جمال حمدان … وعقدة القنديل

ظهر السبت ۱۷ أبريل ١٩٩٣م أحَسَّ بانقباض، وربما ألمٍ غاب مصدره، مواطن فلسطيني، أبعدَته إسرائيل إلى منطقةٍ صحراويةٍ في الجنوب اللبناني، أم تَحتضِن وليدها في سربيرنتشا شرقي البوسنة، طالب أفريقي يدرس الفقه في جامعة الأزهر، فنان دائم التردُّد على قهوة الفيشاوي بخان الخليلي، تاجر يقضي قيلولته داخل دكانه في سوق الشماعين القريب من جامع الزيتونة، باحث مصري شاب سَرقَه الوقت في أبحاثه بمعامل كلية العلوم، ومواطنون مثقَّفون وبسطاء في أماكن مختلفة في وطننا العربي؛ أمام آبار النفط، وفي المقاهي، وداخل الأسواق والحقول والمعاهد والكليات والمكاتب الحكومية وتحت الجسور.

لم يستوقف الانقباض المفاجئ صاحبه، واعتبر الألم الغائب المصدر طارئًا، ما لبث أن أهمله … لكن الحدث الذي عَرفَه الجميع فيما بعد أنه في تلك اللحظة من ظهر السبت ۱۷ أبريل، كان جمال حمدان أحد أهم العبقريات العربية المعاصرة يدفع عن نفسه النيران التي انتقلَت إلى ثيابه من غازٍ تسرَّب في أنبوبة البوتاجاز.

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يدخل فيها جمال حمدان مطبخ شقَّته الصغيرة، الواقعة في بدروم عمارة بحي الدقي، في مدينة القاهرة.

كان قد اعتزل حياة الآخرين في عام ١٩٦٣م. استلب منه أحد زملائه جهده العلمي، وساعدَته إدارة الجامعة حينذاك على تصرُّفه اللاأخلاقي، فقدَّم جمال حمدان استقالته من الجامعة، ومن الحياة العامة كلها … قرَّر أن يهب نفسه أعوامًا ممتدة من القراءة والبحث والتأليف.

عندما قرأتُ الخبر في جريدة الأحد، فتحتُ جهاز التليفزيون ربما أستمع إلى تفصيلاتٍ أكثر. ذلك ما يفعله التليفزيون عندما يرحل عن عالمنا شخصيةٌ عامة، بصرف النظر عن مطاطية الصفة أحيانًا، ومع تقديري للفنانين الراحلين عبد الله غيث وصلاح قابيل وأحمد فؤاد حسن، وغيرهم ممن ودعناهم في الفترة الأخيرة، فلعلي أتصوَّر أنَّ دور جمال حمدان في حياتنا أهم، وأعمق تأثيرًا.

لكن التليفزيون لم يُشِر إلى وفاة الرجل من قريب ولا بعيد وعدتُ إلى الجريدة، فلم أجد نعيًا من أي نوع، ولا حتى نعي الأسرة. وتابعتُ مواد الإذاعة، فخاب أملي. وانتظرتُ إلى اليوم التالي، ربما مأساوية الحدث فاجأَت الجميع، وربما لأن محبي الرجل وعارفي قَدْره لا يشغَلون مواقعَ مؤثِّرة في أجهزة الإعلام (الصورة الوحيدة التي تنشُرها له الصحف، تعود إلى فترة الثلاثينيات في حياته!) وإن كنتُ أتصوَّر أن أحدَهم كان يشرف على إصدار «الأهرام» غداةَ وفاته، فأفردَ لذلك صفحةً كاملة، بها تغطيةً ممتازة.

لكن صحف اليوم التالي ألقت بمهمة المتابعة على محرِّري الحوادث، فيما عدا مقالةً للمثقف الكبير السيد يسين، تحدَّث فيها عن كتاب جمال حمدان «شخصية مصر» واعتبَره معلمًا من معالم الإبداع المصري، وأنه سيظل شاهدًا على أهمية دور العالم الاجتماعي الملتزم بقضايا أمته، القادر بناءً على دراسته العميقة أن يشخِّص الحاضر، ويستشرف آفاق المستقبل.

ويبدو أن أحد الناشرين، الذين لم يكن جمال حمدان يتعامل معهم، قد أشفق على الرجل رحيلَه الصامت، فكتب نعيًا وحيدًا، يودِّع به العبقرية العربية الراحلة.

أما اتحاد الكتاب، والجمعية الجغرافية، والهيئات التي تُسرِف علينا بكليشيهات الترحيب والوداع، فإنها أصرَّت فيما يبدو أن تنظر إلى وفاة جمال حمدان باعتبارها حادثة، تكتفي بتسجيلها محاضر الشرطة، وتنقلها عنها أقلام محرِّري الحوادث … ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.

•••

إذا كان أستاذنا يحيى حقي قد استوقفته عقدة «القنديل» التي تحدَّدَت بها نظرة معظم المثقفين إلى مجموع أعماله، فهم يتحدَّثون عنه باعتباره فحسب مؤلف القصة الجميلة «قنديل أم هاشم»، وهي كذلك بالفعل، لكنها ليست القصة الجميلة الوحيدة لحقي، بل إنها ليست أجمل أعماله إطلاقًا. ثمَّة أعمالٌ أخرى أحبَّها (صحِّ النوم مثلًا)، وتمنَّى أن تحظى بشهرة «القنديل»، وتحتل الموقع نفسه الذي احتلَّته «القنديل» في نفوس قُرائه.

أقول: إذا كانت تلك هي العقدة التي تحدَّدَت بها نظرة معظم المثقَّفين إلى أعمال حقي، فإن العقدة التي نظر من خلالها المثقَّفون إلى أعمال جمال حمدان، اختزلَت تلك الأعمال في موسوعته المتميزة؛ شخصية مصر. إنها بالتأكيد من أهم الأعمال الموسوعية في المكتبة العربية المعاصرة، ولعلها أهم تلك الأعمال في السنوات الأربعين الأخيرة. تتضاءل إلى جانبها كُتب التغطيات الإعلامية والساندوتشات التي أجادت فرض المبدأ الاقتصادي؛ العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق … لكن قيمة العمل الثقافي في مجاوزة الواقع، واسستشراف المستقبل، في ترقُّب الغربلة التي تُناقِش، وتستخلص الكم الجيد، القليل، من كَوْمات الرداءة!

مع ذلك، فإن «شخصية مصر» ليس بيضة الديك في أعمال الرجل. الأخطر أنه لا يمثل اجتهاده الوحيد. نظلمه لو قصَرنا اجتهاداته على دراسة الشخصية المصرية. هذه نظرةٌ قاصرة، علمُه بالقطع أوسعُ منها. استوقفَته الشخصية المصرية طويلًا. ناقش خصائصها ومواقع التفوق في الزمان والمكان. قدَّم بانوراما للحياة والمصرية، ثرية التفصيلات، زاخرة بالألوان والظلال والتكوينات التي تثير التأمل … لكنه قدَّم كذلك أعمالًا تعبِّر عن اهتمامه بالعالم الذي يعيش فيه، كإطارٍ أوسعَ للوطن الذي أنجبه، وتعبِّر في أولوية واضحة عن العالم الإسلامي الذي ينتمي إليه شخصيًّا، وينتمي إليه وطنه.

في مقدمة كتيِّبه المهم «الاستعمار والتحرير في العالم العربي» نقرأ لجمال حمدان هذه الكلمات:

«عصرُنا الذي نعيشُه عصرٌ فوَّار بالتغيُّر المُذهِل في السياسة، كما هو مثيرٌ في غير السياسة. وإذا عُد القرنُ التاسع عشر قرنَ الاستعمار، فإن القَرن العشرين هو بلا ريبٍ قرن التحرير. ومنذ الخمسينيات ونحن نعيش عقدًا مفعمًا، شهد أعظم انقلاباتٍ في موازين القوة في العالم، وشهد تحرُّر المداريات وتفجُّر القومية العربية. وفي كل ركنٍ من العالم، وليس العالم العربي باستثناء، لن يجد القارئ المثقَّف مشقةً في أن يرى الأحداث تسبق الأبحاث. من هنا كنا بحاجةٍ إلى الكتابات التي تُحاوِل أن تنظُر إلى الصورة ككل، دون أن تضيعَ في زحمة التفصيلات اليومية والأحداث الجارية. ويستطيع القارئ العربي بلا شك أن يجد مكتبةً كاملةً في تاريخ الاستعمار في عالمنا العربي، ولكنها — في معظمها — لا تعبِّر إلا عن وجهة نظر الاستعمار ومصالحه. أما إذا تلفَّت باحثًا عن شيء في حركة التحرير المعاصرة التي تتواثَب في منطقتنا وتنفجر، فلن يجد نفسه إلا إزاء مؤامرةِ صمتٍ متعمَّدة من جانب الاستعمار، فإن قطع هذا الصمت صوتٌ ما، فهو حملةُ تشويهٍ وتشهيرٍ ملفَّقة. وهل يُنتظَر الآن لمن كتبوا أو ممن كتبوا جغرافية الاستعمار وتاريخه، أن يكتبوا لنا اليوم جغرافية التحرير أو تاريخه؟ … ذلك أمرٌ ليس من الواقعية في شيء أن ننتظره، ولكنه من الناحية الأخرى قد أصبح مسئولية المفكِّر العربي وحده، ورسالة الكاتب الوطني دون سواه.»

الرجل إذن يُدرِك مسئوليته ككاتب، ليس بمجرد التحدُّث عن الشخصية المصرية. ذلك واجبه بحُكْم الموطن والنشأة والانتماء، لكنه يحاول أن تكون نظرتُه أكثر اتساعًا وشمولًا … فهو يرفض أن يكتب جغرافيُّو الاستعمار ومؤرِّخوه عن عالمنا العربي. تلك في تقديره مسئولية الكُتاب العرب دون سواهم. إنهم الأكثر تبصُّرًا بهموم منطقتهم، والأخلص تعبيرًا — أو هذا هو المفروض — في تناولهم لتلك الهموم.

وجمال حمدان يقدِّم لنا بالفعل رؤًى مغايرةً تمامًا لكتاباتٍ سابقةٍ قدَّمها لنا كُتابٌ غربيون، واختار بعضُ الكتاب العرب للأسف الطريق الأسهل، فاعتمدوا على كتاباتهم، دون أن يناقشوا ما تَحفِل به من مزاعم وافتراءات.

مثلًا … إن النهضة الأوروبية التي ما تزال تهب امتداداتها، إنما جاءت من احتكاك أوروبا الوسيطة المظلمة بحضارة العرب المشرقة، واستعارت ما استطاعت أن تحصل عليه، ثم أخذَت تنمِّيه وتعمِّقه، لتبدأ من ثَم رحلة التطور الذي يجد نهايتَه في الاستعمار الأوروبي الحديث.

أما الغزو التركي، فإنه لم يجِد أرضًا رخوةً في الاحتلال واستمراره؛ لأنه كاستعمارٍ ديني اتخذ من وحدة الدين غطاء، يُخفي به حقيقته كاستعمارٍ سياسي.

ويؤكِّد جمال حمدان أنه لولا الوشيجة الدينية في عصر الدين بالضرورة، لكان مصير الاستعمار التركي منذ البداية كمصير الغزو المغولي الوثني الذي سبقَه بقليل، وقام له العالَم العربي والإسلامي قومةً أكثر فدائية.

ويضيف الرجل حقيقةً أخرى، هي أنه إذا كان الأتراك قد استعمروا العرب سياسيًّا، فقد استعمَرَهم العرب حضاريًّا، بمثل ما أن الرومان من قبلُ استعمروا اليونان حربيًّا، لكن اليونان استعمروهم ثقافيًّا.

وبالتحديد، فإن الأتراك لم يتركوا أي أثَرٍ حضاريٍّ بنَّاء في العالم العربي. وكانوا عالةً على تراث العرب، بدءًا بالعمارة، وانتهاءً بشكل الكتابة والصناعة … إلى الثقافة.

بل إن الرجل يزيد في اجتهاداته، فيؤكِّد أن الاستعمار التركي لم يكن كما قيل حائلًا دون اقتحام الاستعمار الأوروبي للشرق العربي؛ فالعكس هو الصحيح تمامًا.

لقد بدأ التوغُّل الأوروبي في المنطقة عن طريق الرجل المريض، وبسبب عجزه، وكانت هزيمتُه للاستعمار العثماني هي الخطوة الأولى لانقضاضه على المنطقة.

وبالطبع، فإن القول بأن الاستعمار الأوروبي حرَّر المنطقة من الاستعمار التركي، لا يعدو مزاعمَ غربيةً رخيصة؛ فالصحيح أن مضاربات الاستعمار الأوروبي ومناوراته ومصالحه، هي التي أطالت في حياة الاستعمار التركي في المنطقة، بينما كان الاستعمار التركي الهدَّام — والتعبير لحمدان — هو الذي أعدَّ المنطقة فريسةً عاجزةً للاستعمار الأوروبي، ثم سلَّمها له هديةً غيرَ مقصودة، أو مقصودة. ثم يُجاوِز جمال حمدان مناقشة قضايا الاستعمار في الوطن العربي، إلى مناقشة قضايا الاستعمار في العالم كله.

وبعد كُتيِّبه «الاستعمار والتحرير في العالم العربي» أصدر كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير»، أهداه إلى يحيى حقي، أحد أخلَص صديقَين له مع أحمد بهاء الدين. يؤكِّد منذ البداية أن الاستعمار الحديث الذي يُحتضَر اليوم، إنما استوى على سُوقه في القرن التاسعَ عشرَ فقط. أما جذوره فتضرب في أعماق عصرِ الكشوف الجغرافية، منذ القرن السادسَ عشرَ وما بعده. بل لعلك واجدٌ جذوره الأولى قبل ذلك جميعًا. وأنت لن تستطيع أن تفهم نمُو الاستعمار العالمي، ولا تطوُّر صراع القوى العالمية، إذا قصَرتَ بؤرتك على المنظور المعاصر، أكثر مما يمكنك أن ترى ناطحة سحابٍ إذا نظرتَ إليها من سطحها.

ويتناول الرجل في كتابه، الذي تبلغ صفحاتُه حوالي الأربعمائة، حكاياتِ الاستعمار في توالي العصور، إلى الانقلاب الصناعي. ثم يناقِش النظرية العامة في الاستراتيجية العالمية. ويتوقف طويلًا أمام موجاتِ التحرُّر التي أعقبَت نهاية الحرب العالمية الثانية، وتأثيراتِ الانقلاب النووي على العالم ككل. ثم انبثاق ظاهرة عدم الانحياز كردِّ فعل ومواجهة لثورة التحرير والانقلاب النووي.

أخيرًا، فإن الكاتب يُلِح في أن تحرص دول العالم الثالث، ودول المستعمرات سابقًا، على اكتساب التكنولوجيا، وعلى استخدامها. إنها السبيل الوحيد للتخلص من كل مظاهر الاستعمار القديم والجديد … ولكن على هذه الدول — في الوقت نفسه — ألا تبيع واقع الثورة التحريرية من أجل وهم الثورة التكنولوجية؛ فمثل هذه المساومة، أو الصفقة، لن تعني — في الظروف الراهنة — سوى الاستسلام، وبالتالي فقدان التحرُّر والتكنولوجيا معًا، وإلى الأبد، في حين أن الصمود والمقاومة الآن جديرةٌ بكسبهما معًا، وإلى الأبد.

ثم يُصدِر جمال حمدان كتابه «واقع العالم الإسلامي» تعبيرًا عن انشغاله بالهموم الإسلامية. يقدِّمه كدراسة في جغرافية الإسلام، لكنه يتوقَّف عند الكثير من الحقائق التاريخية والسياسية.

وعلى سبيل المثال، فإن واحدًا من كل ستة أشخاص في هذا العالم، يَدينون بالإسلام. وقد مثَّل دخول الاستعمار سدًّا أمام انتشار الإسلام، لكنه أثقَل خطواته فحسب، وإن لم يشلَّ حركته.. وهو الآن يمثِّل — مع المسيحية — الديانتَين الفعَّالتَين اللتَين تتقاسمان العالم اليوم. أما اليهودية، فبحجمها (١٥-١٦) مليونًا، وإحجامها عن التبشير، لا تعدو قوقعةً حفريةً بلا تحفُّظ أو تحيُّز. والإسلام ينفرد بين الأديان جميعًا بأنه لم يعرف أيَّ ارتدادٍ عقائدي، بمعنى التحوُّل عنه إلى غيره، وإن عرف الانحسار والتراجُع الجغرافي في أكثر من مرحلة، وفي أكثر من جبهة.

ويختلف الإسلام في تاريخه وتوسُّعه عن بعض الأديان الكبرى الأخرى. ثمَّة أديانٌ نشأَت في موطن — مشتل — ثم هاجرَت منه لتنتشر خارجه أساسًا، مثل البوذية بالنسبة للهند، واليهودية والمسيحية بالنسبة لفلسطين. أما الإسلام، فقد تفرَّد وحده بأنَّ انتشاره الأكبر خارج وطنه الأصلي، لم يُبعِده عن مَعقِله الأساسي في الوطن العربي، فقد ظل دائمًا حقلًا كثيفًا من أخصَب حقوله.

ويعرض الكاتب للإسلام في أقطاره المختلفة، فيوضِّح الكثير من المعلومات التي تغيب — للأسف — عن أذهان القائمين بالدعوة الإسلامية، مع أنها ينبغي أن تكون الركيزةَ التي ينطلقون منها، وإليها.

ثم يطرح الكاتب السؤال: كيف تؤدِّي كل الأقطار الإسلامية — سواء أكانت دولًا أو شعوبًا، أغلبية أو أقلية — دور الإسلام السياسي الصحيح، لحساب العالم الإسلامي لا ضده؟

ويجيب: إن الدور الأصيل هو توحيد الدين، بمعنى توحيد عقيدة الإسلام لا المسلمين، لتذويب الفروق والفِرق الحَفْرية التي ورثها عن ماضٍ، فقد الآن سياقه الزمني، وتعميق روح الإسلام، وتقويمها، والتبادل الثقافي والفكري العام، والمزيد من التنسيق الاقتصادي والترابط والتبادل التجاري، والتضامن السياسي الوثيق في المجتمع الدولي لمجابهة الأخطار الخارجية، والتعاون لتحرير الدول الإسلامية المستعمَرة، وعلى رأسها — بالقطع — فلسطين المحتلَّة. تلك جميعها هي المجالات الخصبة والفعَّالة والواجبة، لتفاعُل العالم الإسلامي سياسيًّا.

والحق أن قضية الوجود الاحتلالي الصهيوني في فلسطين كانت — بالتحديد — شاغلًا أساسيًّا لجمال حمدان. إنها — في تقديره — سابقةٌ ليس لها مثيلٌ قَط في تاريخ العالم الحديث، لا العالم الإسلامي، ولا العالم الثالث. إنها ليست حتى استعمارًا قديمًا أو جديدًا فحسب، ليست حتى استعمارًا استيطانيًّا أو عنصريًّا وحسب — وأنا أنقل نص كلمات جمال حمدان — لكنها كذلك، وقبل ذلك، استعمارٌ إباديٌّ إحاليٌّ صِرف.

إن المد الاستعماري الذي تعرَّض له العالم الإسلامي برُمَّته في القرنِ التاسعَ عشَر، والذي كان جزءًا من موجة الاستعمار المداري، تعاصَرَت معه أولى محاولات الصهيونية العالمية التي ركِبَت بالفعل نهاياتِ موجة، عملًا على تحقيق حُلمها في الدولة اليهودية، أو بالأصح دولة اليهود. ومنذ تلك البداية، والصهيونية العالمية جزءٌ لا يتجزَّأ عضويًّا من الإمبريالية العالمية. وقد استمرت بعدها، وهي أعلى مراحل الإمبريالية العالمية. إنها قطعةٌ من الاستعمار الأوروبي عَبْر البحار، والصهيونية — بكل بساطة — هي السرقة!

خطر الصهيونية لا يقتصر على العالم العربي وحده، وإنما يمتد إلى العالم الإسلامي كله، وليس حرق الجامع الأقصى إلا رمزًا ومؤشرًا لما ينتظر العالم الإسلامي. الصهيونية هي أكبرُ خطرٍ وتحدٍّ يُواجِهه العالم الإسلامي المعاصر. تمامًا كما يُواجِهه العالم العربي. أكبر من صليبيات العصور الوسطى، وأكبر من موجات الاستعمار الأوروبي الحديث. الاستعمار التوسُّعي الأخطبوطي الصهيوني، إن يكُن سرطان العالم العربي، فهو جُذام العالم الإسلامي في الوقت نفسه!

وانطلاقًا من اهتمام حمدان المُلِح بقضية الوجود الاحتلالي الصهيوني في المنطقة العربية — لم يعُد الاحتلال مقصورًا على فلسطين! — فهو يخصِّص أحد كتبه للتحدُّث عن اليهود أنثربولوجيًّا!

الكاتب يؤكد — من خلال مناقشةٍ علميةٍ جادة — أن اليهود ليسوا من الساميين في شيء؛ فهم إذن ليسوا أبناء عمومة، كما روَّج لذلك بعضُ كُتاب العرب أنفسهم — الحكيم وحسين فوزي مثلًا — ومن المغالطة تسمية اضطهاد اليهود بأنه «ضد السامية»! إنه ضد اليهودية ببساطة، وبلا تعقيد، ولا تفسير لهذه التسمية الخاطئة إلا أنها تعتمد على اسمَي الإنجيل والتوراة التي تسبق التغيُّر الجذري، والإحلال والإبدال المطلَق الذي لحق دماء اليهود … والاضطهاد النازي لليهود في ألمانيا — إن صح حدوثه — (وهذا التحفظ — في الحقيقة — من عندي) لم يكن في جوهره إلا اضطهاد ألمانٍ لألمان، لا يختلفون إلا في الديانة وطريقة الحياة. أما الزعم بقرابة الدم بين العرب واليهود، فقد يكون يهود التوراة والعرب — تاريخيًّا — أبناء عمومة، حين بدا الكل قبائلَ مختلفةً من الساميين الشماليين، وعندما كانت العبرية لغةً تُشتَق من الأصول العليا التي تفرَّعَت عنها العربية. وصحيحٌ أن إسماعيل أبا العرب، وإسحاق أبا اليهود، إخوةٌ غير أشقاء، وهما أبناء إبراهيم، لكن نسل أحدهما ذاب — فيما بعدُ — في دماءٍ غريبة، ووصل الذوبان إلى حد الإحلال، حتى أصبحنا إزاء قومٍ غرباء، لا علاقة لهم البتة بإسحاق، فضلًا عن إسماعيل. ولا يمكن، بعد أن اختفَى يهود التوراة، أن يكون يهود أوروبا والعالم الجديد، أقاربَ العرب جنسيًّا، أكثر من قرابة الأوروبيين والأمريكيين للعرب!

لذلك، فإن أرض الميعاد أكذوبةٌ سخيفة؛ لأن الأنثربولوجيا تبدِّد أي أساسٍ جنسي قد يزعمون في هذا الصدد.

اليهود مجرد طائفةٍ دينية، تتألف من أخلاطٍ من كل الشعوب والقوميات والأمم والأجناس، ولا علاقة لهم جنسيًّا أو أنثربولوجيًّا بفلسطين. وهم حين يغتصبونها ليخلُقوا منها إسرائيل الصهيونية، فليست هذه عودة الابن القديم، بعد رحلة طالت عَبْر الزمان والمكان، لكنها غزو الأجنبي الغريب بالعدوان!

أما «شخصية مصر» الذي يُعَد — في تقدير الكثيرين، وهو كذلك بالفعل — أهم كتب جمال حمدان، وإن أشفقتُ من التركيز عليه في التدليل — خطأ — على شوفينيةٍ مطلقةٍ في تفكير الكاتب … شخصية مصر عرض له العديد من الدراسات، وأخذ عنه الكثير من الباحثين، وقرأ عنه حتى القارئ العادي، بما يجعل من إعادة تناوله تزيدًا لا مبرر له … لكن الذي يمكن تأكيده — بثقة — أن شخصية مصر عودة بالدراسات العربية إلى الاجتهادات الموسوعية التي كانت قديمًا، ثم ذوَت أو تلاشت في زماننا الحالي. إنه عملٌ أكاديميٌّ موسوعي بكل ما تعنيه الكلمة. ستهمل المكتبة العربية الكثير والكثير من ثمار مطابعها في المستقبل القريب، والبعيد، لكن «شخصية مصر» ستظل معلمًا أساسيًّا مهمًّا من المستحيل إغفاله، مثلها مثل الطبقات الكبرى لابن سعد، والأغاني للأصفهاني، ورسالة الغفران للمعري، وحي بن يقظان لابن طفيل، وديوان المتنبي، وكُتب سيبويه، وإتحاف أهل الزمان لابن أبي الضياف، وخطط علي مبارك، وعبقريات العقاد، والتاريخ المصري القديم لسليم حسن، وخطط المقريزي، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وبدائع الزهور لابن إياس، وملفات السويس لمحمد حسنين هيكل، وألف ليلة وليلة، ودراسات عبد الرحمن الرافعي التاريخية، وحياة الحيوان للدميري، وتاريخ الجبرتي ومروج الذهب للمسعودي، وعصر الموحدين والمرابطين لعبد الله عنان، والسيرة النبوية لعبد الحميد السحار، واجتهادات الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومستقبل الثقافة في مصر لطه حسين، وتاريخ الفن لثروت عكاشة، ومقدمة ابن خلدون، ورحلة ابن بطوطة، وغيرها (أبدي تحفظًا، فأشير إلى أن هذه الكتب قد أملَتها الذاكرة).

توقيت صدور «شخصية مصر» (يوليو ١٩٦٧م) له دلالةٌ مهمة، ربما كانت مقصودة، وربما فرضَتها المصادفة، لكنه — في الحالَين — من أخطر الكتب التي صدَرَت، تعبيرًا عن الشخصية المصرية في السنوات الأخيرة.

الكاتب أستاذ جامعي، فأداته العلمية الأكاديمية، والكاتب أيضًا مهموم بما يجري في الأرض المصرية بوجدانٍ قلق، يحرص ألا يخفيه. تزاوج — مطلوب — بين العقل العلمي، والعاطفة الوطنية. جمال حمدان، أستاذ الجغرافيا، يجد أن الجغرافيين أقدَر على التعرُّف إلى الشخصية الإقليمية لبلد — أو منطقة — ما، واكتشافها. وإذا كان شفيق غربال في «تكوين مصر»، وحسين فوزي في «سندباد مصري»، وحسين مؤنس في «مصر ورسالتها» … إذا كان هؤلاء — وهم مؤرِّخون — قد حاولوا دراسة الشخصية المصرية، فمن الطبيعي أن يكون للجغرافي كلمتُه في هذا المجال. والكتابُ — كما يقول مؤلِّفه — محاولةٌ لرسم صورةٍ عريضة، لكنها دقيقةٌ بقَدْر الإمكان، لشخصية مصر، لطبيعتها الجغرافية الواضحة، والمحدَّدة المعالم من ناحية، ولتاريخها الممتد الحافل من ناحيةٍ أخرى.

•••

لعل التجانس الطبيعي هو الصفة الجوهرية الأولى في البيئة المصرية؛ فالوادي كله وحدةٌ فيضية، وما قد يبدو اختلافًا، فهو في الشكل والمساحة، وليس في التركيب والنسيج. لا انقطاع أو تغيُّر فجائي ما بين الوادي الفيضي وسهل الدلتا، فالوادي يبدأ من الجنوب ضيقًا مختنقًا، لا يجاوز عَرضُه مائة متر فقط. ثم يتزايد ويتسع، ليتبدَّى الصعيد شقًّا غائرًا، بينما الدلتا مروحةٌ مبسوطةٌ مسطَّحة، تتحلل — في النهاية — إلى مجموعةٍ مصغرةٍ متراصة من «الصعيدات» أقرب إلى ورقة شجر مقلوبة، عروقها هي الضفاف المرتفعة، وأرضيتها هي المجاري المائية. أما فروق المناخ، فهي فروقٌ فصلية قبل أن تكون فروقًا إقليمية. وهذا التجانُس المُناخي يعكس أثَره في البيئة الزراعية، فهي — على طولها — إقليمٌ زراعيٌّ واحد.

فإذا التفَتنا إلى أعمال الإنسان، أو «الثوابت الحضارية» من قرًى ومدن، كتعبيرٍ مباشر عن التفاعل المادي بين البيئة والإنسان … فلعل السمة الواضحة التي تُطالِعنا هي التجانُس القاعدي … فالقرية المصرية نسخةٌ تكاد لا تتغير على امتداد الوادي، فيما عدا استثناءاتٍ قليلة في البيئة الساحلية والبُحَيرية في أقصى الشمال، وقرى النوبة ذات الطبيعة الخاصة في أقصى الجنوب. الأمر نفسُه بالنسبة للمدن؛ فباستثناء القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الساحلية، فإن المدن الإقليمية المصرية — البنادر — تبدو متشابهة، بحيث لا تكاد تنفرد مدينةٌ ما في شخصيتها عن بقية المدن.

يبقى التجانُس البشري. وكما يقول الكاتب، فإنه لا يمكن القطع — علميًّا — بشأن الأصول الجنسية الأولى لسكان مصر في عصور ما قبل التاريخ، وبخاصة بعد أن أثبتَت الأبحاث الحديثة افتقار الكثير من النظريات إلى الحقائق العلمية التي تنأى بها عن كونها شبهاتٍ أو تأويلات. ومع ذلك، فإن الحقيقتَين الأساسيتَين اللتَين تعلُوان فوق كل الاجتهادات، أن المصريين القدماء شعبٌ أصيل في مصر، وأن احتمالات الاختلاط قلَّت مع — ومنذ — بداية عصر الأسرات التاريخية.

وللصحراء دورٌ بارز في بقاء، أو ثبات، النمط المصري؛ فبرغم مركزية الموقع، كأنه قلبُ دوامةٍ بشرية، فإن الصحراء لعبَت دومًا دور «ماصَّة الصدمات»، أو «المصفى» الذي غربل الموجات الداخلة، وكسَر حدَّتها. وإذا كان النطاق الساحلي الشمالي، ابتداءً من سيناء حتى مريوط، ممرًّا عبوريًّا مطروقًا، فمن الراجح — كما حدث في عصور ما قبل التاريخ — أن كثيرًا من الموجات التي انتقلَت من غرب آسيا إلى شمال أفريقيا، اخترقَت دون أن تمسَّ جسم مصر تمامًا، أو أن تؤثِّر فيه بكثيرٍ أو قليل.

أما الغزوات، فقد كاد تأثيرها يقتصر على المدن فقط، وفي موجات «ذكرية» محدودة. ومن بين ما يقرب من ٤٠ موجةً دخيلةً في امتداد التاريخ المصري، لا تُوجد سوى ثلاث هجراتٍ حقيقية هي: الهكسوس والإسرائيليون والعرب. وقد تلاشت الهجرتان الأُولَيان تمامًا بعد حين، بينما بدأَت الهجرة العربية بأعدادٍ محدودةٍ كغزوةٍ ذكرية، ثم ما لبثَت أن تحوَّلَت إلى هجرةٍ واسعة النطاق، مختلطة النوع. لم تكتفِ بالاستقرار على أطراف الصحراء وحواف المدن، بل دخلَت إلى داخل الريف، وتملَّكَت الأرض الزراعية، لكن العرب من أصلٍ قاعديٍّ واحدٍ مشترك مع العنصر المصري؛ فالقرابة الجنسية قائمة منذ ما قبل التاريخ. ولعله يمكن القول بأنه إذا كانت العرب قد عرَّبَت مصر لغويًّا ودينيًّا، فقد مصَّرَتْهم مصر حضاريًّا وماديًّا. أما الزعم بأن الموجة العربية الإسلامية أزاحت الأساس القبطي إلى جيب الجنوب المغلق في الصعيد، فمن المؤكَّد — والكلمات لجمال حمدان — أن الانتشار العربي كان أشبه شيء بعملية الانتشار الغشائي الأسموزي؛ عملية تغلغُل لا زحزحة، وتخلخُل لا إزاحة.

وإذا كانت البلاد التي تعتمد على الأمطار لا تحتاج إلى حفر تُرع ومصارف، أو إقامة جسور وسدود، فضلًا عن عدم تحكُّم العامل البشري في حبس المطر، أو التخطيط لتوزيعه، فإن التنظيم الاجتماعي هو المقابل الذي يضعُه النيل للاستفادة من مياهه … فبغير ضبط النهر بواسطة السدود والقناطر والخزَّانات، يتحوَّل النيل إلى شلالٍ هادرٍ مُكتسِح، وبغير التحكُّم في توزيع المياه يفرض قانونُ الغاب شريعته؛ ومن ثَم فإنه على الفرد أن يخضع لإرادة الكل، وعلى الجميع، أن يتنازلوا عن الكثير من الحرية لسلطةٍ أعلى، توزِّع المياه وفق خططٍ محدَّدة، ليُضاف إلى عنصرَي الماء والفلاح عنصرٌ ثالث، هو الحكومة. وقد انعكسَت تلك الأبعادُ الثلاثة على تطوُّرات الحياة المصرية منذ فجر التاريخ؛ فالواسطة بين الماء والفلاح إما أن يكون عادلًا، وإما أن يكون ظالمًا، وإن كان الانحراف إلى الظلم والطغيان أقربَ وأسهَل؛ ذلك لأن التحكُّم في الماء يتصل — بصورة مباشرة — بالتحكُّم في الأرض: «أَعطني أرضَك وجهدَك أُعطِك أنا مياهي». وتحدَّدَت صورة الحكم — من خلال ذلك — في ملكيةٍ أوتوقراطيةٍ طاغية، تعتمد على بعض القوى المستفيدة، وفي مقدِّمتها الإقطاعيون ورجال الدين ورجال الإدارة، بينما الطرف المقابل لهؤلاء جميعًا هو البروليتاريا الفلاحة التي لا تملك نسج أحلام غدها.

تحدَّدَت صورة المجتمع بالتالي، في طبقةٍ تملكُ وتحكُم، ولا تعمل، وطبقةٍ محكومةٍ لا تملكُ وتعمل. وكان الكرباجُ هو رمز سيطرة الطبقة الأعلى على الطبقة الأدنى، منذ الفراعنة إلى العصر الحديث. ويطرح الكاتب النتيجة التي توصل إليها: «لا يعرف تاريخَ مصرَ من يُنكِر أن الطغيانَ والبطشَ من جانب، والاستكانة أو الزلفَى من الجانب الآخر، هي من أعمق وأسوأ خطوط الحياة المصرية عَبْر العصور، فهي في الحقيقة النغمة الحزينة الدالَّة في دراما التاريخ المصري، ولا ينبغي أن نخجل، أو أن تأخذَنا العزَّة، فنهرب، أو نُكابِر في هذه الحقيقة، كما أن من الخطأ أن ندع هذه الحقيقة تترسَّب في نفوسنا كعقدةٍ تاريخية.»

الكلمات — كما ترى — قاسية، وتختلف مع اجتهادات لكُتَّابٍ آخرين، ومن حق الكاتب ما دمنا «نقرؤه» أن نعرض — بأمانة — ﻟ «كلماته» … لكن الكاتب لا يُغادِر الموقع الحزين، قبل أن يشير إلى حقيقة — تهمنا! — فالتاريخ «لا يعدم أن يُسجِّل انتفاضاتٍ عدة على الطغيان، لعل أهمها ثورة إيبور — إيبو وير — في الدولة القديمة، لكنها انتكَسَت كما انتكَسَت — فيما بعدُ — حركاتٌ تحرُّرية وثوراتٌ على الظلم والاستعباد. وفي القرن الأخير، كانت التطورات الحديثة والحضارة المعاصرة عواملَ مذيبةً بطبيعتها للرواسب القديمة؛ ولهذا تكاثَرَت الانتفاضاتُ التي نجح آخرها «ثورة يوليو». ثم يضيف الكاتب — إضافة تؤكِّد في النفس الثقة — «إن مصر ليست أرض الطغيان، كما يتوهَّم البعض، وإن كان هذا قد طغى على أجزاءٍ من تاريخها بعض الوقت. لا، وليست أرض النفاق هي، وإن كانت قد حدثَت بعض انحرافاتٍ اجتماعيةٍ عابرة، وليست وداعة الفلاح ضعةً واستكانة، كما أن نظامَه وطاعتَه ليست خوفًا وطمعًا، وإنما هي جميعًا خامة الحضارة والتقدُّم، أنشأَها النيل، ولكن شوَّهها الإقطاع. وقد بقي النيل، وزال الإقطاع.» وربما تُعَد المركزية من أبرز ملامح الشخصية المصرية — طبيعيًّا وإداريًّا — فالوادي والدلتا يخلِّفان مركزيةً حادة، عند التقائهما في منطقة القاهرة، خاصرة الوادي، وخاصرة الصحراء أيضًا. إن كل الطرق تؤدِّي إلى القاهرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن دائرةً نصف قطرها ٧٥ كيلو مترًا، ومركزها القاهرة، تضُم الآن ٣,۲۸ في المائة من مجموع سكان مصر؛ فهي مركز الثقل البشري في البلاد، ومن هنا تُوصَف القاهرة بأنها «زرٌّ ماسيٌّ يُمسِك بمروحة الدلتا، ويد الصعيد». وارتكازًا إلى الحقيقتَين السابقتَين، تأتي المركزية الوظيفية، أو البيروقراطية. فالبيروقراطية المركزية عنصرٌ أصيل في مركَّب الحضارة المصرية، تستطيع أن تجد بعض ملامحها — قديمًا — في تمثال الكاتب، وتمثال شيخ البلد، وصور كبار الموظَّفين على النقوش والآثار القديمة، وتستطيع أن تجد بعض ملامحها — حديثا — في تورُّم الجهاز الإداري، بدءًا بوزارات الزراعة والري والأشغال والمالية والداخلية، وانتهاءً بالمهندس والعمدة وشيخ البلد والمُستَاح والصرَّاف. ويتحوَّل المجتمع، مجتمع المدينة ومجتمع القرية على السواء، إلى مجتمعٍ محكومي، يخضع لمركزية التكنوقراطية التي تمارس عملها في القاهرة. ولكن ملامح الصورة الثابتة تأخذ سبيلها إلى التغيُّر، كنتيجةٍ طبيعيةٍ لتحوُّل الإنتاج إلى الملكية العامة، ومحاولة اتباعِ الاشتراكية نظامَ عمل، وأسلوبَ حياة.

وقبل أن نُجاوِز هذه النقطة، فلعله من المهم أن نشير إلى أنه إذا لم تكن مصر هي القاهرة، فإنها تُعَد — في أقل تقدير — ضاحيةً شاسعةً لعاصمة البلاد. بل إن الكاتب لا ينسب إلى الصدفة اسم البلد على العاصمة في العُرف الدارج؛ فالقاهرة هي مصر كما تسمِّيها غالبية الشعب المصري. ولعله من المهم أيضًا أن نشير إلى أن سقوط العاصمة في أيٍّ من فترات تاريخها، استتبَعه — حالًا — سقوطُ مصر كلها، فيما عدا فترة احتلال الهكسوس، لكنه استثناءٌ مُسرِف في القدم.

فما الحل؟ … كيف نساعد على تغيير الصورة شبه الثابتة لمركزية القاهرة، حتى تتيح لمواهب بقية الأقاليم، الجغرافية والطبيعية، أن تنمو وتؤدِّي دورها بفعاليةٍ مطلوبة؟

يرى الكاتب أنه قد آن الأوان لكي تُعلَن القاهرة الكبرى — وربما الاسكندرية الكبرى كذلك — مدينةً مغلقةً للتنمية مدة عشر سنوات، أو خمس سنوات بصورةٍ مؤقتة، فلا يُضاف إلى حجم وظائفها جديد، سوى ما يفرضه التعويض والصيانة، تمهيدًا لتحويل شرايين الحياة إلى الأقاليم بامتداد الوادي، حتى تتخلَّق فيها ومنها أقطابٌ للتنمية، مؤثِّرة وفعَّالة.

لقد أنشأَت مصر أول إمبراطورية في التاريخ، ثم تدهورَت أحوالها، فأضحت مستعمرةً تابعة، أطول مستعمَرة عرفَها التاريخ، من حيث الامتداد الزمني. وصل المد المصري إلى ما بعد نهر الفرات، إلى تخوم الأناضول. كما سيطر على كل سواحل وجزر شرق البحر الأبيض المتوسط. ثم بدأَت مصر تفقد إمبراطوريتها الآسيوية بالتدريج، ثم سقطَت للغزو الليبي، فالغزو الإثيوبي، فالغزو الآشوري … لكن القرن السابع قبل الميلاد، يشهد محاولةَ قوةٍ أخيرة، حين خرج «نخاو» بمحاولاته البحرية؛ مشروع قناة البحرين، وبعثة الدوران حول أفريقيا بحرًا. وظلت مصر تحتفظ باستقلالها الخطر — والتعبير لجمال حمدان — حتى بدأَت قصة أولى المستعمرات عمرًا؛ جاوزَت القاهرة صفتَها الأولى كعاصمة لمصر، وجاوزَت مصرُ نفسها، الدور الذي كانت تُمارسه داخليًّا وخارجيًّا، ووجدَت القوى القديمة المتصارعة أن المفتاح في ذلك البلد ذي الموقع الاستراتيجي الخطير؛ مصر. تكشَّفَت الأبعاد الحقيقية لموقعها بعد التوسُّعات التي طرأَت في العالم. أصبحَت موقعًا غاية في الأهمية، مفتاحًا جغرافيًّا لكل أبواب الشرق والغرب «قل لي من يسيطر على مصر، أقل لك من يسيطر على العالم». وكان من الحتمي — إزاء فارق القوة النسبي بين مصر والقوى العديدة من حولها — أن تفقد استقلالها … لكن الظاهرة التي تُطالِعنا خلال ذلك كله، أنه برغم افتقاد مصر لاستقلالها، فإنها كانت تتحرَّك في الميدان الدولي كقوةٍ لها وزنُها الخاص، ولا ينقصها الحكم الذاتي. وربما فقدَت استقلالها لأسرةٍ حاكمةٍ أجنبية، لكنها تتصرف — من داخل تلك الأسرة — كدولة مستقلة، وتبرُز فيها خصائصُ شخصيتها الاستراتيجية الكامنة: «ولا مفَر لهذا من أن نعُدَّ مسألة السيادة، أو التبعية، في تاريخ مصر الإسلامية، مسألةً نسبية، أو خاصة، تستلزم الاستدراك أو التحفظ في الحكم.» إن افتقاد مصر لاستقلالها، لم يحُل بينها وبين أن تصبح «صخرة مقاومة» تتحطم عليها كل الغزوات التي استهدفَت الشرق العربي، بل إن مصر — إبان عصرها الطويل كمستعمرة — قامت بدوراتٍ توسعية، لا تقل طموحًا ولا قوةً عما عرفَت في أروعِ مراحلِ عصرها الإمبراطوري الغابر؛ ذلك لأن الوجود المصري الاستراتيجي كان يفرض نفسه، سواء كانت مصرُ قائدةً أم تابعة.

والآن، هل يظل الموقع الجغرافي الاستراتيجي، القناة، والموارد الطبيعية والبشرية، هدفًا للمحاولات الغازية الاستعمارية؟

الكاتب يرفض ذلك المنطق المشبوه، الذي يجعل من نقطة قوَّتنا نقطة ضعف، ومن أكبر رصيدٍ لنا خسارةً علينا. والحق أن ضمان الموقع الخطير يتطلب موضعًا غنيًّا. وبتعبيرٍ آخر، فإن «مكانتنا هي محصلة مكانِنا ومكانتِنا على حد سواء، ذلك مفتاح الماضي، مثلما هو دليل المستقبل.»

ولعلنا نجد في تلك الحقائق ردودًا مناسبة على الدعاوى بعزلة مصر.

لقد كانت الحضارة الفرعونية — ابتداءً — قلب المنطقة الحضارية في العالم القديم، وهي — فيما بعد — لم تقصر حتى عن الاستعارة الحضارية. وبرغم أن مصر تمثَّلَت الثقافة العربية تمامًا، فإن النهضة الحضارية العربية كانت تتضمَّن — في نسيجها — خيوطًا مصريةً واضحةً ورائعة. واللهجة المصرية هي أقرب اللهجات العربية إلى الاستقامة والاعتدال، والأزهر هو سادن الدعوة الإسلامية منذ ألف سنة، وظلت مصر — ولا تزال — خليةً نابضة، متحرِّكة، في قلب العالمَين العربي والإسلامي.

ثم تبقى قضية انتماء مصر، القديمة والمعاصرة. إن لموقعها أبعاده المتعددة؛ الآسيوي، الأفريقي، النيلي، المتوسطي. وقد طالما دعت بعض الأقلام إلى الاقتصار على بُعدٍ واحد، دون أن تُعنى بتداخُل الأبعاد بعضها في بعض، بل وتفاعُلها في بوتقةٍ واحدة، يتشكَّل منها ذلك النسيجُ الرقيقُ الدقيقُ الصلب؛ الشخصية المصرية.

والاستمرارية هي التعبيرُ الأدقُّ للشخصية المصرية، بمعنى التراكُمية، وليس التكرار.

أما انتماء مصر العربي، ودورها العربي كعاصمةٍ وزعامة، فلعلَّه من المهم أن نشير إلى خلاصة نتائجِ اجتهاد الكاتب في هذا المجال: «إن مصر، أو أيًّا من الدول العربية ليست أمةً كاملة في ذاتها ومستقلة، وإنما هي شعبٌ من أمة، وشُعبة من أنتيمٍ واحد، هو العالم العربي كله. وإذا صَح أن نقول إنه لا وحدة للعرب بغير مصر، فربما صَحَّ أنه لا زعامة لمصر بين العرب بغير ذلك.»

أخيرًا، فإنها فرعونية بالجد، عربية بالأب، بجسمها النهري قوة بر، وبسواحلها قوة بحر، تضع قدمًا في الأرض، وقدمًا في الماء. بجسمها النحيل تبدو مخلوقًا أقل من قوى رسالتها التاريخية الطموح، تحمل رأسًا أكثر من ضخم، بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب، تقع في الأول، وتواجه الثاني، تكاد تراه عبر المتوسط. تمد يدًا نحو الشمال، وأخرى نحو الجنوب. تُوشِك بعد هذا كله، أن تكون مركزًا مشتركًا لثلاثِ دوائرَ مختلفة، بحيث صارت مجمعًا لعوالمَ شتَّى؛ قلب العالم العربي، واسطة العالم الإسلامي، حجر الزاوية في العالم الأفريقي.

هذه هي مصر.١

•••

جمال محمود حمدان. من مواليد ٤ فبراير ۱۹۲۸م. حصل على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من جامعة ريدنج البريطانية. وكان بوسعه — عقب تقديم استقالته — أن يهاجر إلى الغرب، أو يعير موهبته لجامعةٍ عربية. مجدي يعقوب ومحمود وهبة وفاروق الباز وأحمد زويل وعشرات غيرهم من العلماء المصريين، فرُّوا من التعقيدات الإدارية بالهجرة، وإن ظلُّوا على صلتهم الوجدانية — والمادية أيضًا — بوطنهم. لم تكن مشكلة جمال حمدان مجرد تعقيداتٍ إدارية، لكنها كانت ظلمًا قاسيًا استلبه جهده العلمي، ونسبه لغير صاحبه. مع شدة الصدمة، فإنه لم يفكِّر في الهجرة، ولا في الإعارة، واختار النفي داخل الوطن، وإن تجاوزَ سلبية قراره في مواجهة الظلم. حوَّله — بإرادةٍ ذكية — إلى إيجابيةٍ مطلقة، بالتفرُّغ للتحصيل العلمي والتأليف. إذا كانت الجهة العلمية التي يتبعُها قد ظلمَتْه — للأسف — فإنه يستطيع أن يتجه بعلمه إلى الملايين، من خلال مؤلَّفات تُعنَى بمناقشة هموم الوطن، والعالم.

لم يجتَر المرارة، ولا اعتَزل الحياة بصورتها الكلية، ولا اختار الجلوس على القهاوي، أو الثرثرة في القعدات الخاصة والعامة، يُعلِن — مثل الآخرين — أن فساد الإدارة ألجأه إلى الصمت؛ فهو قد صمت عن الناس، اعتزلهم … لكنه ظل على حوارٍ دائمٍ معهم بواسطة أعماله التي تلتقي في أهميتها. أُسقِط ذلك السخفَ الذي جاء على لسان شقيقَين له من أن عزلته فرضَتها قصةُ حبٍّ فاشلة، طرفُها الآخر فتاةٌ إنجليزية أحبَّها أثناء بعثته الدراسية في انجلترا. أُسقِطه، وأطرح السؤال: لماذا اختار جمال حمدان عزلته؟

ثمَّة سببان: أولهما أن الجامعة رقَّت أستاذًا مساعدًا آخر إلى درجة الأستاذية قبله، وكان جمال حمدان يثق أنه — لولا المحسوبية — أجدَر بالأستاذية من زميله. أما السبب الآخر، فهو أنه قد فوجئ بأن إدارة الجامعة قد قدَّمَت في الترقية زميلًا له، أقل منه علمًا، وأكثر ولاء — أو هكذا ادَّعى! — للنظام القائم (وصل الزميل — فيما بعدُ — إلى منصب الوزير!) وقدَّم جمال حمدان استقالته، وحمل أوراقه أو كتبه، وأغلق عليه باب شقته، لا يزور، ويرفض زيارات الآخرين ما عدا استثناءاتٍ قليلة للغاية! لكن الكاتب الصحفي أحمد أبو كف يطالعنا بسببٍ ثالث — أثق أنه الأدق — فقد انتُدب جمال حمدان إلى فرع جامعة القاهرة بالخرطوم (١٩٦٣م) وأثناء إلقاء محاضرة له، قاطعه طالب بالقول: هذا الكلام سمعناه من قبلُ. وتكرَّر الأمر في محاضرةٍ تالية. ولم يصدِّق جمال حمدان نفسه، فالمحاضرات من أبحاثٍ له، سرقَها أستاذٌ جامعي منه، وسبقَه إلى الخرطوم، وقدَّم جهد حمدان العلمي في محاضرات، باعتبارِها جهدَه هو! … وعاد جمال حمدان ليُحاسب الأستاذ الزميل، وفوجئ بأن «الأستاذ» من ذوي النفوذ، وأنه «مسنود». وفشلَت كل محاولات جمال حمدان لإثبات حقه، فقدَّم استقالته من الجامعة، ومضى إلى شقته الصغيرة بالدور الأول في البيت رقم ٢٥ شارع أمين الرافعي، المتفرِّع من شارع المساحة بالدقي. أغلقها عليه، وفي وجوه الآخرين، لا يلتقي إلا بالقلة القليلة من الأقارب والأصدقاء. لم يكن موقفًا انعزاليًّا بقَدر ما كان موقف عزلة، كالصوفي الذي يعتزل للعبادة، بعد أن ينفض نفسه من هموم الحياة. وقد نفض حمدان رأسه من الطارئ والمتغير، وقرر أن يفرغ للدراسة والبحث والكتابة «مش عايز حاجة غير التأليف والكتابة»، وإن صرَف معظم انشغاله إلى مصر الماضي، والحاضر، واستشرافات المستقبل. أثق — كما قلتُ — أن ذلك هو السبب الصحيح؛ فقد كان محور أحاديثَ كثيرة، استمعتُ إليها عقب اعتزال جمال حمدان، لأعضاء في هيئة التدريس، تابعوا «المأساة» عن كثَب. لم يُشِر إلى السببَين الأوَّلَين أحدٌ ممَّن تابعوا الحكاية من بداياتها، وحدَّدوا الخصوم والمتواطئين بالاسم. ورأيتُ ردَّ فعلٍ شخصيًّا من جمال حمدان، عندما طلبَت سهير القلماوي من يحيى حقي أن يزيد مكافأة مقالاته في «المجلة». ورفض حمدان تقاضي المكافأة. اعتبرها محاولةً ساذجةً لاسترضائه!

ويطرح صديقُنا فاروق عبد القادر السؤال: «هل كان يمكن إنجاز مثل هذا السِّفر الشامخ — شخصية مصر — دون أن يأخذ صاحبه حياته مأخذ الجد الكامل؟ … وليس «شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان» عمله الوحيد، لكنه هو الأبقى والأشهر، وفي مثله يُنفِق صاحبه العمر. لكن الرجل مضى في الطريق إلى نهايته القصوى … أكان ضروريًّا هذا الإيغال في الانصراف عن العالم، فيقضي أيامه وسنواته وحيدًا، لا يزور ولا يُزار، ولا يأبه بطارق، وقد تخلى عن الزوج والولد وسائر مسرَّات الحياة، وعاش في ذات المكان الفقير بالغَ الفقر، يعيش حد الكفاف، وربما ما هو دون الكفاف؟» … ويجيب فاروق عبد القادر على سؤاله: «لسنا نعرف — على وجه اليقين — حقيقة الأسباب التي دفعَت به إلى هذا السلوك، لكننا نعرف أنه تعرَّض لصراعٍ غيرِ متكافئ، استُخدمَت فيه أسلحةٌ يأباها أثناء عمله بالتدريس في كلية الآداب. ولستُ أظن أستاذًا جامعيًّا واحدًا لم يعرف مثل هذا الموقف، أو شبيهًا به … فهل يكفي كي يترك الجامعة إلى الأبد، ثم يمضي نحو إغلاق أبوابه من دون العالم، بابًا وراء باب؟ … كان هذا اختياره الذي يتسق وذاته الحسَّاسة، وتكوينه النفسي الخاص. وهل يكلِّف الله نفسًا إلا ما تسع؟ … لكن هذا الاختيار ذاته بعض أسباب غزارة إنتاجه العلمي.»٢
لقد غادر جمال حمدان عالمنا بعد أن قدَّم درسًا، ليت مدَّعي الثقافة، والعمل الثقافي — وما أكثرهم في حياتنا! — يفطنون إليه. عاش الرجل حياته في شقةٍ متواضعة، وتواصلَت حياته منذ استقالته من الجامعة في ضائقةٍ مالية، فلم يحاول أن يجعل العمل الثقافي وسيلةً لمكسبٍ مادي أو اجتماعي. لم يحاول أن يسطُوَ على موقعٍ قد يكون الآخرون أجدَر بالأداء فيه، ولا سعى بالوشاية، أو استعدى السلطة، أو تزلَّف، أو نافق، أو حاول الحصول على ما ليس له فيه حق. حتى أثاث شقَّته، فاجأ الجميع — عندما رأوا الصور للمرة الأولى — بأنه غاية في التواضع، وربما الرثاثة. ومع ذلك، فقد ظل الرجل إلى لحظة الرحيل، يقرأ ويناقش ويكتب. أصدر العديد من الكتب، وكان يُعِد لكتبٍ أخرى تالية. اعتزل المجتمع، وإن لم يعتزل الحياة. رفض التمسُّح بأفعال الآخرين، فلا يضيف إلى المجتمع ما يستطيع إفادتَه به. كان رفضُه المجتمع — كما قيل بحق — رفضًا إيجابيًّا. يقول في حوارٍ صحفي: «أعترف أني في اليوم الذي أخرج فيه، أقابل ناسًا، لا أكتب حرفًا واحدًا. أقرأ نعم. أفكِّر ربما. لكنني لا أستطيع الكتابة. وهذا هو السبب الأساسي للعزلة التي اخترتُها.»٣

كان رأيه أنه لم يكتب إلا واحدًا على عشرة من خطَط ومشروعات حياته، وأن أحسن كتاباته هي التي لم يكتبها بعد «وحقيقة أنا غير راضٍ عن كل ما كتبت» … لكنك تجد في كتاباته أسلوبًا تحدثيًّا، ذكيًّا ومداعبًا، لا يقعِّر المعلومة، ولا يلجأ إلى التعبيرات الضخمة أو الشامتة. إنه يخاطب قارئًا يتصوره، اعتزل الجلوس إليه خارج منفاه الاختياري، وإن ظل على صداقته له، وحواره المتصل به، من خلال كتاباتٍ أحسن اختيار القضايا التي تناقشها، وأنها هي ما يجب أن يناقشه، ويتعرَّف إليه، قارئ زماننا الحالي (بعد أن أنهيتُ روايتي «الخليج»، قدَّمتُ لها — دون أن أطيل التفكير — بهذه الكلمات: «إلى جمال حمدان: اخترتَ النفي إلى الداخل. وكنا — في منفانا الخارجي — نتابع معطياتك، فيزداد تقديرنا لك، وإشفاقنا على أنفسنا» … وصدَرَت الرواية وفي مقدِّمتها هذا الإهداء). جمال حمدان واحدٌ من الذين جعلوا مصر داخلهم. ليست شيئًا منفصلًا عن ذواتهم، يتعاملون مع قضايا الوطن ومشكلاته، باعتبارها قضايا ذواتهم ومشكلاتهم. ثمَّة مشتغلون بالعمل العام، يقف اهتمامهم بالقضايا المصرية عند حدود الوظيفة، وربما المقابل. مصرُ عملٌ يفيدون منه، فلا يشغلهم ناسُها وعللُها وطموحاتها. هل ينشغل البائع الذي تتعامل معه بظروفك الشخصية؟! … أنت «زبون» يتحدَّد التعامل معك في إطار التجارة، يقبل ويبتعد، ينشغل ويهمل، يبذل ويمنع، بقَدْر الفائدة التي يتوقعها منك!

ثمَّة آخرون يعانون اللحظات المصرية باعتبارها لحظاتهم الشخصية، يألمون ويأملون، ويسعَون إلى التخلص من الفاسد والمتخلِّف، وإلى الإضافة والتطوير، باعتبار ذلك كله جزءًا أصيلًا من همومهم الشخصية، من نسيج حياتهم نفسها. جمال حمدان واحدٌ من هؤلاء. تستطيع أن تنسبه إلى الرجال المشاعل الذين وضعوا مصر داخلهم، بدءًا بالحكيم الفرعوني إيبو وير، وبلا انتهاء، مرورًا برفاعة الطهطاوي وعبد الله النديم وأحمد عرابي والشيخ عليش وسيد درويش وطلعت حرب ومحمد فريد ونبوية موسى والقمص سرجيوس ومصطفى النحاس ومحمود سعيد وسلامة موسى ومحمود مختار ونجيب محفوظ وجمال عبد الناصر ويحيى حقي وسيد عويس وأمين الخولي وشهدي عطية الشافعي ووسيم خالد وعصام الدين حفني ناصف ومصطفى مشرفة ومحمد عبد المجيد وبيرم التونسي وحسين فوزي وجاذبية سري ومحمود طاهر لاشين وإنجي أفلاطون وفتحي رضوان، وأحمد خيري سعيد وأحمد بهاء الدين ويوسف صديق، وعشرات غيرهم.

•••

أثق أن الإهمال الذي عاملنا به جمال حمدان حيًّا، واللامبالاة التي ودَّعناه بها، سيتحوَّلان — في المستقبل القريب — إلى اهتمام ومتابعة، وتأكيد على الدور الذي أداه في حياتنا الثقافية، من خلال عشرات الدراسات لكُتَّاب شغلهم «الطارئ» عن «المقيم»، و«المتحول» عن «الثابت»، و«المتغير» عن «الدائم».

لقد وضع جمال حمدان مؤلَّفاته المتميِّزة، لتكون مصادرَ رئيسيةً في دراساتنا، وفي فهمنا لحقائق الأوضاع في هذا العالم. إنها تحتاج إلى استيعابٍ وفهمٍ ومحاولة للإفادة، لتنعكس بتأثيراتٍ إيجابية، ليس على مستوى الدراسات الأكاديمية وحدها، ولا على حياتنا الثقافية فحسب، وإنما على مستوى حياة المجتمع بعامة.

والحق أنه كان أولى بكتابة هذه الكلمات، أو — بالتأكيد — ما هو خيرٌ منها، واحد من اثنَين؛ يحيى حقي وأحمد بهاء الدين. إنهما الصديقان اللذان مثَّلا واحتَين لجمال حمدان في هجير الظروف القاسية التي ألجأَته إلى اعتزال الآخرين. اعتبره يحيى حقي أستاذه، مع أنه — حقي — كان يكبره ببضعة أعوام. وكتب عنه — بطيبته الذكية — مراتٍ كثيرة، واستضافه في تقديمه لكتاب ديزموند ستيوارت «القاهرة» الذي ترجمه يحيى حقي. يتحدث حمدان عن ترجمة حقي بقوله: «أما عن الترجمة والتعريب، فلسنا بحاجة — أحسب — إلى الوقوف عندها طويلًا أو قصيرًا، وهي من قلم واحدٍ من سادة الأدب والفكر وعمالقته المعدودين في مصر، ذي سلطان عظيم على لغتَي الأصل والنقل معًا، بل وعلى الثقافتَين العربية والغربية على حدٍّ سواء، وعلى أرفع المستويات. ثم إن أمر هذه الترجمة متروكٌ للقارئ نفسه؛ فهي مكافأته الحقيقية — كما أثق — في هذه الرحلة الشائقة. وحسبي هنا أن أشهد مخلصًا أنني قطعتُ شوطًا كبيرًا في مطالعة النص، وأنا أظنه تأليفًا، ودون أن أفطِن إلى أنه عملٌ مترجَم، وهذه ولا شك أكبر شهادة لأي ترجمة ومترجم.» وقد طال تقديم جمال حمدان للكتاب — القاهرة — فكاد يصل إلى نصف صفحات الكتاب. عُني فيه أساسًا بدراسة المكان، بما يدفعني إلى القول — باطمئنان — أن ذلك التقديم المطوَّل عن شخصية القاهرة، كان هو الدافع، أو المدخل، لكتابه الموسوعي الذي أصدره — بعد ذلك بسنوات — في كتابٍ صغير، ثم في موسوعةٍ متعددةِ الأجزاء هي: «شخصية مصر».

أما أحمد بهاء الدين، فإن المرض اللعين ألزمَه الصمت، في وقت كانت مصر تحتاج فيه إلى ثقافته ووعيه وذكائه وجرأته وموضوعيته. وقد كانت تلك الصفات باعث اختيار جمال حمدان له صديقًا شخصيًّا من بين مئات المثقَّفين الذين تمنَّوا صداقة حمدان، لكنه اختار الحياة في عزلة داخل جزيرته المتمثِّلة في شقته الصغيرة، فلم يكن يأذن إلا لاثنَين فقط — أكرِّر: اثنين فقط — من بين كل المثقَّفين — ما عدا أفراد أسرته بالطبع — في التردُّد عليه، هما يحيى حقي وأحمد بهاء الدين.

•••

جمال حمدان ليس صوتًا ضائعًا في البرية. إنه القيمة التي نهملها ما دامت بالقرب منا، أو في أيدينا، فإذا غابت، فإننا نفطن إليها، وإلى ما كانت تمثِّله، وتتضح لنا — متأخرًا — أبعاد العبقرية التي كانت حاضرة بيننا … لكننا انشغلنا بالزائف والزاعق والمبهر، وبالحصول على مواقع قد يكون الآخرون أجدَر بها منا. كذلك الذي يعترض سيارة مطافئ، أو سيارة إسعاف، ليصل، قبلها، إلى جلسة مع أصدقائه على القهوة.

ومعذرة لرداءة التشبيه!

الأنباء، ٢٧ / ٤ / ١٩٩٣م (مع إضافات)

هوامش

(١) نشرنا هذ العرض لكتاب «شخصية مصر» في جريدة «المساء» ۷ / ۱ / ۱۹۷۳م.
(٢) روز اليوسف، العدد ٣٣٨٥.
(٣) آخر ساعة، ٢٠ / ٨ / ١٩٨٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤