الفصل الخامس

الولع بالبوذية: القرن التاسع عشر

«إن بوذا عند النظر إليه، باعتباره مثالًا للفضيلة الأخلاقية، نراه حظي بالإجلال والتقدير على نطاق واسع حتى عند من رفضوا تعاليمه، وأبرز فضائله الدماثة والتراحم. لكن من ناحية أخرى صادفت تعاليمه الرفض باعتبارها إلحادية بل ومنحلة تُفضي إلى ممارسات فاسدة وخرافية.»

المؤلف

الرومانسية تكمل طريقها

شهد القرن التاسع عشر نموًّا كبيرًا للدراسات الخاصة بالأديان والأفكار الفلسفية الشرقية. ولم يقتصر هذا على المستوى البحثي الأكاديمي، بل زاد واتسع بين جماهير المتعلمين بعامة. ويتعين أن نتذكر فيما يتعلق بالنتيجة التي يغلب عليها الطابع الأكاديمي في هذا الطيف الواسع أن هذا العصر كان ذروة عصر التخصص الذي تم فيه تحديد معالم الكثير من المباحث العلمية والأقسام الأكاديمية المألوفة لنا الآن، ولم يكن الاستشراق استثناء من هذا. ومن ثم فإن أعمال رواد من أمثال أنكيتيل دوبيرون وجونز وكوليبروك إنما تمثل فقط البداية الأولى للحملة الأوروبية الكبرى التي استهدفت اقتحام لغات وتراثات وآداب الشرق. ومضت هذه الحملة جنبًا إلى جنب مع التوسع الإمبريالي السريع الذي شهده هذا العصر. وطبيعي أن فتح الطريق إلى الشرق عن طريق الاستعمار وفرض مجالات التأثير والنفوذ لم ييسر فقط مهمة التوسع التجاري الأوروبي والسلطة السياسية الأوروبية، بل هيأ أيضًا للباحثين الأوروبيين الفرصة للبحث بسهولة متزايدة باطراد عن التراث الثقافي والفكري للشرق. وأفضى هذا خلال النصف الأول من القرن إلى ظهور عدد من الجمعيات والصحف المعنية بالدراسات الاستشراقية، وكذا كراسي أستاذية جامعية لهذه الدراسات في كل من أوروبا وأمريكا. وصادف هذا الدافع دعمًا ومساندة خلال النصف الثاني من القرن الذي شهد نشر الأعمال الإبداعية المؤسِّسة من مثل: مؤلفات بول ديوسن «مذهب الفيدانتا» (١٨٨٣م) وريتشارد غارب «فلسفة الهند القديمة» (١٨٩٧م)، وفريدريتش ماكس موللر «المذاهب الستة للفلسفة الهندية» (١٨٩٩م). وشهد كذلك بدايات مهمة ضخمة لترجمة وتحرير المتون الدينية الكلاسيكية لجنوب وشرق آسيا.

ولم ينحصر اهتمام المفكرين في إطار الاستشراقيين المتخصصين. إذ ها هو أعظم مؤرخي فرنسا في القرن التاسع عشر، جول ميشليه، يكتب في عام ١٨٦٤م عن «الرامايانا» Ramayana،١ داعيًا في حماس:

إلى كل من قضى وطرًا وبلغ الغاية فيما فعل أو أراد، عليه أن ينهل من هذه الكأس الثَّرَّة جُرعةً رَوِيَّةً هي الحياة والشباب … كل شيء ضيق محدود في الغرب، الإغريق بلد صغير أشعر فيه بالاختناق، واليهودية قفر جدباء ألهث فيها، دعوني أرنو بنظري قليلًا إلى آسيا ذات المكانة الرفيعة، إلى الشرق ذي العمق البعيد.

واستطرد ليزعم أن وضعية كُونْت هي تحديدًا «البوذية بعد ملاءمتها بالحضارة الحديثة. إنها بوذية فلسفية وراء قناع شفاف» (الاقتباس من رادها كريشنان، ١٩٣٩م، ٢٤٩). وخلال هذه الفترة نفسها مضى الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي إدغار كوينيت إلى أبعد من ذلك زاعمًا أن المستشرقين اكتشفوا عصرًا قديمًا أكثر عمقًا وأغنى فلسفة وأرق شعرًا من عالم الإغريق وروما. ومن أشهر هؤلاء المعروفين لنا اليوم فيكتور هوغو الذي أحس في قرارة نفسه هو وكثيرون من الرومانسيين الفرنسيين من أمثال لامينيه، ودو ميستر، ولامارتين، احترامًا عميقًا لديانات الهند القديمة. وحري أن نتأمل أعماله من مثل «الشرقيون» الصادر عام ١٨٢٩م، نجده متأثرًا فيه من نواحٍ كثيرة بصور وأفكار وافدة من الشرق وتمثل صرعة أيامه. وما فتئ فلاسفة كثيرون في ألمانيا، حتى بعد أن فتر الحماس الرومانسي، يفسحون مجالًا في تفكيرهم لميتافيزيقا الهند. مثال ذلك إدوارد فون هارتمان وكتابه المثير الذي كان له أثر واسع النطاق «فلسفة اللاشعور» (١٨٦٩م)، إذ إنه كتب وهو مأخوذ بفكر شوبنهاور، ولذلك خصص فصولًا للهندوسية والبوذية في فلسفته عن الدين أسوة بالحديث عن عقيدة التوحيد اليهودية-المسيحية، واستبق فرضية مستقبلية بين المسيحية والديانات الهندية. ونجد في إنجلترا العالم توماس هكسلي وقد أبدى اهتمامًا شديدًا بالأفكار الجديدة الواردة من الشرق. وها هو في «المحاضرات الرومانية» عام ١٨٩٣م يُبرز الطابع العرفاني (الغنوصي) للبوذية وصاغه في صورة تستهوي معاصريه. وكذلك الحال في روسيا إذ بلغ حماس المستشرقين أوجَه، شأن ما حدث في أوروبا الغربية. وأثر في ليو تولستوي (١٨٢٨–١٩١٠م) الذي التمس السلوى والراحة في تعاليم بوذا وقت أن اشتدت عليه أزمة رُوحية. وهكذا وجد التراحم الكوني واللاعنف اللذان تدعو إليهما العقيدة البوذية مكانًا مهمًّا وواضحًا في فكر وكتابات تولستوي. ويعلق شواب على هذا قائلًا: إنه «دون شك يظل أكثر الأسئلة وضوحًا وإثارة بين كثيرين من عظام الرجال الذين التمسوا شفاء رُوح الغرب في الهند» (١٩٨٤م، ٤٥١).٢
ولكن بعض الأصوات ذات النفوذ تحدثت في اتجاه معارض. وبدأ الحماس الباكر للهند والهندوسية يذوي قليلًا بعد نهاية الفترة الرومانسية. ولنا أن نعزو هذا التحول في المواقف إلى عدد من العوامل. نذكر منها انحسار الحماس الميتافيزيقي/الرومانسي بكل صوره، والصعود المعاكس للفلسفات الوصفية والمادية. هذا علاوة على التصاعد المتنامي لفكرة التقدم. ويعكس هذا من دون ريب التزايد المطرد لسطوة أوروبا السياسية والتجارية على الشرق. ولا غرابة في أن يتجلى واضحًا في بريطانيا انحسار الاهتمام بالفلسفة الهندية وتزايد المشاعر المناهضة للهند، وقد أصبحت بريطانيا القوة الاستعمارية المهيمنة في جنوب آسيا خلال تلك الفترة. وتواترت النغمة السلبية في مطلع القرن على لسان جيمس ميل في كتابه «تاريخ الهند البريطانية» (١٨١٧م). وعرض هذا العمل رؤية نقدية شديدة للدين وللثقافة في الهند، زاعمًا وجود «اتفاق عام فيما يختص بسُخْف ووضاعة وحماقة الطقوس والمراسم التي لا نهاية لها التي تؤلف الجانب العملي للدين الهندوسي» (١٨٥٨م، ١، ٢٧٤-٢٧٥). والمعروف أنه لم يزر الهند على الإطلاق ولا يمكن اعتباره باحثًا في الشئون الهندية بأي حال من الأحوال. ولكن ميل باعتباره موظفًا لدى شركة الهند الشرقية مارس نفوذًا طاغيًا على مواقف الطبقة الجديدة من رجال الإدارة الاستعمارية. وأعيد طبع كتابه «تاريخ الهند البريطانية» مرات بكل ما تضمنه من فروض فلسفية نفعية. وأسهم هذا الكتاب في تحويل الرأي العام البريطاني بعيدًا عن الميول ذات الطابع المثالي للمستشرقين الأول من أمثال وليام جونز. ومهد الطريق كذلك لمواقف عنصرية تجاه الهند التي شاعت بعد ذلك خلال النصف الثاني من القرن.٣ وردد عدد من الكتاب خلال هذه الفترة آراء ميل، نذكر من بينهم المؤرخ توماس ماكولاي، الذي أشار إلى أن الهنود «سلالة أحط شأنًا لولا القانون.» وهذه عبارة تلخص رأي كثيرين. وكتب في عام ١٨٨٥م عن «الخرافات الوحشية التي تسود الهند». وأدان عن جهل، ومن دون أسانيد، متون السنسكريتية القديمة، واصفًا إياها بأنها «أقل قيمة من أي شيء نجده في أتفه الملخصات المستخدمة في المدارس الإعدادية في إنجلترا» (من يونغ، ١٩٥٢م، ٧٢٢ و٧٢٨).
وثمة صوت آخر له نفوذه وتأثيره ألا وهو جون ستيورات ميل. إنه وهو الأكثر استنارة من أبيه في موقفه من الهند، رفض في كتابه «عن الحرية» أي رأي عن وجود فوارق عنصرية بين الآسيويين والأوروبيين، ولكنه مع هذا أسهم في تأكيد النظرة الشائعة التي تفيد أن الشرق متخلف تاريخيًّا وتُعْوزه دينامية الغرب (انظر ميل، ١٩٧٧م، ٢٧٢ و٢٧٣). وجدير بالذكر أن هذا الرأي سبق أن حظي بتقدير فكري من جانب المؤرخ الألماني واسع النفوذ ليوبولد فون رانكه الذي أشار إلى حضارات الشرق باعتبار أنها «أمم أصابها الجمود الأبدي.» ووجدت سبيلها بعد ذلك إلى تأملات كارل ماركس الذي ردد فكر هيغل عن الشرق، ووصف شعوب آسيا بأنها شعوب تفتقر في داخلها إلى إمكان تحقيق أي تقدم جديد، وأنها نزاعة إلى الاستبداد. ودفع بأن هذا الضرب من نظام الحكم يمثل المؤسسة السياسية العادية والمميزة للشرق. ولهذا قال ماركس مقولته الشهيرة: «النموذج الآسيوي للإنتاج.» وذهب ماركس إلى أن القسَمات المميزة لنموذج الإنتاج هذا تتمثل في غياب المِلكية الخاصة، وانتفاء الصراع الطبقي، والحاجة إلى إنجاز مشروعات عامة ضخمة من مثل قنوات الري. وأضاف أن هذه العوامل تؤدي بدورها إلى ظهور نموذج مركزي صارم للحكم يمثل حصنًا حصينًا ضد أي تغيير أو تحديث. وعبر تنيسون بإيجاز عن كل هذا النهج في التفكير في عبارته المشهورة «خمسون عامًا في أوروبا أفضل من دورة زمانية في الصين.»٤
ويا لها من مفارقة أن السطوة الكوكبية التي تحققت لأوروبا خلال هذه الفترة لم تؤد فقط إلى تشجيع المواقف العنصرية والعطف في استعلاء تجاه الهند، وهي مواقف بدت واضحة على جميع المستويات الاجتماعية، بل أيضًا زيادة واسعة في شعبية وتبجيل الأفكار الشرقية. وإن كان نفاذ الأفكار الشرقية إلى الوعي الأوروبي في الفترات الباكرة انحصر أساسًا داخل قطاع صغير من الناس، فإن التطورات السياسية في القرن التاسع عشر مقترنة بالنمو السريع في القدرة على القراءة والتعلم بوجه عام أدت إلى ما يمكن وصفه بانتعاش حالة الهوس بالشرق. ويتجلى هذا واضحًا منذ فترة باكرة من القرن التاسع عشر في الصفحات المنشورة بالصحف ولها قراؤها على نطاق واسع من مثل صحيفة «إدنبرة رفيو» و«نورث أمريكان رفيو» التي دأبت على تقديم معالجة مستفيضة لأحدث الأفكار الواردة من الشرق. كذلك فإن من أبرز سمات هذا الانتعاش ظهور سلسلة من الكتابات لمؤلفين من أمثال: إيوجين بورنوف وبارتيليمي سانت هلير، وروبرت سبينس هاردي، وفريدريتش ماكس موللر، وهيرمان أولدنبرغ، وإدوين أرنولد، وتي دبليو ريس دافيدس. وتوالى ظهور مجموعات متزايدة باطراد من الأعمال عن موضوعات شرقية ليست مخصصة فقط للباحثين، بل أيضًا لطبقة بازغة جديدة من القراء المتعطشين لمعرفة شيء عن ديانات وثقافات وتاريخ الشرق. وخير ما يمثل هذه الأعمال «السلسلة الشرقية» التي صدرت في لندن مع نهاية القرن، وكذلك النقد الذي نشرته صحيفة «ذي تايمز» لهذه السلسلة: «إن المعارف العامة المتعلقة على الأقل بأدب وفلسفة وديانة الشرق تمثل ضرورة بالنسبة إلى القارئ العام اليوم، شأن الإحاطة بالكلاسيكيات اللاتينية والإغريقية منذ جيل سابق أو حوالي ذلك» (الاقتباس من إعلان في إدكينز Edkins 1893). وشهدت أمريكا أيضًا محادثات تتصف بالحيوية عن البوذية … والتي أصبحت اختيارًا مهمًّا لمن تحرر من الوهم الرُّوحي (نويد، ١٩٩٢م، ٧٧). وبدا هذا الاتجاه واضحًا في سلسلة الكتب الشعبية «هارفارد أورينتال سيريز» أو «سلسلة هارفارد الشرقية». وجدير بالذكر أن كثيرين استقَوا معارفهم عن البوذية من الكتابات المرتبطة بأنشطة البعثات التبشيرية البروتستانتية التي جددت نشاطها حديثًا. وإن من دواعي السخرية، وما أكثرها، في هذه القصة جميعها أن الأعمال المنشورة من مثل كتاب «موجز البوذية» تأليف القس سبينس هاردي استهدفت مساعدة هذه البعثات على فهم البوذية، وإذا به يفيد كثيرًا في رواج ذات الدين الذي يسعون إلى إبداله.

البوذية: «الاكتشاف» الجديد

تمثل البوذية في حد ذاتها فصلًا جديدًا من فصول قصة الاستشراق. ولقد أخذت البوذية كحقيقة أشكالًا وصورًا عديدة متباينة من خلال ما كتبه المفكرون عنها في تعريفهم لها منذ القرن السابع عشر على الرغم من أنهم كثيرًا ما خلطوا بينها وبين الهندوسية أو رأوها مجرد طائفة فسقت عن الهندوسية. وعرَفت بعثات الجيزويت التبشيرية طرفًا منها في صورتيها الصينية واليابانية، ولكنهم جهلوا أساسًا تعاليمها وتعاملوا معها لزمن طويل هي والطاويَّة على أساس أنها أفضل قليلًا من الخرافة الشعبية. وها هو بيير بايل يعرِّف تعاليم بوذا بأنها صورة متطرفة لنزعتي السكينة والعدمية، ويشبهها بفلسفة سبينوزا. وكتب هيغل عن البوذية معتقدًا أنها الديانة الأوسع انتشارًا في المعمورة. وقبل ذلك بسبعة قرون أشار ماركو بولو إلى بوذا وأزجى إليه مديحًا كثيرًا واصفًا إياه بأنه على قدم المساواة مع أي قديس مسيحي. ولكن كم كان نادرًا قبل القرن التاسع عشر فهم الخصائص المميزة والنطاق الجغرافي للبوذية، وتوارى الاهتمام بها وراء انشغال الغرب بالكونفوشية والهندوسية.

ولكن قصة الانتشار الواسع الفجائي للبوذية في الثقافة الأوروبية يجب أن تبدأ مع بريان هودجسون الذي كان موظفًا في شركة الهند الشرقية في نيبال واستحوذ على ٤٠٠ مخطوطة بوذية كانت مجهولة حتى ذلك التاريخ ومكتوبة باللغتين السَّنسِكريتية والتِّبِتية، وأرسلها عام ١٨٣٧م إلى كلٍّ من كَلْكُتا ولندن وباريس. وكان أحد المستفيدين من هذه الهبة السخية الباحث الفرنسي إيوجين بورنوف (١٨٠١–١٨٥٢م) الذي أشرف على ترجمتها إلى الفرنسية. ويشتمل عمله في هذا المجال على كتابه «مدخل إلى تاريخ البوذية الهندية» (١٨٤٤م) … وأحدثت كتبه تأثيرًا مهولًا عل الرغم من بعض تصوراته السلبية عن البوذية التي وصف تعاليمها بأنها «ساذجة». ويُعتبر بورنوف أول من ميز بوضوح بين فرعي البوذية الشمالي والجنوبي، وأكد على أن هذا الفرع الأخير هو الصيغة «الأقدم» و«الأنقى» لتعاليم بوذا. وأدى رأيه هذا إلى أن احتل تراث ثيرافادا٥ الجنوبي مكانًا بارزًا في العقل الأوروبي في القرن التاسع عشر. هذا بينما ظلت مدارس ماهايانا الجنوبية مجهولة إلى حد كبير حتى القرن التالي. وشهدت سنوات منتصف القرن تَضاعُف الأعمال التي تعرض وتشرح وتجادل بشأن الأفكار البوذية. وكتبها مؤلفوها بلغة سهلة ملائمة لجمهور المتعلمين العاديين. ونذكر أن كتاب سبينس هاردي «موجز البوذية» الصادر عام ١٨٥٣م كان مقروءًا على نطاق واسع في كل من إنجلترا وقارة أوروبا. وشاع بالقدر نفسه، على الرغم من لهجته النقدية الحادة، كتاب جول بارتيليمي سانت هلير «بوذا وديانته» (صدرت الطبعة الأولى عام ١٨٥٨م). تحدث في كتابه عن وهَن البوذية الأبدي عارضًا أن ما نفترضه فيها من نظرة جمالية وعدمية أمر يبعث على الأسى. ومع هذا، انتهى إلى أن ديانة بوذا ليست خِلوًا من قدر من العظمة، وقال: «باستثناء المسيح من دون سواه لن نجد بين مؤسسي الديانات شخصية أنقى وأوقع تأثيرًا في النفس من شخصية بوذا» (١٨٩٥م، ١٤). وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر توسعًا مطردًا للدراسات والبحوث عن البوذية، مما يسر للغرب بعالميه القديم والجديد ثروة غنية متنوعة من النصوص المأخوذة عن تراث ثيرافادا. ويعكس المشروع على نطاق واسعٍ المدى الواسعَ لإرث المخطوطات المأخوذ عن المدارس البوذية الجنوبية. وتركز المشروع على نصوص مكتوبة بلغة بالي٦ القديمة. ورأى الباحثون أن هذه النصوص أيضًا تمثل السجل الأقدم والمرجع الأكثر مصداقية عن تعاليم بوذا. وفي عام ١٨٨١م أسس المستشرق تي دبليو ريس، من ويلز (١٨٤٣–١٩٢٢م) بالاشتراك مع زوجته كارولين ريس جمعية متون بالي التي نهضت بمشروع ترجمة هذه المخطوطات. وبلغ مجموع ما نشرته هذه الجمعية حتى تاريخ وفاته أربعة وتسعين مجلدًا في ٢٦ ألف صفحة. ولا تزال هذه الجمعية تعمل حتى اليوم. وعلاوة على أعمال ريس دافيدس كمترجم، فإنه ألف سيرة شعبية عن البوذية بعنوان «البوذية: تاريخها وآدابها»، وأعيد طبعها مرات كثيرة. وأشار في المقدمة إلى إيمانه بأن البوذية نظرة معقولة، بل وعلمية، إلى الدين، وهي نظرة، كما سوف نرى، لها تشعبات فكرية مهمة. وأبدى اقتناعًا تامًّا بأن دراسة البوذية سوف تساعد على قهر الانحياز الأوروبي فيما يتعلق بادعاء أن الفكر والثقافة الغربية لهما أصول إغريقية فقط. وسعى إلى تشجيع الدراسات الشرقية عن طريق بيان أن «ثمة حقيقة تاريخية وهي أن العصور الكبرى في مجال التقدم الفكري هي تحديدًا تلك التي تشهد منظومتين للفكر مختلفتين، بل وربما متطاحنتين، تختمران وتثوران في العقول نفسها» (١٨٩٦م، ٢٢١).٧
وثمة مشروع آخر عظيم للترجمة والنشر اضطلع به فريدريتش ماكس موللر (١٨٢٣–١٩٠٠م)، ولعله يمثل أعظم مرجع في عصره في مجال كل من الدراسات الهندية والدراسات البوذية. درس موللر السنسكريتية في جامعة ليبزيغ، وباشر الدراسات البوذية تحت إشراف بورنوف في باريس. وتولى في عام ١٨٥٤م منصب أستاذ الديانات الشرقية في جامعة أكسفورد حيث بقي إلى أن وافته المنية. واستحثته بقوة نظرة توفيقية ذات طابع كلي شمولي، علاوة على الالتزام بعمل دراسة مقارنة بين الأديان. ومن ثم نجد أن تأثيره على رواج الوعي الأوروبي بالبوذية وبالديانات الهندية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين كان عظيمًا على نحو يتعذر تقديره. ولا ريب في أن أهم وآخر تراث له هو كتاب «كتب الشرق المقدسة»، الذي بدأ العمل به تحت إشرافه كمحرر عام ١٨٧٤م. وأسهم هذا الكتاب في تعريف القراء في الغرب بالأفكار الشرقية وشيوعها على نطاق واسع. ونستطيع أن نذكر هنا أسماء كثيرين آخرين، ومشروعات أخرى كثيرة. مثال ذلك أعمال المستشرقين الألمان المختصين في الدراسات الهندية: بول ديوسن، وهيرمان أولدنبرغ وترجمة نيومان الشعبية لبعض المتون البوذية إلى الألمانية، وإصدار «المكتبة الشرقية» في باريس عام ١٨٧٠م، وكذا قاموس اللغة السنسكريتية وترجمات لمتون بوذية من مذهب الماهايانا. وصدرت هذه الأعمال على أيدي باحثين في أكاديمية سان بطرسبرغ، وساعدت جميعها على تأسيس مجال خصب جديد للدراسة.٨

شوبنهاور … فاغنر … نيتشه

كان آرثر شوبنهاور من القراء المتحمسين لكتابات بورنوف وسبينس هاردي. بدت المراجع عن البوذية نادرة في كتاباته الأولى التي كانت، كما رأينا في الفصل السابق، غارقة في وهج التعاليم الهندوسية. ولكن مع مرور الوقت وإصدار الطبعة الثانية من كتاب «العالم إرادة وتصور» عام ١٨٤٤م، كانت الدراسات البوذية قد بدأت تزدهر وتَرُوج في أوروبا، ولهذا طالعنا الكثير من المراجع التي أشار إليها، كما طالعنا مناقشات للأفكار البوذية في التذييل الموضوعي الذي ألحقه بهذه الطبعة الجديدة. وشعر أنه «ملزم بالتسليم برفعة مكانة البوذية قياسًا إلى الباقين» (١٩٦٩م، ٢، ١٦٩)، ونراه يفيد بها صراحة كنقد راديكالي للمسيحية واليهودية على نحو حاكاه الكثيرون بعد ذلك خلال القرن. وأكد أن تعاليم بوذا عن النيرفانا تعادل نظرته التي يذهب فيها إلى أن جهود ومكابدة البشر جميعًا هي في التحليل النهائي خواء وهراء لا قيمة له، وأن الهدف الوحيد الذي يمكن أن نعول عليه على الرغم من أنه محدود ومتناه هو التحرر من القوى العمياء للإرادة. ورأى فيها إقرارًا واضحًا بأن كل مظاهر السعادة الأرضية هي باطل الأباطيل، ولذا تضمنت ازدراء لها ودعت إلى الانصراف عنها طلبًا لوجودٍ آخَرَ مغايرٍ تمامًا، بل هو على الضد. واعتقد أن هذا يمثل الرُّوح الحقيقية للمسيحية في تعارضها مع الرُّوح التفاؤلية السائدة في اليهودية والإسلام (١٩٦٩م، ٢، ٤٤٤). ولكن بينما تلتمس المسيحية الخلاص عن طريق مخلِّص إلهي، فإن البوذية التمست الخلاص عن طريق إنكار الإرادة. وذهب إلى أن هذه النظرة تتفق تحديدًا مع نظرته هو. وأثبتت هذه النظرة، كما سوف نرى فيما بعد، أنها تستهوي كثيرين آخرين خلال هذه الفترة ممن فقدت معهم رسالة المسيحية جاذبيتها.

بَيْد أننا نجد أنفسنا ثانية بحاجة إلى لفت الأنظار إلى تساؤلات مهمة تتعلق بمساهمة شوبنهاور في الاستشراق. تميزت فلسفته برمتها بخاصية «التشاؤم» بل و«العدمية»، ويمكن اعتبارها أكمل تعبيرًا عن المعاناة الدنيوية weltschemrz الرومانسية. لقد تصور العالم تدفعه في النهاية إرادة عمياء مجهولة الشخصية، وتمثل الأساس الميتافيزيقي لعالمٍ كلُّ ظواهره هي التجليات الخارجية المشاهدة، وأن مصير أفراد البشر أسير الاندفاع المطرد الأبدي غير الهادف لسيرورة العالم. وإن الطبيعة الزائلة للحياة، وحتمية العدم، واستحالة السعادة الحقة والدائمة، كل هذه نتائج لا فِكاك منها، حسب اعتقاده، مترتبة على الدوافع التي لا ترحم للإرادة. وتعطي فلسفته، لهذا السبب تحديدًا، مكانًا محوريًّا لما في الحياة من معاناة وإحباطات. واعتقد أن هذه النظرة إلى الحياة تتفق تمام الاتفاق مع النظرة البوذية التي تعلمنا أن الابتلاء والمعاناة هي الحقيقة المحورية للوجود الإنساني، وأن التحرر من أسر هذه المعاناة ليس مسألة خلاص يأتي من خارج، بل هو على الأصح مسألة تحقيق حالة تمثل المنزلة الأعلى للانفصال والتجرد. وهذه هي الحالة التي حددتها البوذية بكلمة النيرفانا. ونلحظ هنا أن شوبنهاور نفسه لم يأخذ بالرأي القائل إن النيرفانا تمثل حالة فناء كامل. والجدير ذكره أنه قال: «إذا عرَّفنا النيرفانا بأنها العدم فإن هذا يعني فقط أن سامسارا Samsara،٩ لا تشتمل ولو على عنصر واحد يمكن أن يسهم في تحديد أو افتراض النيرفانا» (١٩٦٩م، ٢، ٦٠٨).١٠ ومع هذا، وفي ضوء ارتباط شوبنهاور المعروف بموقف تشاؤمي واضح فقد كان من المحتم أن تتمثل نتيجة هذا كله في ترابط موازٍ بين البوذية ذاتها والنزعة التشاؤمية. وروج لهذا التفسير بورنوف، وقد احتاج إلى بعض الوقت ليمحوه. ويحدثنا إن بي جاكوبسون عن «ظل آرثر شوبنهاور الممتد الذي يستمر حيًّا من جيل إلى الجيل التالي يصور البوذية باعتبارها نظرة تشاؤمية تغض من قيمة الأشخاص والأشياء» (١٩٨١م، ٣). ويعبر غاي ويلبون عن أساه لأنه «لا شوبنهاور ولا الهند أفادا تمامًا من مثل هذا الترابط الشائع عن شوبنهاور المتشائم». وثمة نتيجة أخرى لهذا الترابط تتمثل في المحاولة الدائمة لكي نعزو مصطلح «اللاعقلانية» إلى الفكر والدين الشرقيين. ونعود لنقول إن هذا المفهوم كثيرًا ما ارتبط بفلسفة شوبنهاور بعامة، وهو ما يعني ضمنًا ارتباطه بالفلسفات الشرقية التي جمع بينها وبين فلسفته هو.١١
ونذكر من بين من تأثروا بتأملات شوبنهاور الشرقية اثنين من عمالقة الثقافة في القرن التاسع عشر، وهما فاغنر (١٨١٣–١٨٨٣م) ونيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م). ونلحظ هنا أن الأفكار البوذية التي انتقلت عن طريق أعمال شوبنهاور وكذا عن طريق قراءة أعمال بورنوف تغلغلت إلى الأعماق في فن وفكر فاغنر. واعتاد لفترة من الزمن أن يصف نفسه بأنه بوذي، زاعمًا أن البوذية نظرة عالمية «بدت كل العقائد الأخرى ضئيلة محدودة عند مقارنتها بها.» ونظر إلى البوذية، شأن شوبنهاور، باعتبارها أرقى من تراثه هو. وها هو يكتب إلى فرانز ليست فيقول: «يا له من مذهب سامي المكانة، مقنع إذا ما قارناه بالمذهب المسيحي اليهودي» (الاقتباس من ويلبون، ١٩٦٩م، ١٧٦). ويردد رأي شوبنهاور من أن المسيحية ليست سوى فرع من هذه البوذية الموقرة «التي انتشرت عبر شواطئ البحر المتوسط بعد حملة الإسكندر» (الاقتباس من غولدمان وسبرينكورن، ١٩٦٤م، ٢٧٧، ٢٧٨). وهكذا كان حماسه للبوذية حتى إنه شرع في وضع مسودة لأوبرا مبنية على أساس حياة غوتاما بوذا، واختار لها اسم Die Sieger أو الظافر. وعلى الرغم من أنها لم تكتمل فإن مادتها، بالإضافة إلى بعض الرُّوح الأساسي لها، تحولت بعد ذلك إلى عملين: تريستان وبارسيفال. وثمة بعض الخلاف بشأن مدى نفوذ البوذية على فكرة إنكار الذات التي ميزت أعمال فاغنر. ولكن الشيء الذي لا ريب فيه هو أن الفكر الهندي تداخل بشكل وثيق جدًّا مع فكره وأعماله. ويعبر عن ذلك ميشايل إدواردز قائلًا: «لقد استوعب وأشرب بالفكر البوذي في كل ما كتبه، حتى ليمكن القول إنه أبدع المركب الحقيقي الوحيد الذي يجمع بين الهند وأوروبا» (١٩٧١م، ١٦٦).
وإذ كان هدف فاغنر إحياء الثقافة الألمانية في مواجهة ما سماه «طغيان» الثقافة الفرنسية، فقد سعى بوسائل كثيرة إلى أن تكون جهوده ضمانًا لاطراد وتحقق المحاولة التي استهدف بها بعض الرومانسيين تأصيل الحضارة الأوروبية، بحيث تمتد جذورها إلى الشرق وليس إلى عالم البحر المتوسط الكلاسيكي. ولكن تحول هذا السعي ليقترن وقتذاك بمعاداة السامية إنما يمثل جانبًا من أكثر الجوانب غموضًا في النهضة الشرقية للقرن التاسع عشر. ولقد كان موقف فاغنر المعادي للسامية معروفًا تمامًا. ولكن الاستشراق أو التوجه الشرقي من حيث هو رد فعل مضاد للتأثيرات اليهودية على الحضارة الأوروبية ظهر لأول مرة على لسان شوبنهاور. أوضح شوبنهاور خلال شهرته الواسعة في خمسينيات القرن التاسع عشر أن ثمة «خلافًا أساسيًّا بين رُوحانية مهدها الهند، وامتدت عبر تراث آري عريق وصفه البعض بالنقاء والرؤية الشمولية الواحدية، وبين استغلال ساميٍّ أفسد هذه الرُّوحانية» (شواب، ١٩٨٤م، ١٨٥). ونحن لا نجد بينة واضحة ويُعتد بها تشير إلى أن شوبنهاور كان يؤمن بأي نظرية عنصرية فيما يختص باليهود. ونعرف أن الدافع وراء هجومه على اليهودية استهدف أساسًا عقيدة التوحيد اليهودية بكل مظاهر القيود الشرعية الصارمة الملازمة لها ونزعتها التفاؤلية الضارة، وليس ضد الشعب اليهودي من حيث هو. ومع هذا، فإن تأثير شوبنهاور وكذا تأثير فريدريتش شليغل يمثل عاملًا مهمًّا في تكوين الخطاب العنصري الذي ازدهر فيما بعد على مدى القرن. وليس من شك في أن الاستشراق أدى دورًا جزئيًّا في نشوء وتطور هذا الخطاب علاوة على مفردات قاموسه المميز وتشجيعه للفكرة التي باتت متداولة على نطاق واسع باطراد ابتداء من مطلع القرن. وأدى هذا إلى تهميش دور التراث الثقافي اليهودي في بناء الهوية التاريخية لأوروبا. وجدير بالذكر أن الرأي القائل بأن الفكر الأوروبي برمته نشأ أصلًا في آسيا، فضلًا على الإيمان بوجود سلف مشترك آري ألماني-هندي إنما يعبر عنه رايموند شواب بكلماته هو حيث يقول: «إنه تحوُّل خطِر في مسار النهضة الجديدة»، ذلك لأنه هيأ الفرصة لمفكرين أتوا بعد ذلك من أمثال غوبينو الذي كان واسع الاطلاع على أحدث الدراسات الاستشراقية لكي يقدم حججًا تبدو في ظاهرها علمية يساند بها أفكارًا عن عدم المساواة العنصرية، وأن «يعيد كتابة التاريخ لمصلحة السلالات الأسمى عنصرًا» (شواب، ١٩٨٤م، ٤٣١، ٤٣٣).١٢
وكانت علاقة نيتشه بالبوذية أكثر تعقيدًا وتناقضًا ذاتيًّا، ولكنها، مع هذا، أكثر أهمية مما ندركه عنها عادة. إذ لم يكن شوبنهاور وفاغنر هما فقط مصدري اهتمام نيتشه بالشرق، وإن كان لكل منهما بطبيعة الحال أثره الكبير عليه في مرحلة تطوره الباكرة. وتشير موجودات مكتبته الشخصية وسجل استعاراته من مكتبة الجامعة في بازل إلى أنه اطلع اطلاعًا واسعًا في هذا المجال، وتسنى له شخصيًّا تكوين علاقات مع عدد من رواد الدراسات الهندية في عصره، نذكر منهم بول ديوسن الذي كان صديق العمر معه. ونعرف أن ديوسن نفسه هو مترجم لستين متنًا من الأوبانيشاد، ولكنه في الوقت نفسه فيلسوف متميز وتلميذ لشوبنهاور. ألَّف ديوسن في تاريخ الفلسفة كتابًا تناول كلًّا من التراثين الفلسفيين الغربي والشرقي، وسعى جاهدًا لإحياء فكرة الفلسفة الدائمة philosophia perennis.
ولا تزال درجة تأثر التطور الفكري لنيتشه بالفكر الشرقي موضع خلاف. مثال ذلك أن لو أندرياس سالومي الذي ربطته بنيتشه علاقة وثيقة وإن كانت قصيرة زعم أن فكره في المرحلة الأولى من العمر، خصوصًا فكرة العود الأبدي Eternal Recurrence، تأثر بالفلسفة الهندية، بينما نجد لأفكار أخرى حضورًا بوذيًّا في تأملات نيتشه الفكرية عن إرادة القوة والسوبرمان Ubermensch. وهناك من ناحية أخرى رأي واسع النطاق يرى أصحابه أن تعاليم نيتشه إنما هي معادية تمامًا للبوذية. هذا على الرغم من أن هذه النظرة تعدلت إلى حد ما خلال السنوات الأخيرة. ونرى كثيرين الآن يقبلون الرأي القائل بوجود توازيات مذهلة بين كتابات نيتشه والتعاليم البوذية، ويؤكدون وضوح علاقة النسب بين الاثنين، ويشهد بالتقارب الوثيق من حيث الفلسفة الأخلاقية. (متري، ١٩٨١م، ٩). بيد أن الأمر اليقيني هو أن الإحالة المرجعية إلى أفكار الشرق، خاصة أفكار البوذية، كثيرًا ما تدخل ضمن حججه في الجدل تأييدًا ومعارضة. هذا فضلًا على أنه استثمر الفلسفات الشرقية مثلما فعل مفكرون سابقون من مثل ليبنتس وفولتير، كأداة لتطوير رؤية نقدية للفلسفة الغربية وللقيم المسيحية، أي نهج «الضد يُظهر حسنَه الضد»، وكما قال أحد المعلقين: «لكي يعري التراث المسيحي» (فريزيار، ١٩٧٥م، ١٤٦). مثال ذلك أن نيتشه في كتابه «ضد المسيح»، على سبيل المثال، استخدم البوذية ليكشف بوضوح «التحلل» و«الخداع الذاتي في المسيحية»، وأن البوذية بتحررها من العوائق الميتافيزيقية التي تكبل المسيحية قادرة على تكوين نظرة «موضوعية» عن الوجود البشري، ومن ثم فإنها الدين الوضعي الحقيقي الوحيد الذي يتعين أن يعرضه التاريخ لنا (نيتشه ١٩٦٨م، ١٢٩). ومن ثم فإن ارتباط نيتشه بالفلسفة الشرقية يمكن اعتباره جزءًا من استراتيجيته العامة في استخدام «الآخر» لتكوين منظور نقدي أكثر من النظر إلى أوروبا «أي لتراجع موقفها من منظور الأجنبي» (شيفيل في باركيس، ١٩٩١م، ٤٤).
وتسود تعليقات نيتشه عن البوذية فكرتان رئيسيتان متقابلتان؛ تتعلق الأولى بصياغته لمفهوم العدمية. هنا نراه يقرن البوذية بما يراه في المسيحية من نزعة تفاؤلية وخصال الزهد في الحياة، ويحذو حذو شوبنهاور ويفسر تعاليم بوذا على أنها تشجع الضعف والكسل والرضا بالألم والمعاناة، إنها «عدمية سلبية وعلامة ضعف» كما قال هو (نيتشه، ١٩٦٨م، ١٨). ورأى حقيقة أنها شكل أكثر «أرستقراطية» من نزعة التشاؤم بالقياس إلى المسيحية، إذ تفتقر إلى ما في المسيحية من إحساس بالمرارة والشعور بالذنب والاستياء، دين «سلام ومسرة» (١٩٦٨م، ١٣٢)، لكنها في الوقت نفسه بدت له شكلًا من فلسفة الرفض السلبي saying-nay والاستسلام … وسحق الذات (١٩٧٤م، ٣٦) وهي خصائص سعى إلى محاربتها من خلال مفهومه عن السوبرمان Ubermensch. وتتعلق الفكرة الرئيسية الثانية بسيكولوجيا المعاناة، والتي وضعت البوذية في ضوء أكثر ملاءمة وإيجابية. ذلك أن البوذية إذ تسعى إلى إخماد نيران العاطفة، ومن ثم إلى استئصال مصدر المعاناة، فإنها استهدفت هذه الغاية على نحو آخر غير ما فعلت المسيحية. ذلك أن البوذية عمدت إلى صوغ عالم «وهمي» بديل ليكون عوضًا عن وادي الدموع الراهن. ولكنها في سعيها هذا قدمت تحليلًا ذكيًّا وحاسمًا لطبيعة المعاناة وأصولها ومصدرها في النفس البشرية. لذلك رأى نيتشه أن البوذية تمثل رؤية عن المعاناة أكثر صدقًا وأمانة من الناحية النفسية — «أكثر واقعية بمئات المرات من المسيحية» (١٩٦٨م، ١٢٩). وترتكز هذه الرؤية على نظرة صارمة في موقفها الإلحادي والعملي (البراغماتي) مع تجنب غواية السلوى الميتافيزيقية. واعتقد أنها الدين الوضعي الوحيد عن أصالة، إنها «منظومة للصحة العامة» وليست مبدأً في فقه الإلهيات (١٩٧٩م، ٤٦). وأنها، أكثر من هذا، ربما تكون دين المستقبل. وذهب في تأملاته إلى حد الاعتقاد بأنه قد يثبت لنا بأنه لا مناص من بوذية أوروبية، بل وإلى ما هو أكثر من هذا، إذ رأى أنه هو نفسه «ربما يكون بوذا أوروبا» (الاقتباس من هالبفاس، ١٩٨٨م، ١٢٧ و١٢٨).١٣

البوذية وأزمة الإيمان في العصر الفيكتوري

يَبِين لنا واضحًا عند تأمل رؤى هؤلاء المفكرين الثلاثة أن انفتاح الوعي الأوروبي فجأة على البوذية لم يكن فقط مجرد اكتشاف جديد وغريب، بل إنه أيضًا إضافة مهمة إلى الحوارات المعاصرة. وبدا أثر البوذية واضحًا وملموسًا في الحقيقة وأكثر شيوعًا مما كان أثر الكونفوشية والهندوسية على الأجيال السابقة. وعبر عن هذا أحد علماء الإلهيات المعاصرين قائلًا: «إن الاهتمام بالبوذية على نحو ما نرى عند عدد كبير من المثقفين في بدان مسيحية متعددة إنما يمثل واحدة من أهم الظواهر الدينية المميزة والمثيرة للتفكير في أيامنا هذه» (كيلوغ، ١٨٨٥م، ١). ولم يكن هذا الاهتمام أكاديميًّا محضًا، بل إنه مس شغاف السجالات الدينية المعاصرة التي تفجرت، لأسباب متباينة، في مواجهة الأصولية (الأرثوذكسية) المسيحية وقتذاك. وأصبحت البوذية في هذا السياق من الجدل المحتدم مرآةً تعكس صورة ليست هي فقط صورة الشرق، بل وأيضًا صورة العالم الفيكتوري (ألموند، ١٩٨٨م، ٦). علاوة على هذا فإن المرآة ذاتها خلال هذا الارتباط التأويلي «الهرمنيوطيقي» لم تكن وسيطًا محايدًا؛ ذلك لأنها، وكما أوضح ألموند، «لم تكن «اكتشافًا» مجردًا، بل، شأنها شأن الكونفوشية والهندوسية في العصور السابقة، كانت من بعض النواحي بناء ذهنيًّا افتراضيًّا أوروبيًّا صاغته خطط العمل الأوروبية، امتلكها الغرب ماديًّا وأخذ يحدد موقعها أكثر فأكثر، ومن ثم فإن الغرب هو الذي نظمها وضبطها» (المرجع نفسه، ٢٤ و٣٣).

وتتجلى هذه الظاهرة البنائية واضحة في المواقف مزدوجة التناقض تجاه البوذية، والتي تعكس بعض التصدعات الأيديولوجية الشائعة خلال المرحلة الفيكتورية. نلحظ من ناحية كيف حظي بوذا بمكانة البطل، وبدا واحدًا من بين عظماء كارليل الذين غيروا مسار التاريخ، وتساوت أفكاره أخلاقيًّا وفكريًّا، بل ربما بدت أسمى مكانة من أخلاق وفكر الفلسفة المسيحية. وبدت المقارنة إيجابية لمصلحة البوذية عند مقارنة تعاليمها بالتعاليم الهندوسية. ونلحظ أن من اعتقدوا أن الكاثوليكية في ظنهم هي من أعمال الشيطان عمدوا كثيرًا إلى مقارنة بوذا بمارتن لوثر كزعيم إصلاح ديني، والذي أسدى للهند خِدمات تعادل ما أسداه الإصلاحيون للمسيحية. فضلًا على هذا فإن بوذا عند النظر إليه، باعتباره مثالًا للفضيلة الأخلاقية، نراه حظي بالإجلال والتقدير على نطاق واسع، حتى عند من رفضوا تعاليمه، وأبرز فضائله الدماثة والتراحم. لكن من ناحية أخرى صادفت تعاليمه الرفض باعتبارها إلحادية، بل ومنحلة تفضي إلى ممارسات فاسدة وخرافية. وصورها أحد المدافعين عن المسيحية بقوله: «سُمِّيَت عن حق دين اليأس، وإنها ملائمة تمامًا للغنوصية الضعيفة والنزعة التشاؤمية العاطفية التي أصابت جيلنا» (سكوت، ١٨٩٠م، ١٨). وكثيرًا ما استخدم البعض مثال البوذية لدعم الحس المتنامي بالتفوق الأوروبي، ولتأكيد أن «العقل الشرقي» أقل ذكاء وأكثر تخييلًا وطفولية وسذاجة من العقل الأوروبي (ألموند، ١٩٨٨م، ٤١). لكن يتعين ألا يغيب عن الأذهان أن الفترة الفيكتورية كانت «عصر شك»، فترة راج خلالها الجدل حول مصداقية العقيدة المسيحية التقليدية، واتسع نطاق هذا الجدل أكثر من أي عصر سابق. لذلك ليس لنا أن ندهش إذ نرى البوذية كثيرًا ما يأتي عرضها على النحو الذي يثير مشكلات كبيرة أمام رجال الكهنوت وفقهاء الدين المسيحي، الذين كان عليهم المواجهة والتصدي للهجمات المتوالية من جانب النقد الأعلى Higher Criticism،١٤ ومن الوضعية والداروينية. وحقيقة الأمر أن التعاليم البوذية التي شاعت حديثًا استهوت كثيرين من الباحثين عن بديل ديني للتراث المسيحي، وأضحت ساحة قتال حقيقي بين المسيحية من ناحية وقوى الإلحاد والعلمنة من ناحية أخرى. وعبر عن هذا كرايمر بقوله: تَمثَّل أول تأثير للمواجهة مع البوذية في الإحساس بأن المسيحية تواجه منافسًا عظيمًا وفريدًا واستثنائيًّا. ويرى أن هذه العملية أسهمت في الصعود البطيء للنزعة النسبية التي بدأت تتضح خلال هذه الفترة. (كرايمر، ١٩٦٠م، ٢٣٤، ٢٣٥). ومضى إرنست إيتل إلى أبعد من ذلك في كتاب له عن البوذية؛ إذ زعم أن «أشد الفلسفات الإلحادية غلوًّا في القرن التاسع عشر هي النتيجة المباشرة للجهود البوذية في الغرب» (ألموند، ١٩٨٨م، ٩٨). فضلًا على هذا فإن «أزمة الإيمان» أصابت أمريكا بقدر ما أصابت أوروبا. ويشير هنا المؤرخ توماس تويد إلى أن الولايات المتحدة شهدت خلال هذا الوقت «حوارًا عامًّا شديد الحساسية بشأن البوذية … التي أصبحت خيارًا جادًّا لمن تحرروا من وهم الرُّوحانية (١٩٩٢م، ٧٧). وبينما أخفقت البوذية في إرساء دعائم لمؤسسات دائمة خلال هذه الفترة فإنها أصبحت صوتًا مهمًّا ضمن مظاهر الانشقاق المتعاظمة عن القيم الغربية التقليدية، وبذا كانت بمنزلة معارضة مهمة للأشكال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحاكمة» (المرجع نفسه، المقدمة، ص٢٢).
ونجد بين القضايا النوعية المحددة التي دار حولها الجدل المسألة القديمة المتعلقة بالأصول والنشأة. وأجج هذه المسألة بيان أن تعاليم البوذية مصدر أسبق من المسيحية، فضلًا على ما وضح من توازيات مثيرة للانتباه بين المثل العليا الأخلاقية وحياة المؤسسين للعقيدتين. واستثمر هذا الوضعَ بعضُ النقاد المعادون للأصولية (الأرثوذكسية) المسيحية، فعمَدوا إلى بيان أن البوذية يمكن أن تكون مصدرًا مستقلًّا عن اليهودية فيما يتعلق بالعقيدة والممارسات المسيحية. وفتحت هذه الفكرة الأبواب على مصاريعها لكل أنواع التأمل والتخمين. لذا نجد البعض، مثل لوي جاكولو في كتابه «الكتاب المقدس في الهند» Bible dans l’inde (1868) يرى أن الكتاب المقدس ذاته له أصوله في الهند، وأن يسوع درس في الهند، وأن عقيدة المسيح أحد أشكال التلاؤم والتكيف مع عقيدة كريشنا. وهناك آخرون من مثل إرنست دو بونسن (١٨٨٠م) يقتدي برؤية سابقة تصورها بورنوف وزعم أن يسوع كان عضوًا ضمن طائفة إسنس Essence،١٥ التي أسسها مبشرون بوذيون. وأصدر المؤرخ الروسي إن إيه نوتوفيتش عام ١٨٩٤م كتابًا بعنوان «حياة يسوع المسيح المجهولة»، وزعم في كتابه هذا أن المسيح عاش ستة عشر عامًا مع رهبان براهمة وبوذيين، وذلك قبل بدء رسالته في فلسطين. ودار جدال واسع النطاق يفيد أن الكثير من الحكايات التي رواها الزعيمان الدِّينيان والكثير من القصص والمعجزات المنسوبة إليهما متشابهة على نحو مذهل. وكذلك نجد توازيات مثيرة للاهتمام من حيث العقيدة والشعائر والطقوس. مثال ذلك أن كلا المعلمين هاجما التقيد الحرفي الصارم في تطبيق حدود الشرع ونصوص الطقوس والشعائر داخل الأوساط الأصولية (الأرثوذكسية) السائدة، وعلَّم الاثنان أخلاق المحبة السامية، ووعَظ كلاهما مؤكدَين أولوية البحث عن الرُّوح. وحث كل منهما تلاميذه على التماس الخلاص للبشرية جمعاء. مثال ذلك أن القسيس أركيبالد سكوت أشار إلى «التطابقات الكثيرة التي يقال إنها قائمة بين محتوى كل من العهد الجديد ومحتوى الكتب المقدسة التي تعلن أنها تسجل حياة تعاليم بوذا وتعبر عنها»، كما أشار إلى أوجه التشابه بين الشخصيات الأعلام المحورية في المخطوطات الخاصة بالطرفين (سكوت، ١٨٩٠م، ٢٠). وأكثر من هذا أن المستشرق ماكس موللر المشهود له بالحكمة والرصانة يصل إلى نتيجة في فترة متأخرة من القرن تفيد أن المسيحية نشأت أصلًا تحت تأثير بوذي.١٦

ثم كان موضوع النبل الواضح الذي تتميز به بعض جوانب التعاليم البوذية. وحدث ما حدث مع الكونفوشية في القرن الثامن عشر إذ تجلى إعجاب مثير لطبيعة السمو الذي تتحلى به الأخلاق البوذية، وتأكيدها على التراحم الكلي الشامل. وأثارت هذه الأخلاق قدرًا من التشوش لافتقارها إلى الوحي المسيحي. ومن ثم بدت وكأنها تؤكد إمكان توافر أخلاق دون الحديث عن إله أو عن دين. وطبيعي أن ظهرت بعض الصعوبات بشأن قبول هذه التعاليم باعتبارها أسمى مكانة من تعاليم المسيح. ولكن كان من المقدر أن يصبح العمل لمحاربة هذا الخطر الأجنبي ضرورة ملحة؛ لأنه خطر يتهدد تفرد الرسالة المسيحية وتفوقها. وأقر الجميع بالقوة الفكرية والتنامي الشعبي للبوذية. لذلك أحس كثيرون من المدافعين عن المسيحية بضرورة «دحض» فلسفة البوذية. ولم يكن هناك من سلطة مرجعية أسمى من سير إم مونيير ويليامز أستاذ السنسكريتية بجامعة أكسفورد الذي رصد سفرًا ضخمًا لأداء هذه المهمة. وزعم في كتابه أن «البوذية لا تحدثنا عن إله أعلى من الإنسان الكامل، ولهذا ليس لها حق الادعاء بأنها دين بالمعنى الصحيح للكلمة». وصب مونيير ويليامز، شأن كثيرين من نقاد البوذية، نيرانه على ما افترضه البعض نزعتها العدمية. وتساءل:

أي كتاب سوف نضمه إلى قلوبنا في ساعتنا الأخيرة: كتاب يحدثنا عن بوذا الميت الفاني والذي يُسْلِمنا إلى الموت، أم الكتاب الذي يفتح عيوننا على المسيح الحي، الخالد، واهب الحياة؟

(١٨٨٩م، ٥٦٣)

ويرى مدافع آخر عن المسيحية أن «البوذية أشد مذهب تشاؤمي في العالم يثير القلق في النفس على نحو ربما لم تعرفه البشرية» (كيلوغ، ١٨٨٥م، ٣٧٣).

وشجع عدد من الباحثين التفسير الذي يرى البوذية عقيدة لا تؤمن بالأرباب. واحتلت هذه المسألة محور سجال ساخن وثائر — وهو سجال يردد خلافًا سابقًا حدث بشأن الكونفوشية. ورأى البعض أنه سجال مروع ويشكل أساسًا لرفض البوذية مباشرة وعلى الفور. وكان حتميًّا أن يستثمر هذا التفسير للبوذية دعاةُ المذهب اللاأدري الذين يرون ألا دليل على وجود الرب، وكذلك أصحاب النظرة العلمانية. وذهب هؤلاء إلى ما ذهب إليه نظراؤهم في القرن الثامن عشر بشأن الكونفوشية وقالوا إن الأفكار البوذية نموذج لأخلاق عقلانية محضة ودين لا يقوم على أسس ميتافيزيقية. ونلحظ أنه منذ كتاب بورنوف «المدخل» والبوذية توصف بأنها «إيمان من دون أرباب». وبينما استغل البعض هذه الصفة لغير مصلحة البوذية، استخدمها آخرون ممن عزفوا عن العقيدة المسيحية الربوبية، وإن ظلوا عاجزين عن التخلي بشكل كامل عن نظرة دينية، ورأوا في المنهج البوذي الجديد ما يستهويهم.

ونلحظ أن هذه النظرة إلى البوذية، وكذا الاعتقاد بأنها بَنَت دعاواها على الخبرة القابلة للتحقق وليس على الإيمان، أفضيا إلى نتيجة أخرى وهي المساوقة بينها وبين المذهب الوصفي الراديكالي الذي كان يشق طريقه سريعًا داخل أوساط المثقفين خلال الشطر الأخير من القرن. وبدت البوذية خلال الجدل حامي الوطيس الدائر خلال الفترة الفيكتورية في شأن العلاقة بين الدين والعلم، وكأنها بحكم طبيعتها متسقة تمامًا مع النظرة العلمية، خصوصًا مع وضعية كونت، والداروينية، والنزعة التطورية عند سبنسر، ومادية بوخنر، وواحدية هيغل. وتشكلت آنذاك، وفق رأي إدوين أرنولد «رابطة فكرية وثيقة بين البوذية والعلم الحديث» (تويد، ١٩٩٢م، ١٠٤). وشاع هذا الرأي بين المفكرين قبيل نهاية القرن. وهكذا نجد أحد المفكرين ذوي التأثير الكبير يعتبر بوذا «أول نبي لدين العلم» (كاروس، ١٨٩٧م، ٣٠٩). كذلك، وكما أسلفنا، ربط كل من نيتشه وهكسلي بين البوذية والوضعية. وأحس القس صمويل كيلوغ بالفجيعة إزاء هذا الربط الاستفزازي، وأعرب عن فجيعته حين قال: «يسود داخل المعسكر المناهض للمسيحية عنصر آخر يسهم في التعاطف الودي مع البوذية، والذي لنا أن نسميه التسليم واسع النطاق بمختلف نظريات التطور، واعتبار النظرة المسيحية إلى الخلق عقبة على الطريق أمام أي تقدم حقيقي». (١٨٨٥م، ٦). بَيْد أن القول بأن البوذيين جميعًا لا يؤمنون بالآلهة لم يكن مقبولًا على الإطلاق، وثارت الشكوك في شأنه آنذاك، وكذا خلال فترات أقرب عهدًا. ولكن هذا الفرض لعب يقينًا دورًا مهمًّا في تحدي مُسلَّمة تفرد وتفوق المسيحية.١٧

ويمكن أن نشاهد مثالًا آخر لهذا الاتجاه في شخص بول كاروس (١٨٥٢–١٩١٩م)، وهو شخص متعدد الثقافات من مواليد ألمانيا، حيث درس الديانات الشرقية، ثم استقر به المُقام أخيرًا في الولايات المتحدة. وحقق هناك تأثيرًا واسع النطاق أحس به المثقفون بفضل عدد من الكتب الشعبية من مثل كتابه «إنجيل بوذا» الذي لا يزال يُطبع حتى الآن، وكذا من خلال إشرافه على تحرير صحيفتي «أوبن كورت» و«ذي مونيست». ولم يكن كاروس ملحدًا، ومع هذا كان أقل انحيازًا في منهجه عن سكوت، وأبدى تعاطفًا قويًّا تجاه البوذية التي رآها أكثر تسامحًا من المسيحية وأكثر منها انفتاحًا فكريًّا، وقال لقرائه: «لم ألتق حتى الآن بوذيًّا لا يجل المسيح ويراه بمنزلة بوذا الأمم الغربية» (كاروس، ١٨٩٧م، ٢٦٣). وتميز بنقده الحاد للولاء المفرط من جانب البعثات التبشيرية الذي دفعهم إلى تشويه وذم البوذية، ونعى على المسيحية نظرتها الاستعبادية، ورفَض الرأي السائد الذي يرى البوذية مبدأ عدميًّا. «إن البوذي أبعد ما يكون عن التشاؤمية بالمعنى الغربي للتشاؤم، وإنما يتحلى بمزاج مرح يعلو به في هذا العالم، عالم الابتلاء، إلى ما فوق الألم والمعاناة» (المرجع نفسه، ١٣١). وتتمثل أهمية البوذية في نظره، وكذا في نظر الأعداد المتزايدة من أبناء عصره، بأوجه التماثل بين مبادئها والفكر العلمي الغربي. ووصف بوذا بأنه «أول وضعي» و«أول مفكر حر راديكالي». وعمَد إلى التقريب بين البوذية والفكر الغربي، ولذلك، وتوخيًا لتحقيق هذا الهدف، تطلع إلى التوفيق بين العلم (والداروينية خصوصًا) والدين. ولكن على الرغم من حماسه للبوذية، خرج عن طريقه المرسوم ليقدم رؤية منصفة عن العلاقة بين البوذية والمسيحية، وكذا لتشجيع الالتزام بنهج قائم على المقارنة، وهو النهج الذي أكد المحتوى الإيجابي لكل من الديانتين. وحرص على الارتفاع بنفسه بعيدًا عن الجدل الحزبي بغية الوصول إلى نهج كلي غير طائفي للكشف عن الحقيقة الدينية. وها هو في كتابه «البوذية ونقادها المسيحيون» (١٨٩٧م) يعرب عن اعتقاده أن «البشرية لا تريد البوذية أو الإسلام أو المسيحية كأسماء، وإنما البشرية تريد الحقيقة، وإن أفضل سبيل للوصول إلى الحقيقة هو المقارنة المنصفة غير المنحازة.» وألح في دعوته إلى أن كل متدين عليه أن يدرس الأديان الأخرى لكي يفهم دينه (١٨٩٧م، ٥٢٩)، ويختتم الكتاب بعبارة تقول:

إننا لكي ننقي فهمنا للدين ليس هناك من سبيل أفضل من دراسة الدين المقارن، وليس هناك ما هو أكثر فائدة في الدراسة المقارنة للأديان من تتبع أوجه التشابه الماثلة بين البوذية والمسيحية.

(المرجع نفسه، ٣١٠)
إن نهج كل من سكوت وكاروس يمثل في الحقيقة مَعْلمًا مميزًا للحوار البوذي المسيحي الذي أصبح — كما سوف نرى في الفصول التالية — قَسَمة مهمة تميز التلاقي بين الشرق والغرب خلال القرن العشرين.١٨

الترانسندنتاليون الأمريكيون١٩

رُوح الحوار والسعي وصولًا إلى احترامٍ وفهم متبادَلين بدا واضحًا منذ فترة أسبق كثيرًا داخل الحركة الترانسندنتالية الأمريكية. لم تشهد أمريكا اهتمامًا عمليًّا بالأفكار الشرقية خلال القرن الثامن عشر. ولكن خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام سواء البحثي أو الشعبي في التزايد باطراد، والذي حفزته بوجه خاص كتابات سير وليام جونز. وفي منتصف القرن تقريبًا بدأت تتطور واحدة من أهم الروابط تأثيرًا، والتي تربط بين الأفكار الشرقية والغربية. واقترنت هذه أولًا وقبل كل شيء باسمَي إميرسون وثورو. ويُعتبر هذان المفكران رائدَي الفكر الفلسفي المؤسس للترانسندنتالية في نيو إنغلاند. وتمثل فلسفتهما التزامًا بالأفكار القديمة والكلية المتعلقة بالوحدة الجوهرية والطبيعة الرُّوحية المميزة في نهاية المطاف للناموس الكوني. واقترنت هذه الفلسفة بالإيمان بجوهرية خيرية الإنسان وسمو الفكر الحدسي على الفكر العقلاني. واستهدفت نظرتها الرُّوحية العميقة تجاوز العقائد والأديان ابتغاء تحقيق خبرة دينية يرجى لها أن تكون كلية شاملة. وتُعتبر هذه الفلسفة من نواحٍ كثيرة استمرارًا وتطويرًا لأفكار الحركة الرومانسية الأوروبية، خصوصًا أفكار غوته ووردزورث وكولريدج وكارليل. واستلهمت، شأن الرومانسية، التراث الصوفي وتراث الأفلاطونية الحديثة. ويمكن اعتبارها أيضًا رد فعل ضد مادية جون لوك والفلسفة النفعية والمسيحية الكالفينية، واقترنت بنظرة إصلاحية وتجديدية عامة، وأحدثت أثرًا بعيد المدى في أمريكا في مجالات عدة مثل التعليم والحركة النسوية والإيكولوجيا. بَيْد أنها تضمنت في القلب منها بحثًا عن قيم دينية ورُوحية غير مرتبطة بالمسيحية الأصولية (الأرثوذكسية)، أو مرتبطة في الحقيقة بأي طائفة دينية. ومن ثم تعبر عن الحقيقة التي تعالت على الحدود العقيدية.

واستلهم الترانسندنتاليون، شأنهم شأن الرومانسيين الأوروبيين، الأفكار النابعة من الشرق. واحتلت الهندوسية، أو بدقة أكثر الأدفَيتا فيدانتا Advaita Vedanta،٢٠ لكن البوذية والكونفوشية كان لهما أيضًا مكان داخل إطار الاهتمام. وأدت فلسفة الفيدانتا دورًا مهمًّا، خصوصًا في تفكير رالف والدو إميرسون (١٨٠٣–١٨٨٢م) مؤسس الحركة الترانسندنتالية. ويبدو من اليسير أن نقلل من تأثيره نظرًا لأنه لم يكتب ولو رسالة واحدة عن الفلسفة الهندية. بَيْد أنه منذ حوالي عام ١٨٣٧م فصاعدًا قرأ بنهم في هذا المجال. وإن أي نظرة متفحصة لكتاباته العامة ولصحفه الخاصة توضح شيوع الأفكار الهندية في تفكيره. وفي هذا يقول إف آي كاربنتر عنه:

مطالعاته للأدب الهندي تشكل واحدًا من أهم فصول قصة تطوره الأدبي. إن الأمر لا يقتصر على أنه مدين بالكامل في قصيدتيه «براهما» و«هاماترايا» للأعمال الهندية، بل إن أجزاء كبيرة من مقالاته عن «أفلاطون» و«القدر» و«الخلود» تنبني على الفكر الهندي.

(١٩٣٠م، ١٠٤)
واطلع إميرسون منذ فترة باكرة من عمره على أعمال جونز وكتابات غيره من المستشرقين. ودرس بعد ذلك دراسة مدققة ترجمة تشارلز ويلكينز للنص المقدس الهندوسي بهاغافاد غيتا Bhagavad Gita. وفي عدد الأول من أكتوبر ١٨٤٨م كتب في صحيفته عن هذا العمل، واصفًا إياه ﺑ «أول الكتب»: «بدا لنا وكأن سلطانًا تحدث إلينا، لا شخصًا صغيرًا أو غير ذي قيمة، وإنما صوتٌ عليم جليل متسق لعقلٍ حكيم قديم» (الاقتباس من شواب، ١٩٨٤م، ٢٠١). ويمثل الزعيم الإصلاحي الهندي العبقري رام موهان روي مصدر تأثير مهم آخر أثر فيه. ونعرف أن رام موهان صاغ علم إلهيات كونيًّا عامًّا مؤلفًا من مصدرين هما المسيحية والفيدانتا. وعلى الرغم من حقيقة ابتعاد إميرسون عن الأصولية (الأرثوذكسية) المسيحية، وتخليه عن العمل كقِسيس توحيدي فإنه لم يستغل الاستشراق كحجة ضد المسيحية على الرغم من أن الفكر الهندي أصبح من نواحٍ كثيرة بديلًا عن، وجزءًا من، تمرده ضد المسيحية الإنجيلية التي خلفها وراءه. وقد يكون صوابًا أن نقول إن اهتمامه تركز على الحقائق الدائمة التي تشكل أساسًا لجميع الأديان أكثر من الاهتمام ببيان زيف أيٍّ منها.
وتمثل فكرة «الرُّوح الكلي» أو الرُّوح الأعلى soul-over٢١ أي رُوح عالمية أفلاطونية محدثة أو عقل كوني حلولي يشيع ويُفعَم بالحياة ويضفي الرُّوح على كل الطبيعة. وحاول من خلال هذا المفهوم أن يصوغ فلسفة داعمة للوحدة أو توحيدية — والتي يمكن أن نسميها الآن قدسية — حيث يمكن التعالي على أوجه التمايز بين الإلهي والبشري، وبين الرُّوح والمادة. وكتب في هذا الصدد يقول: «إن الرُّوح الأعلى يحتوي في داخله على الوجود الخاص بكل إنسان، ويتألف الواحد مع كل ما هو آخر … إذ داخل الإنسان توجد رُوح الكل، الصمت الحكيم، والجمال الكوني الذي يرتبط به كل جزء وكل جُسيم.» «الواحد الأحد الخالد الأعظم» (إميرسون، ١٩٧٨م، ١٥٠). وليس من شك في أن هذه الأفكار تشكلت قبيل استغراقه في الفكر الشرقي، ولنا أن نتتبعها تاريخيًّا وصولًا إلى تأثير الأفلاطونية المحدثة على تفكيره. بَيْد أنه، مع هذا كله، كان تواقًا لتقبل الدعم الذي لم يوفره له مذهب أدفَيتا فيدانتا غير الإثنيني، وسرعان ما أدرك التوازي الوثيق بين فكرته عن الرُّوح العالمي والمفهوم الهندي عن براهمان. إن الصفات الذاتية لهوية آتمان مع براهمان، وفكرة أن عالم الظاهر هو مايا، وعقيدة تناسخ الأرواح، كل هذا ثبت وتشابك في سلاسة داخل تفكيره تمامًا، مثلما حدث في الحقيقة لدى جيل سابق من الرومانسيين الألمان. وثمة صعوبة في أن نميز في كتاباته الأخيرة بين المكونات الشرقية والغربية. ويتجلى هذا في أوضح صورة، كما يرى كاربنتر، في قصيدته «براهما»، إذ ربما تعبر القصيدة عن الفكرة المحورية في الفلسفة الهندية بوضوح وإيجاز أكثر من أي كتابات أخرى باللغة الإنجليزية (١٩٣٠م، ١١١). ويعبر عن أفكار مماثلة في مقاله «أفلاطون»، حيث يؤكد أن النزوع الكلي الشامل المميز للفكر الديني نحو الوحدة «وجد أقوى وأوضح تعبير له في كتابات الشرق الدينية، وأساسًا في المخطوطات الهندية مثل الفيدا.»

ولم يكن إميرسون أبدًا في فهمه للفلسفة الشرقية صاحب نظرة غير نقدية، إذ رأى فيها بعض المواقف والممارسات المنبثقة عنها ولا تتفق مع ذوقه. مثال ذلك أنه بدا نافرًا مما رآه يتمثل في نزعتي الاستسلام والسكينة. ولم يتعاطف مع البوذية للأسباب نفسها. وأبدى مقته أيضًا لخاصية تجاوز ما هو عقلي، وكذا النزعة القدرية التي تنطوي عليها، ومفهوم النيرفانا الذي أخذه بمعنى المحو المتكامل، لذا رفضه بشدة. ولكن نهج صديقه هنري دافيد ثورو (١٨١٧م، ٦٢) تجاه الشرق كان أقل تدقيقًا في الاختيار وأقل إعمالًا للفكر العقلاني، وأقصر عمرًا. واستوحى حماسه بداية من إميرسون على نحو ما توضح الملاحظات التالية في صحيفته:

لا أكاد أقرأ جملة في كتاب الهندوس حتى أشعر وكأنني ارتقيت هضبة فوق درج النهر المقدس. أحس إيقاعًا كأنه الريح في الصحراء، ويشبه حركة المد والجزر في نهر الغانج، وأبدو وكأنني أسمو على النقد في مكان عَلِيٍّ كأنه جبال الهيمالايا.

(ثورو، ١٩٦١م، ٨٥)

أثرت كتابات الشرق المقدسة فيه مثلما أثرت في إميرسون. وها هو في رواية فالدن يعلق بتأثر بلاغي مطابق لما هو سائد وقتذاك في مثل هذا السياق «أغمر عقلي في فلسفة بهاغافاد غيتا المذهلة ذات البعد الكوني … التي يبدو معها عالمنا الأدبي الحديث عند المقارنة بها سقيمًا تافهًا» (١٩٦١م، ١٩٨). لم ينجذب اهتمام ثورو نحو ميتافيزيقا الشرق بقدر ما انجذب نحو الصور والرموز، ولكن ما جذب اهتمامه أكثر منهجها لتحقيق التوازن الرموز والإشباع الرُّوحي. ويشير إلى هذا ريك فيلدز فيقول: «اكتشف في الشرقيات شيئًا يماثل في أعمق أعماق رُوحه وما لا يجده في دين آخر ليحل مكانه … المسيحية». ولعله «كان أول أمريكي يستكشف نمط التأمل الإلحادي الذي هو العلامة المميزة للبوذية» (١٩٨٦م، ٦٢-٦٣). وقد نمضي في تصورنا إلى ما هو أبعد كثيرًا على نحو ما فعل آرثر كريستي ونرى أن ثورو استهل تجرِبته الخاصة بفالدن برُوح الزهد والنسك الهندي (١٩٣٢م، ١٩٩). وتأثر بوضوح، على الرغم من هذا، بالمفاهيم الشرقية عن ضبط النفس، والانسلاخ عن الواقع، وكذا التأمل. وأعرب مرارًا عن إعجابه بتأكيد الهندوسية على التأمل الذهني والتحلل من كل ما يربط المرء بالواقع. ويشير في رسالة له كتبها عام ١٨٤٩م إلى ملاحظة نصها: «أعتمد عليها، إنني وإن كنت فظًّا ومهملًا سوف أمارس سعيدًا طقوس اليوغا في أمانة وصدق … إنني إلى حد ما وفي فترات فاصلة نادرة أعتبر نفسي يوجيًّا، أي ممارسًا ملتزمًا لليوغا» (الاقتباس من كريستي، ١٩٣٢م، ٢٠١).

ولكن ما ذكرناه آنفًا لا يستنفد قائمة أسماء الترانسندنتاليين الذين يمموا عقولهم تجاه الشرق. وأرى لزامًا أن أذكر أيضًا جيمس إف كلارك (١٨١٠–١٨٨٨م) الذي حقق أكثر مما حققه أيٌّ من إميرسون أو ثورو لاستثارة استجابة تعاطفية بين الجمهور الأمريكي إزاء الأديان الشرقية، وحقق هذا من خلال كتابه «عشرة أديان عظمى» الذي راج تداوله على نطاق واسع. وأعرب في كتابه عن تأييده القوي للالتزام بنهج علمي مقارن في دراسة الأديان، وشدد على أن الأمر لن يكون مقصورًا على الاهتداء إلى حقيقة في الأديان غير المسيحية، بل إن الغرب أمامه الكثير الذي يتعين عليه أن يتعلمه من الشرق، مثال ذلك مبدأ البوذية عن التسامح الذي قابل بينه وبين محاكم التفتيش في ظل الكاثوليكية. وصادفت هذه النظرة العالمية تعبيرًا ربما أكثر اكتمالًا في كتابات صمويل جونسون (١٨٢٢–١٨٨٢م)، وهو مفكر ترانسندنتالي ارتد، مثل إميرسون، عن العمل قِسيسًا في الملة المسيحية الواحدية. وبدأ بعد ذلك يعظ من كنيسة منزهة عن الانتماء إلى طائفة، حيث طرح ما سماه «الدين العالمي». ولم يكن في أمريكا وقتذاك من يضارعه من حيث إحاطته بالفكر الشرقي. وبدأ في عام ١٨٧٣م في إصدار سفر ضخم من ثلاثة مجلدات عنوانه «أديان الشرق وعلاقتها بالأديان العالمية»، ودعا فيه إلى فكرة الهوية الأساسية لجميع الأديان. وتستند هذه الخطة إلى رؤية تطورية كبرى تقضي بأن ننظر إلى جميع أديان العالم باعتبارها جزءًا من عملية تطورية انطلاقًا من الأسطورة البدائية على الطريق إلى دين عالمي. وإن هذه العملية التي تردد صداها بوسائل أخرى عند هيغل كانت تجليًا لازدهار واكتمال الرُّوح الإلهي. وتضمنت كتابات جونسون مؤشرًا قويًّا يفيد بأن المسيحية وليست الهندوسية أو البوذية، سوف ترسي آخر الأمر أسس هذا «الدين العالمي». بَيْد أن مذهبًا مسيحيًّا هو الذي سيطرأ عليه تحول جذري بفضل تلاقيه التاريخي مع الشرق. وسيكون تحولًا ثوريًّا «يبدو معه الانتقال من اليهودية إلى المسيحية حدثًا تافهًا عند المقارنة به» (جونسون، ١٨٧٣م، ٣١).٢٢

نهاية القرن٢٣

ألمحت مناقشتنا لعلم كلٍّ من كلارك وجونسون إلى الاتساع العظيم لنطاق الاهتمام العام بالفكر الشرقي، خاصة الفكر البوذي، خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وسوف أعرض في ختام هذا الفصل معالم عدد من العوامل التي هيأت دَفعة مهمة لهذا الاتجاه. شهدت هذه الفترة أولًا موقفًا أكثر إيجابية تجاه البوذية البازغة، ويرجع ذلك إلى ما قدمه كل من ماكس موللر وريس دافيد من رؤية جديدة لمفهوم النيرفانا.٢٤ والجدير ذكره أن التحول في فهم هذا المفهوم البوذي المحوري لم يكن مسألة اهتمام علمي محض، بل إنه ساعد على تحويل الاهتمام إلى ما تنطوي عليه البوذية من إمكانات للخلاص من دون النظر إلى خصوصياتها الفلسفية، فضلًا عن أنها مهدت السبيل لقبول فكرة صلتها الوثيقة بالمتطلبات الدينية والرُّوحية للغربيين على نطاق واسع جدًّا.
والحقيقة أن أول من عبر بالكامل عن هذا الموقف الجديد لم يكن عالمًا مستشرقًا، بل صِحافيًّا وشاعرًا، وهو إدوين أرنولد (١٨٣٢–١٩٠٤م). وحري أن نشير إلى أن ملحمته الشعرية «نور آسيا»، المنشورة لأول مرة عام ١٨٧٩م، صدرت في الوقت المناسب تمامًا لاستثمار النهج العلمي المتغير تجاه البوذية. وقدمت في الوقت نفسه صورة عن بوذا وتعاليمه على نحو يتسق تمامًا مع رُوح التفاؤل المتنامية في أواخر العصر الفيكتوري.٢٥ وعبرت كذلك عن تنامي النزعة التعددية والنزعة التلفيقية في تلك الأيام. ونلحظ أنها لم تواجه مباشرة الديانات المحلية الأصلية، بل ساندت الاعتقاد المتعاظم بأن الحقيقة تتكلم بلغات كثيرة، وأن الحكمة الرُّوحية ليست حكرًا على المسيحية. وحققت القصيدة نجاحًا استثنائيًّا سواء في أوروبا أو في أمريكا. وبِيع منها قرابة المليون نسخة، كما تُرجمت إلى ست لغات، وظلت بمنزلة العمل الكلاسيكي على مدى ثلاثين عامًا ومن أحسن الكتب مبيعًا في عصرها. إضافة إلى هذا، تحولت إلى أوبرا وإلى مسرحية وإلى قطعتين موسيقيتين غنائيتين (كانتاتا)، وأيضًا إلى فيلم سينمائي. وكتب عنها كثيرون عروضًا تمتدحها. ونذكر كمثال عرضًا كتبه أوليفر وندل هولمز الذي رأى أنها جديرة بوضعها في مصاف العهد الجديد. وكتب عنها ريتشارد هنري ستودارد ورأى أنها تضارع في نظمها شعر روسيتي وسوينبرن (انظر بييريس، ١٩٧٠م، ٢٨). وتعرضت كذلك لنقد شرس، خصوصًا من بين صفوف رجال الدين الذين رأوا في القصيدة خطرًا مشئومًا. لذلك نجد دبليو سي ويلكينسون يصف أرنولد بأنه «معاد للمسيحية»، ويُدين روبرت مونكريف الكتاب بأنه «جلب كآبة من أشد الأنواع سوءًا» (الاقتباس من ألموند، ١٩٨٨م، ٢). واستشعر عالم الإلهيات صمويل كيلوغ غضبًا شديدًا دفعه إلى تسطير كتاب بأكمله لدحض القصيدة تحت عنوان «نور آسيا ونور العالم»، حيث أكد الحاجة إلى مكافحة «التهديد البوذي» (١٨٨٥م، ٣٧٣).

وإن الأهداف التي قصد إليها أرنولد في كتابته للقصيدة «استوحاها من واقع رغبة راسخة في الوصول إلى تفاعل معرفي أفضل بين الشرق والغرب». وثارت تساؤلات حول معتقداته هو الخاصة، وعن مدى التزام أرنولد شخصيًّا بالبوذية. ولكن حسب قول كاتب سيرة حياته «فإنه لم يعتبر أبدًا إعجابه بالبوذية متضمنًا أي إنكار للمسيحية. ولم يحدث أبدًا أن تصور أن بالإمكان إنقاص الحقيقة عن طريق اقتسامها» (رايت، ١٩٥٧م، ١٠٧). وإن الشيء الواضح أنه كان ممثلًا رائعًا لجماعة متزايدة العدد من أصحاب الفكر الليبرالي الذين آمنوا بأن الحقيقة الإلهية يمكن أن نجدها في ديانات كثيرة، حتى إن ظلت المسيحية أهم وعاء لها وآثره لدينا. ولقد كان أرنولد أبعد ما يكون بأي معنًى من المعاني عن أن يكون متعصبًا أو أصوليًّا دينيًّا، وإنما كان في الحقيقة جزءًا من الطليعة الفكرية/الليبرالية خلال الفترة الأخيرة من العصر الفيكتوري؛ إذ ربطته علاقات صداقة مع كل من داروين وهكسلي وهربرت سبنسر وجون ستيوارت ميل. وكانت هذه الطليعة تؤلف الجناح التقدمي الراديكالي للحياة الثقافية الفيكتورية. ولقد كان أرنولد واعيًا تمامًا بواقع السجال الدائر بشأن كثير من القضايا التي تمثل توازيات في حياة وتعاليم كل من بوذا والمسيح. وأسهمت قصيدته من دون شك في ظهور المُناخ الفكري الذي آثر التزام نهج أكثر إنصافًا وموضوعية مع أديان العالم. والجدير ذكره أن هذا التغير واسع النطاق جاء تحديدًا في اللحظة التي بلغ فيها التوسع الاستعماري الغربي — والبريطاني بخاصة — ذروته، وكذلك في الوقت الذي بلغت فيه جهود التبشير المسيحي أوجها، من حيث الثقة بالنفس والإيمان بحتمية الانتصار. وأدى هذا كله إلى أن أثارت شعبية قصيدة أرنولد اهتمامًا واسعًا باعتبارها طرفًا ضمن تيار معاكس يناهض المزاج السائد المُشْبَع برُوح الظفَر الغربي.

ويمثل ظهور الجمعية الثيوصوفية،٢٦ ونموها السريع، دليلًا آخر على التأثيرات الراديكالية للاستشراق في أواخر القرن التاسع عشر. تأسست هذه الجمعية عام ١٨٧٥م، وأسستها مدام بلافاتسكي، وهي من أصول نبيلة روسية. وشاركها كولونيل أولكوت (١٨٣٢–١٩٠٧م)، وهو محام أمريكي خدم في الحرب الأهلية. ويمكن تتبع مصطلح الثيوصوفية تاريخيًّا بدءًا من تراث الأفلاطونية المحدثة والغنوصية، وحتى بورفيري فيلسوف القرن الرابع. واعتزم أولكوت وبلافاتسكي إثبات وجود روابط بهذا التراث، ومن ثم يكون هذا سبيلهما لتحديد خصائص حركتهما الجديدة والقول بأن ثمة حقيقة كونية جديدة تمثل الأساس لجميع تراثات الأديان. وبعد أن شاركا خلال فترة باكرة من حياتهما في الإيمان بقوًى خارقة للطبيعة وإمكان التعامل معها، والذي كان اتجاهًا سائدًا، تحول اهتمامهما تجاه الشرق، وساعدهما هذا التحول على التزود بإطار فلسفي لممارساتهما الرُّوحانية. وفي عام ١٨٧٨م سافرا معًا إلى الهند وسِيلان، وهما البلدان اللذان أصبحا مركزين مهمين لأنشطة الجمعية. وقوبلا بحفاوة بالغة في سيلان باعتبارهما من أبطال البوذية، واعتنقا البوذية بعد وصولهما بفترة وجيزة، ولعلهما أول أوروبيين يفعلان ذلك. ويعبر عن هذا عالم الدراسات البوذية إدوارد كونز، فيقول: «فجأة وعلى غير توقع، إذ ببضع أعضاء من أبناء الجنس المهيمن، من رجال ونساء بيض من روسيا وأمريكا وإنجلترا، أصبحوا من أصحاب النزعة الثيوصوفية، وظهروا بين أبناء شعب الهند وسيلان ليعلنوا عن إعجابهم بحكمة الشرق القديمة» (١٩٧٥م، ٢١١).
وصاغت بلافاتسكي الرسالة المحورية للثيوصوفية في عدد من الكتب، من بينها «إيزيس بلا قناع» (١٨٧٧م) و«العقيدة السرية» (١٨٨٨م). وتمثل هذه الرسالة في جوهرها إحياء لفكرة «الفلسفة الدائمة» philosophia perennia، ويمكن إيجازها في القول بالاعتقاد أن جميع الظواهر تفيض من المبدأ الخالد الواحد، وهو مبدأ رُوحي في جوهره ويتجلى على أوضح وجه في الأرواح الفردية المستنيرة. والتحمت كتاباتها أكثر فأكثر بالأفكار الشرقية، وأضحت في النهاية مزيجًا من الفيدانتا الهندية والبوذية والفلسفة الغريبة الغربية، فضلًا على امتزاجها بالأفكار التطورية العصرية. ورغبة منها في تحديد معتقداتها بعبارات آسيوية، اضطُرت إلى أن تستخدم على نطاق واسع أفكارًا من مثل المايا والكارما والتقمص والتأمل. وتُعتبر الجمعية الثيوصوفية هي المسئولة عن إدخال هذه المصطلحات في العامية الأوروبية. ولكن، بينما كانت بلافاتسكي تدعو إلى فلسفة كونية، نظرت إلى المسيحية كمؤسسة اجتماعية نظرة ازدراء ونحت عليها باللوم لأنها باحت بالحقائق السرية المضنون بها على غير أهلها، والتي لحسن الحظ حافظ عليها الشرق. لهذا فإن على الغرب واجب الاتجاه إلى الشرق ابتغاء استعادة مصدر الحكمة الصادقة.

وسادت نظرة ترى أن الثيوصوفية تسيء التعبير عما ادعته المصادر الشرقية، وأن الجمعية، ومنذ أيامها الأولى، واجهت من انتقدها على أساس أنها قدمت تفسيرًا شائهًا للتعاليم الشرقية. ورآها البعض تروِّج صورة متغربة في جوهرها للحكمة الشرقية التي صيغت فقط بهدف أن تكون أداة لإشاعة الأفكار والممارسات الخاصة بعقيدة الإيمان بالقوى الخارقة والسيطرة عليها وقد أحاطت كل هذا بجدار من السرية والغموض. مثال ذلك أن ماكس موللر، الذي اعترف بالنفوذ الواسع للجمعية، رفض كتابات بلافاتسكي باعتبارها غير علمية، خصوصًا لإخفاقها في التمييز الواضح بين الفيدانتا والبوذية. ورفض فكرة أن للبوذية صورة سرية ومؤمنة بالقوى الخفية والسيطرة عليها. والجدير ذكره أن رينيه غوينون كان من أقسى منتقديها في القرن العشرين، ودانها صراحة بتزييف البوذية. وكذلك سي جي يونغ الذي اتهم الثيوصوفية بالمزج بين الشرق والغرب داخل مركَّب يغفل القسمات الفردية المميزة لكل تراث على حدة. وهناك من اتهم بلافاتسكي نفسها بالعنصرية. وها هو المؤرخ جيمس ويب، الذي رفض أي ادعاء بأنها شخصيًّا أو من حيث نشاطها معادية للسامية، يوافق على أن كتاباتها هيأت فرصة «للتسليم سلبًا ببعض عناصر الأسطورة العنصرية التي بدأت تروج وقتذاك» (١٩٧٠م، ٢٢٧). وأيًّا كان الأمر، فإن التعاليم الثيوصوفية وكذا انفتاحها على دروب متباينة إلى الحقيقة، وتأكيدها على التطابق الأساسي لتراثات الأديان الكبرى، كل هذا يمثل من نواحٍ كثيرة تحديًا راديكاليًّا للمواقف الدينية الأصولية (الأرثوذكسية). وتمثل أيضًا في محاولتها بناء فلسفة توفق بين الاكتشافات العلمية وتراثات الحكمة القديمة. واستهوى هذا النهج قطاعًا واسعًا من المثقفين الغربيين والهنود على السواء. فضلًا على هذا فقد أصبح مألوفًا رفض الجمعية الثيوصوفية باعتبارها أداة لنشر وترويج ممارسات خرافية بل واحتيالية تؤمن بقوًى خارقة للطبيعة تسيطر عليها. ولكن يتعين، مع هذا كله، ألا يغيب عن الأذهان أن هذه الفترة شهدت بعدًا فكريًّا قويًّا في النزوع إلى الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة والتعامل معها، وهو البعد الذي أخذه مأخذًا جادًّا أعضاء المجتمع العلمي والفئات المتعلمة عمومًا.

والذي لا ريب فيه أن الحركة الثيوصوفية من خلال أنشطتها المختلفة ومشوراتها العديدة أثبتت فعاليتها الكبيرة في ترويج الأفكار الفلسفية والدينية الآسيوية في الغرب، مثلما شجعت الحوار بين الشرق والغرب. وبلغت أوجها مع مطلع القرن بحيث بات بإمكانها أن تزهو لافتتاح أكثر من ٤٠٠ فرع لها في الهند وأوروبا وأمريكا، وبلغ عدد أعضائها بحلول عام ١٩٢٠م أكثر من ٤٥ ألف عضو. وانحسر نفوذها كثيرًا على مدى القرن العشرين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى خلافات وانقسامات داخلية. بَيْد أن تأثيرها، على الرغم من هذا، ظل محسوسًا في دوائر كثيرة، مثال ذلك: كان لها تأثيرها المهم في تأسيس جمعيات بوذية استمدت منها إلهاماتها الأولية عن الثيوصوفية، حتى على الرغم من جنوحها بعيدًا عن هذا المصدر في اتجاه تأويل «أكثر نقاء» للبوذية. والجدير ذكره أن العمل التبشيري الذي قام به كريشنامورتي، الذي جيء به أصلًا إلى الغرب واستن طريقه عن طريق الجمعية، حقق قبولًا شعبيًّا بالغًا، ويحدثنا عنه جاكوب نيدهام فيقول: «لن نجد فيلسوفًا أو معلمًا أو شاعرًا في عصرنا جذب احترام أكبر عدد من الناس خلال فترة وجيزة كهذه» (١٩٧٢م، ١٥٠). وثمة وجه آخر مهم للحركة، ليس معترفًا به دائمًا، ويتمثل في واقع تأثيرها الكبير على الحركة الحديثة للأدب والفن. وسوف نعود إلى هذه العلاقة في الفصل التالي.

ويجب أن نذكر أيضًا حقيقة مؤداها أن الجمعية الثيوصوفية حققت لنفسها شهرة واسعة في شبه القارة الهندية، وأنها لم تسهم فقط في ميلاد ثقافة مناهضة استشراقية داخل السياق الغربي، بل ساعدت موضوعيًّا في إحياء الوعي الذاتي والاحترام الذاتي الهندي والبوذي داخل آسيا ذاتها. ولا يزال اسم كولونيل أولكوت مرتبطًا في سيريلانكا الحديثة بإحياء البوذية في أواخر القرن التاسع عشر في ظروف طمستها سياسات الحكومة الاستعمارية للتبشير بالمسيحية. وساعدت الجمعية في تأسيس جامعة الهند في بيناريس عام ١٩١٦م، وكان هدفها الرئيسي من ذلك الحفاظ على التراث الثقافي للهند، واستطاعت بنفوذها مساعدة دهارمابالا أناغاريكا على تأسيس جمعية ماها بودهي عام ١٨٩١م التي أدت دورًا مهمًّا من أجل أن تستعيد البوذية أماكنها المقدسة. وثمة دور آخر له أهمية تاريخية أوسع نطاقًا أنجزته الحركة الثيوصوفية، وذلك بمساعدتها على تغيير التوجه الفكري للشاب مُهنداس غاندي، بحيث يتوجه صوب الجذور الهندية، وتشجيعه على استعادة الكنوز الفلسفية للتراث الهندي. وقامت بدور مهم في هذا الشأن آني بيسانت، وهي اشتراكية فابية إنجليزية، خلفت أولكوت رئيسة للجمعية الثيوصوفية عام ١٩٠٧م، وهي التي قدمت إسهامًا مهمًّا في سبيل ظهور حركة استقلال الهند، وعملت لفترة قصيرة رئيسة لحزب المؤتمر القومي الهندي.

والجدير ذكره أن الباحث الهندي نيراد شودوري حين كتب إن «مساهمات المستشرقين الأوروبيين مع الحركة القومية الهندية أصبحت موضوعًا يعترف به الجميع» إنما كان في ذهنه أولًا وأساسًا الجمعية الثيوصوفية (١٩٧٤م، ٣١١).٢٧

ويمكن النظر إلى النزعتين التلفيقية والدولية للجمعية الثيوصوفية باعتبارهما تحديًا للهيمنة الفكرية والثقافية الغربية مع نهاية الفترة الفيكتورية. كذلك الحال أيضًا بالنسبة إلى برلمان الأديان العالمي المنعقد في شيكاغو ١٨٩٣م الذي يشكل استكمالًا للمعرض الكولومبي العالمي المنعقد هناك خلال العام السابق. وواضح أهمية الدلالة الرمزية لهذين الحدثين في تتابعهما. إذ بينما أحداث عام ١٨٩٢م احتفت عن وعي بتفوق الغرب سياسيًّا وتجاريًّا فإن البرلمان العالمي للأديان ساعد على إظهار المواقف والتوقعات التي تتصف من وجهة نظر الغرب بالقلق العميق. ولقد تشكل البرلمان حقيقة من ناحية، وكما يقول أحد المؤرخين، بدافع أقوى للتبشير المسيحي، وكذا نتيجة جرعة قوية من هوس الظفر والانتصار الأنجلوساكسوني (سيجر، ١٩٩٣م، ٧). وجدير بالإشارة أن الكنيسة الإنجيلية رفضت المشاركة على أساس أن تشكيل البرلمان يفيد ضمنًا مساواة غير مقبولة بين المعتقدات. ومع ذلك، كان موجودًا منذ البداية دافع مثالي قوي شجع عقائد العالم لكي تستهل نوعًا من الحوار، ولكي تعمل في اتجاه نظرة أكثر عالمية وأقل طائفية من النظرة السائدة في العالم الغربي. وضم المؤتمر قرابة ٢٠٠ مبعوث يمثلون خمسًا وأربعين ملة. وكان من بين هؤلاء ممثلون من اليابان والصين وسيام والهند وسيلان، ومبعوثون عن الهندوسية، وعن بوذية ثيرافادا؛ وهما: سوامي فيفكاناندا وأناغاريكا دهارمابالا. وأثبت هؤلاء بلاغتهم وإخلاصهم وحققوا بخاصة نجاحًا بارزًا في إثارة انتباه مستمعيهم إلى مدى السمو الرُّوحي والفلسفي الذي تتميز به الأديان الآسيوية. وأبدى الحضور استجابة حارة لهذين الشخصين وللحضور الآسيوي بعامة. وجاءت استجابتهم رد فعل للشخصية الانفعالية الكبيرة التي اقتضتها المناسبة. ولكن سرعان ما تلاشى هذا كله على المدى القصير. بَيْد أن البرلمان حقق، على المدى الطويل، أثره الواضح في الرأي العام الأمريكي، وأحدث موجات استمرت زمنًا طويلًا بعد انتهاء الحدث. وتؤلف رسالته مَعلمًا مميزًا لتطورات استشراقية مهمة مقدر لها أن تزدهر على مدى القرن التالي.

ولم تكن رُوح المصالحة العالمية بعيدة عن أهداف البرلمان. ذلك أن الذي أوحى بالحدث هو تشارلز كارول بوني، وهو محام من شيكاغو وعضو كنيسة سويدينبورجيان، وساعد على أن تضم وقائع المؤتمر موضوع المثال الأعلى للتفاهم والتسامح على الصعيد الدولي، وهو أيضًا الذي تحدث في كلمة الافتتاح عن شروق «شمس حقبة جديدة للسلم الديني والتقدم … التي تبدد السحب السوداء للصراع الطائفي» (الاقتباس من سيجر، ١٩٩٣م، ٢١). وسبق أن رأينا أن فكرة شكل من التقارب بين الأديان، أو ربما تطوير دين عالمي، كانت قد بدأت تتشكل في أذهان البعض مع نهاية القرن. ومن ثم فإن أي تأملات من هذا النوع وما تنطوي عليه من أصداء لأفكار ليبنتس يمكن النظر إليها، باعتبارها دورة تصاعد الاستكشافات الاستشراقية التي بدأت منذ ٣٠٠ سنة. ويمكن اعتبارها كذلك تطورات استباقية مهمة في حوار الشرق-الغرب الذي سيجري على مدى القرن التالي، وهي تطورات، كما سوف يبين لنا في القسم التالي، أحدثت ردود أفعال على نطاق واسع داخل الأوساط الفكرية.٢٨
١  رامايانا Ramayana: ملحمة شعرية سَنسِكريتية عن الهند القديمة، ويعتبرها الهندوس نصًّا مقدسًا. (المترجم)
٢  للاطلاع على تأثير الطاويَّة الصينية على نظرة تولستوي، انظر بود ١٩٥٠م.
٣  للاطلاع على تحليل آراء جيمس ميل والنفعيين بشأن الهند انظر ستوكس ١٩٥٩م.
٤  انظر إندين ١٩٩٠م، إذ يحتوي الكتاب على نقد قوي للمواقف الأوروبية تجاه الهند في القرن ١٩. انظر ماكيراس ١٩٨٩م وسويار ١٩٧٧م عن ماركس وفكرة نمط الإنتاج الآسيوي. وكتاب أحمد ١٩٩٢م، الذي يتضمن نقدًا تفصيليًّا لآراء سعيد عن ماركس والهند. أشهر وأهم تطوير في القرن العشرين لآراء ماركس عن هذه المشكلة يعرضها وِيتفوغيل ١٩٥٧م، الذي يربط الاستبداد والركود المزعوم في المجتمع الصيني بالحاجة إلى ضبط وتنظيم الأنهار الكبرى في الصين.
٥  ثيرافادا Theravada: أحد فرعي البوذية الرئيسيين، وتسمى أيضًا هينايانا Hinayana، بمعنى مذهب السلف أو الأقدمين، ولذا تعتبر مذهبًا محافظًا. ويسمى الفرع الآخر «ماهايانا» Mahayana، ويشيع في اليابان وكوريا ونيبال والتبت ومنغوليا والصين. (المترجم)
٦  لغة بالي Pali: أحد أشكال اللغات الهندية غير السنسكريتية، وتُسمَّى براكريت العامية. وكانت لغة بالي هي اللغة الأصلية للمخطوطات البوذية المقدسة في جنوب الهند. وتشير عبارة «متون بالي» أو «شريعة بالي» إلى هذه الأعمال القديمة لبوذية هينايانا. (المترجم)
٧  يقدم شارلس هاليس في لوبيز ١٩٩٥م مناقشة للأسانيد الأيديولوجية لدراسة ريس دافيدس.
٨  للاطلاع على دراسة تفصيلية عن تاريخ الدراسات البوذية في الغرب، انظر دو يونغ ١٩٧٤م.
٩  تعني في البوذية والهندوسية الدورة الأبدية للميلاد والمعاناة والموت ثم ميلاد جديد. (المترجم)
١٠  للاطلاع على مسألة موقف شوبنهاور من النيرفانا، انظر ويلبون ١٩٦٨م، الفصل ٥.
١١  لمناقشة التشاؤم المزعوم عند شوبنهاور انظر غيرسيترنغ ١٩٨٦م. ويمكن الاطلاع على مناقشات عن علاقة شوبنهاور بالفكر الهندوسي والبوذي عند أبيلسون ١٩٩٣م، وهالبفاس ١٩٨٨م، وماغي ١٩٨٧م، وشواب ١٩٨٤م.
١٢  عن أسطورة الهندو-أوروبي/الآري، وعن أصول نشأتها وتطورها في القرن ١٩، انظر مالوري ١٩٨٩م، وبولياكوف ١٩٧١م، وتودوروف ١٩٩٣م. وعن تأثيراتها على الاستشراق، انظر هالبفاس ١٩٨٨م، ١٣٩-١٤٠، وشواب ١٩٨٤م، ٤٣١–٤٣٤. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الفصل الحادي عشر.
١٣  للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلًا عن علاقة نيتشه بالبوذية انظر فريزيار ١٩٧٥م، ميستري ١٩٨١م، باركس ١٩٩١م، ويلبون ١٩٦٨م.
١٤  النقد الأعلى: دراسة نقدية فلسفية اجتماعية تاريخية لأسفار التوراة؛ لبيان ظروف النشأة وسياقها التاريخي ومعانيها وتأويلاتها، ومن ثم المستهدف منها. (المترجم)
١٥  طائفة إسنس Essence: طائفة من الزهاد اليهود عاشوا في أرض فلسطين القديمة من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي. (المترجم)
١٦  يجد القارئ ملخصات ومناقشات لهذه الحجج في ألموند ١٩٨٨م، كاروس ١٨٩٧م، غارب ١٩٥٩م، كيلوغ ١٨٨٥م، سكوت ١٨٩٠م، تندي ١٩٩٣م، تويد ١٩٩٢م. ولا يزال الحوار متصلًا حتى اليوم، انظر على سبيل المثال غروبر وكيرستين ١٩٩٥م.
١٧  عن هذا الجدل انظر ألموند ١٩٨٨م، وتويد ١٩٩٢م.
١٨  ثمة مؤلفات أخرى من الفترة نفسها تناقش العلاقة بين المسيحية والبوذية، منها أيكين ١٩٠٠م، بونسن ١٨٨٠م، كشنغ ١٩٠٧م، لِيلي ١٨٨٧م، سوندرز ١٩١٢م.
١٩  سادت الفلسفة الترانسندنتالية في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر بتأثيرات من أوروبا (ألمانيا) وكذا تأثيرات شرقية (البوذية والكونفوشية والهندوسية). وترى هذه الفلسفة أن معرفة الواقع مستمدة من مصادر حدسية دون الخبرة الموضوعية. وتُعنى بما هو قبلي وبديهي في المعرفة أو إلهامي، وتقلل من أهمية حقيقة الخبرة الحسية. وترى أن الخبرة الحياتية تشتمل على عنصر لا عقلي أو خارق للطبيعة، وأنها بذلك تعلو على الفكر العام المشترك. ومن أشهر روادها في الولايات المتحدة: رالف والدو إميرسون وهنري دافيد ثورو وجون فيري ومارغريت فوللر. (المترجم)
٢٠  مجموعة فرعية من الفيدانتا، أي من منظومة الفلسفة الهندوسية التي تؤكد أن كل الواقع يمثل مبدأ واحدًا هو براهمان، وتقضي تعاليمها بأن غاية المؤمن هو التعالي على حدود وقيود الهوية الذاتية وأن يحقق وحدته مع براهمان أو الرُّوح الكلي. (المترجم)
٢١  فلسفة «الرُّوح الأعلى» سادت في نيو إنغلاند خلال القرن التاسع عشر، وترى أن الجوهر الرُّوحي أو القوة الضرورية في الكون تكون بتشارك كل الأرواح، وأن هذا يسمو بالوعي الفردي أو المفرد. (المترجم)
٢٢  للاطلاع على تفاصيل أكثر عن العلاقة بين الفكر الشرقي والحركة الترانسندنتالية، انظر كاربنتر ١٩٣٠م، كريستي ١٩٣٢م، فيلدز ١٩٨٦م، جاكسون ١٩٧٣م، رييب ١٩٧٠م، شواب ١٩٨٤م، وفيرسلويس ١٩٩١م.
٢٣  فان دو سييكل fin de siecle، أو نهاية القرن: تشير العبارة عادة إلى السنوات من ١٨٩٠م وحتى ١٩١٤م في أوروبا، وتتضمن ما يفيد توقع فترة انحلال بعد سنوات الرخاء أو بعد العصر الجميل la belle epoque في نهاية القرن التاسع عشر. واقترن التعبير في فرنسا بالدلالة على أنشطة في أوساط ثقافية في باريس وبروكسل لفنانين مثل لامارميه وحركات رمزية وأعمال أدبية [أوسكار وايلد]، أي ارتباط العبارة بالحركتين الفنية والجمالية. وتشير العبارة بوجه عام إلى مزيج من مشاعر التشاؤم المقترن بالوفرة، أو ما تنذر به الوفرة من نهاية، والتحول إلى مرحلة التحلل، وكأن بلوغ القمة نذير بالانحدار والأفول، أي نذير بتغير جذري وشيك. وهذا ما لم تشهده سنوات المرحلة، بل شهدته أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. (المترجم)
٢٤  عن هذه القضية انظر ويلبون ١٩٦٨م.
٢٥  لم تكن هذه هي الملحمة الأولى من نوعها.
٢٦  المؤمنة بالحكمة الكشفية اللدنية. (المترجم)
٢٧  لمزيد من مناقشة الجمعية الثيوصوفية وإسهامها فيما يسميه كرايمر «الغزو الشرقي»، انظر كامبل ١٩٨٠م، فيلدز ١٩٨٦م، غودوين ١٩٩٤م، كرايمر ١٩٦٠م، رييب ١٩٧٠م، واشنغتون ١٩٩٣م. وانظر أيضًا كامبل ١٩٨٠م وشارب ١٩٨٥م، أيضًا مناقشة تأثير الجمعية الثيوصوفية على غاندي وحركة استقلال الهند.
٢٨  لمزيد من المعلومات عن برلمان الأديان العالمي، انظر باروس ١٨٩٣م، بريبروك ١٩٩٢م، فيلدز ١٩٨٦م، لانكستر ١٩٨٧م، سيجر ١٩٩٣م. وكونج وكوشيل ١٩٩٣م، إذ يتضمن عرضًا موجزًا عن البرلمان، ولكنه معنيٌّ أساسًا بالمشكلات الخطيرة عمليًّا التي تواجه الكوكب الآن، وكانت النتيجة «إعلان عن أخلاق عالمية» الذي حاول إيجاد أرضية مشتركة لقضايا العالم مثل السلم العالمي والمظالم الاجتماعية والتدهور البيئي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤