(XV) نُفاضة الجراب وحسرة الإياب

وساوس الرحَّالة الأخير

شغلتني برازيليا بعد أن تركتها أكثر مما غمرتني وأنا فيها. تجاوزتُ مشاهداتي الأولى، وما يحتمل الإعجاب أو الانبهار يبقى نسبيًّا في كل الأحوال. ما شغلني حقًّا هو فكرة أن تؤسس مدينة؛ فهذا فعل خلْق حقًّا، وليس مجرد تصميم هندسي وحضري يمكن أن تبدع فيه موهبة أو مهارة. في بدء الخليقة سكن الإنسان الكهوف والمغارات انعكاسًا لبدئيَّته واحتماء من المجهول المسيطر. ثم راح يبني وفق توسع هواجسه ودرجة معرفته بما حوله. نحن لا نعرف إلا القليل عن سكن مطلق البشر لأن التاريخ لا يحتفظ — أو يعنى في الأغلب — إلا بالحكام، وهؤلاء يقيمون دائمًا في أبراج مشيدة، همُّهم أن يصعدوا إلى السماء كآلهة، لذلك تتم الإطاحة بهم. منذ وُجِد الإنسان وهو يسعى لتشييد العمران، وجميع الحضارات تثبت ذلك، لصنع المدينة النموذج، سواء في الأسطورة أم في الواقع: إرم ذات العماد، البتراء، إيتاكا، أثينا، بابل، روما، بعلبك ووليلي، وكل فكر ابن خلدون العظيم مداره العمران الحي، ومظاهر وجود الكائن فيه، وكيفية درء الخراب وأسبابه. ومن فلاسفة اليونان إلى الفارابي، لو شئنا، كلٌّ يبحث بطريقته عن كيفية إرساء المدينة الفاضلة، التي لا أعرف إن وُجِدت ذات يوم، أم أنها — في عُرف متصوريها — حلم يراود في المنام الساعين إلى الخير والجمال والسلام.

من المؤكد عندي أن أوسكار نيمير المهندس المعماري لبرازيليا يملك قدرًا لا بأس به من الجنون وأكثر، وإلا كيف نتخيل إنسانًا، فردًا، يُقدِم على تخطيط مدينة بأكملها، حين يدوخ لأي شخص تصميم يريد وضعه لسكنه. المدينة ليست أبنية وفضاء عمل وتنقُّل ومثله فحسب؛ إنها فكرة حياة، ونواة مجتمع، ومشروع مدنية وإنتاج رؤية لعالمٍ بناء على علاقات اقتصادية واجتماعية ستتبلور داخل المحيط الناشئ. وهذا من المستحيل أن يفكر فيه فرد، أحرى أن ينجزه بعبقريته الخاصة، ورغم ذلك فإن السيد نيمير وُلدت في رأسه هذه النبتة الشيطانية، وبطريقة ما أعطت أُكلها.

الدليل أن برازيليا هي — في عُرف العمران الحديث — مدينة تمتلك كل مقومات المدن، وتتخطاها عتوًّا في هذا المضمار. وهي، من نحو آخر، طريقة أخرى لابتكار العيش والعمل، ومن المؤكد، أيضًا، لابتداع الأحلام. لم لا نقول إنها حلم في حد ذاتها؟ وأن فترة نصف قرن وقليل من إنشائها لا تعدو أن تكون تجريبًا وتمرينًا للحلمي على محك الواقعي. لكنه واقعي من طَرز مختلف، أي لا بد أن يكون هو الآخر وليد حلم أو ينتفي. من هنا، وأنا أجول فيها، رحت أنظر إلى الساكنة بنظرات المتفحص، الباحث عن النادر والاستثنائي الذي لا يشبه ما قبله، وليس له مثله إلا ذاته، لا خلقة طبعًا، لكن سلوكًا، وعقلية، وطريقة عيش.

فجأة انتبهت أنني أفكر وحدي، لا أعير اهتمامًا لما دار في رأس المهندس البرازيلي، الذي طُلِب منه أن يضع تصميمًا لعاصمة الدولة الفيدرالية، فجعل نصب عينه أن ينجز تحديًا معماريًّا قبل كل شيء، تباهي به بلاده الأمم، وهو يعلم أنه يفعل في أرض خلاء. لا أشك أنه أفلح من هذه الناحية، ومشاريع طليعية نراها في مدن رائدة تتفتق من خيال مهندسين ممسوسين بطريقة ما. تفكيري مختلف، وينصرف إلى تحدي الحياة بعد عبقرية المعمار، وكيف يستطيع الإنسان أن يتحكم في الشيء لا أن يشيِّئه. وأنا هنا لا أقصد العودة ولا الإشارة إلى أي بُعد فلسفي مطروق سابقًا في هذا الصدد، وإنما إلى صراع ما ينفك قائمًا بين الكائن والطبيعة، قائمة أو مصنوعة، إما يأتي مجدبًا أو مفلحًا. الحياة تقوم كلها على التوتر، الصراع، على قانون الجدل، والفصل بين عناصرها وتفكيكها من شأنه أن يوجد بنية مغايرة تمامًا تستدعي، بل تنجب — حتمًا — بشرية وعيشًا مختلفين جذريًّا لما نعرف. أرى أن مهندس برازيليا يذهب في هذا النهج، ومساعده صاحب التخطيط الحضري نصير له في الرؤية والتطبيق: هما معًا يقصدان التجديد، لكن بأدوات الخلق الأولى أو بالأحرى معتمدين الطوطم والطوطمية كأصلٍ للإنسان الأول في رؤية الوجود وتقديسه، في خلقه ومن ثَم تشييئه، أي الانفصال عنه.

أي رعب، أي ذهول تَصوُّر مدينةٍ من هذا القبيل: صفوف عمارات متوالية بمقاس ولون وطوابق واحدة، حتى المداخل متشابهة لكي لا يغار وزير من وزير؛ صفوف عمارات بمقاس وممرَّات ومنتزهات ومداخل متشابهة لسكان متشابهين، يدخلون ويخرجون، وينامون تقريبًا في أوقات واحدة، ويغادرون صباحًا بسيارات وحافلات جماعية — لا تختلف إلا في الألوان — إلى المؤسسات الواحدة، للقيام بأعمالٍ، لا شك أنها مختلفة في الشكل، لكنها في النهاية تتشابه من حيث الهدف المرسوم لها من طرف دهاقنة الدولة، الذين نفترض أنهم يريدون الخير للجميع؛ ثم سوق واحدة يؤمُّها الموظفون والعمال والعاطلون — جميعًا — يتبضعون أشياء متقاربة، وهم كلهم يفرحون للفريق الوطني لكرة القدم حين ينتصر، ويسلخون جلده إذا عثر حظه، ثم يخرجون، يمشون في شوارع طويلة، طويلة، بلا نهاية، لتحقيق النصر المؤزر على الكولسترول العالي وتأجيل السكتة القلبية بسبب المطامح المميتة حتمًا، بلا طائل، هي والمطالب العائلية بلا سقف. أوه، كيف نسيت الأطفال الذين يفقدون براءة الطفولة مقابل وضعهم في أقفاص مثل طيور حديقة إغواسو الأسيرة تراهم يغدون إلى المدارس تقلهم حافلات بزجاج معتِم، ويعودون إلى بنايات نوافذها تدير الظهر إلى الخارج، والرسوم التي عليهم أن يتخيلوها جاهزة في دفاتر معدَّة، وحتى الكلاب مروَّضة لكي تتجنب النباح، أي معنى إذن لكلب لا ينبح، وطفل لا يلعب من تلقاء نفسه، ويبكي حين يشاء ويفعلها في بنطاله، أيضًا!

ليست هذه هي المدينة الضد للأخرى التي أحلم بها، لكنها إحدى صور برازيليا، التي يراد لها أن تعمَّم، إنها تتعمم، وها نحن نرى الإنسان تدريجيًّا يفقد إنسانيته، أعني تحكُّمه فيما أوجد، وتحوُّله إلى عبد له. لكن المثير حقًّا أن تجد مثل هذا التحوُّل يلحق بلدانًا لا يخلق فيها إنسانُها شيئًا تقريبًا، وإنما يخضع لما يُستورَد أو يتأثر به عند المتقدمين الناهضين، ويتصرف كما لو كان ينتمي فعلًا إلى العصر الحديث، الذي يمكن أن نجد ألف تعريف له، إن شئنا، لكننا لن نختلف بتاتًا في القول إنه نقيض البداوة الفجَّة والتخلُّف بأشكاله القُح، والإمعان في الهجنة حدًّا يضيع الأصل، ولا يهدي بتاتًا إلى صراط المدنية، اعتبرناها مستقيمة أو ضالة.

المدينة توجد وتكبر بالإنسان؛ هو الذي يعمرها ويعطيها روحها، وإليه نذهب أكثر مما نقصدها. أطلال الشاعر الجاهلي هي طيف الحبيبة وأثافي قِرى الضيف بالأمس، لا الحجر أو الرماد. برازيليا ستصبح مدينة من طراز جديد حين سيكبر فيها جيلها الذي يعي أنه جديد تخلَّص من تربية الجيل القديم، وهذا يحتاج إلى وقت لن أدركه. وهذا أفضل؛ لأني ببساطة أحب مُدني القديمة، وأحنُّ إليها دائمًا، وأرى العالم يضيق كلما شاهدتها تتفسَّخ وتشيخ برذالة، كالدار البيضاء، والقاهرة، وبيروت، والجزائر العاصمة، ويا حسرتي على بغداد. أنتَ لا أحد بدون مدينتك، بلا المكان الذي تنتسب إليه، هو ليس ضرورة مسقط رأسك، ليكن مهوى الفؤاد أفضل. مُدني الآن صارت موحشة، أي فارغة من الأحبة، انحسرتْ دونها ظلالُ الماضي، أمرُّ فيها شبحًا غريبًا يتعثَّر في خطوه من شدة دهشة ما يستغرب لما يرى، ولم يعد يُرى. هنا في برازيليا لا أعرف أحدًا، لا أفتقد أحدًا، ربما لو عشقتُ واحدة أبقى أبدًا. تخيفني مشاريع المدن المرسومة على الخرائط. الرباط محاطة اليوم بهذه المشاريع، هي ومدن أخرى في العالم. مصالح التعمير تفخر بهذه المنجزات، والبشر يحتاج أيضًا إلى مزيد سكن كيفما كان. لأمرٍ ما تبدو لي هذه المدن الافتراضية مثل برازيليا، أي عمرانًا بلا روح، أجساد الناس هي ما يوجد فيها، أما أرواحهم فهي إما ضاعت أو ستسكن في قرن قادم. عندما يصبح للمكان رائحة، ووشم، وندوب، وذكريات، ويتردد فيه — على الخصوص — صدى آهات العشاق.

كانت الآهات خلفي، ومن خطو العودة، وأنا في مطار ريو دي جانيرو من جديد، تنهنه الحسرة في جوفي، أحس بها رعشة في العظام. تعجبتُ لحالي. عند نهاية كل رحلة أتعجل الرجوع إلى سريري ومكتبي وعاداتي، بها يستقيم عمري وشخصي، فما بالي الآن أدفع حقيبتي للتسجيل، وأمتطي سلم الطائرة على مضض. أعلم أني لم أشبع من البحر، هنا، من الجبل، الغابة، أعراس الأخضر، ألوان وتغاريد الطير، مهرجانات الليل، تفاصيل النهار بين الضوء ونكهة التوابل، تقاطع الوجود بين الحقيقة والأسطورة في كل خطوة تمشيها، ورقصة تؤديها، جسدانية العين، والعين تُجسْدِن كل ما تراه، منفتحًا على شبق الحياة، وألق البحر تشمُّه من حفيف ذراع لمسك، ولحظ صعقك، والغضارة المعشوشبة سيقانها تنام في السحاب مُزنًا، كل صباح حين تشرق الشمس تراها تذوب عرقًا كادحًا من عضلات العمال والفلاحين في المزارع والموانئ، عيون القراصنة والنخاسين والمرابين لا تفارقهم، والعبيد — رغم أنهم صاروا أحرارًا — ما زال القيد من جراحهم ينزُّ، وأنا بعدهم صرتُ أسيرَ هذا البلد.

نعم أسيرًا عدت من أيامي البرازيلية، عشرين يومًا ونيفًا، لم أشبع من شيء، وهل يشبع أحد من «حديقة الله»، إنه مجاز عندي، ما في ذلك شك، ولكنه عند القوم اسم حقيقي، وحقَّ لهم ذلك؛ فالله وهبهم كل ذلك السحر، وهم له ممتنون صباح مساء، بالصلاة وعشق الحياة وحب الوطن؛ الأرض ليست إلا تجريدًا بلا وطن، وهؤلاء القوم الذين سعدت بزيارة بلدهم، قارتهم بالأحرى، يثبتون كل ساعة أنهم جديرون بوطنهم، بلغتهم وثقافاتهم، بتاريخ يبدأ من بخار الحساء إلى غنج الزليج. أما في الأمازون فهو يخبئ أسرار البشرية الأزلية حيث مثوى الأسطورة والأبد، ولا ينتهي لأنه يشعرك أنه في كل لحظة سيبدأ، البلد الفتي بدأ قبل خمسة قرون فقط، رغم أن لحمه مدبوغ بكل القرون الآفلة، وهو يتقدم بجسد فتَّاك، ويرف بأجنحة فَراشِه كملاك، جوفه ذهب، وقلبه لهب، وشعبه حسن وطرب، ولذلك رغبت أن أبقى هنا، ليس إلا هنا، رغم أن العمر أجمله مضى، واحسرتاه أين مني ذاك الخبب!

•••

هل أقول إنه كان مقدرًا لهذه الرحلة — النزهة — أن تستمر أطول، أم أكظم الغيظ الذي حزَّ في نفسي، الحسرة، الإحساس الملتبس إثر نهاية كل سفر، خليط من تعب ومشاعر متضاربة الملتبس؛ أم أصرِّح بالحقيقي الذي لا لبس فيه، تركته للنهاية كي لا أشوش على صفاء المرئي، أقصد أنني، ومنذ منتصف الطريق بتُّ موزعًا بين استقرار وانهيار، بناء وهدم، حب وكره، قوة وانهيار، حياة وموت، باختصار. أعني أن حرب التقتيل والتدمير الإسرائيلية على لبنان كانت قد بدأت، استأنفتها حكومة يهود أولمرت في ١٢ يوليو بالضبط. وعلى الرغم من أنني لم أملك وقتًا للتليفزيون، ولا لأخبار الخارج عامة، إلا أن هذه الحرب العدوانية كانت في داخلي؛ كل بيت يُقصَف في لبنان هو جدران قلبي وسقف رأسي، وواحد من أعمدة أُمَّتي، ولم تكن الصحافة البرازيلية غافلة عن الهمجية الإسرائيلية، بل تتابع مسلسلها الدموي، بتأثير من العرب المقيمين، ما في ذلك شك. ولكن، وبقوة، من أثر موقف برازيلي عام، يتغذى من موقف آخر مناهِض للهيمنة الأمريكية على القارة الجنوبية؛ علينا ألا ننسى أن البرازيل جار حار لفنزويلا شافيس. أعترف بأني عانيت من فصامٍ نفسي صار ممضًّا أحيانًا، وما أكثر الشيء بهت في عيني، أو فتر طعمه لهذا السبب، لكني حسمت أمري أخيرًا بنزعة المتفائل، بأن إرادة الحياة أقوى، وطعمها أعذب، وأن العرب، الذين قطعوا البحار والمحيطات ليبنوا أمة ونهضة كالبرازيل تضاهي أقوى الأمم في كل النواحي، قادرون على ردع إسرائيل واسترداد حقوقهم، والاستمتاع بعد ذلك مثل كل شعوب الأرض بنعمة العيش بكرامة وسلام وأمان، ولكم السكينة والطمأنينة في الحل والترحال.

باريس في ٠٥ / ٠٩ / ٢٠٠٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤