(VI) التاريخ دائمًا هو التليد

امتحان ممر البامبو

لكي تتجه نحو المدينة تحتاج إلى اجتياز أول «اختبار» في بهاء الطبيعة، كشَرَك تنصِبه لتمتحن أي دراية لك بها، وهل ستعرف — حقًّا — كيف تصل الليل بالنهار في مدينة، عجبًا، هي ذات طابقين، كيف؟ سترى، وليس من رأى كمن سمع، هكذا تحدثت العرب. إنما خبِّرنا، كيف طُقت وداع Rio أيها الرجل؟ لا، والله، لكني مثل ابن عمي أمس: «وتلفتتْ عيني فمذ خفيت/عني الطلول تلفَّتَ القلب.»
بعد ساعتين من الطيران نزلتُ في مطار (de bahia) Salvador. إنها مدينة وعاصمة إقليم أو دولة الشمال الشرقي؛ فنحن في البرازيل الدولة الفيدرالية، المكوَّنة من ٢٧ ولاية، كل واحدة بحكومتها، ومدينة برازيليا عاصمتها المركزية. ريو سكانها خمسة ملايين ونصف وهنا مليونان، هنا أقل بثلاثة، أي أقل بكثير من جحيم ساو باولو ذات ١٧ مليون نسمة. قادم ومعلومات تخبرني أني سأنزل في أعرق مدينة، أول عاصمة أنشئت، والمدينة الثانية في الإمبراطورية البرتغالية بعد لشبونة، القوة الأم الغازية، وجالبة العرق الأسود من أفريقيا لخدمة زراعة قصب السكر، ومؤسسة الدولة وصاحبة اللغة، وإن كان مكتشف موقعها هو البحار الإيطالي فيسبوكي عام ١٥٠١م، ولتبقى عاصمة ثقافة السود وتقاليدهم العريقة.

تركب السيارة تاركًا المطار خلفك، وتعبر الطريق المؤدي إلى الخط السيار. إنه الممر الذي نبت على جانبيه قصب البامبو الطويل ذو الحجم الأسطواني الضخم، يصعد مستقيمًا فلا يلبث أن يميل كلما علا بأوراق تنمو على طرفيه كالأجنحة، غير أنها، عوض أن تحلق، تتشابك في ميلان القصب شكَّل قوسًا، أقواسًا ممتدة غدت خميلة كثيفة يسبح تحتها نهر من الظلال اخضرَّت من قوة انعكاس خضرة الأوراق الصقيلة، قد تناثرت عليها حبيبات نور شمس تصارع بعنادٍ لاختراق الكثافة. عدا الأسفلت تظنك في غابة، سيكذبها الانفتاح على الطريق السيار، لكن إلى حين؛ فبعد ربع ساعة ترى السيارة تصعد تدريجيًّا، وقد صارت تغذُّ السير فوق منحنى لسان على جانبيه ارتفعت التلال غطَّتها الغابات الخضراء على الشمال، وتلال أخرى اختنقت ببناء هجين له قصته المفردة، وراءه البحر المديد، المبين. أنتَ المُبتلى بالأخضر في باريس؛ حيث له آيات ودُرر بين الفصول، وتنعى بلدكَ المغرب؛ يأتي المضاربون على أخضره واليابس، تشهق دهشة بالغضا والغضارة، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك ما رأيت ولا تحسب يوجد هذا الأخضر، بعد رسول الله، إلا في هذا الربع المشعشع بالنضارة. هو اللون المخضرُّ يكاد يسودُّ، وتراه ينجذب إلى قوة خفية في عتمة الدغل المختفية بين المسارب الغابوية، بعيدًا عن أعين الراكبين. فهل أنت ذاهبٌ إلى مدينة أم إلى مشتل آخر في حديقة الله البهية، أوليس اسمها بهية؟! لا يعطيك الآتي من تشكيل الطريق والبناء، هابطًا وصاعدًا، مستويًا ومنحنيًا، وامتداداتُ الماء، وسماءٌ تشعشع بالضياء، وألوان في الأرض ترقص أمواجًا حول خاصرة السماء. لا يعطيك احتقان أحمر الآجُر على خدِّ الجبل الأجرد، يخرج من جوفه العمال الفقراء فرادى تارة، وأخرى بالعدد، أضف إليه قوافلَ العبيد ينفثون الزفرات حنينًا إلى الأبد، طوابير أراها تمشي نهارًا وفي الليل، لا شك تحلم بالجنة السرمد؛ لا يعطيك اغتنام النظر، وتنسُّمَ شذى التاريخ، وما لم يصدأ بعدُ من صقيل القلب، في صدر غانية، ومزاد جارية، وانتظار حبيبة أن تُواتي الريحُ المراكب التائهة، ويفقأ الحبيب آخر عين للقراصنة ليستقر دائمًا في حضنها، ويذوق طويلًا كما يشتهيان من أطاييبها، أوليست هي البهية؟! لا يعطيك كل ما تحدس، وما لن يمنحه لك مدخل الأخضر هذا غير حق العجب.

لكن سالفادور تقدِّم إليك — ببداهة — حقيقةَ الزمن، وهيبة التاريخ، وفوقهما رهبة الأزل. فأنت فيها تحلُّ بمدينتين في التكوين الجغرافي: العالية والسفلى، القديمة والحديثة، بتسمية اليوم. الأولى نشأت منذ خمسة قرون، وبها ارتبط اكتشاف هذه الأرض حين رست بواخر البرتغالي «بيدرو ألفاريس كابرال» للمرة الأولى في ساحل باهيا، وبعد عام سينتبه الأوروبيون أنهم وضعوا اليد بفضل إرسالية «أمريكو فِسبوتشي» على القارة الرابعة. في ١٥٤٨م سيتم تأسيس سالفادور على يد أول حاكم عام «تومي دي سوزا» لتبقى عاصمة إلى حدود ١٧٦٣م. على مدى هذين القرنين وصعدًا سينشأ التاريخ السياسي والعمراني والثقافي، والديني الروحي والاقتصادي، ويتراكم طبقة، طبقة. ما ترك حصيلة مائتي كنيسة، وما يزيد على ألفي مقرِّ عبادة خاصة بالبرازيليين ذوي الأصل الأفريقي، الذين كانوا ممنوعين من ولوج الكنائس، وهكذا بوفرة دور العبادة هذه، وباذخ بنائها المعماري مع الفخامة الباروكية وثراء ما تحويه من نفائس وذخائر وأيقونات ذهب، في منطقة تعجُّ بالفقر والعَوز، استحقت اسم العاصمة الروحية للبلاد.

اخترتُ أن أنزل في مقام العلو، لأن الأسفل هو الغالب على البسيطة والخليقة، والسفر من معانيه عندي انتقال بالمرء إلى أعلى، كلما تعرَّف على جديدٍ ارتقى وسما، فكرًا ووجدانًا وخلقًا، أو لا يكون. قصدت المدينة التاريخية بعنوان، حيث أخذتُ غرفة في بيت عتيق رمَّمه مالكه وحوَّله إلى نُزُل، تبيَّنت أنه وضعُ عشرات البيوت القديمة، وحتى الأدنى منها الآيلة إلى السقوط، تُرمَّم وتُحوَّل — بذكاء وترتيب — إلى فنادق تُسمَّى Pousada، يقبل عليها السياح بكثرة لإيجارها المناسب قياسًا بالفنادق الكبرى، وباعتبارها تقوم عند منافذ المدينة التاريخية، العليا. والحقيقة أنك فيها، كما تهيَّأ لي، تنزل في متحف صغير، لحرص أصحابها على تأثيث المكان وتزيين الفضاء بكل ما دلَّ وعبَّر عن ملمح عرقٍ، وميسم تاريخ وأسلوب فن وحياة. هكذا تحس — وأنت في الداخل — بأن الزمن يجاورك برفقٍ، حتى إذا وضعتَ قدمك في الخارج، وقد تجاوزت وعثاء السفر، كما يقال، هجم عليك التاريخ من كل ناحية، صرتَ في جوف العتاقة ومهد السلف، ربما تسابق في خيالك، بعد ذاكرتك، الرواد البناة من شادوا هذه الصروح، صالوا في الوعر وجالوا، جلبوا العبيد بعضلاتهم، بنوا الكنائس وحرموهم من إلهها، وقصب السكر مع القهوة، والذهب الغالي استخلصوه بزنودهم، على ألا يذوقوا إلا سياط العقاب، ولهم فن «الكابوويرا»، رقصة رياضية كانت حربية وصارت بهلوانية، يعلو بها الجسد ويتمطط أقصى ما يمكن فوق قيد العبد وشرط عبادة السادة. أيها السادة: أين أنتم اليوم لتروا أن تاريخكم لم يبقَ منه إلا هذه العتاقة على جدران الكنائس، وشقوق السقوف، وترهُّل الأعمدة، والخرقة السوداء الخلقة لراهبٍ يستجدي بعض الزوار لما يصلح به — عبثًا — ما أفسده الدهر الغشوم.

لكني عقلت بعيري، قلت لأرى أولًا، كعهدي بي، قبل أن أغتبط أو أتطير، ينبغي أن أحارب فيَّ عادة استباق النظر والانطباع، رغم أن هذا الأخير ليس حكمًا فهو جائر ومتسلط، إن لم يجد ما يمهد له. ألم أقل إن وجود الشيء قرين بتحصيله في دائرة المنظور، أولًا، قبل المحسوس، يكون مرتبطًا به، مغذيًا لحصوله، والانطباع هو آخر مرحلة، بمثابة الشعور أو ما يتخلَّف في النفس منه. هل يمكن أن نتحكم في هذا حقًّا؟ أم أننا، ونحن أمام فعل الكتابة، نخضع لأسبقيات تفلت منا كل رقابة عليها. ففي مثل هذه الكتابة يركض التذكُّر ليحاول مغالبة النسيان، وتتنازع الأشياء جاذبية الهوى، أي الإحساس يولِّ الانطباع فورًا، وقوة الإدراك نتيجة الوعي هي تركيب للآني والبعدي. لذا فإن ثمة مآزق بلا حصر في كتابة الرحلة، ليس أقلها أنها تأتي بعد حين، فلا تدوِّن — بالضرورة — ما عشتَه في المكان والزمان، وإنما بقايا وأصداء منه. ولأنك أنت، أيضًا، تكون قد صرتَ آخر بفعل عوامل شتى تلحق — بكل تأكيد — تأثيرات على الشعور والوعي، ويتداخل فيها الماضي بالحاضر، والخيال بالحقيقة؛ إذ لا توجد أو تبقى إلا حقائق محدودة من ذكرياتنا، ذكرياتنا ذاتها نعيد تركيبها وتطريزها بخيط الخيال، ومن ثَمَّ فإن كل رحلة، كل كتابة سفر هي سرد محتمل، راويه أو ساردُه ليس ثقة بالضرورة، ونحن، المتلقين عامة، قراءة أو سماعًا، نمحضه ثقتنا، بل ونزيد كلما شطَّ به الخيال لأن ذلك يعجبنا، لأنه ينقل المشاهدات والمرويَّ من صعيد الواقع المبتذل، الذي نعيش فيه، ونود الإفلات منه، ولو في زمن الرواية، نحو المدهش أو الاستثنائي. لكني — شخصيًّا — لا أحبذ هذا الصنيع، وإذا كنت أنهجه في خط السرد القصصي التخييلي، فإني أرى أن متعة كتابة الرحلة وضرورتها تكمنان في العثور بالضبط على المألوف الذي يصبح بليغًا، بحسب زاوية النظر الخصوصية التي نراه ونقدمه منها، وهذا أهم من الوثيقة للتحقق من فعل. كتابة الرحلة هي تذكُّر بليغ للواقع، وسرد للمشاهد بعين مكحولة بالمجاز، ولذلك نحب السندباد، بريًّا وبحريًّا، ولذلك لا بد أن نحذر سجل الرحلة فلا نعتمدها — بإطلاق — تاريخًا؛ ولذلك — دائمًا — إن خلت من التأويل واكتفت بالوصف والتفصيل؛ جاءت باردة وكتابة محنطة، لا نريدها ترقى الكذب الفني لسرد التخييل، ولكن، في الوقت نفسه، نعتبر التذويت أحد أعمدتها الأساس.

ما علينا، ولأعر نظري الآن قليلًا إلى البحر خلفي، تركت غرفتي وتوجهت إلى السطيحة الورائية للبوسادا، حيث وجدت زوجًا ألمانيًّا وفرنسيين أعجفين، وهم يلتقطون الصور لبعضهم طلبًا للأبدية، على خلفية البحر البعيدة، البحر الشاسع، انسدلت عليه أشعة الشمس ففضَّضته، أولًا، ثم تململت بين ثناياه، أراه مختلفًا عن بحر ريو الذي يتلاعب بالأخضر والأزرق والرمادي بين الصباح والظهيرة والعشي، وفي الليل يغشى المحيط العائد بدوره من مدِّ الفاني إلى جزْر الأزل. ظهر لي البحر من السطيحة ممتدًّا خلف الميناء؛ حيث الأرصفة والرافعات والحاويات تمتلئ بما جلبته البواخر، وأخرى أبعد لم ترس تنتظر لتفرغ حمولتها، مثل كل البشر الآتين إلى عالمنا، المحكومين — تباعًا — بإفراغ حمولة عمرهم والزوال. نُزلي — قياسًا بما أرى — عالٍ حقًّا، ومعناه أنني أقف فوق سقف مدينة، السفلى يا سادة. سكناي في La cidade alta الواقعة أعلى La cidade baixa، وأنت لن تعرف مقدار العلو ولا غرابته إلا إذا علمت أن أقوامًا طردوا البحر، ومنه انتزعوا القطع السفلية المبنية التي موجُها اصطخب عبر قرون، مصطدمًا بالمرتفعات الهائلة التي تقوم عليها هذه الحاضرة المغموسة في القِدم. هؤلاء شيدوا الجنائن المعلقة الوحيدة في الإمبراطورية البرتغالية فوق صخر أصم، وحين أطلُّوا منها ظهر لهم فراغ مهول، قالوا ننتصر عليه فنبني فوقه، فجاءت المدينة السفلى، وعادوا قالوا نحن الأُلى نبقى نحكمها، نفرض فيها سلطتنا نهارًا، وليلًا نعود نصعد إلى العُلا يليق بنا، والدهماء نبقيها أسفل سافلين لتعمل في الأسواق والميناء، وكذلك كان. من هنا أنشَئوا مصعدًا بدأ العمل به سنة ١٩٣٠م يشتغل بلا توقف، ينقل يوميًّا ٢٨ ألف راكب بسعر زهيد، يعاضده نقل آخر بالرافعات الكهربائية، لكن المصعد وحده يمثِّل معْلمًا نادرًا، سواء في طوله، أو الطابور لولوجه ممتدًّا مئات الأمتار. رأيت الباهيين واقفين يأخذون دَوْرهم، إما للصعود أو للنزول، دون ضجر أو تأفف ظاهر، أخذتُ معهم دوري وأنا أسمعهم يتناغون ويتحاكون، وبعد ساعة انسحبت متعجبًا، أغبطهم على صبرهم، قائلًا: إن لله في خلقه شئونًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤