تمهيد

(١) العلو في أيامنا

كلمة العلو١ (الترانسندنس) عريقة في الفلسفة، وُضعت عنها الكتب والمراجع، وردَّدتها الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وامتدت من الفلسفة والتصوف إلى الأدب، أو بالأحرى إلى ما يُكتب عن الأدب. هي اصطلاح نحتته اللغة اللاتينية في العصر الوسيط، ولكنه لا يزال غريبًا على اللغة الطبيعية الشائعة، ولا يزال مَثار القلق والارتباك في اللغات الأجنبية. صحيح أنه يَرِد أحيانًا على ألسنتنا أو تجري به أقلامُنا، ولكن مفهومه محير، ومعانيه متعددة، حتى لَيوشِكُ الاتصال الحي به أن يكون أمرًا مستحيلًا أو ميئوسًا منه. إن «الموضوع» الذي يشير إليه — إن جاز القول بأن له موضوعًا أو أننا نُحس شيئًا عنه — قد فقدَ معناه في زمن يحاول جاهدًا أن يبتعد عنه؛ زمنٍ تُسيطر عليه الآلة، ويسوده التكنيك، ويتملكه جنون السرعة والتسوية والسطحية والثرثرة والشمول. نحن إذن بعيدون عن العلو، وللبعد معانٍ عديدة؛ فقد نكون بعيدين عن شيء، ولكننا نتحرك نحوه أو نحاول الاقتراب منه، وقد ننصرف عنه ونزداد مع كل خطوة بُعدًا عنه، ولن يكفي في هذه الحالة أن نقلل المسافة التي تفصلنا عنه، بل لا بد أن نغير اتجاهنا بأكمله، ونبذلَ الجهد الصادق للرجوع إليه والاقتراب منه. إن التمهيد لهذه الرجعة، وإيقاظَ الإحساس بمشكلة العلو في نفوسنا؛ هو مهمة هذه الصفحات.

ولكن ما الضرورة التي تدعونا إلى هذا؟ أهي مسألة علمية أو «أكاديمية» نسوِّد عنها الصفحات ونتتبع تاريخها وأسبابها ونتائجها ومختلِفَ معانيها؟ لو كان الأمر كذلك ما استحق العناء، إنما الأمر يتصل بشيء أكبر وأخطر؛ يتصل باستعادة شيء فقدناه؛ شيءٍ نسميه الحرية والحقيقة والواقع والشخصية.

لم يعُد أحد في عالمنا يهتم بالعلو، ولن تشتعل الحرب بسببه بين الأفراد أو الأمم، لكننا نحيا في عالم يصف نفسه بالعالم الحر. والحرية في معناها الحق من معاني العلو، وفكرة الشخص والشخصية لا تنفصل عن فكرة الحرية؛ لأن الشخصية تعني المجال الذي نكون فيه أحرارًا حريةً مطلقة، وهذا معناه أيضًا أن نكون مسئولين مسئوليةً مطلقة. هذه الحرية لن تُكتسب إلا عن طريق العلو، وكرامة الشخصية وقيمتها تعتمد عليها وتكمُن فيها. لا أمل في حرية ولا حقيقةٍ ولا واقع ولا شخصية؛ بغير العلو. لا أمل في أي شيء يُضفي على الحياة قيمة ومعنًى ويجعلها جديرةً بأن تُعاش.

(٢) تلاشي العلو وغيابه

لكن الأمر ليس بسيطًا بالطبع، فالحرية والشخصية أصبحت الآن أمورًا مشبوهة تدعو للريبة والشك، والخطر يُحدِق بنا من الخارج والداخل على السواء، والآلية تسيطر على حياتنا اليومية، وتقتحم وِجداننا وأحلامنا وأخص أمورنا، والدولة الشمولية الحديثة تهدد فرديتنا وحريتنا وشخصيتنا، والأساس والجذور نفسُها معرَّضة للخطر، إننا نعيش اليوم في عصر مختوم بختم واحد؛ هو تلاشي العلو، والتلاشي غير النقص والغياب، فلو أن الأمر اقتصر على غيابه أو نقصه، لشعرنا بالحرمان منه والحاجة إليه؛ ولَأحسسنا على كل حال بوجوده، حتى ولو تعذر علينا بلوغه، ونيتشه مَثل واضح على هذا، فتحمُّسه الفظيع في حربه على الميتافيزيقا نابع من إحساسه بالعلو؛ وإن كان علوًّا سلبيًّا. لقد ظل على صلة به على الرغم من إنكاره له وحربه عليه، ولكننا اليوم لا نقدر حتى على الحرب أو الإنكار. لقد غاب عنا الإحساس بغياب العلو، وأصبحت هذه هي السمة الغالبة على حياتنا اليومية أو حياتنا الفكرية. وصارت تلك اللحظات النادرة التي يتاح فيها للوجود الفاني أن يتصل بالعلو أبعدَ من الأحلام.

إن غياب العلو هو نوع من وجوده؛ لأنه قد يحركنا للسعي إليه؛ ولهذا فإن فيه عنصر إيجاب. أما اختفاؤه أو تلاشيه فسلبٌ كله؛ لأنه يؤدي بنا إلى النهاية التي ليس بعدها نهاية؛ أي: يؤدي بنا إلى حيث يختفي الإحساس بالاختفاء نفسه! إذ نحن لا نتحرك نحوه ولا نبتعد عنه، بل تتقطع كلُّ الأسباب بيننا وبينه، ويُمحى في أنفسنا كلُّ وعي به.

وغياب العلو يبعث على القلق، ولكنه قلق المشتاق إلى الأمن والراحة الأخيرة، قلقُ مَن يسعى على الطريق إليه.

أما تلاشي العلو فيبعث على القلالكلمة ماتت؛ إذ لم تبقَ هناكق الأجوف العقيم؛ قلقِ المغمورين في زحام المشاغل الصغيرة والتوافه السخيفة التي لا معنى لها؛ لأن المعنى لا يأتي إلا من العلو أو العالي، ولأن معنى العالم — كما يقول فتجنشتين في عبارته العميقة الواردة في رسالته المنطقية الفلسفية — لا بد أن يكون خارج العالم.٢

قد ندرك تلاشيَ العلو من بعض التغيرات والظواهر التاريخية، ولكنه هو نفسَه ليس ظاهرة تاريخية، إنما هو — بالمعنى الدقيق — شاهدٌ على توقف التاريخ واختفاء كل وجود تاريخي.

ليس اختفاء العلو شيئًا يمكن أن يُحسَب حسابه قبل وقوعه أو يعوَّض عنه بوسيلة من الوسائل الفنية؛ لأنه بعيد عن كل صنعة أو فن أو توجيه. وليس معنى هذا أنه يمكن أن يصيب الفرد منا وكأنه ضربة قدر أعمى، بل الأَولى أن نقول: إن الفرد — في علاقته بالعالي أو علاقة العالي به — يقدر على كل شيء ولا يقدر على أي شيء. قد يبدو في هذا تناقضٌ ومفارقة، ولكن أسلوب التناقض والمفارقة هو الأسلوب الوحيد الذي نستطيع أن نتحدث به عن الحرية بمعناها الحق؛ أي: بمعناها المستمَد من العلو.

تلاشي العلو واختفاؤه معناه كذلك اختفاء الواقع واختفاء الحقيقة، ما معنى هذا القول؟ هل معناه أن الأشياء تختفي؟ نعم ولا؛ لا؛ إذا قصدنا بالشيء معناه القريب؛ أي: الشيء الثابت الجامد الغليظ؛ فالصاروخ الذي ينطلق نحو القمر ويهبِط بالمركبة على سطحه لترسل الكاميرات صورَه إلى الأرض؛ قد أخفى عنا القمر الحقيقي. صحيح أن القمر قد أصبح أقرب منالًا؛ أصبح موضوعًا للملاحة الجوية والإعلام والدعاية الشاملة، ولكنه كذلك لم يعُد هو القمر الذي ألهم الشعراء والعشاق والفنانين؛ لم يعد هو القمر الحقيقي. لنوضح هذا بأبيات من شاعر حديث أحس بالواقع والحقيقة التي نقصد إليها؛ يقول «رلكة» في قصيدته «تجربة الموت»:

لكن حين ذهبت، نفذ إلى هذا المسرح،
من ذلك الشق الذي مضيت منه،
شريط نحيل من الواقع، أخضر؛ أخضر واقعي
ضوء الشمس الواقعي، غابة واقعية.
وهذه الأبيات القليلة تتحدث بنفسها عما نقصده، وإن كانت منتزعةً من سياق القصيدة الكاملة.٣

إن تلاشي الواقع معناه ببساطة أن الأخضر لم يعُد أخضر، ولن يُجديَنا أن نمد الأيدي للألوان الصارخة لنخلق لونًا صناعيًّا زائفًا؛ فالأخضر الحقيقي لن يأتي عن هذا الطريق، ولا عن طريق أية صورة ملونة لن تخطئ الأذن صرختها ولو كانت صمَّاء. فكلما مددنا الأيدي للواقع، هرب منا في اللحظة نفسها التي نظن أننا قبضنا عليه؛ لأن الأخضر لا يمكن أن يصبح أخضر بحقٍّ عن طريق الصنعة البشرية، بل لا يمكن أن يصبح كذلك إلا عن طريق العلو ومن خلال العلو وحده.

صحيح أن العلو يبدو شيئًا مجردًا، كما يبدو الأخضر شيئًا حيًّا ملموسًا بعيدًا عنه كلَّ البعد، لكن مهمة الفكر الحقيقي — وهذا ما نبهنا إليه كيركجارد — هي أن يجعلنا نُحس المجرد إحساسًا حيًّا ملموسًا.

لم يعُد الأخضر أخضر، أو لم يعد هناك اخضرار في اللون الأخضر. هذه الاستعارة توضح ما نقصده بقولنا إن الواقع لم يعد واقعًا، أو إن هناك فرقًا بين الغياب والتلاشي؛ فحين تسقط الأوراق عن الأشجار في الخريف ونراها تقف ذابلةً في الشتاء، يمكننا أن نقول: غاب الأخضر؛ لأننا نُحس بالحنين إليه؛ نعلم أنه سيرجع في الربيع. أما حين يرجع الاخضرار في الربيع وتكتسي الأشجار ثوبها البديع، وننظر إليها، فلا نحس ولا نتأثر، فعندئذٍ نكون قد فقدنا الإحساس بالاخضرار؛ عندئذٍ يتلاشى الأخضر من عيوننا وقلوبنا، ولو كان يلوِّن جسد الطبيعة كلها.

هذا المثل يصدق على أمثلة أخرى عديدة، ولنضرب مثلًا آخر بالكلمة: كثيرًا ما نقول في حياتنا اليومية: إن الكلمات تُعْوِزنا للتعبير عما نشعر به، ولكن كلما كان الموضوع الذي نريد أن نعبر عنه موضوعًا حقيقيًّا وأصيلًا، زاد إحساسنا بأن الكلمات تغيب عنا. أما حين يتكلم الناس ويبلغون من الفصاحة أقصى مداها دون أن يقولوا شيئًا، فعند ذلك لا نكتفي بأن نقول إن الكلمة غابت بل لا بد من القول إنها تلاشت. يقول الشاعر العجوز كارل فولفزكيل٤ في ديوانه «غناء من المنفى»:
حتى لو كانت عندكم كلمات ألف،
فالكلمة ماتت؛ الكلمة.

الكلمة ماتت؛ إذ لم تبقَ هناك كلمة في الكلمة.

(٣) العلو (الترانسندنس) في التراث الفلسفي

الترانسندنس — أي: العلو — كلمة تكونت في لاتينية العصر الوسيط، ثم أصبحت تدل على فكرة من أهم الأفكار الفلسفية في ذلك العصر نفسه. ولم تفقد الكلمة أهميتها في العصر الحديث، بل زادت واشتدت حتى دخلت في أسماء المذاهب الفلسفية نفسها. ويكفي أن نتذكر فلسفة كانط «الترانسندنتالية» أو نتذكر المثالية الألمانية.

الكلمة إذن — لو نظرنا إلى مكانها في تاريخ الفلسفة كله — كلمة تدل على مصطلح لم يتكون إلا في وقت متأخر نسبيًّا، ناهيك عن عدم استقراره حتى الآن، على الرغم من تردُّده اليوم على لسان كل مشتغل بشئون الفكر والفلسفة! هل معنى هذا أنه لم يَرِد في الفلسفة اليونانية؟ إن الفلسفة اليونانية في عصرها الكلاسيكي الزاهر — أي: في عهد أفلاطون وأرسطو — وكذلك في العصر الذي سبقه — أي: في فجر الفكر اليوناني قبل سقراط — لم تعرف المصطلح الذي نتحدث عنه. غير أن «الترانسندنس» (العلو) نفسه أصبح الموضوع الرئيسي الذي يدور حوله تفكيرُ آخر الفلاسفة العظام الذين نطقوا باللسان اليوناني — وأعني به أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠ق.م) — إن «العلو فوق كل شيء» (هيبربايناين بانتا)٥ هو المشكلة الأساسية التي تشغل فكره، وهو العاطفة التي توجهه وتسري فيه. غير أن أفلوطين، الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، دوَّن أفكاره وعلمها في روما اللاتينية على نحو يتراوح بين السر والعلن؛ ولهذا يجوز لنا أن نقول إن لغته اليونانية أقرب من بعض الوجوه إلى لاتينية ذلك العصر الذي عاش فيه منها إلى يونانية الفلاسفة الإغريق؛ في فجر الفلاسفة أو في عصرها الكلاسيكي.

ولكن هل معنى هذا أن الفلسفة اليونانية الأصيلة لم تعرف العلو (الترانسندنس)؟ الجواب بالنفي؛ فإن جهلها بالمصطلح والمفهوم أو بأي تعبير قريب من الكلمة اللاتينية؛ لا يترتب عليه بأي حال من الأحوال أن تفكيرها كان خاليًا من العلو أو بعيدًا عنه. إن العكس هو الأصح؛ فلعل السبب في أنها لم تجعل العلو موضوعها الرئيسي هو أن العلو نفسه قد حددها بصورة حية مباشرة؛ بحيث لم تستطع أن تنفصل عنه أو تتأمله من مسافة بُعدٍ كافية. إن عدم تفكير الفلسفة اليونانية — في فجرها المبكر أو في ظُهرها الزاهي — في العلو قد يكون دليلًا على قربها الشديد منه.

وكيف نتصور فكرًا يصف الاندهاش بأنه أصل الفلسفة٦ ويشبهه بالربة إريس٧ الشابة الساحرة ذات الجناحين، ورسول الآلهة إلى البشر؛ كيف نتصوره خلوًّا من العلو؟ إن هذا لا يصدق على الفلسفة اليونانية في عهدها الزاهر فحسب، بل يصدق أيضًا على فجرها الشاعري. يدل على هذا قول أرسطو في كتابه الأخلاق٨ إلى نيقوماخوس — في سياق حديثه عن طاليس والفلاسفة القدامى — إنهم قد عرَفوا أشياءَ مذهلة وعسيرة وهائلة، وإن كانت في رأيه الخاص أشياء عقيمة؛ لأنهم لم يجِدُّوا في البحث عن الخيرات الإنسانية. ولكن رأي أرسطو في حاجة إلى تدبر، فالمعروف أن طاليس (قرابة ٦٢٣/٦٢٤–٥٤٦/٥٤٧ق.م.) قد جعل الماء أصل جميع الأشياء. فإذا سلمنا بأن هذا الماء «الحي» ليس بماء أسطوري، ولا هو الماء الذي يجري في المواسير، ولا الماء الذي ترمز له الكيمياء بعلامة يد٢ أ، وإنما هو «ماء تأملي مجرد» — على نحو ما يقول هيجل — إذا سلمنا بهذا كله، فلا بد أن تكون فكرة طاليس هذه عن الماء — وهي أقدم ما وصل إلينا من تراث اليونان الفلسفي — قد نبعت من فكر متعالٍ. لا بد أن تكون كذلك، إلا إذا نظرنا إليها نظرةً سطحية وجردناها من كل تفكير فلسفي، وجعلناها نوعًا من التعميم الساذج لبعض الملاحظات الطبيعية الساذجة.
ويزداد الأمر وضوحًا عندما نصل إلى أنكسمندر (٦١٠ / ٦٠٩–٥٤٧ / ٥٤٦ق.م.) الذي يتوسع في الفكرة السابقة، ويصوغ أقدم عبارة فلسفية حقيقية اختلف الشراح حولها ولن يزالوا مختلفين: «أصل الموجودات هو اللامحدود»،٩ ففكرة اللامحدود (أو اللامتعين)، التي تنطوي في الواقع على نفي مزدوج، تدل بغير شك على أن أنكسمندر يفكر تفكيرًا يرتفع فوق كل موجود ومحدود؛ أي: يعلو فوق كل ما له شكل.
ونمضي خطوةً أخرى إلى قلب المشكلة عندما تبلغ فكرة الفلسفة في التراث اليوناني أعمق معانيها وأتمَّ صورها، في المحاورات التي كتبها أفلاطون في المرحلة الوسطى من تطوره الفلسفي، ويبلغ التعبير عن المشكلة ذروته في محاورة المأدبة؛١٠ وبخاصة في نهاية الحديث الذي تنفرد به الكاهنة والعرافة العجيية «ديوتيما» التي تقف من سقراط موقف المعلم الحكيم. فهذا الحديث هو المركز الذي تدور حوله المحاورة بأكملها، وهو شيء فريد لا نظير له في كل أعمال أفلاطون، إنه يبسط رأي العرافة الحكيمة في رؤيا الجمال نفسه، وتسري فيه عاطفة الوجد التي لا تخفى.١١
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فأفلاطون يؤكد في الجمهورية — على لسان سقراط — أن الخير «ليس وجودًا، ولكنه يسمو على الوجود في القوة والكرامة.»١٢ والخلاف بين الشرَّاح حول هذه العبارة أمر مشهور، ولكن لا ريب في أنها تشير بوضوح إلى أن الخير وراء الوجود، كما أن النص الأصلي يردد حرف «فوق»١٣ أكثر من مرة، ولا تخفى دلالة هذا الحرف على العلو.
ويصدُق هذا أيضًا على الخطة الطويلة التي تتدفق من فم سقراط الذي تتلبسه عاطفةُ الحماسة في محاورة فايدروس وقت الظهيرة، عندما يصف المكان الذي توجد فيه المثل بأنه «فوق السماء»، وعندما يفيض به التحمس فيقول إن أحدًا من الشعراء الأحياء لم يستطع أن يتغنى به، ولن يستطيع أحد أن يتغنى به الغناءَ الذي يستحقه.١٤

لم يخلُ الفكر اليوناني إذن من العلو، لا في عصره الزاهر ولا في فجره المبكر، ولكنه لم يتوصل كذلك إلى فكرة محددة عنه. إن العلو مرتبط عنده بالوجود في مجموعه، وهو لذلك يظل قطعةً منه أو شيئًا يسري في عروقه، فالجمال الذي أشرنا إليه في ذلك الموضع الشهير من المأدبة يبقى شيئًا ذا شكل، كما يبقى الخير في الجمهورية مثالًا، مهما تميز عن بقية المُثل أو شغل منها مكان الصدارة والتفوق.

ولكننا نصل لأول مرة إلى العلو بمعناه العميق الأصيل مع «الاتجاه إلى الباطن١٥ الذي تنفرد به فلسفة أفلوطين، وتتميز به بصورة حاسمة في تاريخ الفكر اليوناني الذي بلغ معه ذروة نضجه وذبوله في وقت واحد. ولكن الاتجاه للباطن هو النزعة التي طبعت الروح المسيحية بطابعها وميزت العالم الغربي المسيحي بأسره. تُعبر عن هذا أكمل تعبيرٍ وأجملَه كلماتُ القديس أوغسطين: «الحقيقة تسكن في باطن الإنسان.»١٦ ويبلغ العلو مضمونه الحق في الفكر المسيحي في عصره الوسيط، ويجرب أعمق تجاربه في تصوف ذلك العصر.

وتتخذ مشكلة العلو (الترانسندنس) وضعًا جديدًا مع تأسيس الفلسفة الحديثة التي أصبحت ميتافيزيقا الذاتية عند ديكارت ومن جاءوا بعده، ثم تتطور ويزداد التفكير فيها عمقًا وحدَّةً على يدَي كانط. فلم يكتفِ كانط بأن وصف فلسفته بأنها فلسفة ترانسندنستالية — أيًّا كانت المعاني التي سنفهمها من هذه التسمية — بل لقد أثبت بوضوح لا مزيد عليه وعمقٍ لا مزيد عليه أيضًا أنه لا يمكن أن تكون هناك «موضوعات» متعالية (ترانسندنستالية)، وأن العلو أو الترانسندنس لا يمكن أن يكون «موضوعًا» أو شيئًا بأي حال من الأحوال، بل لا بد أن يعلو فوق عالم الظواهر أو عالم الموضوعات والأشياء. وسوف نناقش هذا فيما بعد، ولكن الذي يهمنا الآن هو أن كانط لم يُلْغِ العلو ولم يَنْفهِ ولم يقل باستحالة تجربته والتفكير فيه، كما ظلمه فريق من الشراح والباحثين فيما زعموه عنه.

ثم أصبحت مشكلة العلو بعد كانط من الموضوعات الرئيسية التي تناولتها الفلسفة المثالية الألمانية، وارتبطت عند أصحابها بمجموعة أخرى من المشكلات التي تدور حول فكرتهم عن المطلق، وهو الأمر الذي نرجو أن نتناوله في الصفحات القادمة بشيء من التفصيل.

وجاء كيركجارد، مفكر الوجدان والباطن على الأصالة، فوقف من هيجل والمثالية المطلقة موقفَ المعارض الذي جرفت أمواجَ عاطفته الجياشة المشبوبة أسوارُ التأمل والتجريد. ورفع راية «العلو» وجعلها مقولة وجودية خفاقة بالصدق الرائع والعاطفة الحية. ومنذ ذلك الحين وهي لا تكفُّ عن التحليق، وتتخذ مع مفكري الوجد أشكالًا مختلفة؛ سواءٌ في فكر الوجود عند مارتن هيدجر أو بصورة أوضح في فلسفة الوجود عند كارل ياسبرز.

نتبين من هذا العرض الخاطف أن مصطلح العلو (الترانسندنس) ومفهومه ينوءان بحِمل تاريخي ثقيل، بل إننا لنترفَّقُ بهما الآن فندخر للصفحات القادمة أحمالًا أخرى أثقل وأشد! ويكفي أن يتفكر القارئ قليلًا في تلك المعاني العديدة التي توحي بها كلمة «ترانسندنستالي»؛ سواء في فلسفة العصور الوسطى أو في الفلسفة الحديثة والمعاصرة التي توشِك أن تعبر به عن كل شيء، وإن لم يبقَ منه في معظم الأحيان إلا كمثل ما بقي لدى الممثِّل من الأصباغ التي يتزين بها ليجمِّلَ وجهه أو يخفيه!

ولكن هذا العرض الموجز المخلَّ يظهرنا على أية حال على أن كلمة العلو، أو الترانسندنس، من الناحية اللغوية لا تزال كلمةً مجردة وغريبة وبعيدة، بل إنها لتبدو من الناحية التاريخية كلمة مضطربة غامضة ذات معانٍ عديدة مختلطة بعضها ببعض. ولكن لا الجانبُ المجرد ولا الجانب التاريخي هما اللذان يُهمَّاننا في هذا المجال؛ فالأمر الذي يعنينا ونود أن نؤكده على هذه الصفحات؛ هو — إن أذن القارئ بهذا التعبير — أن يعود الأخضر أخضر؛ أي: أن يرجع الواقع واقعًا بالمعنى الذي سنتناوله على هذه الصفحات. ومهما يكن فَهمنا للواقع، فهو عندنا «الهذا» و«الهنا» و«الآن». ولكن كيف يمكن أن يصبح الأخضر أخضر في الواقع والحقيقة عن طريق العلو؟ وإذا تسنَّى هذا، ألَا يكون من الخير أن نستبدل بكلمة العلو (الترانسندنس) كلمةً أخرى تكون أوضح وأقرب إلى اللغة الطبيعية الشائعة؟

لا مشاحة في الأسماء، كما يُقال، فنحن أحرار في اختيار الكلمة التي نرضاها أو التي تُناسب موضوعنا، ولا شيء يمنعنا، من الناحية المنطقية البحتة، أن نستبدل كلمةً بكلمة، أو تسميةً بأخرى؛ بشرط أن نُحدد ما نريده بها، ولكن اللغة المعتادة ستضيِّق حدود هذه الحرية المنطقية، فليست الكلمات «لافتات» نلصقها بالأشياء كما تُلصق الأتيكات على الزجاجات، بل الأقرب للصواب والواقع أن الكلمة هي التي تُظهِر حقيقة الشيء. والتسميات والكلمات غير المناسبة لا تجد في العادة طريقها إلى اللغة الطبيعية المعبرة عن الواقع والأشياء، ومهما أثارت في بعض الأحيان من الاهتمام بجديتها وطرافتها، فلا تلبث اللغة أن تَلفِظها وتحكم عليها بالموت والنسيان.

والغريب أن كلمة العلو «الترانسندنس» لم تلقَ هذا المصير المحزن، وعلى الرغم من أنها كلمة منحوتة، ولا مكان لها في اللغة الشائعة المألوفة؛ فلم يزل يَشِعُّ منها ضوء ساحر أخَّاذ، ولم يزل يتردد منها رنين شجيٌّ حنون.

سنحتفظ بالكلمة إذن ونحافظ عليها؛ لكي يتم التفاهم بيننا حول ما نريد قوله على هذه الصفحات.

ويبدو أنه لا مفر لكل مَن يريد أن يتكلم لغة خاصة به؛ أي: لغة جديدة تعبر عن عصر محدد وعن فرد محدد في هذا العصر؛ لا مفر له من أن يستمد كلماتِها الدالةَ من لغة قديمة.

وهذه معضلة قديمة يعرفها القول والفكر الفلسفي، فالتفلسف لا يخرج في حقيقته عن هذا المعنى؛ إعادة النظر في فكرة الواقع وتحديد مفهومها. غير أن اللغة العادية قد لا تستجيب للتحولات التي تطرأ على مفهوم الواقع من وجهة النظر الفلسفية والميتافيزيقية إلا بعد أن تتم هذه التحولات بعشرات بل ربما بمئات السنين. ويكفي أن نذكر مثلًا مشهورًا عن التحول الذي تم على يدَي ديكارت في معنى الذات والموضوع، فقد ظهرت التأملات سنة ١٦٤١م، ولكنها استعملت كلمتَي: ذاتي وموضوعي، بمعناهما التقليدي. أما التحول الحقيقي الذي طرأ على هذين المصطلحين بفضل كتاب التأملات، فلم يظهر في الحقيقة إلا في القرن الثامن عشر.١٧

وسبب آخر يجعلنا نحتفظ بكلمة الترانسندنس (العلو)؛ هو الإبقاء على استمرار التراث الفلسفي أو محاولة الرجوع إليه ووصله إن كان قد انقطع. واستمرار التراث أو اتصاله لا يعني أن «نتسلم» الموروث على ما هو عليه — فقد يتسلم الإنسان محلًّا تجاريًّا أو يتسلم السلطة مثلًا — وإنما يعني تجديده عن طريق الحوار الحي معه، فليس للحي بقاء إلا إذا جدَّد نفسه، وهل هناك أكثر حياةً من الفكر؟ وسيتيح لنا غموض كلمة «الترانسندنس» وتفرُّقُ معانيها — وهو أمر فرضه التاريخ — أن ندخل في حوار نقدي مع التراث؛ أعني أن نعرف إنجازاته ونتحرر من أخطائه، وإن كان التحرر من الأخطاء أشقَّ وأصعب، لأن من عادتها أن تتخفى وراء الأقنعة الزائفة، وتعشش في أفكار تبدو كأنها أوضح الأفكار وأبعدها عن الخطأ. وما أصعب أن نخلِّص الفكر من عاداته التي جرى عليها وسلَّم بها؛ لأن هذا يتطلب منه الجهد واليقظة التي لا تعرف النعاس!

أضف إلى هذا كله أن الحوار التاريخي مع التراث هو في معناه العميق حوار مع أنفسنا نحن. وربما أوحى لنا غموض كلمة الترانسندنس وتبلبلُ معانيها عبر التاريخ؛ أن نستبدل بها غيرها، ولكننا لن نكسب بذلك شيئًا؛ لأن علينا أن نبدأ بما انتهينا إليه؛ أعني أن نبدأ من هذا الغموض وهذه البلبلة نفسها، فالحق أن الغموض والتناقض والبلبلة التي أحاطت — وما زالت تحيط بالكلمة — لا تقتصر على المصطلح ولا على التاريخ، ولا ترجع لأسباب تاريخية، ولا تأتي من غفلة الفكر البشري أو كسله، وإنما هي انعكاس الغموض الأصلي الذي يحيط بكل فكر متناهٍ، ولا يفتأ يواجهنا ويستعصي على مداركنا كأنه سرٌّ خالد.

(٤) العلو واللغة

تنبه الدارسون في السنوات الأخيرة إلى الصلة الوثيقة بين اللغة والفكر. تبين لهم أن الكلمات ليست مجرد علامات تشير للأفكار، وأن الأفكار ليست موجودةً قائمة بذاتها ثم تأتي اللغة وتدل عليها؛ فالواقع أننا نفكر دائمًا في اللغة أو باللغة، وهي لهذا شاملة محيطة، شيء معطًى من قبل أو بالأحرى يعطي نفسه، ومن هنا كان سلطانها الهائل الذي لا يُحَد ولا يعرف مداه، وهذا ما يقلق الإنسان الحديث الذي يُريد أن يفرض إرادته على كل شيء، ويمد سلطانه إلى كل مكان، ولن يقف عند القمر والكواكب والنجوم! ولكن أقرب الأشياء إليه وألصقها به — ونعني به الكلمة واللغة — تهدد سلطانه على الدوام. ويبدو أن فلسفة اللغة في العصر الحديث لا تتميز بالخشوع أمام سر اللغة بقدر ما تتميز بالجهد الدائب؛ لإدراك هذه القوة الماكرة التي تتصف بها، وتحديد مجالها، وتسخيرها لخدمة الإنسان ومدِّ سلطانه. ولكن مهما يكن من أمر الصلة الوثيقة بين اللغة والفكر، ومهما يكن من أمر الارتباط الذي لا تنفصم عراه بين الكلمة والموضوع الذي تتحدث عنه، فإن الموضوع الذي نفكر فيه شيء، والكلمة التي تعبر عنه شيء آخر. وإن ما قاله أفلاطون في محاورة ثياتيتيوس على لسان سقراط؛ لَيصدُقُ اليومَ صِدقَه قبل ألفي سنة أو يزيد: «ليست الكلمة هي التي ينبغي أن تُقال، بل ينبغي التأمل في الموضوع الذي تسميه الكلمة.»١٨

من هنا ينبغي علينا أن نلاحظ أن الفكر الفلسفي، أي: الفكر المتعالي، يختلف عن الفكر المألوف في الحياة العادية اليومية، وفي مجال العلوم المتخصصة على السواء. ولا يرجع هذا لاختلاف الموضوع، بل يرجع، قبل كل شيء، إلى أن طريقته وأسلوبه مختلفان تمام الاختلاف. وإذا صح ما قلناه عن الاتصال الوثيق بين اللغة والفكر، فمعنى هذا أن اللغة الطبيعية المباشرة، وهي لغة التفاهم التي نستخدمها في حياتنا اليومية، لا بد أن يطرأ عليها تحول أساسي كلما أراد الفكر الفلسفي أن يعبر بها عن نفسه. وليس معنى هذا مرةً أخرى أن يضطر هذا الفكر إلى استخدام لغة جديدة غريبة، أو يلجأ إلى تعبيرات شاذة غير مألوفة، بل معناه أن الكلمات العادية التي تخرج من فم الفيلسوف ستتبدل وترتفع إلى مجال آخر، ويتحول معناها في معظم الأحيان تحولًا تامًّا؛ خذ مثلًا كلمة «العدم» في اللغة العادية و«العدم» في لغة الميتافيزيقا؛ إن العلاقة بينهما لم تنقطع تمامًا، وإلا ما أمكننا على الإطلاق أن نفهم ما يعنيه الميتافيزيقي عندما يتكلم عن العدم، ومع ذلك فإن ثمة هوَّةً عميقة تفصل بين المعنيين في كلتا الحالتين.

وإذا صح هذا الارتباط الوثيق بين اللغة والفكر، صح القول أيضًا بأن التحولات الأصيلة في الفكر الفلسفي لا تأتي من التعبير عن هذا الموضوع أو ذاك تعبيرًا مختلفًا عن المتقدمين — فذلك أمر ميسور — بل لا بد أن يأتي التحول من منهجنا أو طريقتنا في التعبير عنها؛ فطريقة أفلاطون في تناول المشكلات الفلسفية في محاوراته؛ طريقة متفردة لا تتكرر في الأدب العالمي كله، على الرغم من أن التراث الفلسفي من بعده يحفِل بالمحاورات الفلسفية؛ ذلك لأنها ليست مجرد أسلوب عرضي من أساليب القول، وإنما هي علامة جوهرية على أصالة فكره الفلسفي الفريد. ويصدق هذا أيضًا على غيره من المفكرين؛ يصدق على تأملات ديكارت وأخلاق سبينوزا وكتابات كيركجارد التي وقَّعها بأسماء مستعارة، وزرادشت نيتشه. وهذه المؤلفات كلها تظهرنا بوضوح على التحول العميق الذي يطرأ على اللغة العادية عندما تخرج من فم الفيلسوف أو يجري بها قلمه. فما أكثر ما تكون هذه التحولات شديدة الخفاء؛ بحيث لا نفطِن للتغيير الذي طرأ على الكلمات حتى نُمعن النظر في إيقاعها ونبرتها ومكانها من العبارة.

غير أن علاقة الفكر المتجه إلى العلو (الترانسندنس) باللغة والكلمة؛ لا بد أن تكون علاقةً محفوفة بالصعاب. ومرجع هذا إلى أن ما يصطدم به هذا الفكر يفلِت بطبيعته من اللغة والكلمة؛ بحيث يجد نفسه في موقف عسير لا يُحسد عليه؛ إذ يضطر للتعبير عن شيء يستعصي أصلًا على التعبير. والواقع أن تعبيرات كهذه: ما يستعصي على التعبير، ما لا يُقال، ما لا اسم له، ما يستحيل الكلام عنه … إلخ؛ كلها تعبيرات شائعة في لغة التصوف في الغرب والشرق شيوعَها في لغة الشعر والكلام العادي على السواء. والأغلب الأعم أن تُقال هذه التعبيرات في مواضع الحرج أو الحياء أو الرغبة في التهويل من شعور أو إحساس. فالسعادة التي لا سبيل للتعبير عنها سعادةٌ قوية جارفة، والألم الذي لا يمكن الكلام عنه ألم مبرِّح مُخيف، ولن تعدم في الأدب الحديث مثل هذا اللعب بأقوال تريد أن تقول ما لا يُقال وتسمِّيَ ما لا اسم له.

أما فيما نحن بصدده، فلا بد من أن نأخذ ما يستعصي على التعبير بمعناه الدقيق، لا لأن اللغة أفقرُ من أن تُفصح عنه، ولا لأننا نفتقد الكلماتِ أو الأدوات اللغوية التي تقرب معناه، بل لأنه يفلت من اللغة تمام الإفلات. صحيح أن آفاق اللغة آفاق شاسعة لا تُحد، ولكن سلطانها مع ذلك غير مطلَق، ولا نقصد من هذا أيضًا أن الإنسان أقوى من اللغة، أو أنه يستطيع أن يسخِّرها لخدمته بعقوله الإلكترونية الحاسبة أو بغيرها من الأدوات، بل نقصد منه أن هناك ما يعلو فوق كل شيء؛ أي: يعلو فوق اللغة وفوق الإنسان الذي يتكلم بها.

وعندما يصل الفكر إلى العلو، فلا بد أن تصل لغة التعبير إلى الحالة التي تفصح فيها عن عجزها عن التعبير، وهذا هو الذي حدث لأفلاطون عندما وصف اللغة في خطابه السابع المشهور بأنها من أضعف وسائل المعرفة، فقال في موضع منه إنها «غير قادرة على التعبير»، ثم لم يلبث أن ذكر في موضع آخر — عندما اقترب بفكره من العلو — أنه يستعصي على التعبير،١٩ ومع أن لغة التصوف تعرف أن موضوعها يستعصي على اللغة، بل وتعرف أيضًا أن تعبيرًا كهذا الذي تخلعه عليه حين تصفه بأنه «اسم لا يُسمى» تعبير بيِّنُ القُصور، فيندُر أن تجد لدى المتصوفين تأملاتٍ شافيةً عن علاقتهم باللغة، اللهم إلا في مواضعَ نادرة كتلك التي تصادفها مثلًا في الجزء السادس من الرسالة المنطقية الفلسفية لفتجنشتين. إن هذا الفيلسوف المنطقي الذي ينفرد بغرابته وعمقه يقول: «ما لا يستطيع الإنسان أن يعبر عنه، فعليه أن يسكت عنه.» كما يقول: إن على المرء أن يفرق بين ما يمكنه أن يتكلم عنه وما يعجز عن الكلام فيه.

وهذا هو مدار الفكر المتعالي والأساس الذي يقوم عليه، فلا بد من التفرقة الواضحة الجلية بين ما يمكن أن نتكلم عنه وما نعجز عن الكلام فيه. والحد الفاصل بينهما شيء لا يمكن التعبير عنه ولا الإشارة إليه، وإن كان في مقدورنا — عن طريق اللغة — أن نتبين أننا أدركناه ووقفنا عنده.

(٥) الفلسفة والعلو

ليس العلو (الترانسندنس) في الفلسفة أمرًا جانبيًّا ولا هو من مظاهرها الخارجية، بل هو بالأحرى ذلك الذي يجعل الفكر فلسفيًّا، تلك هي المقولة الرئيسية التي سنَبسِطها على الصفحات التالية، ويكفي الآن أن نقول إن الفكر لا يكون فكرًا فلسفيًّا لأنه مجرد مهما أوغل في التجريد وبلغ الغاية منه. والمنطق والرياضة بعيدان عن الفلسفة — إلا فيما ندر وعند فلاسفة معدودين — بُعد الفيزياء النظرية عنها. والبحث في أصول المعرفة العلمية ومناهج البحث في العلوم لا يجعل الفكر فلسفيًّا، مهما تنوعت المدارس والكتابات عن نظريات العلوم، ومهما تعارض هذا مع الرأي المستقر في الأذهان، فالفكر لا يكون فكرًا فلسفيًّا على الحقيقة حتى يعلو علوًّا جوهريًّا حاسمًا فوق موضوعه؛ من حيث هو موضوع؛ ولهذا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن تلاشي العلو (الترانسندنس) يترتب عليه بالضرورة تلاشي الفلسفة نفسها، وهي القضية التي سنحاول أن نتناولها في هذا الكتاب. فإذا جعلنا عنوانه فلسفة العلو (الترانسندنس)، فلا ينبغي أن يُفهم من هذا أننا نضع مصطلحَين إلى جانب بعضهما البعض كيفما اتفق، وإنما ينبغي أن يُفهم منه أننا نربط بين كلمتين أساسيتين ربطًا يشير إلى واجب أساسي يتلخص في أمرين: شرح معنى العلو (الترانسندنس) من خلال التراث الفلسفي، وإعادة الفلسفة إلى ماهيتها الحقيقية عن طريق التفكير في العلو (الترانسندنس).

والفلسفة كلمة يونانية، والترانسندنس كلمة لاتينية متأخرة، ومن هنا تبدوان متنافرتين، ولكن هذا التنافر ليس أمرًا عرضيًّا؛ لأنه يشير إلى الجذرين الرئيسيين اللذين تقوم عليهما الحضارة الغربية، وهما العصر اليوناني القديم والعصر اللاتيني الوسيط. وإذا أخذنا الكلمتين بمعناهما الدقيق العميق، جاز لنا أن نَعُد «الفلسفة» عنوانًا على الأول، وأن نجعل «الترانسندنس» عنوانًا على الثانية. وإذا كان ثمة فرقٌ بينهما، فهو أن الفلسفة شيء إغريقي؛ غربي على التخصيص، وهو ما لا نستطيع أن نزعمه بنفس القوة عن الترانسندنس.

وعنوان الكتاب يشير كذلك إلى الدائرة المحدودة التي التزمنا بها، فقد اقتصرنا على تناول الترانسندنس (العلو) من خلال التراث اليوناني الغربي والحضارة المسيحية الغربية، ولم نعرِض للدور الذي أسهم به الشرق في هذا المجال — وهو دور كبير يستحق بحثًا آخر يخرج عن الحدود المرسومة لهذا الكتاب.

وهناك أمر آخر التزمنا به، وينبغي أن نشير إليه في بداية هذا الكتاب، فالفلسفة — في تقديرنا وبالنظر إلى تسميتها الأصلية بهذا الاسم وتطورها الأساسي عبر العصور والأجيال — فعلٌ بشري متناهٍ، والمراد بالفعل هنا أنه يقوم في الفكر، ولعل هذا هو الذي فطِنت إليه اللغة العادية على لسان الرجل العادي حين أطلق كلمتَي الفيلسوف والمفكر بمعنيين مترادفين. فتناولنا للعلو أو للترانسندنس من منظور الفلسفة معناه إذن أننا نتناوله من منظور الفكر البشري المتناهي.

إن الفكر — أو اللوجوس٢٠ — كلمة عريقة رفيعة القدر في تاريخ الحضارة الغربية، وهي التي تميز في الحقيقة هذه الحضارة عما تقدمها من حضارات — كالحضارة المصرية القديمة على سبيل المثال — كما تميزها عن غيرها — كحضارة الصين أو اليابان.

إن تلاشي العلو أو اختفاءه — وهو سمة هذا العصر الذي نعيش فيه، كما هو منطلَقُنا في هذا الكتاب — أمر لا يمكننا حقًّا أن نتجاوزه أو نتغلب عليه بغير التفكير، ولكن يجب في نفس الوقت أن نتذكر — خلال قراءتنا لهذه الصفحات — أننا لن نستطيع أن نتجاوزه أو نتغلب عليه بالفكر وحده.

(٦) العلو واجب ورسالة

يحيط الشك والتساؤل في هذه الأيام بالعلو (الترانسندنس)، ولا يخلو الناس من عدم المبالاة به أو الوقوف منه موقفَ الرفض والإنكار؛ لهذا نرى من الضروري أن نوقظ الإحساس به في العقول والقلوب، وأن نرى معًا أن العلو، وإن أحاط به الشك والتساؤل كما قدمنا، فليس معنى هذا أنه أمر مشبوه أو بعيد عن التصديق، بل معناه أنه مشكلة حقيقية، وأنه واجب ورسالة تواجهنا بصفتنا بشرًا؛ أي: بصفتنا أشخاصًا عاقلة حرة متفردة. والواقع أننا لا نضع المشكلات والمهام والواجبات والمسائل الحقيقية، بل إنها هي التي تضعنا تجاه أنفسنا وواقعنا ومصيرنا وتاريخنا، وحل هذه المشكلات والواجبات أو محاولة حلها معناه أن نواجه أنفسنا فيها. إن المشكلات بالمعنى الأصلي الذي تدل عليه الكلمة اليونانية٢١ تدل على ما يوضع أمامنا، ومن هنا كانت مناقشة مشكلة العلو (الترانسندنس) مناقشةً لها ولأنفسنا معًا، بالمعنى الموضوعي والذاتي على السواء. ولهذا فليست مهمتنا هنا مهمة علمية أو نظرية فحسب، وإنما هي مهمة وجودية قبل كل شيء.
١  أرجو أن يلاحظ القارئ أنني سأحافظ على كلمة «العلو» التي تُعبر عن عملية العلو نفسها كما تُعبر عن العالي (الترانسندنت) الذي تتجه إليه تجربة العلو. وسوف أورد الكلمة الأجنبية، وهي الترانسندنس، كما دعا إلى ذلك سياق الكلام عن اشتقاقها اللغوي في التراث الفلسفي.
٢  انظر الرسالة المنطقية الفلسفية، ٦–٤١.
٣  انظر: الأعمال المختارة لرينيه ماريا رلكه. الجزء الأول، ص١٧٨، ١٩٤٨م. وسيرجع المؤلف إلى تحليل هذه القصيدة بأكملها في «العلو والواقع».
٤  كارل فولفزكيل (١٨٦٩–١٩٤٨م) شاعر يميل إلى الروح الصوفية والتغني بالأساطير، تأثر بالشاعر الرمزي الكبير ستيفان جورجه الذي كان صديقه، واشتركا معًا في تحرير كتاب من ثلاثة أجزاء عن الأدب الألماني.
٥  ύπερβαινειν πάντα راجع التاسوعات ٦ و٩ و١١.
٦  راجع أفلاطون تياتيتوس، ١٥٥د، وأرسطو، ما بعد الطبيعة، ٩٨٢ ب.
٧  Iris رسول الآلهة إلى البشر، والجسر أو القوس الذي يصل السماء بالأرض، وهي ابنة ثاوما وإلكترا ورسول هيرا زوجة زيوس وصاحبتها الحميمة.
٨  أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، ١٤١١ ب.
٩  انظر طبعة ديلزوكرانس لشذرات الفلاسفة قبل سقراط، ١٢ ب ١.
١٠  السيمبوزيوم، ومعناها الحرفي هو المشرب. أو المكان الذي يجتمع فيه الناس ليشربوا ويأكلوا.
١١  المأدبة. ٢١٠ 2loe وما بعدها.
١٢  الجمهورية (أو البوليتايا) ٥٠٩ ب.
١٣  ύπέρ.
١٤  فايدروس، أ، ٢٤٢.
١٥  الاتجاه نحو الباطن، إبيستروفي ὲπιαστροọὴ εὶς τὸ εῖσω إيس تو إيزو.
١٦  القديس أوغسطين. الديانة الحقة، ونص العبارة كما يلى:
(De vera religione c. 39 m. 72) In interiore homine habitat Veritas.
١٧  راجع رودلف أويكن، تاريخ المصطلح الفلسفي، ١٨٧٩م، طبعة جديدة سنة ١٩٦٤م، ص٢٠٣ وما بعدها.
١٨  ثياتيتيوس، ١٧٧ﻫ Theait 177e.
١٩  راجع الخطاب السابع ٣٤٣د/343d وما بعدها، ثم راجع أيضًا ٣٤٣ج/343c وما بعدها. والكلمات اليونانية التي يستخدمها هي على الترتيب: «إنه حقًّا لا يعبر عنه ῥητòν γὰρ oύόλμϖς ὲστιν üρρητoν».
ويؤكده في الموضع التالي بقوله: «أريتون، فيزيدها تصعيدًا.»
٢٠  Logos λόγoς.
٢١  حجة أو مشكلة Problem`τò πρόβλεμ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤