(XII) «المدينة التي تحمل البرازيل على ظهرها»

هل عرفت سبيل الهلع؟

قبل أن آخذ الطريق إليها تذكرت روائيًّا مصريًّا، صديقًا قديمًا، عبده جبير، كتب قصة ملتبسة الرؤية، مركَّبة البناء، عنوانها: «سبيل الشخص». تذكرته من باب التداعي، كما يقال، وإن كان السبب الحقيقي هو أني، وأنا أترك ورائي سالفادور باهيا وهي تستيقظ في غلالة الفجر، انتابني بعض القلق، كل القلق، للسبيل المرسوم في رحلتي البرازيلية، واخترته بملء إرادتي. لم أتحمس للمحطة المقصودة، ولما أحسست أن الخوف، بالأحرى الوساوس هي العائق، حسمت أمري أخيرًا أضع نفسي على محك اختبار. الذين سبقوني إليها، والاستشارات بالبريد الإلكتروني، وأضيف إليها أخيرًا نصائح ألبرتو من قبيل التحذير، وهو يودعني في المطار، ويأمل أن تتم مغادرتي في المحطة الأخيرة لوطنه بسلام وانطباعات جيدة؛ كله محبط، وبه أقلعت في السادسة والنصف صباحًا على رحلة خطوط «طام» المتوجهة إلى «ساو باولو» (Sao Paolo). لا يشبه ما اعتراني من مخاوف شُحِنتُ بها وأنا ذاهب إلى (س. ب.) إلا زيارتي الأولى إلى نيويورك سنة ١٩٧٥م عندما رسم لي معارف مغاربة خريطة أحياء وشوارع حرَّموا عليَّ التنقل فيها، وأظنهم منعوني من المترو، وجدتُني أستقله بجسارة وأمان في الثانية بعد منتصف الليل، ربما أخافت لحيتي المتمردة آنذاك، وشعري الفحمي المرسل.

ما أهونها تحذيرات تلمى إزاء ما حُوصرتُ به من ترهيب، حدًّا يحيل الحركة إلى مغامرة: لا تخرجْ في الليل مطلقًا؛ لا تحملْ معك أي مبلغ مال؛ لا تزُر أي فافيلا؛ لا تركب سيارات التاكسي؛ البِس الدرابيل فقط، إذا اعترضكَ لصٌّ أعطِه كل ما عندك، لا تقاوم، استسلم دائمًا؛ أنت في عاصمة الجريمة، إحدى أكبر عواصمها في الدنيا، وإذن أنت إذ تذهب إليها، رغم هذا الترهيب، فإنك إما مازوخي، أو تلقي بنفسك عمدًا إلى التهلكة، وفي الحالتين هي حماقة!

الذهاب إلى المدن الكبرى، الخطيرة، الإحساس بخرق العادة مسبقًا، هذا بعض ضرورة أي سفر ومِلحه، أيضًا، وإلا امكُث في بيتك آمنًا مطمئنًا. من مخرج المطار طلبتُ من سائق التاكسي أن ينقلني إلى L’Avenida Paulista، سألني بالبرتغالية ما كنت أتوقعه، فأجبت بحركة عشوائية فحواها حيث تشاء. فكرتُ أنه إن كان لا بد من العنف فلأواجهه من البداية، وليس أكثر من أكبر شارع في المدينة حلبة له. على كيلومترات يمتد، وفيه أقوى محلات التجارة والصناعة بالمدينة والبلاد كلها، تجتمع فيه أمهات المصارف، والحركة على مدار ٢٤ ساعة. عدا هذا الهدير بأي مباهج يحفل أحد أكبر شوارع أمريكا اللاتينية، وأي أسرار خبيئة فيه؟ ما عناني أولًا هو مواجهة القوة، جبروت رأس المال، أن أسمع دماغي يتحول إلى أوتوستراد تعبر فيه السيارات بسرعة قياسية لأحس في اللحظة نفسها قدرة الإنسان على تدمير العالم والذهاب سريعًا إلى الفناء. عندما بلغت منعطفًا مختنقًا بالزحام طلبت الوقوف، ليس في ذهني لا عنوان ولا اتجاه. بينئذٍ دفعتُ حسابي بلا انتباه للعدَّاد؛ احذر سينهبك السائق، يا سيدي لينهبوا بضع قطع إضافية، أوليس العالم قائمًا على النهب؟ هنا، في الدار البيضاء وفي القاهرة طبعهم واحد. لكن هذا السائق لم يكن لصًّا بتاتًا؛ فإني ما إن قفزت إلى الرصيف وسرت خطوات إلا وسمعت صوتًا ينادي، تلاه — بعد إلحاح — نفيرُ سيارة، وهو نادر، فالتفتُّ كأي واحد، وإذا هو السائق يلوح لي، يدعوني للتريث، بينما سلَّ هو عربته بمهارة من نهر السيارات الدافق، وسلَّمني حقيبتي التي نسيتها بتهور.
كنت محظوظًا حقًّا، فقد توقفتُ حيث ينبغي، أمام مدخل فندق صغير تهلل وجه القائم في مدخله لمَّا رآني. العرب معروفون بالفِراسة، يشمُّون بعضهم بعضًا من أقصى الأرض إلى أقصاها ولا يقصرون مع الغريب، وهل مثل الفلسطيني أشد إحساسًا بقسوة الغربة، لذلك، وبسرعة، حجزت غرفة «وألله معك». حمدتُ للرجل لطفه، خاصة أنه عاملني كشخص راشد سيعرف سبيله بنفسه، «سيدبر رأسه» كما تقول بعاميَّتنا المغربية. رحت أمشي مثل أي Paulistano، وهو اسم الساكن الأصلي لساو، نظير الكاريوكا قاطن ريو. نهر السيارات في الوسط يوازيه نهران على اليمين واليسار. هما من بشر أخلاط، أجناس وأصول: ألمان، يابان، طليان، أفارقة، عرب، مسلمون، مسيحيون ويهود، وأنا أذوب في هذا التعدد المثير، عقلي يدور، ومشاعري لا تستقر. هذه هي المدن الحقيقية أقول؛ حيث الاختلاف، ولا أحد يلتفت إليك كما في البلدات ليعرف أصلك وفصلك. هنا والضواحي قرابة عشرين مليون نسمة، يا للهول! كما في مكسيكو سيتي حاليًّا، في ١٩٨٦م دخت بها وتعدادها ١٢ مليونًا فقط، لكن العرب فضَّلوا القدوم إلى البرازيل بكثرة، وها أنا أقرأ أسماء محلاتهم تتواتر كما في الشام ولبنان والقدس، وأدخِّن نرجيلة تفاحتين محترمة في مقهى «جارة الوادي»، مع قهوة مضبوط بالوش.

بدخان النرجيلة تشابك السؤال، هل كان سيخطر ببال الرهبان الجزويت، وهم ينشئون مؤسسة «بيراتنيغا» ليبنوا معها مدينة ساو باولو سنة ١٥٥٤م، أن صوت الله سيُسمَع من مئذنة في جنوب غربي المحيط الأطلسي؟ وأن مدينتهم الوديعة الأولى ستصبح إحدى العواصم المخيفة في الأرض؛ يشار إليها في معدلات الجريمة القياسية. كنت قد تركت ناطحات السحاب بعد مشي ساعة ورائي، وامتلأ سمعي بهدير مليون سيارة ربما، وأنا مرتاح، مع ذلك، لشعوري أني أشبه الخلق الساعي كالنمل من أجل القوت، بسحنتي وثيابي، ومشيي شبه المهرول معهم، وهو ما سيختلف عندي في اليوم التالي وقد تباطأ خطوي لمَّا طرقت المدينة القديمة.

التليد هو الحضارة، هو التاريخ، يدعوك، بل إنه ليجبرك على احترام المكان، والتنفس بهدوء، النزول إلى داخلك كلما سلبك خارجك، لأنك ببساطة في حضرة الزمن، الزمان مطلقًا. في Patio do Colégio ستنحني إجلالًا وأنت تمر أمام الكنيسة، وتشعر بضآلتك وأنت قبالة الكاتدرائية. لا صلاة الآن ولا جنَّاز لتسمع «باخ» يرسل بأوتار الأورغ موسيقى رهبة الموت والدهر. الجزويت يظهرون ويختفون، ما زالوا متقشفين في الوجود. كلا، الجزويت لا يراهم أحد، وفي جامعة جورج تاون بولاية واشنطن، أحد معاقلهم الأكاديمية، تلقيت جوابًا غامضًا حين طلبت مقابلة عَلَم منهم. جاء الرد إنك تحل ضيفًا علينا، وسنرى لاحقًا، فاستبدلتُ سؤالي بمراقبة كيف تقشِّر السناجب البندق وتمرح في منتزه الجامعة وحتى خارجه، لا تتعرض لأي عدوان، أي كما نرمي نحن المغاربة الكلاب بحجرٍ بمجرد ظهورها من بعيد. ثم مضيتُ إلى السوق البلدي، غرضي مقارنته مع سوق سلفادور، لأرى درجة الفرق بين الشمال والجنوب؛ فليس مثل الأسواق، وهي تقود إلى المطابخ والموائد، لقياس الأذواق ونكهة عيش الشعوب، فضلًا عن غناها وفقرها. أحسب أن واضعي الأرقام القياسية أخطَئوا لمَّا قدَّموا نسب الجريمة في ساو باولو على غنى السوق ومتع الطعام، تكاد تكون بلا نظير. في سلفادور أخذني ألبرتو إلى أكبر سوق للولاية، ما يعتبره حافلًا بالغرائب، حتى إنه قال مهوِّلًا إنك واجد كل شيء هنا، والبشر تشتريه إن شئت، والحق رأيت العجب بين حلال وحرام، وما يدب على الأرض وينبت بالغمام.

وكما بهرتني ألوان الفافيلا، خاصة النماذج المرسومة لها في لوحات الرسامين الفطرية، أثارتني الروائح الطافحة في السوق البلدي، أقصد العابقة من أطباق التوابل، تفوح منذ الرابعة صباحًا إلى مغرب الشمس، وكم وددت أن أعدِّدَها لكنها مئات وأكثر. أما تسميتها فلا مبالغة تحتاج إلى قواميس العالم، لأنها، فعلًا، توابل العالم. وبما أننا نقول في مَثَلنا إن الشوف (النظر) لا يبرِّد الجوف، فإن تهييج التوابل قادني لما هو «أهْوَج»، إلى أضخم مطعم متنوع وقفتُ عليه في أسفار سابقة. ظننت أن التقليد البديع للسوق الشعبي للطعام في المكسيك لا يضاهيه شيء، حيث تتناثر الخيام، وتتوزع الموائد، وتتجاور المواعين حافلة بما لذَّ وطاب، تغرف وتعيد، أقوام تأتي، أخرى تذهب، فقراء وأغنياء يتجاورون. أما هنا فعندك أشهى مطابخ الأرض ربما، بسبب التعدد العرقي والأجناسي لسكان هذا البلد، ولك أن تتذوق طيباتها كلها: يابان وطليان، سود وبيض، عرب وعجم ومن كل فجٍّ عميق. أعترف بأن نهمي أضرَّ بي، لكنها ضريبة جوف ابن آدم، موزعًا بين نهم النظر والشم والتذوق، وحاله أي حال.

هنا تتعلم درسًا إضافيًّا من هذه الشعوب، أن تأكل بانتقاء، ما قلَّ ولذَّ، أن تستمتع بطعامك، ضئيلًا وسمينًا، لا فرق، فالقناعة تراها في العيون، كلٌّ على رِسْلِه وجيبه، بلا هرجٍ. وبعد الزاد ترى الخلق ينصرف مباشرة بلياقة إلى ما يجدر به، وكذاك الطعام والأيام يُتداول بين الناس. ألطف أشكال الأناقة والبساطة في الطعام وأصول تناوُله كنتُ قابلتها بين التايلاند والفيليبين، وفي بانكوك ومانيلا شاهدتُ، ربما أفدتُ، إلى حدٍّ، كيف يحسن المواطنون تدبير الحاجة أو قلة ذات اليد، ويتكيفون مع أحوال الطقس بوجبات قليلة الشأن لكن منمقة. ولا أعرف في المغرب على الأقل غير أهل فاس تفنُّنًا في حسن التدبير، ولذلك فلهم القدح المُعلَّى في الحذق والذوق وحسن الخلقة، سبحان من سوَّى. رأيت منه هنا ويزيد، وظهر لي أن هذا الغصن من تلك الشجرة، وهذا من فضل الله وتعدد الأجناس، فتتضافر المواهب وتتنافس القدرات، ويأتي كله لصالح الأمة جمعاء، وقوة البرازيل الناهضة تعود، بعد ثروتها، إلى غناها البشري تحس به، تراه في ساو باولو حيثما حللت، ولذلك يقولون إنها المدينة التي تحمل البرازيل على ظهرها.

حتى إذا أسدل الليل أستاره، وضربتَ بعرض الحائط بكل تنبيه وتحذير، قلتَ النهار عُري، والليل سترٌ، فماذا ترى يخفي ليل هذه المدينة الكوسموبوليتية في أعطافه؟ وهل تصبر على النوم في حاضرة لا تغلق فيها الأجفان إلا للعميان؟ وما هو بسجع الكهان ولكن حقٌّ وبيان، وكذلك كان. الكوسموبوليتية ثقافة لا تكاثر أجناس في المكان الواحد فقط، الدليل عليها أن تحار مع فن أي شعب أصلي تسهر، ويحسن بك أن تذهب إلى مقصف حسن الإضاءة، يجتمع فيه من الموسيقى ما تفرق في غيره. لا بد من «السامبا» التي بدورها أنواع: س، بوب، س، كانكاو، الرائجة في مناطق الفافيلا، بسوداويتها وحزنها، س، ريغي، المتأثرة بالإيقاع الكراييبي للجماييك.

حسنًا، فما رأيك بكوكتيل لطيف المزج اسمه «بوسا نوفا» يجمع بين السامبا، طبعًا، والجاز. دفعتُ الباب ودخلتُ، من حسن الحظ لم يكن سياحيًّا، أنا وجدته بحدسي، وقد طربتُ وعادني ما يشبه أجمل ما في الكون عبر عينين، محمول على غناء كالأنين، وأقدام توقع، فيما أصابع ترعش بالحنين، غادرت إثرها، وما أبقت للعبد الضعيف أي يقين … لولا أن ساو باولو تحب أن تذكر زائرها من غير البوليستانو الخُلَّص أن عليه أن يأوي إلى فراشه سليمًا ما أمكن، فأحشاء الليل غير مأمونة دائمًا، خاصة وأنت تنزل يا سنيور في شريان خطير بالمدينة، ولولا أن وجهكَ أوحى لي بالثقة لما نقلتك، ولما قبلتُ هذه الأجرة، وسترى لن نتوقف في أي نقطة حتى فندقك، وهمهمتُ بأني صرت أحفظ هذه المحاذير عن ظهر قلب، وأني سأنفحه زيادة؛ والآن احرق جميع إشارات المرور، وأجبني هل ثمة ما يُسرَق بعد أن يضيع القلب؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤