بمثابة تقديم

هذا نص رحلة؛ تقرير وصفي، ونقلي، وانطباعي، عن زيارة قمنا بها إلى بلاد البرازيل، أو الجمهورية الفيدرالية البرازيلية؛ أكبر دولة، مساحة وسكانًا وثروة، في أمريكا اللاتينية. يقع بيننا، نحن في المغرب، وهذه الأرض، المحيط الأطلسي، في امتدادات شاسعة، تكاد لا تظهر لنا منها إلا أطياف أحلام ورؤى مضبَّبة، فيما ثمة عالم بأكمله يفوق غناه انبهارنا العبودي بالغرب الشمالي. العرب، والمشارقة وحدهم، مع فلول من الأوروبيين، سَلَبَتهم باكرًا، أي منذ نهايات القرن التاسع عشر، جاذبية القارات البعيدة والوليدة، فشدُّوا إليها الرِّحال ليصبحوا ساسة ورواد جاه، ومال، وعلم، وأعلام أدب؛ وقبل هذا وذاك فاتحي قارات وبناة عالم جديد.

إنه نصٌّ وضعناه خصوصًا لوصف وسرد مقاطع منتقاة، مفصَّلة ومجزَّأة، عن رحلة إلى الديار البرازيلية، استغرقت عشرين يومًا ونيفًا؛ أردناها في بدايتها سياحية صرفًا، لكن الفضول والصدف دفعتها، أحيانًا، إلى أبعد من غايتها الأولى، من ثَمَّ حفرت أفكارًا، وولَّدت أحاسيس، ونكأت جراحًا، وحفزت في الأخير على التأمل الذي يقود صاحبه إلى ما يشبه أخذ العبرة من المرئي، فتصبح المشاهدة ذاتًا أخرى في لحظة وعيٍ تنعكس على مرآة الوجوه والأشياء لتحفزها على مزيد نظرٍ وتبصُّر، مآلهما عند الكاتب ضرورة، حصيلة كلمات، ترسم جغرافية رحلة، وهوية أمة، ومعالم فضاء، وخصوصًا طعم وموسيقى حياة، دعك من جراح ذات، وأنَّى لها!

عبر خمسة عشر فصلًا، وصورة، وبحبْكٍ قصصي، أيضًا، ما سيلتقي به القارئ تباعًا، وقد انتقلنا وننقله معنا بين مدن ومساحات شاسعة، في الشمال والوسط والجنوب، في تراوحٍ بين الجبل والسهل والبحر، والسماء، فوقها، نحلق لنصل من الكراييب إلى أقصى نقطة جنوبًا. ثم عود على بدء إلى باريس، من حيث كان المنطلق؛ نلتقط الجوهري، نحتفي بالمعبِّر، كائنًا ومادة ورمزًا. لا يفوتنا العارض النافل، الذي له أكثر من دلالة، وتأسرنا — أبدًا — دائرة المقارنة، كأنك حيث ذهبت تبقى مشدودًا إلى مسقط الرأس، ومهوى الفؤاد. هناك ذهاب وإياب، وخلود إلى الجمال والغرابة، وتأمُّل في الفرق، لأن فكرة العودة حاضرة — دائمًا — في ذهن الرحالة، ولذلك يُسمِّي انتقاله رحلة، وتكون كتابته ضرورية، ولها معنى: معنى وصف العالم كأنه يُكتشَف للمرة الأولى، أو يوجد في لحظة الخلق المعجزة، وفي قلبه الإنسان مهماز الوجود وقلبه النابض، وهو يريد أن يبهر — بكشْفه — السامعين (أمس) والقراء (اليوم)، زعمًا دائمًا!

والوصف — مهما دقَّ ووُثِّق — فهو أصلًا افتتان وخشوع أمام السحر، في الكبيرة والصغيرة، يتولاه صاحبه بأداة اللغة، والصورة المضاعفة، والذاكرة اللعوب، وهذه كلها مرايا خادعة، أوَليست حقيقة كوثيقة وصورة الجغرافي؟ نظن أن الحقيقة توجد دائمًا في مكان آخر، لِنقُل إنها تتموَّج في أعين القراء، وبحسب ثقافاتهم وأهوائهم. وكذلك هي، عند كاتب هذه الرحلة، مع فارق أساس أنه واضعها؛ لذلك يطلب المغفرة والسماح من كل شطط. ألسنا نقول إن «اللسان بلا عظم»؟ لكن أخشى أن أعترف بأن الهوى ظل هناك، أوَليست أرض الحب واسعة؟

هي من أرض الله جل جلاله، والبرازيل، كما يسمِّي قسمًا منها أهلُ «ريو دي جانيرو» هي «حديقة الله»، وسكانها من أقوى من عرفتُ إيمانًا وتقوى وتعلُّقًا بالغيب، وكذا، عشقًا للحياة التي هي امتحان للإنسان كي يذوق غدًا من ثمار تلك الحديقة الغناء. لا أعرف إن كنت أستحق وصفها، ولكني موقنٌ أنني فعلت ذلك إيمانًا بحب الحياة، وتمجيدًا للإنسان الذي يجترح فيها تحديات الحضارة والبناء، وقبل هذا وذاك خشوعًا أمام قوة الخالق، الذي ليست البرازيل، التي حسنت في عيني فأهديها لكم، إلا واحدة من آيات خلْقه البديع، وإحدى دُرر ملكوته المتفرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤