مقدمة

بقلم الأستاذ زكي طليمات

لعل هذا الكتاب — فيما أعرف — الأول من نوعه يدخل إلى المكتبة العربية، خاصًّا بالناحيتين العلمية والتعليمية لفنون المسرح وحِرفته، على الرغم من أن المسرح باللسان العربي وباللهجة العامية قام في مصر والشام منذ أكثر من مائة عام، بعد أن دخل إلى هذين القُطرين فيما دخل من وافدات الثقافة الغربية في منتصف القرن الماضي.

وخروج هذا الكتاب الأمريكي الأصل بعد ترجمته، دليل على أن مسرحنا العربي يستقبل مرحلة جديدة من مراحل التطور، تستهدف تقعيد ما هو مرتجل في نواحيه، وتقويم ما هو حائر بلا وضع، وإرساء أسس علمية نرجو أن يستكمل بها مقومات كيانه، وترد ما هو منحرف فيه.

حقًّا لقد سبق ظهورَ هذا الكتاب مصنفاتٌ أخرى، مترجَمة بدورها، تناولت أصول كتابة المسرحية، أو كشفت عن ماهية المسرح، أو رسمت تطور المسرحية في الخارج، هذا إلى جانب مترجمات كاملة لبعض من نفائس المسرحيات الأمريكية والأوروبية.

إلا أن هذا الكتاب ينفرد بمنهج آخر؛ إذ جمع بين دفتَيه جميع فنون المسرح وصناعاته، كما أحاط بأجهزته الفنية وتشكيلاته الإدارية، معالجًا إيَّاها معالجةً علمية وتعليمية.

فمن التعريف بدار التمثيل في أقسامها الرئيسية، إلى شرح رحبة المسرح في أدق تفاصيلها، إلى أستارها، إلى إضاءتها، إلى ملحقاتها.

ومن اختيار المسرحية إلى إخراجها، إلى تقديمها للجمهور.

ومن معالجة فن الممثل، وهو يؤدي دوره إلقاءً وإيماءةً وحركةً، إلى تخطيط وجهه، إلى زيِّه وهيئته.

ومن شرح ماهية إنتاج المسرحية، ولما يتجاوز أمره أن يكون فكرةً تُراود ذهن المنتج، إلى أن تدخل الفكرة حيز الإنجاز، لتطالع الجمهور بعد الدعاية لها، وفتح شباك بيع التذاكر لحضور حفلاتها.

كل هذا، وما يتفرع منه، عالجه مؤلف هذا الكتاب في إحكام، وفي أسلوب واضح وسرد شائق، تتخلله التفاتات بارعة، إذا لم تدعُ القارئ إلى أن يهوى المسرح، أو أن يكون فيه عاملًا، فإنها تمده بأزواد لا حصر لها من المعرفة، تجعله ذوَّاقة للمسرح، كما تدعوه إلى أن يضع موضعَ الاعتبار ذلك الجهد الجماعي المُضني الذي يجري وراء الستار قبل أن يرتفع.

ولم يكتفِ المؤلف، فيما أورده، بالتعاريف والنظريات، بل دعمه بالتطبيق، وجلاه بالنماذج — وذلك بالقدر الذي تسمح به صفحات الكتاب — وفي هذا ما يؤكد أن المؤلف مسرحي محترف استبطن دخائل المسرح بعد أن تمرَّس بها، فهو يعلم أن الفن في تطبيقه غير الفن في نظرياته، وأن النموذج في الفن أبلغ من القاعدة.

بهذا، ما أكثرَ وما أنفعَ ما نستخلصه من ثنايا ما يورده المؤلف!

نستخلص أن وراء فن المسرح علمًا، بل جملة علوم؛ وأن العمل فيه ليس ارتجالًا، أو من سوانح الفكرة العابرة، وشطحات الخيال.

وإن هذا العلم الشامل يقوم على معارف وتجارِب تبلورت على مرِّ السنين، ثم دخلها التخصص، بعد التفريق والتقسيم، وذلك بفعل التقدم الآلي والكشوف العلمية، فأصبح وراء كل قسم علمٌ قائم بذاته، منفرد بمقوماته وقواعده، ولكنه علم لا يقوم لذاته، وإنما يتعاون مع غيره وينساب ويتسق، من أجل تحقيق غرض واحد.

وإن المسرح فن تعاوني، على تعدُّد نواحيه وقطاعاته، ولا يمكن أن ينهض بأعبائه فردٌ واحد، مهما أُوتي من المعرفة والموهبة والجلَد والإصرار. وإذا صح أن المنتج هو المسئول الأول عن عمل جميع أجهزة الإنتاج، فإن لكل جهاز مسئولًا آخر، يقف وراء فئات من الفنيين والعمال والصناع … يدورون … ويدورون، آلة ضخمة تتحرك دواليبها متشابكة، وتلف تروسها متعاشقة وفقًا لإيقاع واحد.

وإن اختيار المسرحية يجب أن يجري بحيث يخاطب ميول الجمهور فيما يجب أن يراه على المسرح، وليس بالنظر إلى ما تتضمنه المسرحية من فرص يجد فيها المخرج والممثلون وسيلة ليثبتوا كفاياتهم ويسطعوا.

وإنه لمن أول واجبات القائم على فرقة تمثيلية، ألا يقدم من المسرحيات ما يتعالى على مستوى المتفرجين، ويكدُّ أذهانهم؛ إذ لم يوجد بعدُ، ولن يوجد، المتفرج الذي يقبل أن يتثقف، وهو متضجر يتململ في مقعده.

وإن الممثل ينقلب غاصبًا حقوق غيره ممن يقفون إلى جانبه فوق المسرح إذا حاول أن يستعرض ذاته على حسابهم، ابتغاء أن يتركز اهتمام الجمهور عليه.

وإن الممثل الذي يستعين على التأثير بجهارة صوته، وليس بحرارة روحه، طبلٌ أجوف.

وإن المخرج الذي يفرض على الممثلين تعاليمه وملاحظاته من غير أن يدعمها بالأدلة، وييسر أمر قَبولها بالاقتناع، إنما هو مخرج أحمق؛ لأن الممثل لن يأخذ بما يقوله المخرج، خاصًّا بأداء الدور الذي بين يديه، ما لم يقتنع، وإذا اضطُرَّ إلى التنفيذ جاء أداؤه دوره حائرًا كابيَ اللون، يفتقد حرارة الإيمان.

وتتابع الخواطر والإرشادات بما يدفع أخطاءً شائعة، ويصحح أوضاعًا في فنون المسرح، وبما يوحي بجديد، أو يؤكد صيغًا قائمة سليمة المبنى والأثر.

ويقف المؤلف وقفةً طويلة أمام مخرج المسرحية؛ إذ يعتبره المؤلف الثاني، باعتبار أنه هو الذي يتولى عرض المسرحية للجمهور، بعد أن صاغها كاتبها الأول موضوعًا وحوارًا، فكأن صياغة المسرحية شيء، وعرضها شيء آخر، إلا أن الشيئين يلتقيان كما تلتقي الترجمة مع الأصل وإن كان لكلٍّ من الترجمة والأصل صيغته الشكلية وأدواته.

والمخرج من الناحية الآلية أشبه بالمحرك الذي يدير آلةً ضخمة.

والمخرج، من ناحية الرتبة، قائد الوحدات الفنية.

وهو من الناحية الأدبية المسئول الأول عن نجاح المسرحية أو فشلها من حيث عرضها.

وبهذا تتضح المسئولية الضخمة الملقاة على عاتق المخرج.

فما هي مهامه على وجه التحقيق؟ وما هي مواهبه؟ وهل هو عامل متبِع، أو فنَّان مبتدِع؟

إن الأساس في مهام المخرج أن يترجم المسرحية للجمهور؛ أي يجسد المعاني الواردة والصور الذهنية التي تتمشى في المسرحية، أن يحيل المعنوي إلى مادي ذي كِيانٍ نراه رأي العيان.

وأدوات المخرج في تحقيق هذا: الممثلون، والمناظر، والملابس، والملحقات، والإضاءة، والمؤثرات الصوتية، إلى غير ذلك مما يؤلف الإطار الذي تظهر فيه المسرحية. إلا أن هذه الأدوات تبقى خرساء لا تترجم المسرحية ترجمةً ذات شأن، ما لم تقف وراء مواهب خلابة من جانب المخرج.

ونأخذ في الإيضاح والتفصيل فنقول: إن المخرج هو الذي يختار بين ممثلي وممثلات الفرقة من يراهم على صلاحية معنوية وشكلية للقيام بأدوارها.

والمخرج هو الذي يتولى تدريبهم بعد أن يحسن تفهيمهم أدوارهم والتدخل في شخصياتها بحيث يقيم كلٌّ منهم في دوره فاصلًا بين ذاتيته وشخصية الدور، وبحيث يكون الفرد فيهم للكل، والكل للفرد؛ في تعاونٍ يسوده الانسجام.

والمخرج هو الذي يضع التخطيط الرئيسي للمناظر، ويُصمم الملابس، وهو الذي ينظم الإضاءة، إلى غير ذلك من المهام التي وردت مفصَّلةً في هذا الكتاب، ولكل مهمة قواعدُها وأصولها، وما أظن أن المؤلف قد تعمَّد الإسهاب في ذكرها، إلا من باب إقامة رِكاز علمي ينهض عليه الخلق الذي يباشره المخرج في حدودها.

والخلق الفني في الإخراج غيرُ استظهار قواعده والتمرس بأصوله وأوضاعه الحرفية، كما هو الشأن في الإنشاء الكتابي وفي الشِّعر؛ فليس كل مَن حذق قواعد النحو والصرف والبيان بمستطيعٍ أن يحسن التعبير ببيانه اللغوي، وليس كل مَن فَقه موازين الشِّعر وتفاعيله قادرًا على أن يأتي بشعر جيد ومؤثر؛ إذ قصارى جهده أن يأتي بكلام موزون مقفًّى، نُسميه النَّظم.

بهذا يتضح أن الإخراج فن، وهو كسائر الفنون، يقوم على الموهبة، وأن الأصل فيه هو الطبع والنظرة السليمة. ولكن مما لا شك فيه أن للاكتساب والتعلم أثرهما الكبير في التنمية والصقل وإعطاء أحسن النتائج.

ووقفة أخرى — ولكن من جانبي — أقفها من المخرج.

أقول، إذا جاز لي أن أحلل مواهب الخلق فيما أنا بصدده — وهو أمر لا يخلو من المزالق — إن الموهبة الأساسية في المخرج إنما هي عمق الفهم، إلى جانب عمق الإحساس وانفساح المخيلة.

والفهم لدى المخرج ذو عملة مزدوجة؛ أن يفهم النص المسرحي الذي بين يديه أولًا — وهذه مكابدة — وأن يحسن تفهيمه إلى مَن يعملون بإشرافه وتوجيهه، ثم إلى الجمهور، وهذه مكابدةٌ أشق من الأولى.

ومن المعلوم أن هناك مَن يجيد الفهم ولكنه لا يجيد التفهيم!

وعلى هدى ما فهمه المخرج، تنبري مشاعره ومخيلته تعملان؛ فسرعان ما تتراءى في خاطره أطياف من شخوص المسرحية، وهم يعيشون حياتهم، ويتنقلون في مشاهدها، ويؤلفون صورًا لسلوكهم وسماتهم، ولا يلبث المخرج أن يعيش بدوره في هذه الصور، ويتقمص شخوصها الواحدة بعد الأخرى، ويسكب فيها مشاعره ليعيش بعد ذلك بشعورها ويرى بعيونها.

وتتجمع خيوط من الفهم والشعور والمخيلة متشابكةً متداخلة لتؤلف النسيج الذي يشقه ويفصله ذهن المخرج، وله من ثقافته الواسعة وتجاربه رِكازٌ يهديه السبيل.

فبثقافته يعرف الأسلوب أو المذهب الأدبي الذي تنتمي إليه المسرحية بحكم موضوعها وصيغتها وحوارها، والمذاهب الأدبية معروفة، وهي الكلاسيكية والرومانسية، والواقعية والرمزية، والانطباعية … إلخ. وبالإصابة في اختيار الأسلوب، تتألف «الوحدة» السليمة التي تطبع المسرحية، وينبثق الإيقاع الذي يجري عليه أداء الممثلين من حيث السرعة والبطء.

ويتمكن المخرج من علم النفس، يُقوِّم شخصيات المسرحية تقويمًا إنسانيًّا فيما أراده المؤلف لهم، ليفرض، في تواضع وبالدليل، على ممثلي هذه الشخصيات ما انتهى إليه، ليكونوا في نطاقها قولًا وإيماءةً وحركةً.

وبعين المصور الذي يدري معاني الخطوط والألوان من حيث تأثيرها في الناظرين، يخطط المخرج مناظر المسرحية ولبوسها، وينظم إضاءتها، بحيث تكشف عن المسرحية في صبغاتها الإقليمية والمحلية والنفسية، ثم بحسن الإدراك، وبحسن الفنان اليقظ، وبثقافة الأديب المبتدع، يربط المخرج بين كل هذه العناصر، وما يتفرع منها، برباط وثيق وبمنوال مباشر يجمع بين الوضوح المشرق، والبساطة الغنية، والتوبلة الحاذقة التي تثير الشهية من غير أن تلسع اللسان، ومن غير أن يحاول، بما يقدمه، أن يسطع ويبهر على حساب كاتب المسرحية.

هذه هي مهام المخرج في خطوطها العريضة، ومن ورائها تتضح مؤهلاته: طبع في الفن، سليقة في الأدب، عرق في فن الجمال، عين المصور، وأذن الموسيقار.

ولم يكن عجبًا أن يطالب المخرجون بأن يكون لإنتاجهم ملكية وحقوق مثل المؤلف الأديب والموسيقار، باعتبار أن الإخراج خلق ذاتي، وإنشاء له مقوماته.

وقد تحقق هذا المطلب في بعض الدول.

إلا أن لكل شيء نقيضَه، وفي كل حقل للابتداع الفني والأدبي يوجد الأثبات والأدعياء القادرون ومَن يتعاطون القدرة.

فهناك بين من نصبوا أنفسهم للإخراج، من ينقل ما ابتدعه غيره وينسبه إلى نفسه، وهناك من يسرق ويمسح ما سرق للتعمية والتمويه، وفريق ثالث لا يتجاوز عمله حد أن يُنفذ ما أورده مؤلف المسرحية من بيانات خاصة بمناظر المسرحية، وبتأثيث كل المسرح في كل فصل من فصولها، وما أجراه، بين سطور الحوار من إرشادات وملاحظات للممثلين من حيث النبر الصوتي والحركة والتشكيلات.

وفريق رابع لا يقدر أن يسرق أو أن يتبع ما يشير به المؤلف، ولكنه يسرق من المخرجين لإثبات مظاهر سلوكهم أثناء العمل: إصدار الأوامر، عدم الرضا، ضرب الرأس باليد، وذلك حينما تتأزم بهم الأمور.

وفي مسرحنا الناشئ تقلَّب فن الإخراج في مراحل عدة.

ففي أول عهدنا بفن التمثيل كان مدير الفرقة هو الذي يتولى أمر الإخراج بحكم أنه صاحب الأمر والمال، وفن الإخراج أمر ونهي وفرض، ولا يصح أن يُصدِر هذا الأمرَ مديرُ الفرقة.

ثم تولَّى مهمةَ الإخراج ممثلون ممن عُرفوا بقوة الملاحظة، وبروز الشخصية، وبالعناد، وبنزعة إلى تعذيب الغير، ولكن بغير سناد من العلم وركاز من الموهبة. وكان بعضهم موفقًا بعض الشيء في مهنته كممثل، ولكنه يطلب المزيد من الشهرة، وكان بعضهم الآخر غير موفق فآثر خلف المسرح يقيم فيه عالمًا يجول فيه ويصول ويمثل أيضًا، ولكن من غير أن يقف أمام جمهور من المتفرجين ليلقى جزاءه.

وكان أقرب ما يقولونه إلى الصواب، وذلك في إرشاد الممثلين، أنِ اترك إحساسك يقدك في التعبير الصوتي وفي الحركة ولا تبالِ.

إلا أن عدم المبالاة هذه، وهي خطيرة النتائج فوق المسرح، تداركها مخرجون بعد ذلك فأوصوا بأن يتجنب الممثل التصادم مع غيره، وألا يولي ظهره الجمهور أثناء كلامه، ولو اضطر إلى أن يمشي بجانبه مثلما يمشي السرطان البحري على الشاطئ. ورسموا للتشكيلات الجماعية من الممثلين جانبَي رحبة المسرح مكانًا، على أن ينتظموا فيهما صفوفًا مثل الجنود، وأن يتركوا وسط الرحبة لأبطال المسرحية.

ولم يمتد لهم وعي بماهية الإخراج من الناحية المادية، إلى جعل المناظر والملابس والملحقات أدوات تعبير عن روح المسرحية وبيئتها؛ أي منظر يتفق ومدلول الفصل من المسرحية من حيث المكان الذي يجري فيه؛ فللحديقة مثلًا أية حديقة، وللحجرة أية حجرة، ولأزياء الممثلين أية ملابس، ولم تكن هناك إضاءة مسرحية بالمعنى القائم اليوم، كان قصارى الجهد أن ينيروا المسرح بنور شديد، وفي قوة واحدة.

أما من ناحية الأداء التمثيلي، فكان الأمر مقصورًا فيه على أن يضخم الممثل في إلقائه، وأن يبالغ في إيراد حركاته. وكانت أقدار الممثلين والممثلات توزن بقوة الصوت وضخامة القامة، وبالمقدرة على تحريك قسمات الوجه.

وهذا وتخطيط الوجه يجري حيثما اتفق؛ أصباغ ملونة تنسرح على الوجه، وكانت اللحى المستعارة تنتقل من ممثل إلى آخر وفي نفس المسرحية، حيثما يغادر ممثل رحبة المسرح فإنه يعطي لحيته إلى من سيدخل!

إلا أن هذه الحالة البدائية تطورت مع الزمن واختفت بفعل الوعي المسرحي العام، وانتهى فن الإخراج في مسرحنا إلى المرحلة التي هو عليها الآن؛ مخرجون من العرب تمرَّسوا بفن الإخراج نظرًا وعملًا بعد أن تعلموه في معاهد أوروبا ومسارحها، ولا أبالغ في شيء إذا قررت أن ما يقدمه بعض المخرجين في مسرحنا الناشئ يقف أحيانًا على قدم المساواة مع ما يقدمه المخرجون في الخارج.

وليس بالأمر المستغرب ما أجرينا ذكره خاصًّا بفن الإخراج في مدارجه الأولى، فالمتقصِّي تاريخ تطور فن الإخراج في الخارج يجد مشابهة بين ما عليه مسرحنا فيما ذكرت، وبين ما كان عليه المسرح الأوروبي في العصرين القديم والمتوسط من التاريخ. هذا ولا ننسى أن فن المسرح باللسان العربي أمرٌ مستحدَث في حياتنا الأدبية والفنية.

وإذا أردنا أن نؤرخ لفن الإخراج المسرحي عامَّةً، وجب أن نعود إلى الوراء، إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة، إلى عهد الإغريق، باعتبار أن الإغريق هم أول بناة لدور التمثيل، ومن أقلام كتَّابهم خرجت المسرحية مستكملةً جميع مقومات كيانها، وعلى أيديهم استقرت الأوضاع الأولى لفن التمثيل.

نجد أن فن الإخراج ماشى كتابة المسرحية وعرضها منذ البداية، وتطور مع تطور صياغتها، واستجاب لمتطلباتها.

وإن «ثيسبيس» هو أول مخرج مسرحي احتفظت به واعية التاريخ.

ثم تقلَّب فن الإخراج في مراحل أخرى، وذلك في القرون الوسطى وفي عصر النهضة؛ إذ استغنى عن «الأقنعة» التي كان يغطي بها الممثلون رءوسهم لتطول قامتهم ويمتد شأو صوتهم، وأصبح التعبير بقسمات الوجه عاملًا جديدًا في فن الممثل، وقد كان هذا العامل قبلًا غير ذي موضوع.

وفي عصر النهضة أصبحت دُور التمثيل مسقَّفة، ويجمع بين جدرانها وحدةٌ بنائية كاملة، كما هو الحال اليوم، وقد كان التمثيل قبل ذلك يجري في الهواء الطلق، وفي دُور غير مسقَّفة، وكان أن استُعملت الإنارة لأول مرة في دور التمثيل، كما ظهرت صيغٌ جديدة في رسم المناظر المسرحية، وأوضاع لم تكن معروفة في حرفيتها.

واستطاع «وليم شكسبير» في مسرحياته أن يخرج على وحدة الزمان (ووحدة المكان)؛ أي إنه جعل حوادث تجري في أكثر من يوم وليلة، كما أنه عدَّد من الأماكن التي تجري فيها الحوادث، فكان أن خطا فنُّ الإخراج خطوةً واسعة.

ثم جاءت الرومانسية، فالواقعية، فما تلاهما من المذاهب الأدبية، ولكل مذهب خصائصُ فرضت على فن الإخراج متطلباتٍ جديدة.

واستُعملت الكهرباء في إنارة دور التمثيل بعد غاز الاستصباح، فأمدت المخرج بوسائل جديدة استطاع بها أن يُحول مجرد إنارة المسرح لتيسير الرؤية (illumination) إلى إضاءة (éclairage) في وسعها أن ترسم الإقليم والبيئة والطابع النفسي الذي عليه المسرحية، وأن توزع شحنات من النور على خشبة المسرح تغمر في وهج ملحوظ الأجزاءَ التي يجري فيها أهم المشاهد، إلى غير ذلك.

وتتابعت اتجاهات لم تكن معروفة في فن التصوير الذي هو أساس في المناظر المسرحية، وتوالت كشوفٌ علمية تبعها تقدمٌ صناعي وآلي، فقام «المسرح الدوَّار» و«المسرح ذو المصاعد».

وقامت نظرياتٌ حديثة خاصة بالعرض المسرحي على أيدي جوردن كريج، وفرانزابيا، وتايروف، وقبله ستانسلانسكي، دفعت بفن الإخراج إلى آفاق جديدة.

ثم جاءت السينما تُناهض المسرح، فكان عليه أن يبحث عن قيمٍ جديدة في الإخراج.

وما تقدَّم لا يزيد عن أن يكون لمحات سريعة في تاريخ فن الإخراج، أوردتها عاجلًا، قصْدَ أن أقرر أن الإخراج فنٌّ عريق له تاريخه ومراحل تطوره على الزمن، مثل المسرحية، بل إن تاريخه لأحفل وأوسع من تاريخ المسرحية، باعتبار أنه يتضمن عدة فنون، لكلٍّ منها تاريخ ومراحل تطور.

ولو نظرنا إلى الإخراج من زاوية أنه أخذ بتنظيم وتنسيق، يعلي الأهم على المهم، ويقيم الأسباب على المسببات، ابتغاء تحقيق غرض من الأغراض، قد يكون منها الإبلاغ والتأثير، لوجدنا أننا جميعًا نُباشر الإخراج في جميع نواحي حياتنا مع التفاوت في المقدرة.

فالنكتة لا تؤثر في المستمعين إلا إذا «أُخرجت» إخراجًا لبقًا من حيث طريقة إلقائها وتهيئة الجو الملائم لها.

والهندمة في اللباس إخراج، وكذلك تصفيف الشَّعر عند السيدات، وتأثيث المنزل، وتنسيق واجهات المحال التِّجارية.

وفي المعارك الحربية إخراج وأيُّ إخراج؛ لأن كل فرقة في الجيش تتحرك لهدف معين، وهي في تحركها تتفاعل مع غيرها من الفرق، وتخضع لخطة مرسومة.

وبعض الطقوس الدينية ومراسم العبادة إخراجٌ صريح له وسائله وله هدفه الأعلى.

والقائمة تطول، على ما أظن.

وإذا أردنا أن نؤرخ لفن الإخراج من هذه الزاوية لقلنا إنه قام منذ أن أخذ الذهن البشري ينظم وينسق ويبتغي أسباب التأثير في كل عمل يأتيه.

وفي ظني أنَّ بين هذا الإخراج وبين الإخراج المسرحي وشائجَ قُربى متينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤