(XIV) برازيليا … أخيرًا بداية العالم!

بشر على أجنحة الحجر

في الحي التجاري لإغواسو التقيت — صدفة — بشاب مغربي رحَّب كثيرًا على طريقتنا، وأراد أن يستبقيني لمزيد ترحاب فاعتذرت بأن ورائي «مشوارًا» أخيرًا قبل أن أنهي زيارة البرازيل. لم يكن سرًّا، فأخبرته أنني مسافر من غد إلى برازيليا. لاحظت مباشرة علامة تحيُّر على محياه أعقبها بتفسير انتظرته: ولكن، ماذا ستفعل في برازيليا، إنها … فهمت قصده ونُبتُ عنه في الكلام لأقول له باختصار إن ما في رأسي في راسي. عنى أنها مدينة حديثة، أغلب الظن عنده أن السائح مثلي لن يجد فيها أي علامة تليدة أو أثر تاريخي، وبالتالي لِمَ أكلف نفسي مشقتها، وأنا هنا في خضم العمارات المتناطحة ومئات الطرق المتعانقة؟ وهو ولا شك محقٌّ من هذه الناحية، ولكنه — في آنٍ — غير مُطَّلع على ما في الصدور، وأنَّى له!

لو أدرك مواطني أن هذا البلد بأجمعه حديث عهد قياسًا بأمم موغلة في العراقة، ولو فهم أنه يعيش فوق أرض تعطي معنى مغايرًا للزمن، وتحتفي بالإنسان كأقوى ما يكون لأنه صانعها لغيَّر رأيه ورافقني من توِّه إلى حيث انتقلت، إنما لا بأس فالعمر الغرُّ له شأنه وعذره. كنت سمعت عن هذه المدينة التي اتخذها البرازيليون عاصمة جديدة للدولة المركزية عوَّضت العاصمة القديمة ريو دي جانيرو، كفَّت عن تلبية المطالب الإدارية وتحريك دواليب الحكم لدولة يقارب سكانها مائتي مليون نسمة وتبلغ مساحتها ٨٥١١٩٦٥ كلم٢. سمع كثير عن أن بها تحفًا معمارية بلا نظير في العالم كله، وجعلتني الصور المتلألئة في عديد التحقيقات التلفزية أشعر بالأرض تدور فوق رأسي، وقلت لا بد أراها مهما كلفني الأمر.

عندي يومان فقط، لذلك استعنتُ بدليل سياحي أرشدني إليه، يا للمفارقة، الأخ المغربي. أخبرني أنه يتردد على العاصمة لصفقات تجارية فسرَّني أن العرب شاطرون وليسوا إرهابيين، كما تصر على ذلك «ماما أمريكا». هذا دليل كوري فرنسيته فصيحة، بل راقية وحركاته راقصة، يرغمك حين يشير ويحكي على أن تنظر إلى تقاسيم وجهه وتقاطيع جسده المقدود من تناسق ومرح. وصل إلى فندقي في التاسعة صباحًا بسيارته الرونو، فتح لي بابها فقفزت بلا كلفة وانطلق. قال مباشرة: الآن سنقلع، أجل سنقلع! ثم أردف: معذور لأنك لا تعلم أنك تنزل بطريقة لطيفة في طائرة، أو لنقل إنك — بعد قليل — ستأخذ مقعدك كاملًا في طائرة. طبعًا، وجدته مدخلًا لطيفًا توسَّل به ليقدم لي المعلومات الأولى مما يحتاج إليه أول واصل غريب. وطفق يسرد متمهِّلًا، أنيقًا ومتنقلًا في مكانه كممثل يؤدي دورًا فوق خشبة مسرح:

أنت الآن فوق أرض هي نتاج فكرة تستطيع أن تقول إنها مجنونة، لكنها أصبحت حقيقية ابتداء من سنة ١٩٦٠م. أنت كاتب، تستطيع أن تتخيل هذا. رئيسنا — آنذاك — جوسلينو كوبتشيك هو من في دشن المدينة، حيث لم يكن أحد بعد، ثم كرَّت السبحة، هكذا يقولون في الشرق. لكن المجانين الحقيقيين، قل العباقرة، اثنان: المهندس المعماري أوسكار نيمير، والمصمم الحضري لوسيو كوستا، أحب أن أضيف إليهما قوة الملايين من اليد العاملة في شمالنا الشرقي. هؤلاء جميعًا اجترحوا المعجزة التي ترى أمامك. في ظرف ثلاث سنوات وجيزة شادوا صرح أكبر مدينة مخططة العالم، وفي ظروف طبيعية شديدة القسوة. جاء كوستا، وببساطة رسم طائرة. كنا قد وقفنا فوق جسر بجنوب المدينة وخاطبني: انظر، ماذا ترى؟ هناك ذاك الامتداد، الجسد الطويل يطول حتى يصل في نهايته إلى قُمرة الطائرة. يصف ويلح، ولا يترك لي فرصة لأتحقق، وفعلًا حاولت، ولكني صرت متنازعًا بين رؤية مضبَّبة للجسد في ذاته، من جهة، وبين الجسد الموصوف على لسانه. الإيحاء يصبح أحيانًا أقوى من الحقيقة، أقوى من بصري يتتبع الخط المديد يراه تكاثف بالبناء وتبعثر، لكن التصميم — كما سأقف عليه عن كثب شديد الاتساق — ينتظم في سلسلة بنايات - عمارات مستطيلة — متراصة الواحدة خلف الأخرى إلى ما لا نهاية؛ هذه هي البنايات الحكومية. وانظر إلى اليمين والشمال ترى جناحي الطائرة، إنها البنايات السكنية ومراكز النشاط التجاري والتعليمي وغيرها. لم أكن في حاجة لسؤاله عن بقع بناء مبعثرة في كل اتجاه، خارج التصميم العبقري، فحيثما ذهبت ستجد للمدن زوائد دودية، كيف بمدينة لا يزيد عمرانها على نصف قرن.

أخذنا بعد ذلك نجول في الممر الطولي للطائرة، ولم نحتج إلا إلى دقائق لنتعرَّف على جميع الوزارات، الواحدة خلف من الأخرى، لا حراسة عليها، خلافًا لمزعم الرعبوت المنتشر، مكاتب بلا فخفخة، وليس أمامها أسطول سيارات. وانتهى بنا المشي إلى ساحة خضراء فسيحة لها مدخل جانبي يقف أمامه حرس عسكري، أما الجوانب الباقية فعارية من أي سياج. أشار كيم، وهو اسمه العائلي كأغلب الكوريين، إلى بناية أرضية عند نهاية مساحة العشب الأخضر، قال ذاك بيت رئيس الجمهورية، وقد تعجبت حقًّا من صغر البيت، وأردت أن أمازحه بطلب مقابلة الرئيس «لولا دا سيلفا»، لكني تذكرت للتوِّ أنه مدعو ضيف شرف إلى قمة الثمانية في سان بطرسبورغ، وقلت لنؤجلها للزيارة القادمة، إذا تجدد انتخابه، وقد تجدد بعد كتابة هذا العمل، ولم تسقط راية الحزب العمالي، بسبب تراكم فضائح الفساد والرشوة في البلاد، والمزاجيات التي تشيع عن فخامة الرئيس وهو الذي أوصله الفقراء إلى الحكم. لم يعرف دليلي ما يدور في رأسي لأنه واصل يشرح: انظر، هناك، وقد أدرنا ظهرنا لدا سيلفا، ترى العمارة الزجاجية البنية، إنها إقامة لأي رئيس دولة ضيف، وهناك إلى جوار مبنى البرلمان ووزارة الخارجية فندق خاص ينزل فيه ضيوفنا الأجانب، أيضًا. هكذا لا تنقلب الدنيا عاليها سافلها، ولا تنقطع حركة المرور، ويختلط الحابل بالنابل بسبب الموكب الرئاسي وما شابه؛ جميع الطقوس الرسمية والحفلات تجري هنا، بينما الحياة تواصل مجراها العادي؛ هل عندكم الشيء ذاته في المغرب أم …؟ تجاهلتُ السؤال إلى أن عدت أتذكره ونحن نتوقف بالسيارة في شارع لم يسبق أن رأيت أعرض وأطول منه، والغريب في مكان قفر من المارة وأي بناء. علامته الفارقة وجود منصة عالية تتوسطه، مغطاة بسقيفة أعلى، يذهب حول المكان ويجيء جندي بهندام الشرف. لم يكن ثمة نصب للجندي المجهول، لذلك سرعان ما بدَّد مرافقي حيرتي بالشرح؛ إن هذا الشارع كله مخصص للاستعراض العسكري وعروض أخرى مماثلة، وهكذا تبقى المدينة آمنة، ولا هرج ولا مرج وهو أفضل للجميع. طبعًا أفضل من أي حماقة وتهويل وتحويل سير. اللطيف أننا قبل ذلك، وقد استرعى نظري ميدان واسع قبالة البناية الصاعدة كالرمح لمجلس نواب الأمة، لم ألحظ فيه لا أشجار ولا مقاعد، فأفهمني بحركاته الراقصة وكلمات موقَّعة أن هذا الميدان مخصص للتظاهر؛ تأتي وفود النقابات والجمعيات وأمثالها لتعلن احتجاحها بما تشاء من الصراخ والشعارات والمطالب، ما أكثرها، وترسل مناديب بلوائح المطالب، وبعد ذلك تنفضُّ المظاهرة، ويبقى كل واحد على خاطره، بينما المدينة — دائمًا — في حمى من الضجيج وزحامها يكفيها، فماذا تقول في هذا يا سيدي؟! لم يكن سؤالًا، ولا أنا أحار جوابًا لمثله، ورأسي يفكر في بعيد غريب. أجل، ألم أقل إنني مذ بدأت هذه الرحلة، وسابقات عليها، أسقط في ورطة الفرق، شأن كل الرحَّالة قبلي، وهذا مرض معدٍ ينبغي استئصاله لمن يريد حقًّا التمتع بسفره أو سيزداد غمه.

نقلني كيم في المرحلة الثانية من جولتنا لتفقد جناحي الطائرة، أي الأحياء السكنية، انبهاري بطريقة شرحه تفوق عندي ما أرى. علمًا أنني — فعلًا — أمام نموذج سكني متميز يراعي، في التصميم والتوزيع، المادي والروحي لدى الإنسان: عمارات بثلاثة إلى أربعة طوابق مزروعة وسط المنتزهات، ومتوفرة على: المدرسة، ملعب للأطفال، كنيسة، متجر عام، محطة التاكسي، النادي الرياضي، باختصار كل الخدمات الضرورية. تلاحظ أن المصممين راعوا أن يعيش الإنسان في الطبيعة وهو مغروس في المدينة، يراها حين ينتقل إليها للعمل، أو كلما اقترب من نهر السيارات المتدفق في شوارع مديدة إلى ما لا نهاية. لا أثر لأي تزيين أو زخرف في الخارج، والألوان نفسها باهتة، لكن الداخل مهيب وفخم، يتناغم فيه عناصر الفضاء والمساحة واللون، فهي ما أهَّله المهندسون وهم يصممون الآيات العمرانية الفريدة لبرازيليا، أعظمها بلا منازع الكاتدرائية المتروبوليتانا، والمسرح الوطني ذو الشكل الهرمي.

غير أن الداخل إلى هذه العاصمة الجديدة، وهي تقدُم يومًا إثر يوم، لا بد سيثير انتباهه انتشارها اللانهائي في بطحاء انتزعها التخطيط الهندسي من الأرض، لكن ظل حريصًا على حياتها؛ هكذا جلب إليها كل الأشجار المتوفرة في المنطقة، ووفَّر الأغراس، ونظَّم المنتزهات بعشرات الكيلومترات، ومن ثَمَّ مهما اتسع العمران وتكاثرت الديموغرافية فإنها تبقى مذعنة للطبيعة، أو هذا هو المراد.

برازيليا — في عُرف منشئيها — هي مدينة المستقبل، على ألَّا يرتد ضد الإنسان، لأنه المعني الأول. وحين تكون في مدينة جديدة كهذه لا بد أن تتساءل أيهما يخضع أو يحاول التكيف مع الآخر، هي أم هو؟ ومما لا شك فيه أن الحي هو من يفعل في الجامد، وإن لم يخل من تأثُّر أكيد به. في جميع المدن البرازيلية لاحظت أن السكان لا يعيرون اهتمامًا خاصًّا للهندام، نساء ورجالًا على الخصوص، بسبب المناخ بلا ريب وظروف العمل، فيما تراهم هنا منضبطين لوضع مدينة إدارية، كما أن سيماهم مطبوعة بجدية استثنائية بحكم الوجود في عاصمة الدولة، لكن بلا مبالغة أو تسلط. الدولة هنا ليست بعبعًا، ومداخل مؤسساتها غير منفِّرة كما لاحظت ذلك وقد طرقنا باب وزارة الخارجية، الدولة هنا هي الرصانة لا التخويف والمهابة المفتعلة.

وبرازيليا سكانها — تبعًا لذلك — رصينون، طباعهم أهدأ من غيرهم، نهارها منقاد وليلها مسالم. هي مدينة للعمل، وتكاد تقول للعمل فقط: هل هذه حياة المستقبل؟ لست أدري، إنما إذا نظرت من علٍ إلى ساحة قصية في الجهة الشرقية من المدينة، وظهرت لك صفوف متراصة من الحافلات متعددة الألوان بالمئات، علمت أي علاقة خصوصية يمكن إقامتها في المكان أحيانًا. تلك الحافلات تنقل الموظفين والعاملين كافة من الضواحي، تحملهم منها لتفرغهم في المدينة، وتعود تربض هنا — في جثوم غريب — إلى ساعة نهاية دوامهم. تجدد نقلهم بالآلاف إلى بيوتهم، قُل إلى مضاجعهم، كل مسافر يتعرَّف على حيِّه من لون الحافلة؛ تضيق الهوة بين المتعلم والأمي.

وتبقى المدينة وحيدة في الليل؛ شوارعها مقفرة، جناحا الطائرة المنطفئة، السكنيان نوافذهما، لا يصدر منهما ضوء، قد خلد سكانها إلى نوم عميق. الأشجار أغصانها أراها من نافذة غرفتي إما جاثية، متضرعة للتراب تحتها، وإما مجنحة تهفو إلى نجوم منبثقة في سماء عالية، ما أعلاها سماء الله هنا حتى لتكاد تنفصل عن الأرض، وأنا متعلق بها في غرفة الفندق بمدينة اسمها برازيليا، أبحث تحت نجومها عن نجمة تكون لي وحدي، تسطع في ليلي، ونبقى معًا أو نفترق سيان؛ المهم أن تبقى منيرة في داخلي، على ضوئها أغتدي وأواصل طريقي، أضرب في الأرض ورأسي مشتعل أبدًا بالسحر، حين ألقاه أريد أكثر، وأشهد أني لم أشبع من سحر هذا البلد أريده أكثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤