بمثابة تقديم ثان

يرتاح المسافر عادةً بين رحلتَين، أو تُراه يستأنف سابقَه وقد غنم لذَّة التجوال، وآنَ له أن يعود إلى سالف العهد بالعمل لِكسب العيش بعد أن حطَّ الرِّحال. وبالنسبة لمن مهنته التدريس، فإن فصل الصيف يتيح مزيدَ وقت، ويغري بالمكث خارج البيوت وبعيدًا، مؤقتًا، عن دبيب الحروف وجدل الأفكار. قبل أن أقصد بلاد البرازيل كان المشرق العربي وجهة مرسومة في ذهني، وتحديدًا الأردن ولبنان. في الأول لي أصدقاء لا بد من صلة الرحم معهم، خاصة وهم في ضنك نفس وعيش. أما الثاني فهو صهر لي وحبيب، فيه أهل، وتستدعيني إليه ذكريات واستيهامات، بيروت أمها، لا يشيخ معها القلب حتى لو وهن الجسد.

ورغم أني باعدت بين الوجهتين، فإني وأنا في الرحلة البرازيلية صرت، بحكم عوادي الدهر، غارقًا في الحالة اللبنانية. هي، في الواقع، وضع العدوان الشامل الذي شنَّته إسرائيل على بلد الأرز، بدءًا من ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٦م، ليستمر ثلاثة وثلاثين يومًا بعدها، تدميرًا وقتلًا، في الجنوب خاصة. أفدتُ من زيارة الأرض الأمريكية الجنوبية، حقًّا، واستمتعت، كما عدت محمَّلًا بما سطرتُ بعضه فيما سبق من أوراق، وبعضه الآخر لَكَم أحب أن أعود إليه في مستقبل الأيام. لكنها، ويحها، كانت متعة منتزعة من بين الأشلاء، منقوعة في دم الأبرياء، ورُواء الذات فيها لا يهب الإرواء، أو هو مكابدة فوق لظى الأهواء.

لذا، وقد عدت إلى باريس، صرت أنتظر متى يتوقف العدوان على لبنان، وتصبح ريح السفر إلى الشرق مطواعًا، لأشدَّ الرحال — من جديدٍ — نحو ما ينبغي أن أقف بنفسي، على ما رأته العين مهشمًّا، مدمًّى ومشظًّى، لا أعرف هل لأقتنع أكثر، أم لأزداد غضبًا، أم لأن وخز ضمير لاحقني وأنا أجوب أصقاعًا أخرى، بينما ثمة عرب أرضهم وأجسادهم تصير إلى يباب؛ وهكذا فإني، والحرب تضع أوزارها، والمقاومة اللبنانية تدحر العدوان.

ركبت الطائرة قاصدًا الأردن أولًا للغاية المذكورة، وعزمي أن أطرق بيروت بعده مباشرة، وليس ببالي تفكير الرحلة، أو ما يمكن أن يحمله التنقل بين الأمصار من مفاجآت أو طرائف أو يحتاج جدارة إلى التدوين. ولقد نفذت خطتي، فاضت فيها مهجتي أحيانًا ولعًا تارة، وحزنًا تارة أخرى، وبالإحساسين، وبين ما تقلبت فيه خلال هذه السفرة العربية المشرقية، أحببت أن أطلع القراء على ما وجدتني مقبلًا على وصفه وسرده، تتنازعني في ذلك مشاعر وهواجس وأفكار شتى، ويهمني أكثر منها ما تراه العين هي عندي في هذا المقام وحدة القياس الأولى وما يليها ثانٍ في المقام. ولا أكتم القراء، وأنا مقدم على هذا التدوين الرحلي الجديد، أني سجين إحساس بمفارقة كيف أني سأنتقل، وأنقله معي من عمران الرحلة الأولى إلى ما عنونته — إجمالًا — باليباب، ولست في هذا واقعًا تحت تأثير الشاعر الأمريكي الأنكلوسكسوني الكبير ت. س. إليوت الذي يتماهى يبابه مع زمنية ذات خصائص حضارية متمايزة، لها جذور ثقافية فلسفية وأبعاد سوسيو-تاريخية.

لكن خاصية الانهيار تبقى مشتركة بين القطب الإبداعي والقطب الإنساني، وهي التي يمكن أن تولِّد نتيجة واحدة أو متقاربة رغم تباعد المسافة، وما يظهر من تفاوت الثقافة والمعاناة. لذا نرى أنه لم يكن صدفة أن يعرف الشاعر العربي اللبناني الكبير خليل حاوي، وهو الإليوتي المنزع بامتياز، نهاية الانتحار المفجعة في «كرشندو» السمفونية الجنائزية للحرب الأهلية اللبنانية.

على أن يبابي ليس حطام بيوت وحسب، بل هو انهيار أشمل يمتد إلى ما هو أقوى وأنبل، أو يفترض كذلك، إلى الإنسان وحلمه وقيمه، ما كان عليه ولن يصبح بعد. كأن العرب حدثوا مرة واحدة في التاريخ، ولن يتكرروا إلا على صورة نقيض هي البهاء والصواب؛ الصورة التي تجعل واحدًا مثلي، وُلِد على ساحل «بحر الظلمات» المسمَّى — حاضرًا — المحيط الأطلسي، يشتاق لعقبة بن نافع جديد يعيد زهو الفتح، يحمل إليه نفحات الشرق الأولى، ويعيد ما كان عليه العرب من مجد تليد. لكني إزاء ما رأيت في المشرق، في جزء منه فقط، ومشاهد اخترتها بعينها، وهذا ما يحدث عادة للمسافر، وفي الكتابة، السردية خاصة، القائمة على مبدأ الانتقاء، لن أقف إلا على ما يشدني إلى هذا اليقين، شكلًا ودلالة، وأنا أحاول أن أستجمع نفسي أو كلماتي متراوحة بين الجمر والرماد. ومؤكد أني لن أخرج معافًى، ومن يبحث عن السلامة لا يبرح شبرًا بيته، أو يسافر بدماغه في الأحلام والأوهام. لكن المفارقة أن الشرق بقدر ما هو واقع صلد، هو — في آنٍ — عالم طافح بالأهواء والتخيلات، لا لأن الغرب صنعه وعشقه على هذه الصورة، كما يشهد بذلك الاستشراق العجائبي، وإنما لأن الخيال يقيم في نسغ تكوينه، ولأننا — نحن أبناءه — لا نطيق الوجود خارج هذه المقابلة/المعادلة، نعي أنها الشق الثاني لوجودنا قدر ما تعوض عن عجزنا وخساراتنا؛ هكذا نحن فرسان، وفحول، وشعراء وجوَّالون في الآفاق، نزعم أننا نبحث عن شيء، وما نحن إلا نبحث عن معيشٍ ورؤًى، إما فاتت ونريد أن نسترجعها سدًى، أو «نحاول مُلْكًا أو نموت» ولن نعذر.

لذلك في كل رحلة إلى مشرقنا العربي يسبقني وجداني، أعرف أنه يشوش عليَّ الطريق والتماس الأمور كما هي، لكن من شبَّ على شيء شاب عليه، وبدونه سأصبح آلة تصوير لاقطة فحسب ينقصها حسُّ التوجيه ولمعة الإضاءة الخاصة. وأخاف أن يكون هذا الوجدان — وهي بالمناسبة لفظة مثقلة بالمعنى، وإن شغلت الذات منها المركز — هو إبدال الموضوع، وإن تحايلت على تجنُّب ذلك بطرقٍ شتَّى، لا أريد الإفصاح عنها، احترامًا لذكاء القارئ، أولًا، واستدعاءً دائمًا لمشاركته لي في طريق، اعتُبر أن مرافقته فيها تزيد في تعبيدها وتهوِّن من مشاقها، ولا رحلة بدون مشقة، تمامًا كما لا معضلة في الحب بلا لوعة وفراقٍ.

غير أن هنالك شاغلًا آخر لا مناص من إثارته في مدخل سرد هذه الرحلة الثانية، لصيق بالشاغل الوجداني ومفارق معه في آنٍ؛ مؤداه يا سادة، أن من يسرد الرحلة هو عينه ذاتها، وإلى حدٍّ موضوعُها، بما أنه يرصد ويعلق بعينها وحافزها، فعلامَ الاعتماد، وإلامَ المرجع في الحالين؟ لنقل إنهما يتبادلان الدور، تارة، وأخرى يتماهيان، والمنظور هو الفيصل في التعيين والتصنيف. لكن حتى إن قبلنا بأن للوجدان سطوة ما بغلبة حضور الأنا، لنعلم أنها أنا مركَّبة، مزدوجة، مثل الشرق تمامًا، واقع وخيال، حلم ومنال. ثم يباب، يباب، كأن قدر أمتنا، منذ نكبة فلسطين في ١٩٤٨م، ألا تعيش إلا في الفقد والأحزان، ألَّا يكابد أبناؤها، ولا يكتب كُتَّابها، إلا جريرة الهزائم والخيبات، فإن لمع شهاب فرح في قولهم فقد قبسوه من مجرَّات أبعد، لا من سماء البلاد. لا بأس، ربما نحن منذورون للمأساة اليوم كي يعانق أبناؤنا نيازك العيش الرخي، غدًا، لا بأس إن كان ذاك كذلك، وفي انتظار الفرج، بل وحتى ما لن نراه نحن، يبقى القول الرحالة أفضل من خمول الحس وغفوة الإحساس، وأعظمه «والقلم وما يسطرون.»

١

وصلتُ إلى مطار عمان (١٠ سبتمبر (أيلول) ٢٠٠٦م) قادمًا إليها من باريس. كانت وجهتي الأبعد والأطلب هي بيروت، بالأحرى لبنان كله، بعد تعرضه لعدوان إسرائيل. في مطار العاصمة الأردنية التي زرت من قبل مرات، ولي فيها بعض معارف وبضع ذكريات لم أقضِ — عمليًّا — إلا دقائق بين ختم الجواز وتسلُّم الحقيبة، والمغادرة من ثَم إلى المدينة. فوجئت — حقًّا — بسرعة الإجراءات قياسًا بما كانت عليه من قبل. خرجت من الطائرة، وخضتُ في ممر طولي أفضى بي إلى آخر، ومنه اتجهت إلى حيث عُلِّقت لوحة كُتِب عليها «العرب»، خلفها حاجز خشب وراءه شرطي الحدود الشاب بلباس مدني، ابتسمت له وردَّ الابتسام وقد أصبح جوازي تحت نظره، وقرار ختمِه أو صدِّي بيده، وفي رأسي أكثر من توقع موصول بماضٍ قريب وبعيد.

كنا ننزل هنا قادمين من المغرب أو من عاصمة أوروبية، نحن المدعوين عربًا، فندفع جوازاتنا لما نظنُّه عملية ختم روتينية، خاصة وهي تحمل تأشيرات لم نحصل عليها إلا بعد التأكد أصلنا وفصلنا، لكن نكتشف أن كل شيء يبدأ، سيبدأ في المطار، وأفضل ما يمكن أن يتحلَّى به المرء هو الصبر وترويض الانتظار. يحملق فيك الشرطي مبهوتًا كأن شرًّا مستطيرًا حاق به، وبنبرة لا تخلو من حدة يسألك من أي برٍّ تسلطت على هذا البلد؟ ولماذا تأتي إلى هذا الصقع من الأرض؟ ومن تعرف فيه؟ وصولًا إلى متى ستغادره أنت الذي لم يلجه بعد. وهو — طبعًا — لا يكاد يعبأ بأجوبتك، وعيناه بين الفينة والأخرى تثقبان وجهك وتمتصان ما تبقى فيه من دم. وأخيرًا؛ وإذ، أن قلَّب جميع صفحات الجواز، ولم يبق مزيد، تقول ها أفرجت وسيضع ختمه الميمون لتدخل أخيرًا إلى جنات عدن، إنما عبثًا. يقف مسئول الحدود ويقول لك انتظر، أي اغرُب عن وجهه وقِف جانبًا لأنه أرسل جوازك إلى جهة أخرى أعلى منه لتدرس حالتك، وهي من يقرر أبشرٌ سليم أنت أم شاة جرباء. والحاصل أن «أبو المخابرات» هكذا يسمونه في المشرق العتيد، يُطل بهامته، ويعيد التفحص والسؤال، لعله يهز فيك مكمن ضعف فتستسلم في نهاية المطاف لحاسة شمِّه التي تُوقِع بعتاة المجرمين والإرهابيين والمتآمرين على أمن الدول العربية وسلامة حكامها من الخليج إلى المحيط، وبالعكس. ثم ادخلوا عمان بسلام آمنين، لكن هل تخرجون منها آمنين كما دخلتم؟ لا أحد عنده علم يقين، حتى ولو كان الداعي هو السيد فخري قعوار رئيس اتحاد أدباء الأردن، قال لك: لا تجزع من شيء؛ إن الله والأمن معنا، كن على يقين. تأتي وتحضر مؤتمر الأدباء العرب، وبعد ثلاثة أيام من الإقامة والكلام عن الأدب، والله العظيم لا حديث في غير الأدب أو ما شابه مما لا يقضي الأرب، وتحل ساعة الإياب، وها أنت وصحبٌ عربٌ في المطار، وخلف الشباك يفحص رجل الحدود جوازاتكم، وها هو يشتبه فيكم، وأنتم أربعة لا واحد، أي أنه بمثابة تنظيم، ويتطاير الشرر من عينيه، يذهب ويجيء من مكتب إلى آخر، ويُعلمكم بأنه ليس بإمكانكم المغادرة أيها السادة الأدباء «سابقًا» حتى إشعار، وقضيتم وقتًا تنتظرون — سدًى — أن ينجدكم قعوار، حتى زهق الباطل مؤقتًا، ووصل فرمان صاحب القرار!

قدمتَ جوازك فنظر إليك الشاب محييًا واكتفى بالسؤال: أين ستنزل؟ فأخبرته — صادقًا — بعنوان؛ على الإثر ختم، واختتمت الشوط الأول في رحلة المشرق مع الوصول إلى الأردن، أرض الأنبياء. كان مطار بيروت قد قُصِف، وإسرائيل بعد إعلان الهدنة فرضت حصارًا بحريًّا وجويًّا على لبنان، فلا سبيل إلى الوصول — جوًّا — قبل أن يرفع الحصار تدريجيًّا. وقلتَ: البر سالك إلى لبنان بعد عمان، وإن لك فيها مآرب أخرى؛ إنما كيف، وبأي ثمن، لعله رغم ما تغري به السجعة مما تشيب — لذكره — الولدان.

٢

قلت إني لم أكن حديث عهد بعمَّان، وعدا مناسبات ثقافية محض، فقد صارت معبرًا لا محيد عنه بعد؛ إذ ألمت الكارثة بالعراق جراء فرض الحصار عليه إثر حرب الخليج الثانية سنة ١٩٩٠م، فاستباحت قوة الحلفاء سماءه فيما منعت غيرها من الطيران، ولم يبقَ سبيل للوصول إلى بغداد غير المملكة الهاشمية، أصبحت فعلًا محجًّا لأفواج من عرب ومن عجم للذهاب إلى أرض الرافدين، فانتفع من وراء هذا أناس، وازدهرت تجارة، وراج نقل، وثار هرجٌ، أيضًا، وصحَّ، أكثر من أي زمن آخر، المثل السائر: «مصائب قوم عند قوم فوائد.» حوصر العراق، ولكن بقي على حاله في استضافة الأشقاء إلى المؤتمرات، ومنهم المغاربة. ولقد كنت من بين أوائل حلُّوا بالكرخ والرصافة لما أوفدتني صحيفة «المحرر» الاشتراكية المغربية لإنجاز تحقيق شامل والنار لمَّا تنطفئ، التمست فيه الطريق للوصول، ورأيت الأشلاء ودخائن الاحتراق في الأجواء بعد، ودخلت بغداد والجسور والبنايات الحكومية منهارة، فكان ذلك من أقوى ما رأيت — حتئذٍ — من أشكال الدمار. وحين طرقت البر مرارًا صارت لي خبرة بالنقل البري، وبمحطة العبدلِّي على الخصوص، وهي تغلي بالسيارات والحافلات إلى كل اتجاهات الأردن وعواصم الشرق، تأخذك إلى الشام وتركيا والعراق والمملكة العربية السعودية، ولن تعدم مجازفًا يعرض عليك الوصول إلى الهند والسند.

تقع المحطة في منطقة العبدلي في أسفل منحدر نازل من أعلى عمان الحديثة، ولتكون بداية امتداد منحدر جديد تحسبه — إذا نزلت فيه — لا ينتهي، يصل بك في الأخير إلى منطقة وسط البلد، أي عمان التاريخية أو جزء منها. في المحطة خليط من بشر، وجوه وقامات وأعمار وهندام، لأقوام ينتمون إلى جهات مختلفة، لن يفوتك أن تلاحظ غلبة البداوة عليهم، يطوف بالجميع صرَّافون وسماسرة وشحاذون، فلصوص ومخبرون، أيضًا، يتشمَّمون الغرباء. لا حاجة لي بهؤلاء جميعًا، وأنا نزلت هنا لغرض محدد، أن أتعرَّف على السيارات التي تذهب إلى الشام وإلى بيروت مباشرة، فهذا أفضل لي، وسريعًا تعرَّفت على الأوقات والأسعار، إنما على وجه التقريب، فالضبط من عند الله، هذه هي العملة الثقافية هنا، وتعال مبكرًا في الصباح ونرى. قررت قضاء بضعة أيام هنا قبل تنفيذ المشروع، وأملي أني حين أصل سأجد ضجة الحرب أخف. رغم أن عمان من بين أكثر عواصم الدنيا ضجيجًا، وسرعة جنونية في السير حتى لا إمكان لمرور المشاة؛ فإنك تألفها في النهاية، أو تتناسى صخبها الصاعق، وطابعها الهجين بين البدونة والحضرنة، وتحب أن تفكر وتنال الأفضل غاضًّا الطرف عما لا يعجب في انتظار أن يتحسَّن. لكن هذا لا يمنعك من التفكير في حال المدن العربية كلها انطلاقًا من مكان واحد. ويصبح التفكير إشكاليًّا وأنت تضع نصب العين نموذج المدينة الغربية. أما إن كنت تعيش في هذه المدينة بالذات فالخطب في باب المقارنة أعظم، وعندئذٍ لن يظهر لك إلا العيب أو ندوب على الجدران بعد أن تفشَّى القبح، وفاح العطن، وتهالك ما كان من سالف العمران. لكن وشم الزمن إذا كان مثار أسى فهو في الآن نبع حنين؛ لذلك تحب الضعن بعض الوقت في المكان القديم، ترى المدينة تُسامِت النجوم في عُلُوِّ، وبناياتها العالية ناتئة كأنها أظافر الجبال، وشبابيكها المضاءة مثل ضروع تسقي الزوار — مثلي — حليب التاريخ، والليل الكتوم في الحواري الغافية يفوح بأريج الياسمين المعلق. عندئذٍ لا بد أن تنسى مصير الهلاك الذي يلحق الأرض الفانية، حتى قبل الأوان.

في الصباح يذهب كلُّ مستيقظ إلى المغسلة ليفرك عينيه جلبًا للصحو، وأنت تدفع ذراعك لتقع تحت أول بقعة شمس، تعود تتشمَّمها سريعًا لأن فيها رائحة الشرق، التقطتها مباشرة من الشمس. وفي الخارج توسِّع خُطاك لتتناول أكبر كمية من الضوء الساطع، رافعًا وجهك صوبها قبل أن تحمى عينها، لتلفحك، فليس لمثل اللفح هنا نظير. وإذا كان الأوروبيون يميزون مدنهم بضباب لندن، مرة، ورمادي السماء الباريسية خريفًا، مرة أخرى، فعمَّان تُعطاك غادية على وجهها وشاح أبيض غير منظور، لكنه شفاف دائمًا؛ يترك الخيوط البلُّورية تدفئ جلدك إن قدمت من برودة الشمال، وتنعش جوفك إن وصلت إليها على راحلة الشوق والنصب من صهد الرمال. هنا ستجد من الصنف الأخير كثيرًا، وتروح تقلب الأنظار طويلًا في العابرين بينهم وجوه مقدودة من الصخر الأسود للجهة الشرقية، وفيهم من لهم عيون الصقر، منهم من يمشي أو يجلس ترافقه أو تظلِّله سحابة لا مرئية، لأنه ببساطة سبط الأنبياء. أنت تستنشق المكان، له رائحة شأنه شأن الإنسان وأكثر، تبقى تحملها في أعطافك وتلافيف الذاكرة، ودائمًا في حنايا القلب كلما شطَّ المزار. لم يبكِ شعراء الجاهلية الأطلال، بكَوْا الزمن الذي لن يعود؛ جمراته متقدة — بعدُ — في الداخل، والأثافي رمادها سفَّتها الريح في الخلاء. عجيب أمر الأطلال؛ على قِدمها باقية، محطة العبدلي باقية، وكم مرَّ بها من مسافرين، محبِّين، حزانى، سعداء وأشقياء، الرابحين والخاسرين على السواء. لعلهم جميعًا صاروا إلى زوال.

وفي سنوات خلتْ قصدتَها تبحث عن سيارة تقلك إلى بغداد، وجهُها يومئذٍ صفائح أنقاض، ذهبتْ يا صاح بددًا، أين منها إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. ها أنت تقصدها اليوم تبحث دائمًا عن سيارة لتقلك إلى أرض عربية أخرى ليس لها هي الأخرى غير الخراب من زاد ومعاد. أَوَلَم يتبدَّل أحد، شيء، بين أمس واليوم؟ أما زلت تغذُّ السير بذاك العناد، أم تعاند فقط لوجه البقاء بلا قيادٍ؟ بلى، كثير، طبقات الأرض العربية منضَّدة على الوجه ترسم خريطة تجاعيد الخراب الآتية. كلما أعطيته للمرآة كي تحلق ذقنه لمحت عدوى التفسخ، وأنت وراءه، لتتبع خط الشقوق، هي تسري من خط الطول المغربي إلى خطوط العرض في المشرق، وأنت كأنك تريد أن تلحق بالانهيار مخافة أن يخفوا عنك الأثر، ويعود كذب العمران والسلام مُزبدًا فوق الشفاه، وتزدحم في محطة العبدلي دائمًا قامات المسافرين إلى أمسهم، إلى غدهم الأعمى، منهم الغادي حتى لا نهايات الزمان.

سألت نفسي ألا أكون واحدهم، وإلا كيف أفسر شتات الجسد من بلد إلى بلد، وقبض لقاء النفس وهمٌ — كان حلمًا — وأي حصيلة غير أنْ أواصل الضرب في الأرض لعلِّي أسترجع صورتها من خريطة الأطلال الجاهلية وصولًا إلى أعمدة الجامعة العربية الهاوية. أعرف، لا خولة تنتظرني ببرقة ولا في ثهمد، ولا عندي — وقد غرق البحر الذي كنا سنُغرِق فيه أعداءنا — أي ملاذ. بالأمس فقط كنت شجاعًا، مقدامًا، مقدوحًا بنار الكشف والانبهار، والآن، طريقي تقوم فوقها حواجز الخوف، والترقُّب الحذِر، والشك واقفًا على حدود الانهيار بألف سؤال. لا جواب، طبعًا، لا قرار غير تركيب مسافة ثانية وعاشرة لتكرار السؤال المحال: مَن أنا دائمًا؟ ماذا أريد بعد كل الذي أردت، سواء أخذت أو تهت؟ أم أني، وطوفان المنايا حولنا عائم بعد انكسار ألوية النصر، وانفضاح السر، أن الإنسان العربي في هذا العصر حقًّا لفي خسر؛ فقلت، لا بأس، استعجل الزوال. وقلت لا بأس، أيضًا، من زيارة أخيرة، أمس إلى ليلى بالعراق مريضة، واليوم إلى دار لبنان بعد الخراب الجديد، نبكي فيها الديار كما بكى ابن خدام، وقد حاولنا ملْكًا ومتنا، ووالله لن نعذرا!

٣

السادسة والنصف صباحًا، وكما طلب مني مسئول وكالة النقل، وصلتُ إلى مكتبه في العبدلي بالدقيقة المضبوطة، تحضر في هذا الوقت وستجد ركابًا غيرك، وننطلق إلى بيروت، وعمومًا كلما حضرتَ باكرًا فذاك أفضل. نعم سيدي، ووجدتني الأول، وبعد ساعة جاء الثاني، وفي الثامنة قال السائق، وهو كما سيتبيَّن قائد، سنترك المحطة لنأخذ مسافرين اثنين من سكنهما مباشرة. وانطلق يخوض في شوارع عمان تضطرم حركة السير من «وشِّ» الصبح. نهبط المنحدرات، نصعد التلال، إلى أن وصل ليجد مسافريه، لكن أمتعتهم بحمل الجبال، وبعد تفاوض ركيك، لم يُفضِ إلى شيء، شتمهم وشكاهم إلى الله أن يأخذ فيهم الحق، مما اضطرنا إلى العبور عبر المحطة، حيث منَّ الله علينا براكب «لُقطة» وفهمنا أننا، لنغادر للتوِّ، علينا أن نكمل ثمن مقعدين شاغرين، فالأصل عنده على وجه الحق، لا كما كذب الوكيل، خمسة مقاعد للسيارة.

يشفع لسائقنا خصال عديدة، أهمها في السفر أن عربته جيدة ونظيفة؛ هو بدوره نظيف، حليق؛ أكثر مَيلًا إلى الصمت لا ثرثارًا مثل حلاق؛ منتبه إلى قيادته، مرتاح فيها، غير مشدود الأعصاب أو متوتر مثل أغلب السواقين يحاربون طواحين الهواء، والحق أنه — فوق كل اعتبار — رجلٌ مهذب وخدوم. ستنفعنا الخصلة الأخيرة — على الخصوص — في تسهيل بعض إجراءات الحدود الأمنية والجمركية، فباسم الله ما شاء الله سيتبيَّن أنه للوصول من الأردن إلى لبنان، عبر التراب السوري طبعًا، في مسافة تقل عن ثلاثمائة كيلومتر ستحتاج إلى التوقف في عشرة مواقف، دعك من الحوانيت، وبيوت النظافة أحرى أن تُسمَّى نقاط القذارة، ومثلها كثير.

في المركز الحدودي الأردني «جابر» أخذ الرجل جوازاتنا ووجَّهنا — مثل تلاميذ في رحلة دراسية — إلى الخانة المطلوبة: الأردنيون، السوريون، الأجانب، العرب. وقفتُ في الممر الفارغ لهؤلاء من غير أن يدوخ رأسي بهذا التقسيم، فقد وطَّنت نفسي بعد طول مران، وتنقل في أرض الناس، أن آخذ أمورهم كما هي بلا تفلسف ولا صداع، ما دمت سأعود في النهاية إلى ما أعتبره نسقًا طبيعيًّا لحياتي. دفعت جوازي إلى ولدٍ بوجه صغير حقًّا، تحسبه يتدرب لصغر سنِّه. ألقى عليه نظرة وسألني، عيناه تتقلبان بين الورق وملامحي: حضرتك من أصل مغربي، وهو لم يسأل في الحقيقة لأنه وجَّهني إلى زميلين له من عمره الفتي، تفحَّصا — بدورهما — جوازي من غير سؤال، لكنهما ما لبثا أن طلبا مني شيئًا لم أعهده في أي مطار وإن سمعت عن استحداثه، وكنت أحسب قبل أن تُخضِع الولايات المتحدة الأمريكية القادمين إليها له، أنه خاص بالمجرمين أو المتهمين حتى تثبت براءتهم ومن في ضربهم. طلب مني أن أبصم على آلة خاصة بالبصم، عبارة عن زرٍّ تضغط عليه إبهامك بسرعة وينتهي الأمر. طلب مني ذلك بآلية، أي من غير أن يفكر أن هناك من سيعترض على هذا الأمر لأنه غير عادي، أو استثنائي، وقبل أن أفصح عن استغرابي أو استنكاري كنت قد انصعت، ما دام شاغلي الأساسي هو أن أقضي حاجتي، ولأني افترضت وجودي في مطار أمريكي وسأضطر حتمًا لتنفيذ الأمر، عاجلًا أو آجلًا، سيعمم هذا الإجراء؛ بصْمَتي موثَّقة في بلادي، ليوثِّقوها، إذن، في الخارج أيضًا، وجميع مصالح الأمن ومكافحة الإرهاب، ابتداء من هذه اللحظة، ستعرف أو ستطمئن إلى سلامتي من وباء الإرهاب، وسأطمئن بدوري حين لا يُلقى عليَّ القبض في أي مطار — حتى إشعار آخر، طبعًا — أنني خارج هذه الفصيلة الموبوءة، وتجنُّبًا لميلي إلى التهويل سأعتبر المسألة جزءًا من رهان العولمة، وأنا أحب العولمة فعلًا وجدًّا، جدًّا!

لم أعلم إن خضع رفاقي في الرحلة إلى المعاملة ذاتها، ودخلت في صمتٍ موسوس إلى جوار السائق السيد صادق الذي استكان إلى سجائره، واحدة تعقب الأخرى، لم يُجدِ تأففي الظاهر معها نفعًا. لا أعرف بلدًا — كالأردن — يُقبِل فيه السواق والسكان عمومًا على التدخين، تكاد تختنق من رائحة التبغ في أي سيارة قبل أن تركبها، وترى الأفراد جالسين خلف المقود بيدٍ سيجارة، وبالثانية الهاتف المحمول والكلام المتطاير في الهواء، أما السيارة فتمشي وحدها تقريبًا، بسرعة قياسية، خاصة أن لا أحد يجرؤ على عبور الشارع، الذي هو عمليًّا طريق سيَّار، وإلا التحق بمئات مطاعم ودكاكين الوجبات الثقيلة والخفيفة المنتشرة على طول طرقات البلاد وعرضها، مدعوسًا، مهروسًا، جاهزًا للبلع حينه. من حسن الحظ أن «صادقنا» لم يكن من هواة البصاق، من أولئك الذين في مشرق الأرض كله، ومغربه، أيضًا، يبصقون إثر كل «شفة» سيجارة ليس بينهم من يعبأ بمشاعر الناس، دعك من نظافة الطريق. النظافة، يا للهول! هذه عبارة يوسف وهبي الشهيرة في أدواره الدرامية المثيرة. لكنه لو اضطر — كمسافر — إلى التوقف، حاشاكم، في مراحيض حدودنا العربية، كما يحتاج كل مخلوق بعض وقت عُسْر، لوجدتَه يُوَلِّي الأدبار، هاربًا بعد أن قاء ما في أمعائه وهو يولول: «يا للأهوال!» عدا حاجتي التي اضطررت أن أقضيها كيفما اتفق، والغثيان يسد أنفاسي، وجدتني أشفق على حال أناس طيبين اضطروا للبقاء أطول لفريضة الوضوء نية في أداء الصلاة، وأرى أطرافهم تتمرغ في القذارة، ولم أجد ما أُسكن به قرفي سوى أن الله يحب الصابرين. لكني لم أمنع نفسي من التعليق، وقد استأنفنا طريقنا في التراب الحدودي إلى لبنان، من إعلان اشمئزازي من درجة احتقار سلطات هذه المناطق لبني البشر، ذلك أني لم أجد تفسيرًا معقولًا لكل هذا القرف غير أنه لون إضافي من الاحتقار الذي يعامل به المواطن العربي في مشارق الأمة ومغاربها.

تركنا الشام في الاتجاه الأيمن، وخضنا في الأيسر عبر طريق منحرف، وكنت أحب أن أزور دمشق لولا أن لا أصدقاء لي فيها ولا أحبة، أو بالأحرى كانوا، «منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر …». آه، لو تأخر أبو عوف قليلًا، لو انتظرني قبل أن يرحل، أنا أعني الروائي الكبير جدًّا عبد الرحمن منيف، الذي تعرَّفت إليه في المغرب أولًا مطلع السبعينيات، وفي بغداد سنة ١٩٧٨م صدَّقنا على التعارف، وفي باريس صرنا أصدقاء زمن أقام فيها بين ١٩٨١م إلى ١٩٨٥م، ولم ينقطع حبل الود إلى أن وافته المنية الهوجاء، فأضعتُ صحبته مع غيره وسواهم من الأوفياء. وحين كنا قد تركنا شوطًا من السير أبعد عن عاصمة الأمويين الفيحاء وجدت لسان حالي قول الشاعر: «وتلفَّتتْ عيني فمذ خفيت/عني الطلول تلفَّت القلب.» وعدت أعالج حسرتي بأن هذه ليست أرض عبور، بل مجد وحبور: «وأين في غير شام يطرب الحجر؟!»

وبينا أنا في هواجسي كانت قيادة الصادق البديعة قد بلغت بنا إلى الحدود اللبنانية، حيث نزلنا للمرة التي لا أذكر لنقف في الصفوف كالأنعام، ولندفع الجوازات للختم تحت نظرات الفحص والملامح المكشرة، سائلين العلي القدير أن تمرَّ الأمور بسلام، غير مهتمين أن تُلقى في الوجوه أوراق السيادة كأنها قطعة نفاية، أو أن يصرخ فيك شرطي حدود يفترض أنك عمُّه: «بدَّك تعطينا رقم تليفون إجباري!» فلا تلتمس له أي عذرٍ من وراء قصف إسرائيلي طال بلاده شهرًا كاملًا، لا ترى فيه سوى قلة تهذيب وعدم صلاحية لممارسة مهنة هي مفتاح محبة بلد أو كراهيته، وتسحب جوازك، تغادر البناية الحدودية وعيناك تتقلبان بين العمالة السورية البائسة والشرطي المتجبِّر يهشُّ عليها كالذباب؛ تساءلت هل هذه فاتحتك يا لبنان؟!

٤

وعندي أنها نوافل، فالأهم أمامي لا ورائي بأي حال، وجميع حكماء العالم يقولون لك لا تلتفت إلى الوراء إذا أردتَ أن تصل. الأمام هو أن أرى ما حلَّ بلبنان من خراب، ولذلك اخترت القدوم إليه عبر الطريق البري، وليس خوفًا من إدخال أي ممنوعات، لعل من بينها شخصي، كما يبيح سدنة الحدود لأنفسهم الاشتباه. فكانت الرؤية/الصفعة الأولى بعد عبور بلدة شتورة نحو منطقة مجدل عنجر اللبنانية ومنها إلى صوفر، مشاهدة أول صورة لآلة الدمار الإسرائيلية. عيناي وحواسي كلها مستنفرة للالتقاط والتفاعل مع المنظور، مطلعه جسر «صوفر» المعلق على ارتفاع كبير. الصاروخ الذي ضربه قصد القلب منه، البطين الأيسر تحديدًا تاركًا الباقي بعد أن أصابه في مقتل، أي أصبح المرور فوقه متعذرًا. وإنك لترى حبال الحديد مدلاة والأسمنت المسلح قطعًا متفسخة ينطبق عليها قول الشاعر «كأنها من كُلى مفرية سرب» والحبال أشبه بشرايين تكبَّد فيها الدم، خارجة عن مسراها في الجسم، وقد تشنجت في العراء. الجسر الذي كان مندمجًا في فضائه، واسطة عقد يصل بين بلدين، ويعطي معنى لطريق، ويتأتى معبرًا بين لبنان وسوريا، وبالعكس، لكم تُقضى به من حاجات، بدا بعد أن طُعن في القلب منفصلًا، معزولًا، معوقًا، مبتور ساق ليمشي بها، وهو بهيئته الضخمة، شخصيته المعلقة، كفَّت أن تكون مشدودة إلى السماء لأن كلَّ من يمر بجسرٍ أو يقف فوقه هو في أقرب نقطة إلى السماء، فإن كان مؤمنًا أحس بأنه يدنو من الله، من اليقين، وعندئذٍ لا يستبعد أن يحلق بأجنحة الملائكة. لا يفكر الطيارون الإسرائيليون في الملائكة، ولا في خجل الجسر من عيبه، عورته المفضوحة، هم الذين لا همَّ لهم إلا تدمير العمران وسفك الدماء.

كان جسر صوفر — قبل أن تتقطَّع أوصاله بليلة واحدة — قد استيقظ منتعشًا إثر سهرة رائقة قضاها مع النجوم، أضاءت متقدة في ليلة مقمرة، يذكر الآن — وهو جريح ممدد في سرير — الأعين المشفقة أنه تناهت إليه وشوشة محبين، ولع عاشقين، شوق سيبوح له غدًا مثل برعم سيتفتح. يذكر، أيضًا، ربما سمع نايًا عن بُعد، ومن حسن الحظ انعدمت حركة السيارات تقريبًا؛ كأنما لتعطيه عطلة، وتتركه يمضي سهرة رائقة تحت ضوء القمر. وهو شغف بالنور فاستحم بالضوء حتى تلاعبت في عينيه، وتغسَّل بدنه؛ فارتختْ أطرافه وأخذته غفوة، حسَبها في البداية غفلة فإذا هي سِنة نوم طالت، تخلَّلها حلم قصير، وكابوس سيطول، وحين استيقظ لم يصدق ما حلَّ به من هول مهول. آخر ما يتذكره قبل أن يدخل في الغيبوبة أن رأى جوفًا عميقًا تحته والوادي جاف، والأحجار مع الحصى متراصة، فخاف أن يسقط من عُلوِّه، وتتكسر باقي أعضائه على وجه الصخر، وأدرك قوته الأولى التي جعلته زمنًا يحمي عشرات آلاف العابرين على أديمه المتداعي اليوم. ثم رأى خلقًا يحيطون به — من أعلى وأسفل — وعلى سحناتهم حزن، وشفقة، وتعبير رثاء، وبينهم نساء ينهنهن: «حرام! ضيعانو! حرام! لغاية البارحة كان حلو وقبضاي! يا ضيعانو!» وتريك تراك، تريك تراك، بآلات التصوير — تحيط بأعناقهن الموفورة — يأخذن له عشرات الصور بكل «البوزات» الجديدة حتى يرينها لأزواجهن أوان الشد عندما تخور صحتهم من كل النواحي، فيفهمنهم «أن كل من عليها فان!» لم أتلفظ بالآية الكريمة، دارت في خاطري فقط، وإذا بالسائق اللائق يستخرجها مني، ويردِّدها على لسانه، ويعيد وقد أكملها: «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ملتفتًا إلينا ورأسه يدور كأنما يريد أن يلاحظ أي تأثُّر على وجوه ركابه، لم يكن لديهم على الأغلب إلا شاغل الوصول إلى نهاية الرحلة.

أظنني الوحيد من استبطأ الوصول، فغايتي الأولى هي الطريق، أهوالها القريبة وما أتخيله ويتوالد من تأثير سماع الأخبار، ولقطات الفضائيات، أجعله شاخصًا، فيما بصري لا يلتقط — على الأغلب — إلا الاكتمال. كنت أتوقع الحطام في كل مكان، إلا أن المسافر في المقعد الخلفي، ربما لاحظ تحفزي فصرح جازمًا بأنه لم يحدث شيء يُذكَر من هذه الناحية، والضرب حصل على جهة «البقاع» الأخرى، لأننا بالضبط كنا نعبر فرع طريق يطل على سهل البقاع. شيئًا فشيئًا طفقت أكيِّف نفسي على أننا صرنا في لبنان، وهو يعطى لنا في جباله وثناياه وهامات السنديان والبلوط على مد البصر؛ أخضر مخضر تحت شمس ما بعد الظهيرة ينداح بساطًا مرحًا على يمين السيارة، حيث أجلس بجوار السائق، يطفر منه أحمر قرميد البنايات والبيوت الجبلية، إما مبثوثة في قاع التربة أو منحوتة في التلال. وعندما نظن أننا بلغنا أوج الصعود تخزر فينا عين البحر كأنما بازدراء، فيا لَزرقة المتوسط وامتداده الباهر. المتوسط ليس بحرًا، وأنت تنزل من علوك إلى بيروت، ولكن هو البحر الوحيد وحده، وهو لا تجمعه الحروف التي تعني البحر، وبها يتشكل، إلا وقد أصبح اكتظاظ البنايات ملء العين تتوالى معها أكداس العمارات ولم يبقَ نتوء جبلي ولا مرتفع إلا واخترقه بناء، وإذا هي غابة «الباطون» كما يسميها بعض اللبنانيين، الذين أعادوا إعمار مدينتهم بعد أن أتى على كثير من مقوماتها الخرابُ في حروبهم الأهلية، نحن ننزلق في مناطقها الشرقية العليا، اليوم أمان وأمس كانت فيها الحرب عوان، لا تظن شيئًا من ذلك وأنت ترى أرتال السيارات تتسابق في الهبوط من علٍ أو الصعود إلى علٍ، في نشاط دائب، إن لم تعرف أرضها تقول إنها تنعم دائمًا بالسلام، لولا …

لولا الحقيقة الأحق، الأفصح من جبين الصبح تتجلى، كأنما على موعد معي، أنا الساعي إلى لبنان لأنهل من نبع الحقائق، ما همَّ سَرتْ مرة، وإلا هل ما جرى يستساغ؟! فبينا السيارة تقترب من منطقة المرفأ، وإذا حركة السير أمامنا تبطئ فلا نعرف هل حادث اصطدام أم انفجار سبقنا، وهو محتمل دائمًا هنا، أم جماعة تتبادل إطلاق النار، محتمل أيضًا. وانقطع حبل خيالي عندما ظهرت نهاية قافلة عسكرية لاحظنا أنها تنزاح أكثر يمينًا لتخفف من ضغط المرور، وتتيح جريانه من جديد. قافلة من نوع خاص، ورجالها، عسكرها وضباطها، من القوة الجديدة التي عيَّنتها الأمم المتحدة لوقف الحرب بين إسرائيل وحزب الله.

كانت فرقة إيطالية يجلس الجنود في الكراسي الخلفية للشاحنات والجيبات؛ لاحظتُ أنهم شباب يضعون، جميعًا، نظارات شمس سوداء، عيونهم مخفية، تدور مستطلِعة، بفضولٍ ظاهر، موكب المار بجوارهم. بعد جسر صوفر الحزين، ألتقي بالمشهد الثاني الذي يقطع باليقين أنني دخلت الأرض اللبنانية لما بعد العدوان الإسرائيلي الجديد. وأستطيع أن أقول عن مهمتي الخاصة إنها قد بدأت فعلًا، لا تخمينًا أو تخيلًا، ومن هذه اللحظة ينبغي أن أعوِّل على ما أرى، لا ما أسمع وأتخيل. لكن، عن أي مهمة أتحدث؟ فهؤلاء فعلًا مكلَّفون بالحدث، أما أنا ففضولي بالفعل؛ إذ لم يطلب مني أحد أن أقدم شيئًا، وتنقلي هذا وحدي أتحمل مسئوليته، وفي المغرب، مثل كل أقطار العرب الأخرى، لم توفِد أي صحيفة شخصًا لينقل لها صورة عما جرى.

صحف «جاهلية»، تتلقى الأموال، وتكتفي بالبكاء على الأطلال. هي مثل شعوبنا المغلوبة على أمرها تفجِّر غضبها في بضعة شعارات وهتافات حين يُتاح لها التظاهر، ثم ما تلبث أن تنكفئ على هموم العيش، والمثقفون يصدرون بلاغات تنديد، ويعودون إلى المقت والشخير. لست أفضل من هؤلاء جميعًا، وكل ما هنالك أن هوسي يدفعني نحو خطوة أوسع، ولأني لم أعد قادرًا على تحمُّل رؤية منابر الغير تلقنني وينصِّب أصحابها أنفسهم وصاة على الرأي والإحساس، خاصة في قضايا تُدعى مصيرية، ومنها إحساسي أنا بهذا البلد الجميل الذي أحببت … وأحب.

٥

دفعة واحدة، ها أنا ذا في بيروت. لم أعد في الطريق إليها، أو ذاك المتلهف إلى الوصول، أرقص بين ما فات وما سيأتي، وأنا أناور، بالوجوه والأشكال، متنازعًا بين التذكُّر والتوقُّع، وكم من سؤال وحيرة للجواب. نحن نذهب إلى الأماكن، ونصل إليها قبل أن نحزم الأمتعة. نستدرجها قبل الخطوة الأولى، معيدين إحياء البناء، كأننا بُناتُه، صورتَه وطلاءه وأثاثه، ثم نبدأ نسمع الحركة التي تدب في داخله، تأتينا أصواتٌ متفرقة، متنافرة، تدريجيًّا نُركِّبها لتنسجم بما يلائم الفهم، أو ما نريد أن يلائمنا، نحن المتلهفين للوصول واللقاء. تلتقي صورة المكان وهيئة الإنسان في لحظة غير متوقعة كالدهشة، وحين نصل نلهث دقائق قبيل ذلك. نعانق صدورًا افتقدناها، نستعيد الخط والهندسة، وما نلبث أن نقول سرًّا، طبعًا، لا جهرًا: وماذا بعد؟

الأماكن في الحقيقة تقيم فينا، هي لا تغادرنا إلا لمامًا، لسهوٍ عابر أو لإبدال مؤقت. لا أحد يعيش خارج فضاء محدد، حتى الكائنات الخفية كالجن والأشباح تحتاج إلى مأوًى، ونقول عنها إنها تقيم تحت الأرض أو في الخبايا الموحشة. بيروت شأنها شأن الدار البيضاء وبغداد وباريس، تتنقل معي حيثما ذهبت، لذلك أنا لم أسافر إلى بيروت، وإنما انتقلت إليها من غفلة، بل لأعترف، هذه المرة، أنني طُلتها، أحس بوخز ضمير وبعجزي في آنٍ. جئت كأني أريد أن أكفِّر عن ذنب، حتى لا يقال يومًا — أنا الذي سيقول، ولو عبثًا ووهمًا — إنك جفوت المكان الذي تحب في سوء أوان. لا يوجد أحد قبالتك أو ادعاء، وإنما شخصُك يقابل شخصَك، وبمجرد تُنزلا الحقيبة في زاوية، تعلنان مباشرة قرار الهجوم على المدينة لاسترجاع ما تبقى منها، ولمحاولة تبرئتكما من تهمة الغياب لمَّا اشتدت زِيَم.

لكن، أين هي المدينة؟ أسأل أين تقع بيروت؟ إني لا أتباله، ولا أستغفل أي قارئ جدير — دائمًا — بالاحترام، فالصور الطافية للقصف، والمباني المتفجرة، والجسور الهاوية، والخلق الهائم على وجهه في الطرقات، استنفد البكاء والصرخات، وأشلاء الأطفال والعجائز ألوية خفاقة دمًا في أي سماء، هنا فوق رأسك دخان ورماد، سقوف سوداء؛ هذا الموج العاتي يحجب الرؤية، يبدِّد يقين الرائي والمرئي، ويفرض حضوره الطاغي، حتى لا مناص من السؤال: أين بيروت، وأنت فيها؟ وصلتها عصرًا، وأعرفه وقت ارتخاء في المدينة التي من عاداتها أن تستيقظ باكرًا جدًّا. الشوارع لا هي ملأى ولا فارغة، وإن ساد الخمول زواياها في انتظار ما يمكن أن يحفل به المساء من سمر وطيبات عند من يهوون السهر، أو مثل سكان فيروز، هم جيران القمر.

حي «الحمرا»، بعصرنته العتيقة، كان، ولا يزال، إلى حدٍّ، ملتقى كل وافد، ورغم الهاربين عنه تراهم يختلفون إليه اضطرارًا كأنما بحثًا عن شيء ضائع أو منسي، وهم إنما يبحثون عن زمن لهم فيه، وفي الزمان، ضاع إلى الأبد. وقد سألت نفسي: لماذا ينبغي أن أنزل في الحمرا بالضبط، هل لي فيها حبيب أو قريب، ولم يك إلا سؤالًا مخاتلًا ما دام عَبَرَ بالبال كالبرق، وتركني أستأنس بالوجود في عين المكان، أي هنا، بالضبط، حيث حللتُ، للمرة الأولى، سنة ١٩٧٥م، وهذه المدينة الفينيقية (نسبة إلى الجنس والطائر معًا) تستعد للاحتراق في أتون حرب أهلها خمسة عشر عامًا بعدد الجثث واللحود وغبار الفناء. والله لم يقدني إليها إلا فضول خفيف، وأنا عن قرب في زيارة لأثينا، ومن يومها لم أعد أنقطع عنها كأننا أبرمنا عهدًا لا قِبَل، لأي طرف، بنكثه أو صار فضيحة. وبقيتُ عليه طوال سنوات النار، وليس هنا مقام الحديث عنه، ولكن لأذكر أن المرء يمكن أن يعشق المكان حدًّا يخرجه عن طوره، حتى بلا أسباب.

قبل عامين وصلت إلى هنا، وأصررت على البقاء في الحي نفسه، رغم أن منطقة «السوليدير»، التي بَنَتْها مؤسسة الحريري لاستعادة مجد «وسط البلد» القديم، استردَّت بهاءها وأكثر. كنت، وما زلت، متشبِّثًا بزمن خلا، والسوليدير التي رأيت عبارة عن أحجار وبنايات ومحال تجارية ومطاعم فخمة وسراي حكومي، وخلافه، لكنه جديد بحاجة إلى الزمن ليعتق، لتصبح له رائحة ولون، ولتسري فيه روح خفية عدا خطوات وأرواح ساكنيه. هذه الروح بالضبط هي التي تشد الكائن إلى المكان، تشدني إلى شارع وحي الحمرا الذي مضى على تعميره ما يزيد على نصف قرن، وشهد جزءًا من ميلاد الحداثة اللبنانية في نشاطها الاقتصادي والعمراني والثقافي، وجَدَلها الأيديولوجي والسياسي. طبيعي أن يكون القلق الأول للزائر، مثلي، الاطمئنان على حيِّه، طارقيه والمواقع المألوفة به، رغم علمي أن أي أذًى، من ناحية القصف، لم يلحقه، بقي سليمًا إلا من الأطراف الساحلية في جنوبه، كأن الأعداء والأخصام جميعًا اتفقوا — ضمنًا — على استثنائه من الشرور، كأحد مواقع ذاكرتهم الجماعية، بمن فيهم الإسرائيليون الذين تاهوا — عُجبًا فيه — زمن احتلالهم للبنان؛ أول طلقة قتلتْ ضابطًا منهم، وأذنت بالرحيل، نُفِّذت في مقهى «الويمبي» الشهير في قلب شارع الحمرا.

نَفَسي حار في مغرب يوم، صهدُه ما زال دبقًا على البشرة.

نَفَسي أسرع مني، يتقدمني — لاهثًا — كإصابة مقذوفة إلى مرماها.

وأين مرماي؟ الشارع دائمًا؛ فروعه، زاوية هنا، أخرى هناك وهنالك، ووجوه أتوقع أني سأصادفها في هذا الملتقى أو ذاك، أنا الباحث عن وجهه القديم، ليس إلا! ها الليل يبدأ، وأنا أخاف أن ينتهي خوفي من فراغٍ حولي يتسع حولي كلما مشيت. هؤلاء القوم ربما غادروا، أو نيام كأهل الكهف، لماذا سيفيقون لمقدمي، ماذا أعرف عن نسيانهم لي، ونسياني المستحيل لما فات، أو استنكاري أن الحمرا هي بعض صخب النهار، بعد «عجقة السير» ليست أكثر من سبات. منحدرًا دونها، من أعلى حي «المنارة» نحو «الحمَّام العسكري» لأطل مع العيون المسهدة، كم مرة أطللت، سواء من شرفة مقهى «دبيبو» أو حافة مجلس «الروضة» المتهالكة على بحر مدينة تمعن في الفناء.

البحر؟ هل ما جئت تبحث عنه والأطلسي الجبار هناك، ملك يمينك، ملء الشمال، أم لتسائله: كيفك؟ يسائلك: كيفك إنت؟
تنبهران معًا بالسؤال، يجيب خلسة:
أوه، بعد كل الوبال! تجيبه خفرًا: ليكن إن كان المآل.
تعرف «الروشة»، الصخرة المشقوقة فوق اللسان البحري
لشاطئ بيروت أنها غانية. تعرف أنهم الفانون وهي الباقية.
يمرُّون، يتحسسون بالعين، أحيانًا بالجدع، يعضُّون حتى بالنواجذ، على العظم منها، يتحلب ريقهم عليها، هم «عبدة الأوثان»،
عشقًا يسيحون دمعًا، ليلًا يذوبون شمعًا، من كل فجٍّ عميق يأتون، وهم حولها يمشطون شعرها، لا يعرفون أنها في آخر الليل ستجر الذيل،
تأوي وحدها إلى مضجعٍ من تراب وزبد، تباعًا بعدها ينتحرون، وتعود غدًا، ثانية، ثالثًا، أبدًا تبقى اللعوب، الرَّغوب،
تمرُّ أمامها الأجيال لزامًا، اليوم كأمس، كأنها نهاية كل الدروب.
أعود أمرُّ. أجلس قبالتك أنا المشقوق في نصفك،
لا أكلم، لا أناجي، في عيني سؤال واحد فقط،
وبعده أمضي لأدفن موتي في يباب الجنوب.
دُلِّيني كيف الطريق إلى الفطام، كيف الوصول.
رضعنا طويلًا حليب الهوان،
وما عدت أريد من دهري غير فطام الهوى،
صرِّفي أسماءه، عدِّديها، يا الصخرة العنود،
لكن قبل ذاك، هبيني نفاضة وصل أرتق به ما تمزق مني للوصول إليك.
لا شيء غير هذا أو أقل،
كأن أنظر إليك البحر يحتوينا في نصفيك.
كأن أصرخ، ولا يخرج صوت، ولا يحدث أي دمار بعد،
كأن تترجلين، النوارسُ على كتفيك،
والشهداء المغدورون يستحمون بدمهم عند قدميك.
ثم من علو بهائك سأعوي: صه، القتل، لماذا؟ القتل دائمًا! من يعطينا الحياة؟
صه! أريد الفطام ولا أطالب بالاستئناف، لا!

٦

– وين رايح؟

– نازل عالضاحية.

– من وين جاي؟

– بعدي واصل من الضاحية.

أسمع أكثم يسأل محمد الأمين، وذاك يردُّ بسرعة مقتضبة، وينتقل إلى المهم. هما معًا يحضران إلى Café de Paris للجلوس مع الشلة. زعيمها من أسميه أقدم شاب في بيروت والحمرا، أقصد الإنسان الجميل والشاعر عصام العبد الله. لا أحد يتحدث عن مكان قدومه إلا هما، وأسمع من فمهما اسم الضاحية فيرنُّ في أذني، لا أعرف غريبًا أو بعيدًا، وهذا ببساطة لأني لم أطرق هذه الضاحية يومًا، ولأمرٍ ما أحسست بها تقع في مكان ناء عني جدًّا. العجيب أن الصدفة أكدت لي تخميني على نحو غريب، فحين تعشيت ذات مساء مع صحفية مصممة بإحدى الأسبوعيات، وفي نهاية العشاء قلت لها إنني لا أستطيع أن أنام الآن، فخذيني معك، فأجابت: هذه صعبة. ثم أردفت تشرح، أنا أسكن هناك، في حارة حريك. نطقت الاسم الذي وجب عليَّ أن أعطيه تأويلات شتى من نبرة النطق، أو فهمًا واحدًا، إن كان لي به سابق علم.

الآن، وبعد كل ما حصل هناك، أجدني متحيرًا، مستغربًا؛ كيف لم أزر لا الضاحية الجنوبية، ولا حارة حريك، على عدد ما لا أحصيه من زيارات لبيروت، وقلت إن السبب كامن، ربما، في إشارات غامضة أرقبها أو أسمعها من اللبنانيين أنفسهم، لا تحرِّك فضولي أو هي تقصيني عن مكان لن تتكشَّف لي أسراره إلا حين سيصبح — تقريبًا — أثرًا بعد عين. أعترف بعد ما حصل أني شعرت بالغيظ حين عاينت المكان، أقصد خرائبه وأطلاله من خلال صور القنوات الفضائية فزادت قيمته، بل كأنه أصبح موجودًا للمرة الأولى. وهو ما جرى لي بالضبط مع مخيمي صبرا وشاتيلا، اللذين طالما مررت بالقرب منهما، ولم أحس بأي رغبة في الدخول إليهما، وهذا تعففًا لا نفورًا؛ إذ كيف أسمح لنفسي بالتفرج على بؤس الآخرين وزراية عيشهم أو منفاهم، كما رفضت أن أزور «الفافيلا» في مدن البرازيل، لولا الصدفة قادتني إليها. بعد المجزرة بكيت مرتين، للجريمة وقت حدوثها، ولما زرت المخيم المقبرة والدم بعد طري.

في اليوم التالي لوصولي سارعت إليها، كنت هاتفتُ الصحافية ليلى لتقودني إلى المجهول المعلوم، الحقيقة أنها — هذه المرة — رحبت بسرعة، وقالت: متى تشاء، وأضافت، شريطة أن تدلني على العنوان. لم يبد من صوتها أنها تمزح، وقلت هذه علامة اكتئاب يلاحظها كل وافد على اللبنانيين بعد العدوان، خاصة في وجوه الصبايا والأطفال. وحين حضرتْ عصرًا لتأخذني إلى الجولة الموعودة، رحت — شيئًا فشيئًا — ألتمس السبب ليبطل العجب. انطلقت سيارتها هادرة، واثبة كالسهم شأن السائقين هنا، وكلمات تحياتي وتمنياتي بالسلامة تتقطع في فمي مع طرقات تتقاطع مفارقها وسبيلنا الذاهب إلى جنوب المدينة، ثم باتجاه المدينة الرياضية، وأظن طريق المطار القديم، ثم في منعطف نلوي يسارًا، وقد تركنا بيروت الكبرى، غربيها وشرقيها هناك وراءنا بعيدًا، إلى حدٍّ ما، وإن ظلَّت أعاليها مشرفة بمباني الجبل. خضنا أخيرًا في شارع مزدحم، عربات ومارة وتجارة، وهي تواصل قيادتها، خفَّت سرعتها للضرورة. لم أكن في حاجة إلى إشارة منها لأدرك أنَّا بلغنا المرام أو مدخله؛ فقد تكفل بذلك السادة الملالي آيات الله؛ ترى صورهم تتبارى كِبرًا، طولًا وعرضًا ولمعانًا، في اللافتات المعلقة على امتداد الشارع، فأزقة فرعية، فالساحة المنعطف من حيث سندور يمينًا لنتجه نحو ما، التفتت إليَّ ليلى تخرج — للمرة الأولى — عن صمتها، لتقول الآن سندخل إلى حارة حريك؛ أعني حيث كنت أسكن أمس. زاد السادة الملالي يتكفلون بمرافقتنا يتقدمهم آية الله خميني، ويصطف بعده آية الله خامنئي، والرئيسان خاتمي، وأحمدي نجاد، وعلى لوحة خشب هائلة صورة للسيد حسن نصر الله زعيم حزب الله، ولم يفت مرافقتي أن تلاحظ استغرابي، وعلى لساني سؤال ملجوم: أين أنا يا ليلى؟ وهل هذه حقًّا هي الضاحية أم أنك سحرْتِني ونقلتني بسرعة البرق إلى، إلى … وما كانت بحاجة إلى سؤالي لتفهم حيرة تجلَّت مفضوحة في عينين تراهما تبحلقان تعجبًا، وهذا قبل أن يصاب صاحبهما بالذهول من هول ما سيرى على وجه الصعق اليقين.

وماذا رأيت مما يمكن وصفه أو يمكن للكلمات أن تجمعه أو تبعثره عبثًا، شعثًا، أي كما صار إليه بالضبط؟ أوقفنا السيارة في زقاق فرعي، وبخطوات حذرة انتقلنا إلى زقاق ثانٍ، أسير حذوها فوق أرض — لاحظتُ — مخروطة بشقٍّ طويل كأن زلزالًا هزَّها هزًّا وصدَّعها تصديعًا. خطوتها متعثِّرة فعلًا، ومن يراها يظن بها عاهة وما أحسبها إلا سليمة. زاد الحالة صعوبة أن قطع طريقنا شخص قوي البنية قذفنا بأمرٍ حاسمٍ عنده: «لوين رايحين؟ ما فيكم تفوتوا من هون!» ومن حسن الحظ أني لجأت إلى لطفٍ — لا قِبَل لي به في مثل هذه المواجهات — لأنها كادت تشتبك معه، وصراخها يعلو: أنه لم يبقَ شيء ليمنع أي شيء، ومن يكون هو، وحتى «الذين خلفوه!» يا أخي — داريت الرجل الخشن — أنا قادم من المغرب، وأنا غاضب مثل كل العرب، ألم تسمع عن مظاهرة الدار البيضاء، قرابة مليون، كلهم ندَّدوا بعدوان إسرائيل، وناصروا الشعب اللبناني؛ كلهم يحبون السيد حسن، ودعوا له بالنصر المؤزَّر. وعلى الرغم من أني لم أرفع النوتة إلى درجة المغني المصري شعبان (شعبوللا) في نشيده الشعبوي الشهير: «بحب عمرو موسى، وبكره إسرائيل!» إلا أن ملامح وجهه المتغضنة ما لبثت أن لانت، وغضبه الأول انقشع عن ابتسامة فاضت على لسانه ترحيبًا، وإلى السيدة اعتذارًا و… دلالًا.

كانت الرسالة: «فوتوا» وفُتنا، ما لم يغيِّر من غضبها شيئًا لأننا، هذه المرة، بدأنا نخوض فوق أرض أخرى، تربة أخرى، جغرافية لا توجد في تضاريس أي جغرافيا، وانتبهت أنها توقفت فجأة عن الحركة تقابلني والحارس الفظ أصبح خلفنا، وجهها لا شك يراه، خفتُ أن تستأنف احتجاجها، ونحن أنهينا نزاعًا عابرًا ناتجًا — دون شك — لا عن صلافة الرجل، لكن عن إيمانه الأعمى بالسيد حسن وبالقضية، حدًّا ينظر معه إلى كل الناس أعداء وجواسيس جاءوا ليجهزوا على من صمد من المقاتلين المغاوير، أو يزيدوا في تفتيت الدمار إلى غبار. لا، لم يكن لدى ليلى، خلافًا لاحتمالي، أي رغبة في مناوشة الرجل بالعودة إلى الموقف السابق، بل على العكس، أرسلت إليه نظرة حانية في الأقل، فهمت فيما بعد أنها نظرة مستسلمة، فاترة، لا يريد صاحبها شيئًا، أو يقول بعد أن طال صراخه، وعذابه، وعويله، وتذكُّره، ونسيانه، وما لا يعرف كنه تفاصيله إلَّاه؛ يقول: اتركوني! وإحساسي أنا أني اعتديت عليها، بأن أعدتها إلى جلادها، حملتها إليه كتلة صماء جاهلًا أو متجاهلًا طبقات الجراح المردومة في داخلها، وفي نفوس شيب وشباب غيرها قابلت في «الحمرا» ودروب أخرى من بيروت، وجوههم صماء تبدو كأنما قطعت كلَّ صلة بالمعنى والإحساس، شحيحة الكلام، إن قالت فبسمة ساخرة.

التفتت ليلي من جديد بحركة مباغتة، هذه المرة نظرت أمامها، وصرتُ والرجل خلفها، وبحركة مسرحية مدت ذراعها، وأشارت طويلًا في أفق وقفتها ونظرتها المستقيمة رمحًا أمامها، وأنا والرجل بهتنا وقد رأينا جسدها تشنج وصار قطعة منضدة كنصب حديد رشيق القوام، ونظرنا من عيني أفقها في اللحظة التي سمعناها تعوي: هناك، هناك كان بيتي! لكننا، أنا على الأقل، القادم من غياب، الوافد إلى نهايات اليباب، لم أرَ شيئًا، أو تقريبًا. بلى، حين تتبعت الإشارة رسوت أخيرًا على فراغ، على جانب من جدار، آخر جدار لعمارة سابقة، وأحجار متناثرة، عن يمينه فراغ، يساره فراغ، ثم لا شيء، نعم … لا شيء!

٧

عندما كنت أسمع نشرات الأخبار تعلن وتعيد أن الطيران الإسرائيلي لم يتوقف عن قصف الضاحية الجنوبية، وحارة حريك تحديدًا، ولمَّا شاهدت — مثل الملايين — الصور المنقولة تلفزيًّا، تساءلت: وهل هذه الطلعات الجوية ستدمر مدنًا بأكملها؟ أو ماذا عساها ستقصف أكثر مما فعلت؟ الآن، والذراع الممدودة، باليد، بالسبابة إلى الهاوية، أدركت سذاجة تساؤلي وأفزعتني الحقيقة، ما انفتح، اتسعت أمامي هوة سحيقة للدمار. رأيتُ ساحة، بطولٍ يقرب من كيلومتر طولًا، ونصفه عرضًا، محفورة عمقًا، أعمق من جرفٍ، من مسبحٍ، لكنها ليست ساحة، ولكن مجرد فراغ، كأن الأرض توحَّدَ شكلُها في فوهة لا تصدر منها الحمم لكن الغبار. قبل ذلك، كانت هنا مئات المباني وسامق العمارات، وجاءت الطائرات الإسرائيلية وقصفت بالليل والنهار حتى ترى، سوَّت البناء بالأرض، على ما ترى. قبل ذلك كان هنا حي هائل شديد النشاط، بالمارة، والتجارة، والتعليم، والنساء المتصايحات، والأطفال المتراكضين، والباعة المتجولين، والأذان يتجاوب للصلوات الخمس وتلاوة القرآن، ولا بأس ببعض الغناء، ثم جاءت الطائرات وخنقت الأرواح والأنفاس، شرَّدت الجميع، حرقت الكتب والقلوب.

في الناحية اليسرى من ساحة العدم، كما يجدر تسميتها، بدت الهوة أعمق من حيث نحن واقفون؛ ليلى وأنا، والرجل اختفى، هناك كأنما بئر بقُطر البحر. حلَّت الرفيقة إشكال بُهوتي قائلة، وقد استعادت توازنها، لعلَّك سمعت عن المربع الأمني، أي المنطقة المحمية جدًّا، حيث مقرات حزب الله على رأسها مكتب السيد، يعبر الجمل من خرم إبرة ولا يمر منها. هذا المربع نال أكبر حظٍّ من الدمار، انظر لم يبقَ إلا التراب المسحوق، لا شيء. واستدركتْ: هل تستحق المكاتب كلَّ هذا الضرب الوحشي. ففهمت كلامي على تأويلها، وسارعت تجيب على غير سؤال كأنني لا أفهم، وهي كذلك في البداية؛ فقد كان هنا كل شيء: الأوراق، التقارير، الهويات، السلاح، ونحن النساء، أولادنا، الجدات، الأمهات، المعوقون، المجانين الذين ازدادوا جنونًا حين رأوا العمارات تسقط، وجدرانها تنعجن كقطع الكرتون. أنا هنا حية بأعجوبة لأن عطلًا لحق بالسيارة وأنا في الطريق، ولما وصلت رأيت جحافل الفارين الناجين، وحاولت أن أخترق القصف لأبقى أنظر لما كان عليه بيتي، ابني — من الحظ — يقضي ليلة الجمعة عند خالته، لأنتزع بقية، ورقة، قميصًا، الصورة الوحيدة ما أملك عن طفولتي، يد أمي على رأسي ويدي في كف أبي، أي شيء لم آخذ ولم يبقَ.

رغم أن الساعة بلغت الخامسة عصرًا، فقد كانت الشمس لا تزال ترسل أشعة حامية، وضوءها في شهر أيلول (سبتمبر) ينشر بياضًا ناصعًا يتناقض بحدة مع اللون الرمادي الكالح للتراب، والأسود الفاحم لما انهار واحترق. بيروت صيفها الحار، شديد الرطوبة يتأخر في الانسحاب، إنما هذا الضوء المشعشع في ثقل حرٍّ ضاغط يصنع — مع آلاف أطنان الحجر والأسمنت المفتت، المتشابك، كأصابع تتخلل بعضها، بقضبان الحديد الطويلة، المتعانقة ببعضها حد الاختناق — يصنع رؤية قيامية. والقيامة التي لم يرَها أحد بعد، إذا كنا قد قرأنا لها حكايات وصورًا وتشبيهات في الكتب المقدسة، كما في السِّيَر والأخبار، ترهب المؤمنين والصادين عن الإيمان في آنٍ، فإنها، وهي في تصوراتنا المتفاوتة عنها، تبدو قريبة أو قل معقولة التصور من خلال المشهد/المشاهد الشاخصة بمنتهى الإثارة والفظاظة هنا في حارة حريك.

لكي تصف شيئًا لا بد من امتلاك مقدرة الوصف وأدواته، وعندما يتعلق الأمر بتجمُّعٍ ضخم للعمارات والبنايات والمتاجر والمدارس والمكتبات وبيوت العبادة، وكل ما ينبض بالحياة يسكنه الناس من مختلف الأعمار، ليس لهم سواه، فإنك — عندئذٍ — تحتاج إلى أكثر من القاموس والبلاغة سيستقيلان أمام هول ما دمره القصف الإسرائيلي بمختلف أسلحة الدمار: صواريخ، وقنابل من مختلف الأحجام، وضربات عمودية لتحدث أعمق التجاويف في الأرض كي تصل إلى مخابئ حقيقية أو مفترَضة ﻟ «كوادر» حزب الله ومخازن أسلحته. لا بدَّ من مهندسين معماريين ومصممين حضريين وخبراء في السلاح الجوي، والقنابل والمتفجرات بأنواعها، ليقدموا الوصف التقريبي، ولن ينجحوا في التدقيق حتمًا، وما أنا من هؤلاء، ولا أطمح، وأحسب أن الصورة في هذا المقام أبلغ بيان. لذلك من الأنسب الاختصار في الوصف، بالأحرى في رصِّ النعوت والصفات، فالنعت مهما بلغت قوة تشخيصه إنما يحاول أن يقرِّبنا إلى الحقيقة، إلى واقع أرى أنه من ضراوة ما لحق به يعزُّ عن الوصف، ومع ذلك تعالوا أقدِّم بضع صور:

  • الصورة الأولى: تحتاج إلى معرفة السابقة لتعي اللاحقة، معناه أنها توجد بقدر المقارنة.
  • الصورة الثانية: المربع الأمني الذي كان عمومًا مخفيًّا عن الأنظار، لا يدخله إلا المؤتمنون و«المطهرون»، اختفى نهائيًّا عن الأنظار، صار ترابًا، غبارًا، حفرة هائلة من العدم. ابتداء من اللحظة يمكن نسج حكايات لا نهائية عن هذا المكان، قد يتبارى فيها غدًا حكواتيون، وروائيون أكثرهم من لبنان. هي فرصة أخرى لهؤلاء كي يحبروا عشرات الصفحات عن حروبٍ، لا يموتون فيها، ويتنافسون لنيْل غنائمها، وهم ينفخون السجائر في المقاهي أو يتنابزون بالألقاب لمَّا يدعون إلى المؤتمرات ليتحدثوا عن شجاعة، سمعوا عنها فقط، للقتال.
  • الصورة الثالثة: تحيط بالساحة الهاوية من جهاتها الأربع عمارات لم تُدمَّر بالكامل، غرفُها مفتوحة مباشرة على الفراغ، بعد أن هوى الجدار، وطارت النافذة. من كل الجهات تُرى غرف نوم عارية، وطنافس وأرائك مبعثرة، أحيانًا ستارة مسدلة يمكنك أن تتخيل أن وراءها زوجين نائمين، أو أمًّا تحضن طفلها مات، واختلط حليب ثديها في فمه بخيط دم لزج.
  • الصورة الرابعة: عمارات أخرى واجهاتها الأمامية كلها منبسطة، منضغطة كستائر تغطي الشرفات، وهي مثبتة رغم أنها على شفا الهاوية.
  • الصورة الخامسة: بقايا معلقة: شرفة هنا، طنجرة هناك، كرسي بقائمة واحدة، شاشة تليفزيون مثقوبة، دمية بهيئة دب، لوحة كبرى يظهر فيها سيدنا علي ورأس الغول.
  • الصورة السادسة: عمال ينقلون الأنقاض على شاحنات، لا تتوقف عن الذهاب والإياب في ساحة العدم. جرافات تناور مع الأنقاض وأطنان الحديد والخرسانة وأعمدة الكهرباء وبرك الماء، وهي تتجنب — أكثر شيء — سحقَ الألواح الخشبية التي تحمل صورة الأئمة وآيات الله، جميعًا بعمامات سود ونظارات كبيرة الإطار، لكنها من الكثرة بحيث تضطر لسحق جوانب منها.
  • الصورة السابعة: عمال سوريون يدخنون، في جهة مقابلة سيدة عجوز تنبش في خرابة، وكلب دخل إلى محل جزارة خرب لعلَّه شمَّ فيه رائحة لحم بشري نيء. وعامل آخر يتبول إلى جوار لافتة خشب مكسرة تداخلت كلماتها المقدسة.
  • الصورة الثامنة: عند مدخل ومخرج ساحة العدم، لوحة خشب حمراء، وسُطِّر عليها بالأبيض الشعار الذي سيتكرر من الضاحية الجنوبية إلى أقصى الجنوب بلا عدٍّ: نصر من الله، النصر الإلهي، وفي القلب صورة السيد حسن نصر الله، من حارة حريك إلى أقصى الجنوب.
  • الصورة التاسعة: أنا وهي ننسحب من أنقاض حرب تركت فيها بيتها، وقطعة من روحها، حتمًا، ولم أخض فيها أنا شيئًا. كادت تسقط فتلقفتُها، تجنبتُ كومة كتب نصف محترقة، نصف مقصوفة، باقٍ منها كتاب نصف سليم، قرأت عنوانه: «نهاية الحكمة» للإمام الطباطبائي.

٨

عدت مع ليلى الوادي بسيارتها، مخترقين «الضاحية» وهي تدخل في أول المساء، والعائدون إليها أكثر من الخارجين. طلبت منها أن تنزلني في منطقة «الرملة البيضاء» جنوبي الروشة، وفي ذهني مشروع صغير بمثابة محطة مؤقتة في الرحلة الكبيرة. لم نمض وقتًا طويلًا للوصول، فلا زحام شديد، بل أقل من المعتاد. أنزلتني، وحين شكرتها على لطف المرافقة، وما سبَّبته لها جراء هذه الزيارة القاسية، ارتدَّت هي من يعتذر ويأسف أنها لا تستطيع دعوتي إلى بيتها، أراها تضع رأسها على المقعد فيختفي وجهها خلف خصلة شعر كثيفة، أضافت: أنت رأيت بعينك، كيف أني أصبحت بلا مأوًى، ومضت وأنا واقف على رصيف الألم!

حين تركنا الضاحية الجنوبية، وحارة حريك في قلبها، أحسستني متجاذبًا بين مشاعر متنافرة، أقواها له علاقة بدرجة الإحساس بالمكان، وفهمه قبل كل شيء. هذا حي، ضاحية ليست بعيدة عن بيروت الأم إلا بمسافة محدودة، طالما أننا نظل نمشي في العمران، وننتقل بين أحياء وشوارع ومفارق معروفة جدًّا، لنصل إليها بلا مشقة تُذكَر. لكن هذا لا يمنع من الإحساس بأننا نبتعد ونقترب في مستوى القرب والبعد منها؛ من زمن، وثقافة، وتاريخ، وأخلاق، وسلوك، وسياسة للدنيوي والديني، وباختصار من كل شيء. وحسب الاقتناع الخاص نسعد بالوجود في هذا الفضاء، أو نشقى، نأسف لمغادرته أو على العكس نغتبط ونتنفس الصعداء. حين اتصلت بالصديقة الصحافية لتصحبني إلى هناك؛ قالت بنبرة لم أفهمها لحظتها: هكذا إذن، أنت، أيضًا، تستعجل زيارة الآخرة!

المشي أفضل مرهم لعلاج الهمِّ في جميع الأوقات، ومن «الرملة البيضاء» سأمشي مسافة طويلة، أتأمل فيها ما فات، وما في علم الغيب آت. من حيث بدأتُ، الشاطئ عن يساري مقفر، والبحر مظلم وبعيد، وسأصعد بخطى واثقة، تمر السيارات في الطريق الثنائي كالسهام، جميع السكان يسوقون هنا بجنون، لا أعرف هل هو عنف متأصل، أم نزق، أم سباق إلى الموت، وأفهم، قليلًا، لماذا كثير من الخلق يموتون هنا باكرًا، أو شهداء، بحسب التأويل. أشرع في الصعود؛ فتظهر لي بناية فندق الكارلتون، أضواؤه مطفأة، والستائر خلف الواجهات الزجاج للغرف مسدلة، والهيكل الخارجي للمبنى خرب عمومًا، بنتوءات متآكلة؛ نزلت مرات في هذا الفندق الذي كان يضج بالمؤتمرات والوفود والنزلاء المرفَّهين والبسطاء، أيضًا، قبل أن تحوِّله أيام لبنان؛ هي دول، إلى قاع صفصف. تساءلت هل حولتني الأيام إلى بوم ينذر بالخراب، أم أنني في قلب المندبة؟! ورغم أن بيروت تحب أن تنسى، وتتبرَّج كلما غفلت عن قسوتها على نفسها؛ فإني لا أجد طريقة للتخلص من البوم المعشش فوق رأسي، يقودني إلى حفرة المقتلة

حين أصبحت على مستوى الرصيف المقابل للروشة، والأضواء مع خليقة طافية فوق دخان النراجيل، وشباب يتنطعون في سيارات «الهامر» ذي الدفع الرباعي، المدنية لا العسكرية، أيقنت أني بعدت حقًّا عن تلك «الضاحية»، لكن من غير أن أُبعد الأشباح التي تحوم حولها، وحول هذه الأرض جمعاء. لم يخطر ببالي أن أسأل أحدًا، من المتعلمين، ولا بين عامة الناس، كيف كان شعوره وهو يسمع — قد يرى — آلاف القنابل تسقط على حارة حريك، من هنا في بيروت. هناك سؤال متأخر وساذج، ربما جارح كذلك، قد ينجلي، رغم هذا، عن مجهول يفضي إلى مكر الخطة الإسرائيلية، التي زعمت أنها لا تعتدي على لبنان، ولكن تقتص من حزب الله الذي تسبَّب، عندها، في الحرب بخطف جنديين إسرائيليين، والنتيجة هي أن بيروت تهجع خارج القتل والدمار، والحارة والجنوب والبقاع يصلون النار. كأن بيروت تقع في مكان آخر، كأن بيروت ليست هنا. ارتعبت للفكرة، وقررت أن أدفنها في صدري، ربما إلى أن أخضعها لمزيد اختبار.

مشَّاءون كثر، مثلي وأشطر، يعرَقون بالليل رياضة، وفي النهار رطوبة، وفي النوم شبقًا أو حسرة. مشَّاءون والكورنيش طويل، الصيادون وجوههم — كسنَّاراتهم — إلى البحر يعطي السمك، خير من الأرض، مقبرة ومجلبة للموت. جسمي يسيل، لا أدري هل بالإجهاد، أم الانفعال بعد أن أخذت أقترب من نهاية الكورنيش، ولا أبعد كثيرًا عن حي «عين المريسة». بمعنى ما ها أنا ذا أعود إلى نقطة الانطلاق في «مشوار» اليوم، أي إلى الدم والموت والخراب. فكرتُ أني نلت نصيبي من «الزاد» المتاح اليوم وزيادة، حتى «الآخرة» بتصور الصحافية الوادي زرتها، يكفي، إذن، أليس كذلك، وهل ينبغي أن أهلك قارئي معي في مثل هذا المسار، هل؟ إنما الرصيف الذي أواصل فيه مشيي يقودني إلى الحتم، إلى النقطة التي حاولت تفادي الذهاب إليها، رغم حضورها الملح على البال، منذ وصلت إلى بيروت.

ينتهي الكورنيش عند بناية لمجمَّع لبيع الأثريات، وفي منعطف ينتهي «عين المريسة»، على اليسار تبقى الضفة البحرية ممتدة، لكن الطريق مقطوع، وهو لم يكن كذلك من قبل، بحيث كنتَ تواصل لترى فندق «فينيسيا» الفخم المجدَّد، ومن خلفه لسان الطريق المؤدية أو القادمة من وسط البلد «السوليدير» أو Downtown كما يحلو للشباب أن يسموها (وين رايحين يا شباب؟ عالداون تاون. شو رأيكم نسهر بالداون تاون؟) يتميزون عن الجيل القديم الذي يتقاعد بمنطقة الحمرا. لا سبيل للمرور إلى هناك، حيث الحواجز منصوبة، وأسلاك، ومنصات صخرية وحراسة، أيضًا. كان الظلام ناشرًا جناحيه على طول الضفة الممنوعة، تتضاد مع الجهة الشرقية المنيرة من شارع الكورنيش وقد دخل في الليل. كان فضولي أقوى مني؛ لأني ببساطة لا أقتنع إلا بالمعاينة الشخصية، وإلا لماذا التنقل بين الربوع. قال الحارس بلهجة منذرة: لا يمكنك المرور يا سيد. قلت أعرف، فهنا وقعت الواقعة. عقَّب: بما أنك تعرف، لماذا تبدو كأنك تلحُّ؟ أجبتُ لأني غريب وعابر سبيل — ولأسترضيه زدت — وأنا كنت أحمل للفقيد رفيق الحريري كثيرًا من الاحترام. انفرجت ملامحه قليلًا، وتنازل بعدما اطَّلع على هويتي، حسنًا: «فوت شوية من هون، فيك تتطلَّع، بس ما اطَّوِّل، ok

بدت الحفرة عن بُعدٍ واسعة، تنعكس عليها أعمدة إنارة عالية. ليست في حجم ساحة العدم في الضاحية التي مسحت حارة حريك من الوجود، لكنها من الكبر والعمق حدًّا يكشف عن حجم وضراوة الانفجار. لم أتبيَّن في الظلام كثيرًا، ووجدت خيالي يشط كالعادة، معه، أرافق موكب الحريري من لحظة مغادرته مجلس النواب إلى وصوله هنا، هناك، وسط عمق الحفرة حيث تطاير جسده أشلاء مع شظايا السيارة، وأسمع الدوي قويًّا، وزجاج العمارات المحاذية يتكسَّر متناثرًا على وجهي، وأطراف المارة مترامية، دم غزير، وآخرون يحملون رءوسهم بين أيديهم يحمونها من السقوط، والحارس ينهرني أخيرًا لأبتعد، وأنا أصرخ مبتعدًا كالمجنون، ألوي عائدًا على عقبيَّ من حيث أتيت، صاعدًا مجددًا باتجاه الروشة، متصامِمًا عن تزمير «تاكسيات» لا يتوقف، آخذًا اتجاه الحمرا، أنعطف ناحية حارة «كركاس»، وأمرُّ بحانة ومطعم اسمه «جدل بيزنطي» طردتني منه عبارات ركيكة ومفككة، يسميها البعض هنا — جهارًا — شعرًا، يقرأه ولد مخنَّث رغم أن قذاله شاب، فأفكر أنه بعد ساحة العدم، وحفرة القتل، هذه هي ثالثة الأثافي، وأن الأليق بي أن آوي إلى فراشي قبل أن يحدث انفجار جديد؛ إذ كل شيء محتمل في هذا الحيز، ثم إنه يجدر بي أن أستريح، أنا الذي لا بدَّ لغده من الجنوب.

٩

لم أكن في حاجة إلى اجترار المثل السائر: أن ما حكَّ جلدك مثل ظفرك، ففي الأسفار عوِّل دائمًا على نفسك، وحيثما حللتَ ولقيتَ عونًا أو رعاية إضافية اعتبرهما رفاهًا عابرًا لا غير. ردَّدتُ هذا الكلام على نفسي وأنا أغلق سماعة الهاتف بعد أن كلمت أحد صحافيي الحمرا، وعدني — متطوعًا — بمرافقتي إلى الجنوب لنشاهد، بأم العين، أهوال الدمار الذي تسبَّب فيه العدوان الإسرائيلي. كان موعدنا في الغداة الساعة الثامنة صباحًا لننطلق، فقلت: لا بأس أتأكد، وأذكِّر الرجل، قد سَها أو نسي، فوجدته يتملَّص ببساطة، ودونما حرج يُذكَر. والحق، لم يكن لي سابق معرفة به، والصدفة جمعتنا، وأول ما نطقت متسائلًا: كيف يا جماعة الوصول إلى الجنوب انقضَّ على سؤالي كنسرٍ جارح، وفهمت أنه سيطويني في جناحه — لا منقاره — ونمضي، فتبيَّن أنه لا يفي مثل عديد، لكني لم أغتم لهذا قط.

لا بد أن أسجل كيف أن عزمي لم يقوَ على تنفيذ هذه الرحلة إلا لأن الوصول إلى الجنوب مرماها، وسواه نافل تقريبًا. فلقد سكنتني الصور والأشكال المتلاطمة لأمواج الدمار الذي زحف على قرى وضيعات الجنوب اللبناني مع القصف الإسرائيلي الهمجي بنفس شهر ونيف. ذهبت إلى البرازيل في رحلة سياحية، وإذا هي في بعض الوقت تنقلب عليَّ كابوسًا؛ أرى فيه ناطحات سحاب ساو باولو وريو دي جانيرو ومضلعاتها الزجاجية السامقة تتهاوى، والأرض تحتها تميد، وهي تطوينا في تجاويفها المفتوحة تتلقَّى أطنانًا من القنابل تنزل صواعق. حين جالست الأصحاب والمعارف القدامى، من أدباء وصحافيي بيروت، في المقهى أو في مكاتبهم، لم يعنني شأنٌ قدر حديثٍ عن هناك أو وصفٍ أو إشارة تندُّ عمَّن ذهب إلى هناك ورأى؛ أحب أن أقول وأعيد، ليس من رأى كمن سمع، ويطول انتظاري عبثًا، فأُداري لقد جئت متأخرًا، والأمر ليس كذلك، والحرب باتت وراءهم، رغم أن الخرائب عامة والبوم بعدُ يحوم. لم أسمع أحدًا يتحدث، أو، على الأقل، يُبدي شهية حديث طويل عن شعارات ولافتات الانتصار المعلَّقة على طرق المطار، وتُغرق الضاحية، هي وصور الشهداء الطرية. كانوا متنازعين في الرأي، ذلك التنازع الصامت شكلًا، الضاج بنطقه كمونًا، في أجواء يستتب فيها الحذر والضجر، ولا قرار فيها للأدباء وكُلماء المقاهي، ولذلك لم أحشر أنفي فيما يفوق حدود حماستي واهتمامي، أقول لم أقطع آلاف الكيلومترات لأحلِّل وأقوِّم، ولكن لأرى بأم العين. لذلك، أيضًا، لم أبلغ أحدًا بنيَّتي للنزول إلى هناك، وبدوْتُ مثل سائح متعطِّل يجوب أوقات وشوارع بيروت المصهدة، يتجوَّل، بشبه حياد، خالي الذهن تقريبًا … إلا مما في رأسه.

نمت عميقًا بعد بلْع كذبة الذي لم يفِ، دعونا من اسمه!، واستيقظت في السادسة صباحًا، نشيطًا، متحمسًا، ظُفري على جلدي بيقين. وفي السابعة هبطت وسط حشد المسافرين بمحطة الكولا. المحطة التي تقع في مدخل الجنوب الشرقي للمدينة، نقطة الذهاب والإياب من بيروت إلى جهات لبنان الجنوبية والوسطى، خاصة. موقعها مفترق طرق يضج من الفجر إلى المساء بالحركة والصخب: سيارات وحافلات وباعة متجولون وأقوام ذاهبون إلى كل مكان. لي معرفة سابقة بالمحطة، منها أركب للانتقال إلى منطقة الشوف الجبلية لأستجم في بلدة «دير القمر»، هي و«بيت الدين»، أجدهما من أجمل ما في لبنان. الوضع عندي الآن مختلف؛ فأنا لست في نزهة، وما يليق ادِّعاء ذلك، والمحطة ذاتها نشاطها مختلف، أي فاترٌ بعض الشيء، قال السائق الذي طلب سعرًا عاليًا، وقد خمَّن أني أجنبي، بأن الوضع ما زال غير طبيعي حتى ولو استأنفت النقليات. فأجبته يا عم نحن في ٢٠ أيلول (سبتمبر)، والحرب صارت وراءنا، فلم يهتم وانصرفت إلى آخر.

خلال الحرب جنَّ جنون هؤلاء السوَّاق، أكل شرهُهُم الأخضر مع اليابس، لم يراعوا القنابل التي تتساقط على الرءوس، ولا من أصبح بلا مأوًى، فكانوا يطالبون لأقل نقل مئات الدولارات، وهذه، أيضًا، من أخلاق الحرب؛ تحوُّل الناس إلى مفترسين للآدميين. السائق الذي نقلني من عمان إلى بيروت تباهى أمامنا — نحن المسافرين — فاغري الأفواه بأن سعر الرحلة بين العاصمتين تراوح عنده من ٥٠٠ إلى ١٠٠٠ دولار، في حين أن الراكب، في الوقت العادي، لا يدفع أكثر من ثلاثين دولارًا بالكثير. وبكت السيدة المرافقة لنا تحكي أن ابنتها هربت هي وأولادها من «النبطية» إلى الحدود السورية، مع سائق أخذ المقابل سوار ذهب ابتاعته أصلًا بستمائة دولار، وظلَّ طول الطريق يسب إسرائيل بنت الحرام، التي تشرِّد اللبنانيين المساكين، وتخرب بيوتهم، وتقطع أرزاقهم، و… وقالت إن ابنتها بعد نهاية «المشوار» ظلَّت مغتاظة، لا بسبب السوار، سيخلفه الله، ولكن لأنها لم تبصق في وجه السائق، والحقيقة أنها تشجعت، إنما خافت من سوء العاقبة، تضيف: هؤلاء لا ملة لهم.

كان هندامي عاديًّا جدًّا، وفي السفر البِسْ مثل كل الناس وابتعِدْ عن أي أناقة لتكون منهم، لتذوب فيهم. بَيْد أن حاسة الشم الكلبية عند بعض الواقفين في محطة «الكولا» تفوق كل تقدير. ولم يكن مصدر الخلل في الهندام قط، ولا في لكنتي، نجحت بالمعاشرة في تطويعها نسبيًّا إلى اللهجة اللبنانية، حتى وهي لكنات. مرد الأمر — في الحقيقة — أنني كنت أطلب سيارة تُقلني وحدي لا مع أنفار، كما يقولون هنا، وحين اقتربت من جماعة سوَّاقين ارتكبت الخطأ الأكبر الذي فضحني، حين طلبت أن أذهب إلى بنت جبيل رأسًا؛ هكذا نطقت باسم البلدة التي هي عندي ليست نهاية العالم، ولم أعرف لحظتها أني أكشف عن سذاجتي لأي سائق كي يطلب ما يشاء في رحلة يقوم بها المسافرون عادة على مراحل، منتقلين من محطة إلى أخرى، حتى الوصول. تهامسوا، اقترب اثنان واقترحا سعرين متفاوتين، لينبري ثالث معلنًا سعرًا منافسًا، فانسحبتُ متراجعًا لتنشب بينهم مشادَّة، سمعتُ — عن بُعد — تطاير تلك الكلمات الكبيرة الفاجرة، يتراشق بها اللبنانيون بسخاء و«ذلاقة» لسان، حتى إني من سخرية الموقف، نسيت ما جئت من أجله، وشُدِدتُ إلى لحظة، يسميها نقاد المسرح تراجيكوميدية، نازعتني فيها نفسي بين الهزء والحزن، وإن التمستُ للمتعاركين عذرًا — لا للسباب — هم أنهكهم العدوان، وقطع رزقهم أسابيع تباعًا، وها من يظهر لهم صيدًا أو فريسة، لا عجب أن تبرز نيوب الليث استعدادًا للانقضاض.

سمعت النداء: صيدا، صيدا، فانخطفتُ إليه. قادمًا من الجهة الأخرى من المحطة وراء الجسر، جسر الكولا، ألحظ حافل، نص نقل بيضاء، اقتربتُ منها هي شبه ممتلئة، اندسستُ لأجلس في آخر مقعد، لم يطلب مني أحد شيئًا، ولم يصدر عني كلام، وهي مناسبة جديدة أكدتْ لي أن الإنسان قادر على الاستغناء عن الكلام، أو توفيره ما أمكن. استغربت كيف أني لم أبادر إلى هذا منذ البداية؛ فالخريطة في رأسي، وخط الجنوب متدرج ومتفرع، وصيدا أول مدينة تقود إليه، منها سأنظم نزولي، بل هي محطة النزول الأولى، وعندي يوم كامل، حسبت أن عليَّ أن أعبَّ فيه الإنسان والمكان والزمان عبًّا، واستبعدت من ذهني كل ما بثَّه في سمعي بعضُ الهلعين من مخاوف؛ قلت، كما أفعل دائمًا، أتوكل على الله، وأسترجع في كل اللحظات الحرجة وصية والدي: «اعقلها وتوكل»، ولنا نحن المغاربة قولنا المأثور: أن من يملك لسانًا في النهاية لا يضيع، وسمعت السائق، وقد امتلأ باصه: «يا الله، على بركة الله!»

١٠

انطلق الباص في الثامنة وأنا كلي حبور؛ ها رحلة الجنوب تبدأ، وتنفتح الطريق أمام أرتال السيارات في المدينة التي تستيقظ دائمًا باكرًا، تستقبل في الصباح أكثر مما تقذف خارجها. إن باصنا يخرج ذاهبًا في اتجاه الساحل نحو «خلدة» أولًا، نشقُّ الأوتوستراد بسرعة الريح أو نُسابقها، لن ترى أحدًا يسوق هنا على مهلٍ أو هو في حكم المجنون، لن ترى! الشاحنات المحمَّلة أكوامًا تشارك — بدورها — في السباق، تحسبها تريد أن تتخلص من أكداسها لتخفَّ فتطير بعدئذٍ. حين تعرف ما تنقل تتفهَّم رعونة سواقها الذين حوَّلتهم الحرب إلى ناقلي ومشيِّعي أموات: إنهم ينقلون الردم والحطام.

انظر: ذات اليمين وذات الشمال، وقد صرتم عند أرض الأوزاعي في الضاحية الغربية من طريق المطار، ينهض كثيبان، هما تلَّتان، تصبح الطريق حين تتوسطهما شِعبًا، وهما بينها تُخفيان ما وراءهما. عليك أن تشرئبَّ أعلى ما تستطيع لتراهما يصعدان، وقد انضم كل واحد على ما في جوفه، بل فاض عن الحمل حتى لا مزيد: أحجار، لبِن محطم، لبِن منسحق، أسقف هاوية، جدران مثقوبة، أسمنت ورمل وتراب بالأطنان، يتعالى فوق، تخترقه أنابيب القضبان الحديد مثل أصابع فلتت من أيدي أصحابها، أو هي أغصان لأشجار مجنونة. أنظر إليهما أصبحا خلفي، انقذفَ الباص المجنون، بدوره، فتظهر لي الحقيقة المرعبة كأنما أكتشف ما حدث للمرة الأولى: إنها مقبرة الضاحية الجنوبية، هنا يرقد جدث حارة حريك، ومن الغريب أنه جدث يتنامى، لا يمكن مواراته التراب دفعة واحدة، فأطرافه تتوالى في الوصول. بل هو لا يُوارى، وإنما يتعالى؛ البشر يقبر العمرانَ المطحون، يصرُّ، حتى وهو حطام، على أن يظهر، لكن السواق، كل المسافرين، مسرعون، «زهقانين!»، يريدون أن يصلوا: إلى أين؟ لم أسأل أحدًا. لم يهتم بي أحد، وكل ما في الأمر أنني لا أختلف عنهم لأنني — بدوري — أريد أن أصل بأسرع وقت، مع فارق ربما، وهو أنني لا أتوقع إلا مزيدًا من صور الحطام، أو هكذا بدأت تتوالد في مخيلتي لعبة الصور.

قبل ذلك شاهدت الضاحية، بيروت كلها، وقد عبر القصف، تُخرِج أحشاءها إلى العراء، وتنفض ما اعتراها من رماد، لتستقبل النهار، وتعطي للشمس وجهًا ناعمًا وصقيلًا. وهي تحيا وتموت مثل كل ما على وجه البسيطة، فلا عجب، أيضًا، أن تملك مقبرة تدفن فيها ما يتفسخ منها، أو هو عرضة، دائمًا، إلى الفناء، وإلا كيف تتجدد بيروت، إذا لم تكن تموت، كيف؟! اسألوا أهلها! وانزاح الكثيبان عن الأرض، وعن العين والقلب، وحلَّ محلهما البحر الأزرق المديد، متباهٍ بانتشاره، كأنه لا يحفل بأرض تحمل إليه الموتى والنفايات لتلوث سحنته المزبدة في الضفاف. متغضِّن عندما يضيق البَر بما يتساقط فيه، بخرابه، فيزحف، ويحجب الأزرق، آخر علامة على شرق المتوسط، حين السحب السوداء غطت السماء، ونفاثات العدو تلقي مزيدًا من القنابل الفوسفورية. لا أرى الركاب منتبهين إلى لون فضة الصباح، يأتي من نهاية الأفق، تجلبه شمس ضوءها لامع، وشمسها حلوة بمذاق فاكهة ناضجة. لكني أراهم فجأة ينتبهون بعد أن خفَّف السائق فجأة من سرعة رياحه.

لم يكن له بدٌّ، ومن مقعدي الخلفي سمعته يلعن إسرائيل بتلك الكلمات المقذعة، المتداولة في القاموس اللبناني. والسبب اضطرارنا للخروج من الطريق السيَّار، ومناورته بممرٍّ فرعي، لنستأنفه بعد ذلك ونواصل إلى صيدا. في مدخل بلدة «الناعمة»، هنا حفرة واسعة أحدثها تفجيرٌ متعمد لقطع الاتصال، وسيصبح بوسعي، كلما زادت أمامي صور الحرب، أن أتوفر على خبرة تسمية القنابل، يميزها البعض من دويِّ الانفجار، أو من حجم الضرر. نقضي ربع ساعة في منعطف إجباري لا يزيد على خمسمائة متر، مما يضطر السيارات والباصات إلى الاحتكاك والعناد والتحدي، فيما الركاب يتبادلون النظرات في الفضاءات المغلقة، المختنقة بالدخان. رأيت منهم من يخرج رأسه من النوافذ فيتدلى جسمه وينكشف خصره عن مسدس ضخم محشور وراء الظهر. في سيارة مقابلة رشَّاشٌ مركون في زاوية، انحسر عنه منديل خفيف لا يكاد يخفيه. زعيق المنبهات إلى العنان، ولا أحد يقبل أن يتنازل ليمرَّ الثاني، لا وجود للتسامح هنا، ربما هذا أحد أسباب استمرار الحرب الأهلية خمسة عشر عامًا، ولولا تدخُّل الخارج لما وضعت أوزارها، ربما. التقت عيناي بصاحب المسدس وهو يسوِّي وضعه، ولعلِّي بدوت الأقرب إلى الاستغراب ما دام غيري رأى ولم يهتم، فندمت وركبتني وساوس لم أتخلص منها إلا و«الناعمة» وراءنا.

بعدها منتجع شاطئي لطيف «الجِيَّة»، وإن بدت مياه ضفته القريبة تتململ تحتها كتلٌ داكنة. سمعت أن القصف الإسرائيلي خلق أضرارًا بيئية في شكل تلوث الساحل بالمحروقات، وأراه هنا كتلًا سابحة، تتقارب وتتباعد كالمترنحة. ما لم يمنع من وجود بعض المصطافين في ساعات الصباح الأولى، سيغطسون في الزيت إن سبحوا. نترك الساحل مؤقتًا لنلتحق به من جهة مصيف «الرميلة»، وتظهر الكتل الداكنة هنا طافية إلى أعلى وأكبر حجمًا وأشد سوادًا خاصة، يتفارق مع أسراب نوارس تحوم حول الشاطئ بعلو منخفض، تترصد، ولا شك، سمكًا، لكنها ما تلبث أن تستأنف تحليقها بمجرد الشروع في النزول لاختطاف صيدها. لعلَّ البحر، هنا، كفَّ عن أن يعطي السمك، أن يكون مصدر حياة، واستجمام، ومتعة. من الأفضل أن تشيح وجهك عنه؛ إذ الباص يستأنف سباقه وقد أصبح بمحاذاته. فالشريط الممتد الآن إلى صيدا، ومشارفها باديةٌ قطعةً رملية طويلة، اختفى لونُها تحت أكوام النفايات والمهملات، سواء مما قاءه البحر يردُّه إلى أصحابه الأصليين، أو مما تركه البشر هدية للغربان والحشرات.

أخيرًا، ها هي صيدا! إنَّا ندخلها بسلامٍ آمنين، لكن، من أسف، من مطلعها تُرى لا تسر الناظرين. العفن من وراء، والخراب أمام. خُطتهم محكمةٌ هؤلاء الأعداء؛ أن يبصموا في مدخل ومخرج كل مدينة وبلدة. في أول جسر عند المستديرة المؤدية إلى «الشويفات»، بعد طريق المطار من بيروت، ثقبوا الجسر من الوسط، وهنا الجسر المعلَّق، الذي يفضي إلى الجنوب رأسًا، وهو صلة وصل حيوية وعلامة هندسية بارزة، شيَّده الراحل الحريري قبل أن تمتد إليه يد القتل الغادرة، أهداه، كما أشياء أخرى، إلى هذه المدينة المقرونة، من بين أعيان آخرين، باسمه. سقطت الصواريخ على مؤخرة الجسر، محدثة فيه فجوات قطعته عن خط السير الذي قبله. بذا انقطعت المواصلات المعتادة، وهي كثيفة عادة، من الجهتين فصبَّت في المدينة، عليها أن تتحمَّل تدفق عربات لا ينتهي من كل نوع.

إنما الميناء الصغير لصيدا ما ألطفه، يستقبلك عند مدخلها، ويحتفي بك في جبهتها لينحسر بعد ذلك تاركًا لليابسة كلَّ حقوقها، وقد أخذ حقَّه في أن يمنح لساكنتها فسحة سكينة وجمال، وصورة مُثلى عن كيف يكسب الإنسان رزقه. هي قوارب زرقاء شبه متداعية، أبحرت ليلًا، وعادت فجرًا، دأْبَ الصيادين هنا من آلاف السنين، أي قبل أن تُزرع إسرائيل في بلاد العرب، وتسرق الأرض والبحر. وباحات المقاهي قبالته، لا شك أن القمر ينزل مساء ليسمع موالًا، ويأخذ رشفة شاي ونرجيلة قبل أن تشقَّه إسرائيل إلى شظايا، ويتبعثر على صفحة الماء. تخيلت أن الصيادين الذين سيبحرون في الأعوام القادمة إنما سيرمون شِباكهم ليلتقطوا أصابعه وشفتيه وخصلات بلَّوره، وعينيه خاصة، عساها صيدا تستعيد ضياء القمر، ويعود الصبية، بنين وبنات، يلعبون على ضوئه، يحميهم من الغول وهو ينير.

١١

في محطة النقل الصيداوية نزلتُ. ساحةٌ تتجمَّع وسطها، وحول أرصفتها، سيارات نقل من أحجام مختلفة. بين كل بضعة أمتار أكشاك لإعداد القهوة وبيع سندويتشات. مثل هذه المحطات تجده في كل مكان من العالم الثالث، شبه ساحات لأسواق موسمية، فوضى واضحة بين غادٍ ورائح، ولا علامة ترشد لأي شيء، وعليك أن تفتح حواسك لتدلَّك، وتنتبه حولك جيدًا مخافة محذور أو وسواس، بل عليك أن تستخدم حاسة سادسة لتهتدي وسط الغش والمزايدة، ولك أن تقتحم، ولا تظهر كعصفورٍ جريح ينتفض، وتتقدم نحو أول سيارة تقصد مدينة صور، انتهينا من السيارة المفردة، والانحشار مع الركاب أفضل. هذا ما قررتُه — وعيًا لا اضطرارًا، كالسابق — لأني من هذه المحطة سأنطلق فعلًا إلى الجنوب. كنت أفهم، أستعجل الفهم والإحساس، بأن وجهتي وغرضي وما أسعى لمعاينته — حقًّا — إنما يقع دون صيدا بمسافة طويلة. صحيح أن لبنان، في النهاية، بلد صغير المساحة، بين عاصمة آل الحريري وبيروت لا تزيد المسافة على أربعين كيلومتًرا في ظرف ساعة بسبب ما سلف ذكره، وهي عادة لا تزيد على النصف، وضعفها للوصول إلى صور. غير أن المسافات نسبية، تطول وتقصر بدرجة الإحساس بها، بدواعيها، وهي عندي كثير.

محشورًا إلى جوار راكبين في الخلف، وأمامنا راكب محظوظ في الأمام، انطلقت السيارة المرسيدس الحمراء، من طراز نصف مهترئ، تنهب طريقًا مزدحمًا، كالعادة. ولاحظت الركاب يدفعون ففعلت بحسب سعرهم، وانصرف السائق إثرها إلى هوايته المفضَّلة، أعني التدخين واحدة إثر أخرى، تظنُّه في مباراة مع مجاوره يعانده؛ هما — معًا — لا يعبآن بنا نحن الذين سعالنا يثقب سقف السيارة الفارهة! لولا دعة توحي بها الطريق — رغم تعثُّرها — تنساب، وتتعرج، بين حقول الموز. هي غابات موز على حد البصر، وبالجو الحار لصبيحة أيلولية، لم تخف رطوبتها، تحسبك في بلد استوائي بأمريكا الجنوبية، في زمنٍ خالٍ من الحروب. وتعبر سيارات نقل متوسطة تحمل في حاوياتها صناديق متخمة بالبطاطس، والطماطم، والتفاح: خيرات من مزارع المنطقة صاعدة إلى صيدا وبيروت، تفيد أن دورة الحياة تستأنف نشاطها، ربما لم تتوقف يومًا، فالبشر يزيد نهمُهم في الحرب وخلالها، يميلون إلى التخزين، ولا يتورعون، أحيانًا، عن أكل بعضهم البعض. لم أستنتج شيئًا، وإنما حديث المتباريين طغى على الأسماع؛ هذا يقول: «يا زلمي»، وذاك يرد: («يا زلمي»، تصور البندورة ثمنها صار هالقد؛ والخيار تعرف حقو قديش، بسعر الصاروخ؛ يا عمي والدراق، شو هالعالم جنُّوا، ما بيستحوا، ما بيخافوا من ألله) ويزيد الجار الأسعار بلَّة: «بعدين يقولوا أخوات… إن إسرائيل هي السبب! كيلو باذنجان حقو خمسة آلاف ليرة، قليلة!» وقبل أن يتدخل أحد من الخلف، بادر السائق إلى قطع الطريق على أي تجريح أو انتقاد قد يمس جماعته، الذين نهبوا الهاربين على أقوال شهود عديدين: «المواصلات كمان غليت، مش بس شوية، كثير، شو بدَّنا نعمل يا خيي، ما هيَّ البنزينات غليت.» استطرد بعدها يتحدث عن خزَّانات الوقود بالجيَّة التي احترقت، وقسم كبير منها تدفق في البحر فتلوَّث وسمَّم كل السمك، وسعر صحن «صيَّادية» طار، «وانا ما باكل لحم، من وين بدِّي جيب سمك، وأم علي رايحة جاية عند الجيران بلكي يطلع بيدها شي، بدَّك تندب ليلتي سودا مع أبو على؟!» أما أنا فأردت أن أقول لهم بأن العباد، لو كانوا عاقلين، قنوعين، لاستطاعوا أن يعيشوا زمنًا على هذا الموز، أو لصمدوا مثل المقاتلين، لكني آثرت السكوت، كما التزمت، عن الكلام المباح.

ضغط السائق على الحصَّار في اللحظة الأخيرة قبل أن يصدم العربة أمامه، وهي قبل أن تصدم سابقتها، وهكذا … لا شيء. مستديرة جديدة أخرى من عشرات في الطريق، فالجسر ذاك، انظروا، «مفلوش» من الوسط، وانحرفنا يسارًا، وصعدنا هضبة، وعدنا انحدرنا، لنصعد فنهبط أخيرًا مع فرع موحل كي نستأنف المسير. قليلًا فقط لنعود إلى التمرين نفسه، فليس من جسر أو قنطرة، أو قنيطرة إلا وتكسَّرت أضلاعها بفعل القصف، إنما المثير أن هناك من يقوم بجبر هذه الأضلاع بأي وسيلة؛ بألواح خشب، قصدير. هنا وهناك عمال يجلبون أعمدة ورملًا، يفرشون فوقها أكياسًا ويعيدون، لتعبيد المرور خطوة، خطوة. الطريف أن ترى جو مرحٍ كأنه إصلاح لا علاقة له بما تسبَّب فيه، وظننت أني وحدي المشغول بالهواجس، وسيتأكد هذا الإحساس كلما أوغلت في «مشواري». عزوت ذلك إلى محن حروب سابقة، إلى سلسلة أنواع العدوان الإسرائيلي على هذا البلد قبل احتلال ١٩٨٢م، وصعدًا إلى صيفنا في ٢٠٠٦م، ودُرْبة السكان على التحمُّل والصبر، والنهوض كأن شيئًا لم يكن. وهل تُنسى الحروب الأهلية القديمة بين الطوائف؟! قلت إن لهذا الشعب جبلة خاصة تحصِّنه ضد الآفات، وتجعله يستعيد عافيته. همُّه أن يبقى، أن يعيش مجددًا، لا ما فات. بينما شعوب أخرى، منها شعبنا المغربي، إذا أصابته محنة اعتبر أنها من علامات الساعة، وغرق أكثر أهله في النديب والنواح، بدل الإسراع إلى رأب الصدع والبناء، مثل هؤلاء القوم الشجعان.

ضغط السائق — للمرة التي لا أذكر — على الحصَّار فإذا رتل السيارات يعود يستدير، وكل سيارة على حدة تجانب حفرة هائلة فُتِحت في وسط الطريق كالبالوعة. صاح الجليس الأمامي بنبرة الخبير: «هذه آزان!»، واسترسل في تعريف الآزان وصُنعِها وأوصافها وآثارها على الأرض والآدميين. وبعد دقائق تبيَّنتُ أني الوحيد من ليس خبيرًا عسكريًّا بين هؤلاء؛ درَّبتهم الحروب على أنواع السلاح، وفهمتُ أنه يعني قنبلة الأوزون الغازية، وهي تُحدِث ضررًا فادحًا بهذا الحجم، وكلما تقدمتُ سأرى أنواعًا من فعل هذه القنبلة المخيفة، على الأقل لي أنا، الذي وجدتها فرصة لأمتحن شجاعتي، افتراضًا بعد أن سكن الرصاص.

ماذا أقول؟ سكن؟ في حدود ثلاثمائة متر إلى الأمام، ولم نتبيَّن، قُل اختلط علينا السمع والبصر، انفجار، انبثق من أرض أم سقط من سماء، أم بينهما. سمعت باللهجة اللبنانية: «إنبلة! إنبلة!» حقًّا كانت قنبلة من دخانها المتصاعد، بصراخ محتدم حولها، واكتظاظ، ومن الجهتين توقف السير على الطريق. نزلنا جميعًا، ونحن نرى بشرًا بحركة متضاربة في كل اتجاه، وبسرعة البرق، وصل الخبر أن هناك جريحيْن وربما قتيل، ولا أحد قادر على التدقيق. سائقنا المغوار رفع راية الاستسلام، وقرر العودة من حيث أتى. آخرون مثله شرعوا يتقهقرون، خاصة بعد أن أشيع أن طائرات للعدو تحلق غير بعيد، وربما تضرب، لكم تمنيت حقًّا أن يكون الخبر صحيحًا لأرى كيف تقصف، رغم أني لست متعجلًا على الموت؛ عندئذٍ، سأقول إني حضرت هذه الحرب، ولم أكتفِ بالمجيء للتفرج على الدخان. رغم خفوت الضجة بقي الحابل مختلطًا بالنابل، وزاد أن نارًا اشتعلت في محرك سيارة، وإذا نحن في سيرك لا تنقصه إلا القردة. صرتُ مصمِّمًا، أكثر من السابق، على الوصول إلى الجنوب؛ فلم ألتفت خلفي للسائق الذي تخلى عنا، رغم أننا دفعنا الركوب، واجتزت نقطة الانفجار؛ أصبحتْ حفرة، قربها بادرني سائق ظنَّني من العائدين، فقلت باستسلام زعمًا: «ع - صور». ركبت معه، ولم أدفع في انتظار الوصول، ما لم يمنعني من استحضار صور آلاف العائلات هاربة من القصف في نزوحها إلى الشمال. أقول إن الحرب ليست لعبة، والحياة — دائمًا — خير من الموت، والاستشهاد غير المجازفة، كما أن الشجاعة لا تعني التهور البتة؛ ومن لسعه ثعبانٌ يخاف من الحبل.

١٢

نحن الذين قررنا المضي قدمًا، رغم مخاطر السفر البينة، لم نكن لا مغامرين ولا مجازفين، ما لا يعني أننا كنا شجعانًا بالضرورة؛ ذلك أن قلقًا غامضًا ظل يلبسنا، أحسستُ بكل واحد منا، نحن مسافري سيارة الأجرة اللاحقة، يداريه مكابرة. كان لجيراني منطقهم الذي لا يغلب: ما الذي يمكن أن يحدث لنا أسوأ مما جرى عندما بدأت القنابل تنهال فوق بيوتنا، ولم ننجح في تهريب أولادنا إلا بمعجزة! أما وضعي أنا فمختلف، هذا ما أوحوْا لي به بكلمات تقول معناها مداورة، لكن لا أحد من هؤلاء تلفَّظ بعبارة، ظاهرها فضول عادي، وباطنها يحتمل ما تشاء، عبارة: «شو جابك لهون؟!» أو تسمعها لاحقًا: «شو أخدك لهونيك؟!» كلام يتلفظه المسافرون أو الفضوليون، لا يهمهم أن يجرح، أو يثير شبهة ما بقدر ما يميلون إلى شغل الوقت بالهذر، وفي موقفنا، فهي طريقة للهروب من خوفٍ، توقُّع شيء مفاجئ من قبيل انفجار محتمل لقنبلة أخرى؛ فالطريق، كما يقولون، فيها جوانب متناثرة، مزروعة بالقنابل التي لم تنفجر. ما لا يمنع السيارة من أن تشقَّ طريقها بالعناد والصلابة المعروفة عند أي سائق عربي إلى، إلى أن …

وصلنا إلى «صور»، ومن مدخلها تعرف أنها صور، باب الجنوب، باب معاقل حزب الله، هذا ما أسرَّ به إليَّ الشاب الجامعي، الذي اطمأن في السيارة إلى شخصي، واغتبط — نوعًا ما — لوجود مواطن عربي يصل إلى هذا المكان، في هذا الظرف بالذات. الطريف أن استغرابه راجعٌ إلى أننا بربر، فلما أفهمته بأننا بربر وعرب، ونحن — جميعًا — ندين اعتداء إسرائيليًّا على أي بلد عربي، وأننا — أحيانًا — نصبح فلسطينيين أكثر من الزعيم الراحل ياسر عرفات؛ أفهمته هذا فحرَّك رأسه دون أن يفارقه استغرابه. وقفز في جلسته الضيقة، وهو يشير إلى اللافتات والصور المعلقة عند مدخل المدينة: انظر، انظر، أنت الذي جاء من المحيط، هل عندكم مثل هذا؟ قال عبارته. لم أفهم: هل ينبهني أم يسخر، ولماذا يسخر؟

لا يتغير شيء كثير بين «صور» والضاحية الجنوبية، هي ذاتها شعارات حزب الله: «وعدٌ رعدك، خيبر فجرُك!» تغطي مساحة لافتة كبيرة بعرض الشارع، تقرأها هنا وهناك؛ السيد حسن نصر الله، بلحيته الكثة وعمامة الإمام، والنظرات البعيدة تنسجم مع تقاسيم الوجه في صنع ابتسامة متسامحة ونظرة واثقة، هنا وهناك. صخب فازدحام أقوى من سابقين عليهما، بين السكان والتجار، والمقاتلين، طبعًا، غير الظاهرين، طبعًا، فنحن هنا في القاعدة الخلفية للحرب والحزب والمقاومة، ولم أكن في حاجة إلى دليل لأفهم هذا الوضع، إنما المثير — حقًّا — هو أن الزائر ينسى، سينسى سريعًا، دلالة المكان الذي يوجد فيه بسبب الحياة الضاجة، حياة العيش الطبيعية المعتادة. السكان يحيوْن، يموتون ويستشهدون، ماتوا، وها هم عادوا، إني أراهم يعودون. حلَّق فوق رءوسهم طيار، وقتلَ ما شاء، ثم عاد إلى قواعده سالمًا، غانمًا بعد أن قتل ما يكفي ويزيد من اللبنانيين، من العرب. في القاعدة الجوية هنَّأوه لأنه أدى المهمة، القتل، بنجاح، وسيبعثونه في مهمة لاحقة ليتدرب أكثر على قتل العرب. وهم ماتوا سابقًا، وأراهم يعودون، يصخبون في الأسواق والحارات، وحتى بينهم شباب يناغون الصبايا، ويأكلون ويشربون، ويكبِّرون دائمًا، ويصلون على النبي، وعلى آل البيت أجمعين.

وأنا — والله — لم أكن في حاجة إلى دليل إضافي، إذا حصل المعنى، الموت، لا فائدة من التكرار قط. أوافق على قول/عملة الفقهاء هذه، لكن ما صادفني/صادفنا في الطريق بدا لي أكبر من معنى الموت، أعلى من الخيال؛ دعاني إلى التفكير في المعنى الذي نعطيه لبعض الكلمات، أو المفاهيم، كما نصوغها، ونصبح نرددها — ببداهة — لأننا أعطيناها — يومًا ما — معنى وانتهى الأمر. يأخذ التعريف المعنى، يهيمن عليه إلى الأبد، فيما يعطل التفكير. قلت هذا لأن المقبرة ظهرت دفعة واحدة وألغت في نظري كل الحدود. نعطي ما نشاء من التعريفات للخيال، هي — دائمًا — تقف أعلى من الواقع، وتتعالى على الممكن. والآن أرى أمامي خطل هذا التأويل، وأتساءل: لماذا نشِطُّ، بينما الواقع غني؟ من الغنى أنه يمدُّنا بوفرة مواد تغلي بالدلالة والخيال؛ بعبارة أخرى، وأمام المقبرة، وجدتني أقول إن الخيال ببساطة ليس إلا الشيء الذي لا تعرفه. هناك شعوب تمارس طقوسًا مدهشة، هي عندنا ضرب من السحر والغرابة، فيما تعتبر لديها ضربًا من واقعها الخاص، تعيشه على نحوٍ معينٍ، وحتى لو نظرنا إليه، خيالًا وأسطورة، فهي تساكنه وتُبيِّئه، وبالتالي يصبح جزءًا من عالمها، وننظر إليه نحن خيالًا يتسامى عن الوجود المادي.

أبطأ السائق السير فجأة، كما أسرع، فالطريق عادت عرجاء، ليس بسبب أي قنبلة ولا لوجود حادث. أنت لا تكاد ترى أي حادث سير عند هؤلاء السُّواق الأشاوس، رغم سرعتهم البرقية. وإذن ماذا؟ تطوع الشاب مرة أخرى ليشرح لي الموقف، ويسرِّي عن نفسه، بعد أن التزم الصمت وقتًا؛ قال: «إنها المقبرة». وأضاف، يشير إلى يمين السيارة: «انظر، هذه». كانت مقبرة فعلًا، لكن بشواهد مقلوبة، ومثقوبة بالحفر، وكثير من قبورها تظهر مبقورة. يا إلهي، ما هذا؟! طلبتُ من السائق أن نتوقف شأن آخرين سبقونا، فكرت في الترحم على الموتى. شرح الطالب الجامعي: إن الطائرات حلقت على علو منخفض، ورأت هذا الحرش، ولعلهم فكروا أن المقاتلين يختبئون هنا؛ فألقوا كمية من القنابل، وكرروا وانسحبوا، ثم ظلوا يعودون ويرمون؛ لأنهم، على ما تناقله رواة عديدون، ظلوا يرون أشباحًا تتحرك داخل المقبرة ثم تعود فتختبئ. أذهلتني هذه الرواية، ففي هذا العدوان الإسرائيلي الجديد لم يسلم أحد، الموتى أنفسهم نالوا حقَّهم من الموت مرة أخرى. المثقفون والأدباء والصحافيون في الحمرا — وحدهم — يعلِّقون على الأحداث، أو يكتبون مقالات ومرثيات فاترة، وأحيانًا يتحسَّرون، لكنهم — بكل تأكيد — لا يموتون. الموتى هنا ماتوا عدة مرات، بلا عدد. كانوا في الحقيقة نائمين، يحلمون بالوقت الذي سينتهي فيه العالم نهائيًّا، وتقوم القيامة لينالوا الجزاء أو العقاب. غير أن القصف كان من القوة أن قضَّ مضجعهم، وحين استيقظوا وجدوا أهلهم يقاتلون فانضمُّوا كلهم إلى المقاومة مستبسلين، والنتيجة، انظر، صرتُ أنا من يخاطب الطالب اللبناني، وهو يحملق فيَّ متعجبًا، لقد غادروا مقابرهم، ولم يعودوا إليها؛ لذا هي مفتوحة. ومن المؤكد أن كثيرين بينهم استشهدوا في أماكن أخرى، ومع ذلك فشواهدهم ستنتظرهم لأنهم سيموتون أيضًا، وأيضًا.

فاتتني أمور كثيرة حين كنت أسمع أخبار الحرب وأتتبع مقاطع منها مصورة. وكالات الأخبار أجمعت على أن الجنود الإسرائيليين صُعِقوا مما رأوا. تقول الوكالات إنهم لم يكونوا يرون شيئًا أو تقريبًا. تقريبًا تعني هنا أنهم حين دخلوا بعض الضيعات التي حسبوها آهلة بأفراد المقاومة، وأيقنوا من وجودهم — بحسب خبرة معينة في الميدان — لم يكونوا يصادفون أحدًا، لم يعاينوا أحدًا. لكنهم خرجوا إليهم مرات. من هم؟ قالوا لضباطهم، والرعب يتآكلهم، وهم ينحشرون في الزوايا كالقطط: إننا رأينا أشباحًا، وفوق هذا تُطلِق علينا النار، وتُوقِع فينا قتلى، أجل! رغم أن الطالب — إلى جانبي — بدا غير قادر على استيعاب كل ما أقول، فإنه صار يردد معي: أجل، لم لا، أجل! واتجه يخاطب الركاب الباقين، يسألهم عن رأيهم دون أن ينتظر في الحقيقة أي تعليق، فكأنه وجد أخيرًا التفسير المطلوب لما ردَّده الرواة عن المقبرة، وحيَّره، وراح يرويه كخرافة. ولعلَّه — من شدة تأثره — قفز إلى عنقي وعانقني، وأخذ يجهش بالبكاء وعيونه ضاحكة، وأظنني شاطرته الدمع، وأنا أفهم — للمرة الأولى — معنى الخيال.

١٣

أيقنت أننا اندمجنا في الطريق إلى الجنوب، ليس بعد أن اجتزنا «صور» وحدها، بل وعندما أخذت المسالك تزدحم بصفوف من الشاحنات حاملة أطنان المساعدات المختلفة إلى المناطق المتضررة. كنت قد رأيت قسمًا منها في الطريق السوري، وعند الحدود اللبنانية، أما هنا فتراها وصلت أخيرًا، وكثير منها مسجل بإيران. قرأت في الصحف أن وفودًا إيرانية إنسانية ومذهبية ونسوية تحل بلبنان للتضامن والدعم، لكني لم أقدِّر حجم الحركة إلا ونحن نتقدم كيلومترًا إثر آخر، ونرى أفرادًا منها وقوفًا عند مواقع منكوبة، كما أتيح لي أن أشاهد منصة تجمَّع حولها السكان يهتفون بشعارات مندِّدة بإسرائيل، مناصرة لحزب الله والإيرانيين ترحيبًا بخطيب معمَّم يحيط به شباب ملتحون.

أيقنت أننا في الطريق إلى «بنت جبيل»، وقد بدأت التضاريس تتبدل تدريجيًّا؛ فمن السهل المنبسط الذي تمتد فيه حقول مزروعة على الأغلب بالموز، راحت تلال خفيضة تتراءى عن بُعد، وكلما اقتربنا منها ضاقت الطريق وهي تأخذ شكل التواءات، وصعود ونزول ما يميز المناطق الجبلية عمومًا، مع الواضح أننا لا نصعد الجبال. هناك في أفق نظرة تتكاثر الهضاب وتُرى الأرض صفراء من غير أن تكون قاحلة. لا توجد هنا خضرة، ولا أشجار كثيفة أو بدون. الطبيعة عمومًا تتناقض كليًّا مع الغضارة الهائلة في مناطق لبنان الأخرى، الجبلية منها على الخصوص. من غير شك هي أرض وعرة، ضيقة المسالك، ما لا يمنع السائق من مسابقة الضوء. نعبر بلدات، وعلى الجانبين شبه قرى متناثرة، إنما لكل مكان اسمه، وهيبته، والأهم من كل هذا، وفي سياقنا الحالي؛ أن كل بلدة تناوب عليها القصف حدًّا لا يطاق.

حرصتُ، وسيارتنا تخترق تلك الأمكنة، على تسجيل أسمائها في مفكرة صغيرة مطوية بيدي، أدوِّن فيها بسرعة مختلسة حتى لا «يُفتضَح أمري» فقد قلت — مرارًا — إني لا أحب أن أظهر مختلفًا في الترحال، أما في الحل فذاك شأن آخر. كان دافعي وقتئذٍ احتمال العودة إليها إن عنَّ لي أن أكتب شيئًا عن مشاهداتي، وهذا أمر، على ما أظن، ليس محسومًا دائمًا لدى الكاتب، أقصد تدوين الرحلة، اللهم أن صاحبها ينفذها لغاية مخططة سلفًا، وعندئذٍ، أشك أنها ستتعدى التقرير والوصف ليفيد. وإذ لا أنكر عنصر الإفادة وأهميتها، أرى أن البحث عن اكتمال للذات في سعيها لمعرفة ذاتيتها من خلال الاتصال والاكتشاف والتفاعل مع الآخرين والعالم الخارجي، ولزيادة خصوبة الإنسان عقلًا وخيالًا، لهو — حقًّا — ما يجدر دافعًا لتدوين الرحلة أساسًا.

أجل، حرصت على تدوين أسماء الأمكنة للسبب الأول الذي ذكرت، ولأني رأيت فيها أكثر من بناء، بل هي شاهد على زمن، ونصب مثير بعد أن تناوب عليها القتل والدمار، وانتصرت عليهما معًا، بدليل أنها باقية، وتخاطبنا، تكلم جميع المسافرين الداخلين إليها، والخارجين، الذين نزحوا منها، عشرات الآلاف، والعائدين. لكني اللحظة، وأنا أكتب، أنساها عمدًا، أستبعد أسماء معظمها. لا أستبقي إلا ما يفيد في التمثيل. لا يفضل عندي مكان على آخر، وتتمجد كلها بالصبر والنصر. وأطلب من كل من سيمرُّ غدًا من هذا المحج أن يتمهل، فهنا — فعلًا — ما ترى أديم الأرض إلا من أموات، وأن يقرأ الفاتحة ترحمًا، أو يضع زهرة عند أول حجرة تصادفه، فهي كالشاهدة الجماعية. هذا ليس التمني، لا، ولا الوقوع تحت «سحر» الأسى، لكنها المعالم تقول الرهبة، الفظاعة؛ تتبجَّل بصورة للقيامة غير مرئية، تتحول، على ألسنتنا، إلى مجاز، إلى خيال، لأننا لا نعرفها، بينما هي هنا حية، صدقوني أني «رأيتها» بالعين المجردة في «صدِّيقين»!

لي أن أقول — بيقين — إن بلدة «صدِّيقين» تمثِّل العنوان الأبرز بين كل ما شاهدت — بعد الضاحية الجنوبية لبيروت — لطبيعة العدوان الإسرائيلي على لبنان مما نحن بصدده، بالصور المشخصة الدامغة. تصل إلى هذه البلدة فتجدها ترتفع على تلة خفيفة العلو، وهي تصعد تدريجيًّا، تضاريس وأبنية، أقصد ما صار حطامًا. خفَّف السائق السرعة إلى أقصى حدٍّ بدون طلب، كأنما صار يمشي في موكب جنازة. على يمين السيارة ويسارها الأبنية — ما كان — متداعية: طراز من بيوت صغيرة ومتوسطة عند مدخلها باحة أو روض. أصبح مأوًى لما تهدم، الأسقف واقعة، والجدران تتقاطع كأنها تتساند، والأحجار واصلة، هي والتراب، إلى الأسفلت. نحن نصعد والبناء يهوي، هوًى. محلات بقالة واقعة الأبواب، مبقورة كذبائح؛ مدرسة تداعت فصولها، لم يبق إلا اسمها، لا أعرف هل هو الفلاح أم الصلاح؛ نصف مسجد؛ ثم صف أبنية مدكوكة ما زال يتهاوى، آخر ملتوٍ، مشروخ، على مرمى البصر تنتشر أكوام سوداء، رمادية، أسلاك متشابكة، أقواس، نصف أقواس، نصف أبواب، نصف نوافذ، بقية أطراف دبابة. باختصار لم يُبقِ القصف من صدِّيقين إلا صدق ما ترى العين، وما يعزُّ عن الوصف إلا بكلمات تقريبية. هنا — حقًّا — تصبح قدرة الكلمة والصفة والاستعارة محدودة، إن لم تك بلا جدوى أمام الصورة، ولذلك التقطتُ الصور الممكنة عن دمار يشبه ما حدث في الحروب الكبرى التي شاهد جيلنا مقاطع منها في أفلام وثائقية، وأخرى تخييلية. وعليه فإن ما جرى في هذه البلدة اللبنانية لا يقل في شيء، مع الفارق، عن دمار ومعركة ستالينغراد الشهيرة في الحرب العالمية الثانية.

وتبقى الحياة، في مواجهة كل ما يعز عن الوصف، تلهو، تصر على البقاء من بريق عيون الأطفال. طلبت من السائق — بمساومة — أن يتوقف دقيقتين لألتقط صورًا لخرائب صدِّيقينية، ونزل من معي؛ ربما ليقتنعوا أكثر بهول ما يرون، وفي اللحظة التي ضبطت فيها الصورة الرقمية وسأضغط على الزر، ظهر من الأنقاض أولاد مفاجئون بسراويل قصيرة، وعلى صدورهم أنصاف قمصان، أو عراة. أظنهم كانوا خمسة، وجوههم ورءوسهم مغبَّرة. في الصورة — التي لم ألتقط — رأيتهم يتفاجَئون، وإن لم يفزعوا. تجمَّدوا في وقفتهم وبأيديهم، كل واحد بيده شيء ما، ومعهم تجمدتُ، ورأيتهم يتبادلون النظرات كأنهم يتشاورون بينهم، هل يسمحون لي بأن أصورهم — كما يحب جميع الأطفال — أم أن بينهم إشارة. خفت أن أجرحهم لو صورتهم؛ أنا لا أعرف بالضبط مما خفت. بل خجلت رغم أني تراجعت. شعرتُ أني مثل أولئك السياح — البلهاء من جنسيات العالم الغربي — يتسلون بتصوير الأهالي والسقَّائين والجِمال، وهم يندسون بينهم، بعد أن يتصدقوا عليهم، ليعودوا إلى «تحضُّرهم» بهذا العجب العجاب. قلت سأرتجل لأفك العقدة فسلمت: «مرحبًا عمو!» فردوا — جميعًا — مهللين، وتململ الموقف وهم يبتسمون، ثم يضحكون، رأيتهم يتقافزون، عادوا واختفوا فجأة عن ناظرنا جميعًا، هم اختفوا من جديد وراء الأنقاض، سمعناهم يتصايحون، وربما كانوا يتقاذفون أو يجمعون أشياء الغبار، لكن في الأحوال كلها، ورغم كل هذه التعاسة، يريدون — بطريقة ما — التعبير عن أنهم فرحون، أنهم يلهون، أنهم مختلفون. هو وضع يخصُّهم في عالم خرب، حتى والقذائف أكلت لحمهم، حتى والصواريخ هدمت بيوتهم ومدارسهم، فإن لهم وقتهم لا يشبه أوقات الآخرين، وحياتهم ينتشلونها من الموت المنتشر حولهم. من حيث لم أنتبه عادوا يخرجون، جعلوني في الوسط، وقد صنعوا حلقة وصاروا يدورون: «عمو دخْلك صوَّرنا»؛ «عمو صوَّرنا!» وكفَراشٍ أبيض رفرفت أجنحتهم، حولي يتطايرون. دخل الآخرون معهم، نسألهم ويسألوننا، صرنا جميعًا في الصورة ونسينا الحرب، وأطلال صدِّيقين، وفرحتُ لأنهم — رغم كل شيء — يعبثون بصباهم، وإن بطريقة جدية تمامًا، بعد أن انبرى واحد منهم وفي يده خشبة سدَّدها إلى السماء وراح يطلق النار: تَ تَ تَ.

١٤

من «صدِّيقين» بدأت السبحة «تكرُّ» وحدها، أعني تتالي البلدات المدمرة. أنت لا تحتاج أن تميز — إلا بنسبة الدمار — هذه البناية، أعلى أو أسفل أو أهوى، من تلك. هذه جدرانها انهارت فوقعت أمامها، مثل ذبيح خرجت أحشاؤه وهو لا يزال يعاينها. تلك تماسكت جدرانها، فيما سقفها تجوَّف داخلها وإذا هي مثقوبة، مكشوفة من أعلى كفوهة بركان، وحِمَمُها هي قطع الآجر المحترق متداعية حوالي الجدران، كأنما أخرجت ما في أحشائها في فورة غضب، تظنها توجعتْ لما قُصِفت فانتفض ألمُها إلى الخارج بعد أن ضاق به الداخل.

إنما أي مفاجأة أن تدخل «قانا» ولا تعرفها، أو تقرأ اسمها على مدخلها فيشغلك عن النظر إلى ما حولك لتتحقق بالعين لاغيًا الإسقاط. هذه البلدة اشتُهِرت في لبنان، وخارجه، حين قصفها الإسرائيليون سنة ١٩٩٦م تاركين عشرات القتلى والجرحى. وفي عدوانهم الأخير كان على أبنائها أن يؤدوا — باهظًا — الانتماء إلى الوطن، والأطفال خاصة. «قانا» دخلناها في مقتبل الظهيرة، وبدت أبنيتها متماسكة، ومن لم يسمع بالقصة لن يخمن حدوث المأساة، هناك في الطرف الآخر، الأبعد، هناك، قال السائق، وهو يشير نحو منحدر يقع في الجهة اليسرى القصوى بين بضعة أشجار تتخلل بيوتًا في منحدر.

ذكرت الأخبار أن سكان قانا، مثل بلدات أخرى، تركوا بيوتهم واختبَئوا في ملجأ حسبوه آمنًا. أضاف الخبر، وهو من مصدر إسرائيلي هذه المرة، أن طياريهم اشتبهوا في وجود مقاتلين بالمخبأ، أي إن النساء والأطفال أصبحوا يقاتلون فجأة؛ فأرسلوا صواريخ دمرت الأرض فوقهم، فهم كانوا تحتها. ومن الضحايا الأُول زينب، قتلوا الطفلة زينب ذات الربيع الثالث. كنت شاهدت — على الشاشة — أباها وهو يستخرجها من الحطام؛ قدم، ساق، ذراع، جسد رخو، وجه عيونه مسبلة وشعر قليل منكوش. ثم في اللقطة الثانية أبوها يرفعها أعلى ما يستطيع بزندين قويين كأنما ليُشهِد السماء على هذه الجريمة، وعلى ما حاق به من ظلم. ثم في لقطة ثالثة مباشرة أراه يركض وهو «يشيلها» بين يديه، لا تعرف في أي اتجاه، وملء وجهه، ملء فِيِه صرخة صامتة، قل مشروخة من مظهر التكسر الذي على الملامح، وأخيرًا أظنه يجثو على الأرض قد قُسم ظهره، وزينب دائمًا بين يديه، يهديها إلى السماء من حيث سقطت قنابل الغزاة.

أخبرنا السائق أن أهل قانا لم يبكوا أحدًا من قبل كما بكوا زينب. لم يكن في بلدتهم حطام كثير، ورجالهم التحقوا بالمقاومة، فبقي الأطفال والنساء، وبعض الكبار للحماية، وماتت هي. في الباحة القريبة من الملجأ وقفتُ، جثوت أمام قبرها. يا لهذا القبر ما أصغره. كف يدٍ تقول أو وَكْن عصفور. نبت الحبق فوقه سريعًا، أسمح لنفسي بالقول إنها دموع كل من مرَّ من هنا ما سقاها. ورود منثورة، وحقًّا فوقها طيور تحلق وتعود. جثوتُ وبكيت بصمتٍ. لم تستشرني دموعي فابتلَّ الحبق الذي ارتعش، وبعيون خلف الغمام رأينا يدين كالبسكوت تخترقان التراب ووجه منير يطل، ثم جسد كسنبلة مثمرة ينطلق منه — رأسًا — إلى حلقة أطفال كانوا يلعبون، ويرقصون، ويغنون. وأنا أقسم إني سمعت غناء. أقسم إني رأيت السماء تنزل حد التصاقها بالأرض، والقبر الصغير مثل الكف بينهما، والحبق صار خميلة، ويدٌ أحسست بها توضع على كتفي ظننتها للسائق يشد من أزري. ثم لمَّا أدركت أنها ربْتة ناعمة التفتُّ فإذا … فإذا هي زينب، وصوتها كالقطر في الصحراء: «عمو، لا تبك، عد قريبًا وسترى زينب أصبحت غابة!»

لا نَفَس واحد بين حطام وخراب. هذه بلدة كفرا، يعبرها السائق كالسهم، تحسبه يخاف أن يعديه العدم، فلا كائن ظاهرًا للعيان هنا، الطريق يلتوي ثعبانيًّا. رأيت دجاجات تنط، تحفر بمناقيرها الرماد ففكرت أنها تقتات من الديدان. ثم فكرت أن الديدان صارت رمادًا أو غبارًا بعد أن لاذت — عبثًا — بالمخابئ؛ هربًا من القصف. والفئران مثلها، والصراصير، والجعلان، والقطط مثلها، والكلاب أين ذهبت؟ في بلدة «كفرا» انبطحت جثة كلب متشظية إلى جوار مخبزة محترقة. للتو تذكرتُ صورة من غزو الأمريكيين للعراق فيما يُسمَّى حرب الخليج الثانية. صورة نقلتها قناة الجزيرة مباشرة من مدينة النجف وهي تتلقى وابل القنابل. في دوامة الهاربين والمفزوعين، وإطلاق الرصاص المتبادل مرَّ كلب يجري وهو يقفز كمهرة. كلب يقفز على ثلاث قوائم فقط، وبالقائمة الأمامية الأولى يحمل القائمة الثانية بَتَرَها الرصاص، هاربًا بها، محاولًا النجاة بكُلِّه، بما تبقى منه، شأنه شأن كل الخلق الواقع — يومئذٍ — تحت لهب النار. مرَّ أمامي كلب النجف يعدو، وقد وصل إلى كفرا وراح يسحب جثة صنوه، معًا خلتهما يطيران هربًا من جحيم الأرض، فلا سلام — بعدُ — مع البشر، بين بني البشر!

لم تكن كفرا وحدها «أم الشهداء» كما تنطق لافتتان بين مدخلها ومخرجها. بلدة «حاريص» أيضًا، وأختها «حدَّاثا» وربيبتهما «الطيري» و«عيناتا»، وما تراني إلا أختصر في سرد الأسماء، معاندًا — ما أمكن — للهروب من الأوصاف، ما دامت رؤية العين تبلغ من الصلافة حدًّا فجائعيًّا تنحسر دونه الأبصار. لم أعرف ما كان يعتمل في نفوس رفاق الطريق، ولا سعيت للاستبطان؛ فهذا ترف لا يطاق. لذا تحولتُ إلى عين كبيرة انتشرت خارج مجال السيارة المغمور بشمس نهار حار أشم فيه عرقي، وأنفاس جيراني، والضوء الباهر للظهيرة ممددًا على طول أحياء البلدات المشروخة، لم يبق من معظمها إلا طحين رماد، وقضبان حديد مشرعة أصابع مفرودة، وأحشاء معجونة ببعضها. يعقب هذا وذاك وتينك أرض مثقوبة، حفر متقاربة-متباعدة، وأحيانًا مدى هو الفراغ، أي العمران بعد أن دُكَّ فاستوى بالأرض؛ أظن أن هذا بعض معنى السديم.

لا شيء له معناه، في النهاية، إلا مما ينبت فيه، وإطلاق التسمية قبل تعيين المسمَّى، والتحقق منه، ضرب من التطريز على خرقة خِلقة، لا يُجمِّل، كما لا يخفي العيب، فما بالك بالتراب والناس، بالحياة تكون، وقد ترادفت عليها معاني الوجود، كيف تقبض على جمرها ولم يبق بين يديك منها إلا ما تحت الرماد. كذلك رحت أفكر، وأنا أستميت في تقريب صور ما فاتني، والدخول، لا في وجد الصوفيين، ولكن في مصهر حرب، نقول في بلاغتنا إنها أتت على الأخضر واليابس، وقتلت مئات في القلب منهم زينب قانا، وحدها تعدل ألفًا. يوجد الخلاص المؤقت حينًا في الاستطراد كمهرب من معنى يستعصي على الحضور، حينًا آخر في استدراج بعيد لينوب عن قريب مشوش. قبل أن أصل إلى حصاد الدمار الذي فات بعينيَّ استعجلت الوصول، ولمَّا فاتت المشاهد الأولى أحسست أنني باقٍ أطفو فوق بحيرة دم متموجة في انتظار أن يغرق رأسي بعد أن غطست إلى العنق. هذا الغرق استدرجتُه وتوقعتُه بلهفة، عجبًا، لدى الوصول إلى ما شكَّل المقصد القصي والأقصى منذ البداية؛ أعني مدينة «بنت جبيل»، آخر حلقة حضرية في الجنوب اللبناني شرقًا، أعني في المرجل من حيث أرادت إسرائيل العبور بقواتها البرية للزحف على لبنان، كما فعلت سنة ١٩٨٢م عندما احتلته بالكامل، وأخرجت تنظيمات الثورة الفلسطينية من بيروت. انطوت المَشاهِد جلها، ولم يعد في مرمى البصر إلا ما لم يبصر، يستعجل صاحبه حلوله كي تتطابق رؤيا الفاجعة مع رؤية الهول المادي، وعندئذٍ، عندئذٍ فقط، سيقول ربما لم أبالغ، ولا أنا أخطأت؛ إذ خضت هذا السبيل، حتى ولو طرقته متأخرًا؛ أوليس الوصول في النهاية خير من ضياع لا يصل … إليك يا «بنت جبيل»؟

١٥

كنت قد حللت ببيروت قبل عام على هذه الزيارة، وخلالها التقيتُ بليلى الوادي. حين تقابلنا — في مرات سابقة — سألتني لماذا أظل محبوسًا في بيروت، أو لا أذهب إلا إلى جبل الشوف، ثم تعود تعبِّر عن أسفها أنها لا تستطيع أن تقودني إلى «ضيعتها» تعني البلدة الأصلية لأهلها؛ فاللبناني لا ينتسب إلى الوطن ولكن إلى الضيعة، وكثير إلى الطائفة، وهذا شأن لا يعنيني. وتضيف: «نحنا من بنت جبيل، وهي ظلَّت وقت طويل محتلتها إسرائيل، واحنا ما فينا نروح لهنيك». ولأمر ما تصورتها من النقاط البعيدة في العالم، ومحوتها من ذهني، إلى أن اقترحت عليَّ — العام الماضي — أن تأخذني إلى ضيعتهم، ولطارئ ما زاد المكان عني بُعدًا.

ها أنا الآن أشرف عليه. على قلعة الجنوب المحصنة، مثَّلثْ إحدى الرموز الكبرى للمقاومة اللبنانية في الجنوب، ونكَّلت بها إسرائيل في مختلف مراحل عدوانها على لبنان. تنتهي من سفح، وتأخذ في الصعود على مرتفع خفيف طولًا إلى أن تصل إلى دائرة توسطتها دبابة: هذا هو المدخل إليها. المكتوب، يقولون، يُقرأ من عنوانه، وكذلك بنت جبيل. في منطقة الشوف الدرزية إذا جئت «بعَقلين» أحد مراكزها الحضرية، من جهة بلدة المختارة، مقر زعامة آل جنبلاط، فإنك واجد مدفعًا منصوبًا عند مدخلها يحمل كل المعاني لمن يراه، مثل المعنى الذي فهمتُ ووصفت لما رأيت الشاب جاري في سيارة النقل يسوِّي مسدسه إلى الخلف. الدبابة هنا تعني المقاومة، والمقاومة قاتلت هنا فعلًا ببسالة. هل تريد الدليل؟ عندي ألف. الحرب كانت هنا، والسلم، أيضًا، يبدأ من هنا. كلا، ما أنا بحاجة لرسم أضعاف الصور لما لحق المنطقة من دمار، إن الحديث عن القائم من البنيان هو الشاذ.

تحتاج أن تتوغل إلى الداخل، أي تقطع الشارع الرئيس المفضي إلى المركز، وسط البلد، لتنبهر بما حدث. وأنت ستنبهر على وجهين: السالب والموجب، والأخير هو الأقوى عندي تعبيرًا، الأغنى دلالة. لتعي فداحة السالب انظر إلى ما حولك فترى أبنية كاملة واقعة إلى الأرض. انظر فترى عجبًا، أي طوابق معلقة في فراغ، آيلة للانهيار وهي واقفة بعد. أعمدة منتصبة معلقة من أعلى وهاوية من تحت، فما هذا؟! مركز تجاري محترق؛ دكاكين سوق آخر نصف متداعية؛ الشرفات مدلاة كألسنة كلاب لاهثة. كل النوافذ عارية؛ كل الأبواب مقتلعة؛ هذه مدينة مفتوحة، وحصن منيع في آن. غادرَها سكانها ليشغلها المقاتلون. أزْيَد من شهر لم يبق هنا إلا من يقاتل، ويا عم، يقول «أبو حسن»، وهو يناولني «منقوشة» الجبن، جنُّوا الإسرائيلية، يقصد أنهم لا يعرفون الضرب من أين يأتيهم، لذلك صاروا يقصفون بشكل أعمى وها هي النتيجة أمامك.

كان كلام «أبو حسن» يصلني في الحقيقة متقطعًا؛ فالضجيج عالٍ، وسيارتنا وصلت في عز الظهر، وعز السوق. اليوم خميس وهو موعد السوق الأسبوعي لقضاء بنت جبيل لكل الناحية تأتي إلى هنا لتتبضع وتبيع. صوته واحد من مئات الأصوات القريبة. نسيت ما جئت من أجله. دقائق كاد وعيي ينقطع عن وعي المكان، عن الزمن، عن الحدث، ما قبل وما بعد، ليصبح لوجودي معنى، هنا والآن، إذ ذاك. للحظات اختلط عليَّ موقعي، ولساني وحده لم يسأل: أين أنا؟ هل في «سوق أربعاء الغرب» وسط المغرب، أم في «خميس مليانة» بالجزائر، أم ربما «خميس الزمامرة» بالمغرب مرة أخرى، لِمَ لا في سوق أسبوعي بباكستان أو ضاحية تونسية ومثلها. جئت بنت جبيل لأعاين كسورها وندوبها، وأتصور أنني حين سأمشي في «زواريبها» متنقلًا بين حاراتها، سأسترجع بالصدى أعاصير ما دوَّى هنا من نار، وها هي ذي تتقدم لاستقبالي في مهرجان، فيما يشبه العيد، إني لا أزيد من رأسي شيئًا، فكأنه العيد!

وجدتُها تموج بالمتسوقين، رجالًا ونساء، وأكثرية ظاهرة ممن في مقتبل العمر. كان سوقًا ذا نسق ريفي، في شكل عربات وأكشاك مرتجلة تملأ شارعًا أو هي ربما طريق نظرًا لكثرة السيارات المارة بها. إنك لتتعجب كيف تستطيع أن تعبر، معها العابرون، المتسوقون، الأطفال يلعبون، باعة متجولون، وفي الخلف ما لم يتهدم أو يحترق من دكاكين، أصحابها مصرُّون على فتحها للرزق الحلال والكسب الضروري في وقت الفرج بعد زوال الشدة. سوق شعبي كما تسمى التجمعات التي يأتي إليها مستهلكون قرويون، ومحدودو الدخل عمومًا. لا أثر هنا لثياب الموضة، ولا لمعروضات الإثارة، والألوان بهرج، والسعر، على ما ساومت، في المتناول. والنساء على العموم أشد إقبالًا على الاقتناء، تفهم أنهن ذوات صرة مليئة، والمرأة كما عرفت في بلاد المشرق هي قائدة الزمام. وإني عزوت الإقبال إلى دافعيْن: أولهما فرصة السلام تتاح، وها السكان يقبلون — من جديد — على الحياة كأن لم تكن أرضهم مَحرقَة، ولا هم نزحوا وهُجِّروا واستشهدوا ودُمِّرت بيوتهم، وفيهم الثكالى والأرامل والأيامى. وهي، والله، قوة عند اللبنانيين أُوتُوها، لا شك، من حبهم لمباهج الحياة من غير شك، لكن، وهذا المعوَّل عليه، من الدهر الذي عركهم وجعلهم ذوي بأس شديد، لكم يسمو في مواجهة الأعداء، ونراه يحط عند قتال الأشقاء. وثانيهما في الظن، ما نما إلى علمي كون «حزب الله» قدَّم تعويضات إلى الأسر المتضررة على البيوت والأثاث وخسائر أخرى. قلت الأهالي تسلموا وها هم يقتنون بعد ضياع وعوز، لكني علمت توًّا، من الرجل الذي سيصطحبني إلى منطقة «الجحيم»، وسنصل إلى سيرتها بعد قليل، ما كذَّب الظن.

أخبرني أن موضوع التعويضات صحيح، وفيه خلاف، إنما أهل «بنت جبيل» في يُسْر لا عسر، وفي غنى عن الحزب، رغم أنه يمثِّلهم، وهم شيعة كغالبية سكان الجنوب اللبناني. والخبر أنهم، شأن قسم كبير من أبناء هذا البلد، مهاجرون، يرسلون مبالغ تفي بحاجة الباقين. تذكرت حينه كتابًا للباحث اللبناني أحمد بيضون عن «بنت جبيل – متشيغن» وهو تدوين لطيف يسجل فيه — منذ وقت مضى — تعداد أهل ضيعته المهاجرين إلى الولايات المتحدة، ولاية متشيغن، تحديدًا ثلاثين ألف مهاجر، مشكِّلين، بذلك، جالية مخصوصة أكبر من الساكنة الباقية، وداراتهم حسنة الهندسة، الواسعة، تبرز ناتئة في أعالي التلال المتفرقة، وهي متباعدة، تبقى معظم السنة فارغة ومحروسة، منيعة عن الغرباء. لكن أي غريب يطأ هذه الأرض إلا ويصبح معلومًا في دقائق؛ أوليست إسرائيل منها على مرمى حجر؟! ورب سائل: وأنتَ، ألستَ غريبًا، فكيف تدبرتَ أمرك؟ كنت أعلم من البداية أني أقصد منطقة وعرة، والحرب وضعت أوزارها فيها قبل أيام فقط، ولا أمان في الحروب، ولذلك استبقيت معي الطالب الجامعي الذي لم ينزل في ضيعتهم الواقعة في الطريق، ونفحته ما يشتري به كتابين؛ فاغتبط ووجدها فرصة ليتعرَّف على مواقع الحدود التي لم تطأها قدماه قط. وقد انتبهت أنه يسلم على وجوه عابرة، ولهجته بنت البيئة، أذكر أننا التقينا في السوق شخصًا ملتحيًا صارم الملامح، فسارع يقدمني إليه ويطمئن، وبعد أن تملَّى الرجل الغامض، الحزبي بدون شك، ما طاب له رحَّب وطمأن، وقال «ابرُموا» وين ما بدَّكم. ورحنا «نبرم» كما نشاء في جنبات السوق أولًا، يليها أرجاء البلد، وآلة تصويري ألتقط بها براحة، لا خوف عليَّ، وشدَّني أني ما رأيت إلا نساء محجبات ورجالًا ملتحين بنسبة قصوى، وحيثما وقع بصري فالجدران هاوية، مثقوبة، والسماء وحدها رحمة للعالمين، السماء التي رفع إليها أبو زينب شهيدة قانا مرسِلًا خطابًا وحده يعرفه.

١٦

«سنرفع قبورنا على أكتافنا لتعبروا»، بخط أسود ضخم كُتِب الشعار في نهاية السوق، بما يفيد أن هذه النقطة تفضي إلى مكان وعر، حتمًا، وهو كذلك بلا جدال. كنت مصمِّمًا على العبور حتى بعد فوات الأوان، ورغم أن الطريق باتت سالكة استهولت الأمر. كيف لا وهي «مارون الراس» المقصد. المعارك الطاحنة جرت فيها، وإسرائيل تركت أكثر قتلاها هنا، وفيها تقريبًا حُسِمت معركة بنت جبيل، أي معركة الجنوب كله. لكن كيف الوصول إليها رغم قربها والسوق على أشده، والناس يذهبون إلى جميع الاتجاهات إلا إليها. كدت أيأس، وأعتبر أن رحلتي مبتورة، أو مجرد فرجة، إلى أن ظهرتَ يا «أبو حسن». كأن روح أحد الشهداء أرسلتك لتريني موقع ومدى استبساله في الدفاع عن أرض العرب. قلت له أدفع ما تشاء، فأخبرني أن هناك خطرًا محدقًا نوعًا ما. هو لا يكاد يعنيه الأمر، أنا لو كنت سأموت لمت أيامها، وأشار إلى بيت في المنحدر نصف متهدم، قال: «ذاك بيتي وقع، وبناتي وزوجتي وأنا كنا من ذاك الميْل، يعني ربك ستر، المشكلة في القنابل، بعد فيه قنابل، وأنت ما بتعرف أيمتى بتنفجر، بدك تغامر؟»

قفزت إلى سيارته وحدي، بعد أن أنهى الطالب الجامعي مهمته والتحق بضيعته. قبل ذلك سمعت أكثر من واحد يمر محييًا «أبو حسن»؛ «أبو حسن» وهو يرد على التحيات برأسه فقط، مؤكدًا، في كل متر وزاوية تمر بها السيارة، أنه سيد المكان. مررنا أمام بناية مسيَّجة، قال هذه «مهنية بنت جبيل» في هذه المدرسة «زمَطْنا» أسبوعًا كاملًا، والشباب يقاتلون بلا أكل ولا شي. أصبحت عاصمة المقاومة وراءنا، وانزلقت السيارة مخلفة الغبار في منحدر لم أرَ منه إلا مساحة أرض جرداء، وإثرها، تدريجيًّا، مرتفعات طويلة كقلعة محصنة. في سفح المنحدر خاطبني «أبو»: أنت هنا في أخطر نقطة بالمنطقة، أكيد سمعت عن «مثلث يارون، عيترون، مارون الراس». كانت واحدة على اليمين، والثانية على الشمال، فيما مارون الراس الأقوى تقع في الأعلى، وبين هذا المثلث اشتعل الجحيم ما يزيد على شهر، عجزت الدبابات الإسرائيلية عن أن تتقدم. وكأنه قرأ ما في رأسي فتكلم نيابة عني: «التليفزيون غِير شِي!» وهل أجادل؟! والتفَّ على الطريق الصاعد إلى الأعالي من فرع جانبي يؤدي، كما قال، إلى مارون، كانت المقاومة تستخدمه، وطفقنا نصعد، ومحرك السيارة يزفر بأعلى جهد، إلى أن أصبحنا في الذروة حيث لسان مديد ونحن بين مَشرفين: واحد إلى بنت جبيل ومبانٍ وتلال متفرقة في كل النواحي خلفنا، ثان أمامنا أشار هو إلى هناك قائلًا: «هَونيك إسرائيل». وفيما انتابني شعور غامض لدى التسمية لم ألحظ عليه أي انفعال، وهو معقول ممن يجاور ويعايش المحن، لامني أنا، وزمرة أبناء المغارب العربية الذين لا يعرفونها إلا بالسماع والصور من بعيد. ودفعة واحدة، ها هي إسرائيل!

وصلنا إلى أعلى نقطة في مارون، هنا حيث توجد استراحة عبارة عن مقهى ومطعم ذوَيْ شرفة واسعة، سقفُها الخارجي قرميد أحمر. كانت استراحة لأنها قُصفت بالكامل، وما بقي منها، إن شئنا، هو الموسيقى. كيف؟ أجل الموسيقى. ما هَمَّ الزجاج المتناثر، ولا الكراسي ولا الجدران؛ الأهم هو السقف المثقوب، ظل صامدًا بعنادٍ غريب. تفكك كثير منه وسقط أرضًا، وكثير آخر لم يسقط وبقي معلقًا بخيوط واهية، متأرجحًا في علوه، يأتي الهواء من أي جهة فيرقص القرميد متماسًّا ببعضه. في حركته هذه يصدر عنه صوت، إنه يعزف لحنه، علامة الحياة الوحيدة المتبقية في المكان. من الشرفة بدت لي حياة أخرى لقوم هم أعداء أمتي: في الطرف المواجه لنا طريق طويلة بمثابة حدود بين بلدين؛ ما يُسمَّى الخط الأزرق الأممي، كل من يخترقه من هذا الجانب أو ذاك يعتدي. بعده أرى حقولًا خضراء منتشرة، وسطها ساحة تربض تربض بها سيارات عسكرية، والعلم الإسرائيلي يحلق فوق بناية بارزة. أثارني اللون الأخضر المقابل لنا قياسًا باللون الأصفر، الشاحب، لموقعنا. أمامي سهل أخضر فسيح، وأشجار، وغضارة، وحيث أقف لا زرع ولا خضرة، وإنما خراب، وقفر، وسيارات محترقة. تلك مستعمرة «صلحة»، قال أبو حسن، مضيفًا إن المقاومة كانت تخرج لهم مثل الجن في البقعة التي نوجد فيها الآن، من بين أقدامهم، تصليهم نارًا وتختفي، إنما جهنم كانت هناك، وأشار نحو البعيد؛ هل تريد مزيد مغامرة؟

رجعنا إلى السيارة، ونزلنا مجددًا في المنحدر، لكنه ترك اتجاه بنت جبيل وراح في أقصى غربها. بعد دقيقتين من الصمت، ونحن نصعد مرتفعًا سيقول إننا ذاهبون باتجاه أخطر موقع قتالي للأمس «تلة مسعود». بلغناها وإذا بقايا بيوت أو أكوام خراب، وهو يفرك يديه: المطاردة هنا كانت من بيت إلى بيت، والقصف على البلدات أسفل لا يتوقف، والشباب سجلوا بطولة نادرة، «هيدا مش التليفزيون!» لأني «حتى وأنا ختيار، شفت بعيني الشهدا واحد ورا الثاني! إي نعم». فيما بدأنا نجوس بقايا البيوت متنقلين مما كان غرفًا فأصبح حجارة سوداء، وفي كل مرة ينبهني أبو حسن أين أضع قدميَّ خشية انفجار قنابل إسرائيلية مزروعة، فنتخطى وقلبانا واجفان. في تلة مسعود رأيت الأرض، بعد الجدران، محترقة، لأول مرة أرى الأرض محترقة وتصورتها تبكي، لا، تكز بأسنانها على لحمها وهي تتألم صابرة على النار تلتهمها، ولا تبكي.

أغمضت عينيَّ طيلة الوقت في طريق العودة إلى بيروت. لم يكن سباتًا ما ألمَّ بي، رغم أن الإعياء بلغ مني مداه. تراجع الخوف والقلق، لم أعد أحس، والشمس دبغت وجهي يومًا كاملًا، ظلَّت تغلي في رأسي، لا بالجوع ولا العطش، ولا بركبتيَّ تورَّمتا؛ صار الإحساس بالألم مثل تجريد هارب كلما اقتربت للقبض عليه ناءت فوقي تلال الردم، والأسمنت والحديد؛ الحديد، خاصة، يتشابك مضفورًا برأسي، ويخرج من منخاريَّ وأذنيَّ، وأصابع كالمدراة تنبش بقايا الخراب لتقطع بقايا قضبان الحديد. كل ما رأيت، أرى صور ثنايا، أراضي وحقولًا وطرقات وجسورًا وبنايات، إما مطوية أو مدكوكة على عجلٍ، وموتى يمعنون في البعد وهم يلوِّحون لي بإشارات غامضة. عدا زينب، لم أعرف كيف أقترب من أجداثهم، كيف أنظر إلى شهداء فتيان أرواحهم عُلِّقت — للتوِّ — على الأعمدة، عيونهم تحن إلى الحياة. عاجز أنا عن وصفهم، فيما اللافتة تسميهم «شهداء الوعد الصادق»، فطوبى لمن يعرف كيف يختصر الموت في كلمات!

عدت من «بنت جبيل» إلى «صور» بسرعة قياسية لأن السائق الميمون — الذي وجدت — كان يهذي طوال الوقت بزعيم حزب الله، بالشهداء، بالتعويضات، والسيد حسن، وأنا مغمض العينين إلى أن ركبتُ من «صور» حافلة متوسطة مشحونة، كان سائقها هو إذاعة «النور». ختمت أسماعنا بالأدعية وشهادات النساء والرجال كلها تمجيد للسيد، وإعلان استعداد للموت فداء له، هم ونسلهم جميعًا، والركاب مطرقون لا ينبسون ببنت شفة، وإن غرقنا جميعًا في سحب دخان السجائر بين أصابع الكبير والصغير، ولم يكن في مقدوري الاحتجاج لأن بين الإخوان المزنَّر بسلاحه، والمتحفز للانقضاض، وطبعًا المنهك، ربما مثلي، يريد أن يصل — أخيرًا — ليحمل رأسه بين يديه، ليفكر فيما رأى، وسمع، ويحاول إنجاز تركيب للمستحيل.

١٧

لم يكن ذلك ممكنًا أبدًا، على الأقل في الغداة حين استيقظت وخرجت إلى الشارع لأنظر إلى بيروت بعين أخرى، أحس أن مشاعري انتابها تغيُّر ملتبس، هو شيء من الإحساس بالرضا، وفي الوقت نفسه الاستغراب كيف أن قطار الحياة هنا يمضي على رسله. هو ذا تناقض جديد يحتاج إلى تركيب إضافي، والتناقضات هنا تتسارع إلى ما لا نهاية، دليلي، مثلًا، أن بعض «الأبطال» ممن ألتقي في المجالس العصرية استغربوا حين أخبرتهم أني عائد من جنوبهم. أني ذهبت إلى هناك وشاهدت ما شاهدت. لا أذكر بالضبط هل استهولوا الأمر، أم استكثروه عليَّ، إن لم أقل رأوا فيه فضولًا زائدًا من عابر سبيل. لم أفِض في الحديث عن زيارتي كي لا أحرج أحدًا، خاصة خطباء المقاهي، وهم عينة ازدهرت دائمًا في بيروت، ومتفشية في كل مقاهي ومجالس الأمة العربية، إذا تكلمتَ يعتبرونك تنافسهم على سُدَّة الرئاسة، وأي رئاسة؟!

عند البعض كأن الحرب، أو العدوان، ثمة تفاوت في التسميات، طبعًا، وقعت في بلد آخر. هناك بعض يميل إلى السكوت، هو في حد ذاته خطاب. ليس الناس هنا مثل سائق الجنوب يهذون بالسيد حسن بلا حدود. أن تركب في التاكسي «السرفيس» مع الجمهور، أو تجلس مع الخاصة، فإنك تغير عالمًا كاملًا، لن أقول إن الحقيقة تضيع؛ الحقيقة لا توجد في أي مكان، وهي أشبه بزعم اليقين، لأقل إنها تتعدد، وهذا أفضل من وحدة مزعومة. أظن كذلك أنه حيث يعيش البشر في مجتمع طائفي أو متعدد الأعراق، خاصة، يصبح لكل جماعة حقيقتها ومُثُلها. لذلك لا يوجد إجماع حول ما جرى، ويفضِّل كثير أن يلوذ بالصمت. لا أحد يعوزه الشعور بالوطن، لكن منطق الوجدان كاسح، والطائفة تريد أن يبقى صوتها الأعلى، والوضع هنا كان، وسيبقى، مختلفًا، بإسرائيل ودونها. هكذا تحدَّث صديقي لم أجادله، ولن أسميه، قبل أن يجرني إلى حديث مختلف من باب تغيير الموضوع، لأنه في نظره، يقولها بشبه سخرية ونفاد صبر، لا ينفع!

لم تكن ليلى الوادي وحدها من الفئة الثالثة، فلعلها الفئة الغالبة. وباءٌ مستشر يسمونه «الزهق» يعانقها مع سواها وآخرين. تقول وتعيد إنها لا تعرف ماذا تفعل بنفسها، ولا تنتظر أن ينجدها أحد بجواب، عبثًا! ستقول ألف مرة، هي وغيرها، إنها تفكر هذه المرة بجدٍّ في الهجرة، ثم «تبرم» في الحمرا، وفي رأسها، وتنسى إلى اليوم التالي، وهكذا إلى الحرب القادمة، ربما. اكتفت بتعليق ماكر: «أخيرًا وصلتَ إلى بنت جبيل، هه!» كنت موقنًا أنها لن تهاجر لأن بيروت هي الأنسب لمن في حالتها، فأين يمكن أن تجد حالة اللاتوافق التي توفر لها، لغيرها، زهقًا مزمنًا لتظل تئن، وتتنفس بأنينها، كالسمكة في الماء. «عناية جابر» مثلها نوعًا ما، ونسيج وحدها. عضو نشيط في الجمعية غير المعلنة ﻟ «الزهقانين العرب غير المتحدين». إنها كصحافية متميزة في جريدة السفير تحتاج دائمًا إلى انعدام التوافق مع الذات والمحيط لتكتب، لتئن، وحين يتعتق أنينها تعصره شعرًا، تلوذ بالشعر كطريقة مختلفة لتصريف الضجر، أو لمغادرة بيروت التي تراوح دائمًا في مكانها، رغم أن أبناءها تمتد هجرتهم إلى كل اتجاه.

كنت في حاجة إلى هؤلاء لأقيس نبض المدينة، وأعفيها من إسقاطاتي، خاصة أن الحرب تُغيِّر، فأسعفتني جابر بكلمات بسيطة ودالة قائلة، كاتبة: «سألتَني كيفك وكيف بيروت؟ (…) لم تعد من هدأة بال في بيروت. اقتلعتها الحرب (…) بيروت تتدرب على التنفس ثانية؛ غير أنها لا تصل إلى الهواء. مجرد ثلاثة وثلاثين يومًا قصيرة من الحرب خلَّفت كل هذا العبث. بسبب حرب قصيرة تعاني المدينة آلامًا مبرحة. (…) أجساد تتحرك بصمت، بشؤم، وبوجوم. (…) يثير القشعريرة، من البائع الذي يدمغ صباحك بيأسه، إلى السائق المذهول والمرتعب من يومه، إلى المارة الذين يكلِّمون أنفسهم (…) يبدو من المتعذر المراوحة طويلًا بين الركون إلى فكرة السلم، والوقوع تحت ربقة حرب مقبلة، ويتضاعف الخوف في الأيام. (…) الأجانب الذين ما زالوا، وهم صحافيون في الأغلب ومراسلون، لحقتهم عدوى الكآبة المستشرية هنا، وبينهم الآن وبين أهل المدينة ألفة الحيرة وألفة اللاهدف واللاغد، فتراهم في المقاهي ساهمين واجمين.» أما بول شاوول، وهو ملك بيروت في الجمهورية اللبنانية، الذي عاش كل حروب هذه المدينة، تأبَّى على كل التنظيمات والميليشيات، وغَرَسَ القصيدة رمحًا أطلقها نيزكًا في عنان السماء؛ بول، صديقي من ثلاثين حولًا فهو — أبدًا — يكابر، لا يحني الرأس لأي غاز، ولا يسابق أحدًا، لأن لا أحد يستطيع أن يقلد مشيته التي ﺑ «نعال من ريح» طبعًا، أو أن يسلك طريقه «مجهول البيان». بول أسرَّ إليَّ: «إلى أين أمضي … هذه المدينة أعطتني كل شيء، وما بقيتْ فأنا باقٍ، ترانا يا عزيزي نتساند.» في خبايا وقت العصر الراكد، وأعماق الليل الساكن يقوم متهجدًا ليسقي شجرة لغة الأنبياء بلظى الجسد اللهب، ويمضي بعدها واثقًا إلى رؤيته، لا حزينًا ولا فرحًا، يمضي شاعرًا وكفى، في زمن تكاثر فيه القتلة والشعراء، ومسخ الشعراء.

يكفيني هذان، قلت، وإن لم أغفل عن الناس الغفل. كعادتهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، وثمة — دائمًا — من يزعم أنه مخوَّل لسياسة مصيرهم. بيروت معهم وبهم، مثل نقاط البلاد الأخرى، تتحامل على نفسها لتستأنف عيشًا لا رغدًا ولا نكدًا. نحن في أواخر أيلول (سبتمبر)، وورقه ليس أصفر، كما في أغنية فيروز، لا ورق، لا نسمة، السماء عالية والظل بعيد، وبقلبي ضيق، حيرة من لا يعرف أي طريق يسلك، بعد أن سلك كل الطرقات، والوقت يا الحبيبة التي فاتت فات. ربما حان الوقت لأعترف بأني في بداية الذبول ما دامت المدن مفتوحة أو مغزوة لم تعد تطاوعني، إن سرت فيها فإلى مرابع الحنين، ما أصبح في حكم الموات.

وإذن، «خلص المشوار» أخاف أن أسأل متى بدأ، لماذا، والآن إلى أين يا روحًا أين سترسو بعد طول السفر: أجنحة مفروشة في عرض السموات، ورغاب على طول الأرض اشتعلت. ها هي على وسادة الإياب تتكئ، كأن لم يبق شيء، ماذا كان ليبقى، أم تراها عدوى «الزهق»؟ لم أكن في حاجة لأودِّع. هل هذا ألم إضافي أم حرية ألا تحتاج إلى وداع؟ أعي أني أواصل أوهامي بركوب أسفار مستحيلة الوصول، حتى ولو تعددت المحطات. نزولي إلى الجنوب لن يغيِّر — قيد خيط — من خريطة الروح ولا الأرض، بعد أن حوَّل «البرابرة» التراب إلى مسحوق غبار. واقفًا فوق حقل أنقاض، في الخارج والداخل، أيضًا، وإن كان ما يشبه الغفوة والنسيان سيد المكان. بالأحرى التناسي الظاهر، وفي الأسفل والحواشي الجمر لم ينطفئ. سأجرُّ معي بعض الأنقاض لأنها تُعدي من سار فيها، ونحن العرب، عجبًا، نُبنى ونتهدم في آنٍ من دمارنا. كأن لا أحد يشبع من الموت هنا، من داخل جاء أو خارج، ولذا سأترك بيروت على توقيت الترقب. ساستها وأهلوها يرتشفون قطرات الحياة سريعًا، تحسبهم يستعدون لتجرع مرارات قادمة. لا أحد ينسى هنا ما دام كل شيء في حالة كمون. طائرات إسرائيل تحلق دائمًا، والبلاد تموج بالأجنبي، وأصابع عديدة على الزناد، لذلك كثيرون يرحلون، كثيرون يبحثون عن لحظة طمأنينة — ولو خادعة — قبالة روشة بيروت الشهيرة، وهم يمضغون مقروطة بسيطة، ولا أستطيع أن أقدِّر عدد الذين تركت ورائي ممن يحنون للاستشهاد من أجل ما يعتقدون.

أما أنا، فغادرت التراب اللبناني أخيرًا في ٢٤ أيلول (سبتمبر) في نقطة المصنع، لا فرحًا ولا حزينًا، لأدخل إلى التراب السوري، ومنه أعبر إلى التراب الأردني، من أجل الوصول إلى عمَّان، المحطة التي سأقلع منها بالطائرة إلى باريس، بعض إقامتي، لكن أي هول قبل ذلك؟!

١٨

في نقطة «المصنع» أمسك شرطي الحدود اللبناني بجواز المواطن العربي، وقلَّبه بعصبية، وبَرْطَم بكلمات قرف. حدق بعدها في صاحبه شزرًا، وارتجف الواقف خوفًا، وأخيرًا منَّ الشرطي بختمه المبارك فوق الجواز، لكن، وببساطة، طوَّح به في وجه المواطن العربي الذي شكر له فعله بكل تهذيب، وهو يتراجع إلى الخلف، لا تعنيه الإهانة بقدر ما بدا يطلب السلامة. في طريق العودة لم يتكلم السيد عبُّود كثيرًا، فعدا أنه صائم، ونحن صرنا في شهر رمضان، فإن له خطته التي لن يتأخر عن تنفيذها بمجرد وصولنا إلى بلدة شتورة قبيل الحدود اللبنانية، لنتبضَّع عند متجر من زبائنه. حين تركنا دمشق على اليمين، وسرنا في الطريق السوري السيَّار نقصد الأردن مباشرة، لم يأخذ السائق المبجَّل رأينا في محطة الاستراحة قبل أن نتوقف في الحدود، بل اختار — بمطلق إرادته — المحطة للوقوف وجوبًا عند متجر من زبائنه، وثانٍ، وثالث، حتى حسبنا أننا نسافر في جولة للتبضع إرضاء لنهم وعمولات السائق الصائم. ما لم يمنعه من خلط الأوراق بين مغازلة «بريئة» لسيدة تركب إلى جواره، والتذكير، بين الفينة والأخرى، بفوائد شهر العبادة والغفران، تحسبه واحدًا من فقهاء هذه الأيام يفتون على هواهم في الدنيا والآخرة.

أما وقد وصلنا إلى الحدود السورية فإن الرجل، على قول المثل «فص ملح وذاب» وتبخرت شجاعته التي ما انفك يستعرضها في المسافة، من أن عمره أطول من عمر الطريق، وأنه، وهو الأردني، أحد أبطال حرب الجولان، وعنتريات غيرها. في هذه الحدود رأيت البناية كبيرة حقًّا، والعاملين فيها غفير. وأنت تلاحظ أن الجواز يُتداول بين عشرات الأيدي قبل أن يستعيده صاحبه مختومًا «إذا مِشِي الحال». واتفق أن جوازي وقع بين يدي شرطية لطيفة الشكل والتصرف، فإنها، وقد تصفَّحته، استرعى انتباهها المهنة المكتوبة لصاحبه، ﻓ «أمطرت لؤلؤًا من نرجس، وسقتْ/وردًا، وعضَّت على العِنَّاب بالبَرَد» على قول يزيد بن معاوية، وأشهرت حبها للكُتَّاب والأدب، وكيت. ورغم أني لم أردَّ المجاملة بالمثل، كأن أُثني على الشرطة والشرطيات، خاصة في القطر السوري الشقيق، فإنها ما قصَّرت والله، ففي دقيقتين استعدت وثيقتي مختومة، وكنت أول عائد إلى السيارة ينظر إليَّ السائق الجبان مبهوتًا، ورغم أنني أقسمت بأني لم أدفع أي «حلاوة» تسمَّرت دهشته في وجهه معلنًا: كيف فعلتَ بهذه السرعة، ولم يكمل عبارة نطقتْ بها عيناه الماكرتان، «والحدود على ما نعرف!»

حضر الركاب جميعهم بعد طول انتظار، وكأنهم يعبرون الصراط، واستغفرنا الله، وحمدنا شاكرين على كل حال، فنحن في الشهر الفضيل، ينبغي للمرء أن يصون لسانه عن العيب، ومنه شتم رجال الحدود الذين تتعدد حواجزهم، ومراقبتهم، وتفتيشهم، وكأن المسافرين قوم نازلون من غريب الكواكب، وعلى كل لم يكن في حوزتي متاع غريب، ولا في رأسي يدور أي شيء مريب. لا أذكر عدد هذه الحواجز، ولا سحنات القائمين عليها، لا أذكر واحدًا منهم ابتسم لنا أو رد التحية، وإن لم يصدر منهم — على العموم — أي سلوك مشين، ولا أخفي أني رحت ألتمس لهم الأعذار، وإن قلت في نفسي: والله إن هذا العدد من الحواجز كثير على الأمة الواحدة؛ في كل مرة أدفع جوازي إلى السائق الذي يتكفل بالباقي، ولدى تفتيش الأمتعة أحتفظ بهدوئي، لا أعبِّر عن الاشمئزاز من اليد التي تغوص فيما تظنه عجينًا، همِّي، همُّ جميع رفقة السفر، ألَّا يصبح اليوم أغبر، وأن نصل إلى عمان سالمين غانمين، إن شاء الله.

حسبت ذلك سهلًا في البداية، توهمت، لأكتشف أن دونه خرط القتاد، وبالذات في البلد الذي تعددت زياراتي له، وقدَّرت أني مؤتمن في أمان، في الأردن بالذات يا بهوات! تركنا الحدود السورية أخيرًا، ودخلنا تراب المملكة الهاشمية في حدود «جابر». نزلنا كالمعتاد من السيارات للتوجه إلى مكاتب الختم، نحن بين أردنيٍّ ولبناني و«محسوبكم» المغربي. قصدت الواجهة المخصصة للعرب فأمرني مَن خلفها — بحزمٍ — بالذهاب إلى هناك من غير أن يرفع وجهه إليَّ، وفهمت أنه يقصد الشباك الأردني حيث اصطف خلق اندسست فيه. لا أذكر كم انتظرنا، لكنَّا تعبنا ومللنا، ونحن عند الظهيرة في صيام، والجو والله حار. أخيرًا حلَّ دوري، أنا الواقف مع غيري مع طابور كالقطيع، دفعت جوازي فأخذه الفتى، وهو فعلًا في مقتبل العمر، وطفق ينقل نظره بين وثيقة سفري ووجهي، ينقل ويعيد، حتى إن المطوبرين نووا بي الظنون، وبدءوا يتذمرون، وشككت بنفسي، وهو يرقن على حاسوبه أنني مسجل في حالة اشتباه، أو ارتكبت جرمًا غاب عن الحسبان، وكذلك كان.

بدا أني صرت لغزًا أمامه ولذا قرر «فض الاشتباك» فغادر نقطته حاملًا جوازي، ورأيته يقصد مكتبًا في الجهة القصوى من البناية، خفيًّا — نوعًا ما — عن الأنظار. دخل إليه وبقيت أرقبه عن بُعد، والمطوبرون ينظرون إليَّ — هذه المرة — حذرًا، أولم أتسبب لهم في كل هذا الانتظار؟ بلى، لكن غيري، على ما رأيت كان، أيضًا، في ورطة. فقد ندَّت صرخة في المكان صدرت عن شخص كأنه انبثق من عدم، أطلق عقيرته يحتج بشجاعة غبطته عليها، وإن كانت غرابة شكله — خلقة وهندامًا — يتيحان له الأعذار. صرخ، وبعربية فصيحة: «هل أبقى هنا إلى يوم القيامة، تجلسونني هنا، تقولون إني في حالة اشتباه مع شخص آخر، هل أنا معزة أم غنمة؟!» ونويت أن أقلده في اللحظة التي نادى فيها الفتى على اسمي من المكتب القصي. هرولت إليه، ودخلت، سلمت على رجلين، جلست على كرسي: ما اسمك، من أنت، مهنتك، أبوك، أمك، من أين جئت، أين ستذهب، ماذا ذهبت تفعل في بيروت، لماذا ذهبت، عند من نزلت، الله، الله، أنت حقًّا؟ ومع سلسلة أسئلته — بالأحرى استنطاقه — أشهد أن الرجل حافظ على ابتسامة عريضة، ودفع يده برفق في حقيبة صغيرة بيدي أخرج منها بهدوء كامل دفترًا، كنت أدوِّن فيه ملاحظات الطريق، وقال بدوره إنه يحب الأدب، وأنا عاجز عن تعييره بأنه قليل أدب؛ إذ يدفع أصابعه في مخصوص الناس. وهذا كله يهون؛ إذ ظل متشبثًا بسؤاله من أكون؟ فأسقط في يدي، حقًّا، وعدا أوراقي الثبوتية التي لا يعترف بها، ليس لي جواب.

بلى، وجدتها كما وجد نيوتن نظريته بالصدفة العابرة، يا لسخرية المقارنة، لكن ما العمل؟! خاطبت رجل الاستخبارات، فهذا — على الأغلب — موقعه، يا سيدي أنا هو فلان بن فلان، ومهنتي كذا بين المهن، وسألته مباغتًا: هل تحسن استخدام الحاسوب؟ فأجاب بارتباك، أولًا، ثم بالإيجاب ثانيًا، فواصلت: اذهب إلى محرك الأبحاث الشهير «غوغل»، وارقن اسمي ويأتيك البيان، ok! لم يزد كلمة ولم ينقص، وإذا نحن وقوف والرجل يصطحبني رفيقًا، معتذرًا: عفوًا يا دكتور، ويا، ويا، إلى شباك الجوازات أخذته مختومًا بإقامة لشهر، بينا طائرتي من عمان إلى باريس بعد يومين وجوبًا. وحين عدت إلى السيارة وجدت السائق والركاب الباقين في حالة ارتعاب، وسألني الماكر ما الخبر فأجبته بأن الأمر مجرد سوء فهم، سوء تفاهم، وأضفت كأني أكلم نفسي: كثيرًا ما يحدث بين الإخوة العرب. هذا ولم أنسَ بعد أن حطت الطائرة أخيرًا — في مطار شارل ديغول بالضاحية الباريسية — أن أرفع أكف الضراعة إلى العلي القدير كي يحفظ Google ويديم علينا نِعَمَه، وأن يشملنا وإياه بالرحمة والمغفرة والرضوان إلى يوم الدين، آمين يا رب العالمين.
باريس - الرباط في ٣٠ / ١١ / ٢٠٠٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤