(VIII) المحطة الأولى إلى الأزل!

«يا زمان الوصل في الأندلس»

ليل المدينة التاريخية مختلف، يخرج ما ظل مختبئًا في جوف النهار من أسرار، ويعرضها على عتبات البيوت أو في الشرفات فصيحة، متبرجة بلا غضاضة. الحر يطرد الأمهات والأبناء ليصبح الزقاق العاري بيتهم الثاني، وكل فسحة في الطريق العام مَشاع، أما الآباء فإما بين «زقٍّ وقينة» أو في سعي متواصل. الليل صنو السكينة، وهنا أضف إليها الانشراح وبعض الأطايب من مأكل ومشرب، وغناء ورقص مما يُبذل للسياح بأسعار لا تُقلِق جيب الأمريكي أو البريطاني. ليل شبيه بتلك الأمسيات التي قد تكون عرفتها في غرناطة، مثلًا، عدا أنك هنا لا تتعرض للنصب، وتحس بأن التاريخ والجو الذي تعيش فيه توءم، لتبقى البساطة غالبة. ثم إنك إن توجَّست كل الوقت مما حولك، وهذا سلوك الأجانب، فإنك ستفقد متعة الاكتشاف ونزوة المغامرة؛ أنت — عندئذٍ — تصبح مثل قطيع السياح الذين يتم برمجة حركاتهم وسكناتهم سلفًا، بما فيه وجباتهم لما بعد أسبوع على بعد خمسة آلاف كلم، وعند انتهاء الوجبة يحملون بقية قنينة الماء المدفوعة بزعم تجنُّب ماء الحنفية الملوث في العالم الثالث، وهم إنما يقتَّرون، أووف!

أوه، لا مغامرة هنا إلا الدَّعة في الباحات الصغيرة نُثِرت عليها طاولات على قدر الوافدين، وفوقك السماء ترسل الموسيقى تقطر في أوتار العازف ينقر لحنًا أسيانًا، ستكتشف عند الدفع أن وصلته مشمولة في الحساب، وهو تقليد متَّبَع. في حارات أخرى تستطيع الاستماع إلى موسيقى مجانية صاخبة، هي ضرب صنوج بأداء فولكلوري للشمال الشرقي بأزياء الماضي، تهديها وزارة السياحة للعموم، وتسهم بها في إنعاش أطراف الليل. هذا الليل حلو هنا، مديد، يغويك أو يجبرك الطقس على أن تسهره مثل سائر الخلق الذين لن تعرف متى، ولا كم ساعة نوم ذاقوا، لأنهم أنفسهم المشاءون مع الخيوط الأولى للصبح، والذاهبون إلى تحصيل القوت. جربتُ أن أنام في البوسادا، لكن الجيران أرادوا لي السهر عنوة، فَقُربنا حانات شعبية ترسل ألوانًا من السامبا، وروادها يخوضون في لغط لا ينتهي، تحسبه جدل نقابيين أو برلمانيين. ولما أطللت من النافذة أنوي تهدئة فورتهم رأيتهم مقتعدين الأرض نصف عراة وأقداحهم ملأى، ورفعوا لي نخْبًا فلم أملك إلا العودة، وفي الصباح لما اشتكيت لمسيِّر الفندق من الضجيج لم يحر جوابًا، وهذا ببساطة لأن الحياة في الليل هكذا، أما النوم فغفلة يسرقها الزمن منك، أو تسرقها منه، ربما!

لكن للمسألة وجهًا آخر عند الشعب البرازيلي؛ فهو مكلام، في كل الأوقات، وترى عدد العاملين المتكاثر في المكان الواحد فوق الحاجة، وهي ظاهرة مثيرة، ينشغلون بالثرثرة أحيانًا قبل تلبية طلب الزبون، بلا حرجٍ، ولا هرج، أيضًا. على أن الكلام وديع، ورغم ضخامة المدن؛ الصخبُ قليلٌ إلا ما يفرضه ازدحام السير؛ فلا ترى حادث سيارة أبدًا، وهذا عجيب، وأنا لا أملك إلا أن أقارنه بالمدن المغربية انقلبت معاملَ للضجيج، وشوارعُها قبل طرقاتها الخارجية حلبات للسباق وقتل الواقف والجالس. وإذا استثنيتُ أصوات جيراني المستأنسين بالليل؛ فالكلام رقيق، واللغة البرتغالية التي زادي منها قشور، وكلمات — إذا كانت أو نبرتْ — فجة، خشنة بعض الشيء في بلدها الأصلي، حيث تسود تلك الكآبة الخصوصية الرومانسية، المسماة «سوداد»، فاعلم أنها هنا رفيقة يموْسقها اللسان والجسد معًا، وهو مطواع.

وكثيرًا ما يخفي الليل تجاعيد الزمن، هي الأشد انغراسًا في المدينة التاريخية حتى لتؤذي العين وتجرح الفؤاد. في النهار، وأنت تمتلئ بالتلادة وما شاده الأجداد في قارة الخمسة قرون لا تمتلك، رغم ذلك، إلا الإحساس بأسفٍ على زمن يفتت كل شيء؛ فالكنائس والبنايات العالية، ذات الرءوس والأقواس أصيبت في مقتل جراء اهترائها. أجل، حيطان مهترئة وأسقف مبقورة. مدينة رثَّة تتجمَّع في عينيك قذًى، من كثرة ما تداولتها أنواء الطبيعة، وأهملتها يد الإنسان لم تعُد تقوى على علاج، ما دام الزمن، في النهاية، أقوى من كل أحد وشيء. تقف قبالتها، وأنت فيها، وتنظر إلى البناء صامدًا، رغم عوادي الدهر، لكنه يتآكل في كل لحظة، تراه ذاهبًا إلى البدد. يقينًا لن يبقى هنا إلا المعالِم المصنَّفة؛ أقدم كلية طب حيث المتحف الأفريقي البرازيلي والمتحف الأثري والعرقي، تبقى كنيسة الفرانسيسكان ومثيلاتها، إلى حين طبعًا، فيما ستنهار كنائس وبيوت الفقراء، السود العبيد، سابقًا، وسوف يضطرون إلى هجر منازل ما تنفك تتصدع. وقبالة نُزلي بيتٌ كنت أرى غرفة نومه، نوافذها مهشمة وأعمدتها تداعت، يعيش داخلها عجوز يأكل بقية قوت وينتظر الموت، أي يشبه تمامًا المكان الذي هو فيه، قل هذه العالية كلها والأيام تفعل بها الفعائل. لأمر ما تذكرت فاس حيث قضيتُ شطرًا من عمري، ما أجمله وأتعسه في آنٍ. مدينة المولى إدريس الثاني، وحاضرة أسر حاكمة عديدة ذات محتد عريق، وحيث جامع/جامعة القرويين أُعطية فاطمة الفهرية، وبيوت الله والعلم والتقى والورع، ومرتع حسن وجمال يخلب الألباب. الأندلس الصغرى، يا إلهي كيف تطيق اليوم أن تنظر إليها من علو أسوار المرينيين، أو تنزل إلى منحدراتها وحاراتها السفلى، البيوت داخلها جنان، والحريم حور العين، يشربن ويستحممن بماء أصفى من بدر وضَّاء، كيف وغَدها على وشك التفتُّت، بعد أن آلت أحوالها إلى بوار، وبناؤها الذي اقتضاه زمن سيذهب به لا محالة زمنٌ آخر، فأي قدر مأساوي هذا!

في اليوم الثالث من إقامتي في سلفادور باهيا، وكنت قلت بيني، وأنا على سفر، إني سأغادرها بلا أسف، ولن أعود إليها مطلقًا؛ لكن صدفة صنعتها السماء غيَّرت هذا القرار حينًا. فإني وأنا قاصد نُزلي، أتعثَّر في الزقاق ذي الحجر المدبَّب، فإذا بي — وجهًا لوجه — مع صديق أديب قديم، تعود معرفتي به إلى مطلع سبعينيات القرن الفائت أيام أقمت ودرَّست فترة في الجزائر، وكان هو لاجئًا سياسيًّا فيها. أخبرني أنه اليوم وزير في حكومة بلاده الأفريقية الديمقراطية كذا، وحضر إلى سالفادور للمشاركة في المؤتمر العالمي للدياسبورا أو الجاليات الأفريقية. وبلا مقدمات طلب مني أن أنضم إلى وفده، وبعد تدشين دار لدولة بنين تخفَّف من رسمياته، وأصر على أن أرافقه إلى سهرة قال حميمية، وإذا يا سادة أنا جالس مع صفوة أفريقية، وفي قلبها المغني الأمريكي الشهير المعتز بأصوله الأفريقية Stevie Wonder من شخصيات المؤتمر، عزف فأبكى وأبهج؛ رحت — إثرها — أعيد النظر في قراري ومزاجي، ويكفي أن تكون هذه الأرض ملتقى للسود الذين ظُلِموا عبر التاريخ وسِيمُوا كل عذاب، ليصبح للحاضر طعم الحرية، والماضي يستعيد كل بذاخته.
قبل أن أغادر إلى صقع آخر في مسار رحلتي حدث لي شيء لم يكن في الحسبان، هو مزيج من واقع وخيال، والتائهون مثلي، الهائمون على وجوههم ومشاعرهم، كثيرًا ما يتفق لهم ما يُعدُّ في عُرف الناس خروجًا عن العقل أو الموضوع وما شاكل، لكني لم آبه يومًا لمثل هذه التعليقات والتصنيفات، وبات عندي «الانزياح» عن المألوف — طبْعًا وسلوكًا — هو المألوف عينه. ما علينا، فقد عدتُ أصعد إلى المجمع التاريخي، وبينا أنا أمشي صاعدًا في حر الظهيرة، وجسمي يرشح بالعرق، شعرتُ به طَفَقَ يخفُّ رغم تصلب عضلات ساقي وانحناء ظهري لمجاهدة وعورة الصعود. حين وصلت إلى ساحة Pelourinho أو «خوسي دي ألنسار» كما تُسمَّى رسميًّا، تحدُّها شمالًا دار الروائي المجيد جورجي أمادو في مهابة لا نظير لها، المخاصرة بزقاقين مشغولين بقاعات للرسامين، هواة ومحترقين؛ أظن أني، وأنا أنظر — عندئذٍ — إلى الطابق الثالث لمبنى المؤسسة، تقدَّم للسلام عليَّ صاحب الدار مرحِّبًا، محفوفًا بأبطاله وشخصياته الشهيرة أنطونيو بلدينو، والعريف مارتان. ومن حُفَرٍ، تتفتح في الأرض كالبراعم، يخرج كينساس بيرو داغا، جوبيابا، جزوينو غالا دوادو، وفي الجو نفحة من العطر الفاغم لتيريزا باتيستا. أحسستني في خفة ريشة، وسأطير إلى علو الطابق، بل حلقتُ نحوه، وعلوت أجتاز الدور الأخرى، ومعي يحلق فقراؤه الذين سكنوا سروده حتى العظم، و«الكابويرا» يقفزون بحركاتهم البهلوانية الحربية متابعين عزف المعلمين، ورجال باهيا أقبلوا يلوحون بلحومهم السمراء والشوكولاتية، أما النساء فقد ائتزرن بأثواب بيضاء فضفاضة تتهادى داخلها أجسادهن ذوات الهضاب والوهاد، على الرءوس شكَّلن مناديل، كالأحراش كثافة والكرنفال لونًا، فيما الصدور الممتلئة تتململ كثبانًا يلمع فيها عرقٌ خفيف ووشي زينة كقافلة تتموَّج في لألاء السراب، حسبتُه — أنا الظمآن — ماءً، لولا أني رحت — شيئًا فشيئًا — أفيق، أستعيد رشدي، وأنا مصدق رؤيتي وإحساسي.

بدأ الكابوييرا يلعبون في الساحة الكبرى الخلفية قبالة طابور طويل لمواطنين ينتظرون دورهم لفحص مجاني للعيون، ومثلُه سبق أن شاهدت متطوعين لفحص مجاني لضغط الدم، وكان عندي، لا يزال أظن، ارتفاع في ضغط الوهم. حركاتهم تستوجب قفزًا متكررًا، تستلزم الارتفاع، وصاحبها لا يمس الأرض إلا بكفَّيه وباطن قدميه، ولا قيمة لفنِّه واقفًا، فهو فن العلو والإيقاع المتسارع دائمًا، لذلك يحدث فيه التناوب بين اللاعبين هذا يخلف ذاك وهكذا دواليك. عندنا في المغرب قفز من يسمون أولاد سيدي أحمد وموسى، هو في طريقه إلى الانقراض، يتكسَّب به أولاده في الأسواق وبعض المناسبات، فطري وساذج، ويقال إنه يوهب من وليِّهم. فيما الصينيون أمهر الشعوب طرًّا على ما أتيح لي عيانًا عندهم في هذا المضمار. إلا أن الطقس الذي وُجِدتُ فيه ذو جذر تاريخي أبلغ، وطقوسيته مثقَلة بالدلالة، لمن يتأمل. لما أكملوا دورهم دعاني واحد منهم إلى تقليده، سهَّل عليَّ الأمر كأنه يدرِّبني، وأوحى لي أن جسمي مرن، وانظر فلا شحم فيه فاقفز الآن، هيا!

بعد تردُّد وجبن قطعت دابرهما بسرعة ألفيتني أقفز، وأعيد، وفي كل قفزة علوي عن الأسفل يزيد، أسمع التصفيق حولي فأزيد وأنا أحس بجسمي ينفصل عني، صرتُ أخف من ريشة. في لحظة لمعت كالبرق الفكرة، أن المدينة التاريخية لسالفادور هي الطريق، المحطة الأولى إلى الأزل، من هنا تأخذ التذكرة لتصعد إلى العالم الآخر، العلوي، لتنفصل عن الزائل، لذا هي رثَّة، تتفسخ، لذا هي مليئة بالساحرات يبعن الرُقًى والتعاويذ، ويقرأن الكف، وفيهن من يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به. كلا، هذه ليست مدينة حقيقية، وإنما صورة، حدس من بنات خيال أمادو، والبشر الذين يُخيَّل للزائر أنهم ساكنتها إنما هي أرواح تتسلل من داره، وتتحيَّن سهوهم في النظر لتوسوس لهم بخواطر غريبة، والدليل هو الطابور الآخر، هناك للواقفين ينتظرون دورهم للمصعد الذي سينزل بهم على المدينة السفلى، أي إلى الدنيا، حيث الواقع والإنس العادي، لا الأرواح والأشباح، وكل هذي النساء المذهلات.

ومن شدة النظر في رحابتهن وكثبانهن اختلط الأمر عليَّ؛ أأنا في صحوٍ أم منامٍ؟ عندها قلت لا ينفعني إلا أن أنضم إلى طابور فحص النظر، فلما جاء دوري طلب مني الطبيب أن أميز حروفًا ثم كلمات، فشرعت أقرأ وأقرأ، لا أعرف كيف أتوقف، إلى أن دخل اثنان ثبَّتا فكيَّ، وتوجه الطبيب إليَّ قائلًا: اسمع يا هذا، مشكلتك أنك ترى ما في رأسك لا الحقيقة، وعليك النزول تحت للعلاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤