، ولم نعرف الشك، بل وصمناه رذيلة، وأسقطنا فضيلة الإبداع والتجديد، ورأينا النقد الذاتي عدوانًا وانتقاصًا لنرجسية وهمية، وانصرفنا عن التفاعل مع الآخر، بل أنكرناه لحساب الجمود، هذا بينما الشك والنقد العقلاني والتفاعل النِّدِّي في تحدٍّ مع الآخر؛ هي جميعًا منطلق الحركة والعقلانية والتطور، ومن ثَم الحفاظ على الهوية التي هي الفعل الاجتماعي في تجدُّده.

وليس غريبًا في هذا السياق أن تترسخ النرجسية الذاتية بوجهيها النقيضين: عبادة الذات، والعدوانية على الآخر، هذا أو اتهام الآخر بالعدوانية، وتتمثل المحصلة النهائية، ونحن أسرى الكلمة وغياب الفعل، بالخضوع لمركز القوة في الحياة أو فيما وراء الطبيعة؛ أعني أنه في حالة الإخفاق والعجز يجري تغييب الإرادة، إرادة الفعل والفكر الجديدين لحساب إرادة الآخر، وليس التصدي والتحدي وانتزاع عوامل القوة.

ويمثل هذا الكتاب أهمية بالغة لنقد العقل الإنساني بعامة في انحيازاته وتطلعاته أو في تقاعسه، إنه شهادة إنسانية، إنه هنا يحدثنا عن تطور العقل الأوروبي وتفاعله وانحيازاته وعمليات التزييف، ودوره، إيجابًا وسلبًا، مع الشرق والغرب معًا.

ولكن ما هو أهم هو منهج العقل في تفاعله مع الذات ومع الآخر، أي التزامه نهجًا نقديًّا إزاء فكر الذات وفكر الآخر لكي يكون الحصاد دِعامة تطوير للفكر وللفعل الغربيين سعيًا للريادة والسبق في مجالات الإنجازات العلمية والتكنولوجية والفكرية بعامة.

وهذا هو الدرس المستفاد، وحريٌّ أن نطالعه بعقل نقدي أيضًا لنراجع من خلاله ذواتنا ومنهجنا في الفكر والفعل إن وُجدا … ذلك لأن الفريضة الغائبة في حياتنا يجسدها غياب العقل النقدي، وغياب قراءة الآخر مرآة عاكسة لحالة الذات واستكشاف عوامل القوة والضعف والتحدِّي.

نحن نرى رصيدنا الثقافي وِسادة نركن إليها، وكأنه جمَع فأوعى الماضي والحاضر والمستقبل، ولهذا نعاني الصدمة تلو الصدمة مع كل جديد مستحدث يحقق للآخر تقدمًا وتفوقًا، ويَزيد هوة التخلف التي تفصل بيننا وبينه، ونكتفي بالسؤال: لماذا تقدموا وتخلفنا؟ … ونعيش الصدمة في صورة أزمة لا تتجاوز حدود العقل النقدي الذي نفتقده، ولا تنفذ إلى نطاق الوعي والتحليل وإدراك الأسباب، سبيلًا إلى فعل التغيير الاجتماعي، ولهذا غاب الشك والنقد العقلاني من حياتنا العامة والفكرية لأننا أسرى اليقين المطلق، هذا بينما الشك في رصيدنا الثقافي والمعرفي هو الحافز إلى الحركة والتغيير والبحث والتدبر العقلي لمستقبل يتمايز مع الحاضر والماضي.

يؤكد الكتاب ما ذهب إليه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق»، أن الغرب استهدف الشرق لاحتلاله واستغلاله في أنانية، فلم تكن رسالته حضارية إنسانية تجاه الشرق، ولكنه يؤكد كذلك أن الغرب في سعيه لتحقيق هدفه الاستعماري سار عبر دروب متناقضة تتراوح ما بين الوقوع أسير سحر الشرق وفتنته، وما بين ازدراء الشرق في عاداته ومعتقداته وأعرافه، ولكنه بين النقيضين استوعب ووعى نقديًّا كل تراثات الشرق، وأسهم وعمل على استكشاف تاريخ الشرق الفكري والعقائدي ليُحكم قبضته عليه، وأفاد أيضًا من ذلك فطوَّر فكره، حتى وإن أنكر بعض الغربيين ذلك.

وواقع الحال أن الانحياز الغربي ضد الشرق إنما جاء أيضًا بسبب غيبة الشرق وغياب فعاليته، وهذا ما جرى تصحيحه بعد ذلك خلال مرحلة ما بعد الاستعمار حين شرع مفكرون غربيون يراجعون أطرهم الفكرية إزاء صحوة الشرق، ويؤكدون دور الشرق في تنوير الغرب، وكذلك حين شرعت بعض بلدان الشرق (جنوب وشرق آسيا) بعد الاستقلال في أن تعيد كتابة تاريخها تصحيحًا وإيقاظًا للوعي الذاتي والاجتماعي، وتهيئ العدة للنهضة. وتأَتَّى هذا بفضل حضورها المؤثر في العالم ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا. هذا بينما تقاعست بُلدان أخرى من بينها البُلدان العربية.

ونحن نقدِّم هذا الكتاب في صورة دعوة للإنسان العربي لكي يتطلع في تسامح وانفتاح إلى إنجازات وتراثات الآخرين: من عقائد، وفكر فلسفي، وعلوم وتطورات تكنولوجية، ومنهج في التفاعل النقدي مع الذات والآخرين. إنه دعوة لكي ينهل العربي من كل هذه الإنجازات وهذا التراث بعقل ناقد يحفزه على الفهم والتفكير المتجدد وعلى الفعل لتطوير الذات، وعلى التطلع أيضًا بعقل ناقد إلى ذاته، إلى رصيده ومتاعه الفكري والثقافي، وإلى دوره في إطار الفعالية الإنتاجية والتحدي والمنافسة حضاريًّا؛ هذا بدلًا من القناعة الطفولية بالموروث من دون فهم علمي نقدي، وبدلًا من القناعة بالوقوف على رصيف الحياة يرى الآخرين يجِدُّون ويكِدُّون، ويتواكل عليهم … يعيشون حياة الإبداع والإنجاز بينما يعيش العربي حياة الإشباع الغريزي والاستهلاك المظهري. وبدلًا من أن يرى الآخر موضوعًا للتحول العقيدي يدرك أنه موضوع للحوار والتخصيب الفكري والثقافي، وأن ندرك جميعًا أن الحضارة حضارة إنسانية واحدة متنوعة التجليات بفضل تنوع الاستجابات، وأنها ثمرة انفتاح وتفاعل حر، وإن شابتها تحيزات مآلها إلى زوال. هذا من دون أن نغفل مبدأ حاكمًا هو أن صراع المصالح قانون الوجود.

شوقي جلال
القاهرة، ٢٠٠٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤