الفصل الأول

وقفت الليدي أنسيلمان في وسط البَهْو داخل فندق ريتز، وراحت تَعدُّ ضيوفها مشيرةً بسبابتها برقَّة. كانت هناك الممثلة الفَرنسية الكبيرة التي كانت تتمتَّع بكل مقومات السحر والجمال، ما عدا الشباب، وهي تتحدث بحيويةٍ مع رجلٍ طويل، شاحبِ الوجه لبقٍ يُتقن التحدثَ بالفرنسية. وهناك الزوجة الشهيرة لممثلٍ كبيرٍ تُناقش مسرحية زوجها الأخيرةَ مع وزيرٍ في مجلس الوزراء بدا كأنه تلميذٌ في المدرسة يحضر حفلًا ماجنًا. وهناك فتاة جميلة للغاية، طويلة وشقراء، ذات عيون زرقاء تميل إلى الرمادية مع شعرٍ ذهبي رائع، يميل إلى الأصفر، وهي تتحدَّث إلى موسيقيٍّ مشهور. وبعيدًا قليلًا في الخلفية، هناك شابٌّ يرتدي زيَّ ملازمٍ بحري يتبادل ما بدا أنه مِزاح مثيرٌ للإعجاب مع فتاة ضئيلة الجسم، ولكنها شديدة الحُسن. وقد عدَّتهم الليدي أنسيلمان مرَّتين، ثم نظرت إلى الساعة وعبَسَت.

وصاحت في يأسٍ بعضَ الشيء وهي تُخاطب الضيف الواقف إلى جوارها، وهو ناشر ذو مظهر مرهق إلى حدٍّ ما: «لا أستطيع أن أتذكر من الذي ننتظره! فهناك ضيف لم يأتِ بعد. بالقطع سأتذكره في غضون دقيقة. أنت تعرف كل واحدٍ من الحاضرين، على ما أظن، أليس كذلك يا سيد دانييل؟»

هز الناشر رأسه.

وقال: «لقد قابلت اللورد رومسي وأيضًا مدام سيلارني. أما بالنسبة للباقين، فأنا لا أعرفهم.»

قالت له الليدي أنسيلمان خافضة درجة صوتها: «الرجل الذي يتحدث الفرنسية جيدًا، هو الجرَّاح الميجور طومسون. إنه مفتش المستشفيات على الجبهة، أو شيء من هذا القبيل. والفتاة الطويلة، الشقراء — يا لها من فتاة جميلة! — هي جيرالدين كونيرز، ابنة الأدميرال السير سيمور كونيرز. وهذا هو شقيقها، ذلك البحَّار هناك، الذي يتحدث إلى أوليف مورتون؛ ولقد أُعلِنَت خطوبتهما الأسبوعَ الماضي. وأنت بالطبع تعرف الليدي باتريك، وسينيور سكوبل، وأديلايد كنينجهام — أنت تعرفها، أليس كذلك، يا سيد دانييل؟ إنها أعزُّ صديقة لي. فكم عددُ هؤلاء؟»

عدَّهم الناشر بعناية.

ثم قال: «أحدَ عشَر ونحن فيهم.»

تنهَّدَت الليدي أنسيلمان وهي تقول: «ويجب أن يكون عددنا اثنَي عشر.» ثم أضافت فجأةً وقد ابتهج وجهها: «بالتأكيد. يا لي من حمقاء! إنه روني الذي ننتظره. لا يمكن للمرء أن يغضب منه، ذلك المسكين. إنه يتحرَّك بصعوبة.»

مالت نحوَهما الفتاةُ الشقراء، التي سمعت حوارهما. وقد أضاف ظلُّ الاهتمام المستيقظ حديثًا في وجهها، وانحناءُ شفتَيها أثناء حديثها، المزيدَ من الجاذبية إليها. وانعكس شعاعٌ من ضوء الشمس على شعرها الذهبي الأصفر الملفوف بعنايةٍ وجمال.

وسألت بحماسٍ بعضَ الشيء: «هل ابن أخيكِ، كابتن رونالد جرانيت، هو من سيأتي؟»

أومأت الليدي أنسيلمان برأسها.

وقالت: «لقد عاد إلى الوطن يوم الثلاثاء الماضي فقط مع إرسالياتٍ من الجبهة. وهذا هو أول يومٍ له بالخارج.»

استفسرَت مدام سيلارني باهتمام: «أوه! لكن هل تعرض لإصابة؟»

أجابت الليدي أنسيلمان: «في الذراع اليسرى والساق اليمنى. أعتقد أنه شهد بعضَ المعارك الرهيبة، ونحن فخورون جدًّا بخدمته المميزة وشَجاعته. لكن المشكلة الوحيدة هي أنه مثل جميع الآخرين — لن يُخبرنا بأي شيء.»

قال اللورد رومسي: «إنه يُظهر تقديرًا ممتازًا للأمور.»

نظرَت الليدي أنسيلمان إلى ضيفها الموقَّر بتشكٍّ قليلًا.

وقالت: «هذا هو المبدأ الذي تتمسَّكون به، في الوقت الحاضر، أليس كذلك؟ أظن أنكم تفتقدون الحكمة. عندما تَخفى الأخبارُ عن شخص، فإنه يخشى الأسوأ، وعندما تصل إلينا أخبارُ هذه الكوارث الصغيرة متأخرةً بنحو ثلاثة أسابيع، مرةً تلو الأخرى على مراحل، فنحن لا نتخلص أبدًا من هواجسنا، حتى عندما تُخبروننا عن الانتصارات … أوه! ها قد أتى أخيرًا»، ومدَّت يدَيها إلى الشاب الذي كان يشق طريقه بصعوبة إلى حدٍّ ما نحوهم. وقالت: «روني، لقد تأخرتَ بضع دقائق، لكننا لسنا غاضبين منك مطلقًا. هل تعلم أنك تبدو أفضلَ بالفعل؟ تعال وأخبرني بمن لا تعرفه من ضيوفي وسأعرفك به.»

حيَّا الشاب عمته، متكئًا على عصاه، وتمتمَ بكلمة اعتذار. كان شابًّا وسيمًا للغاية، لديه شاربٌ يميل إلى الحُمرة، وبقايا نمش على وجهه. كانت عيناه الرماديتان غائرتَين بعض الشيء، كما توجد خطوط حول فمه ربما يُخمن المرء أنها نتجت مؤخرًا بسبب الألم أو المعاناة من نوعٍ ما. وقد علقت ذراعه اليسرى بلا حركة في حمالةٍ من الحرير الأسود. وراح الشاب ينظر نحو التجمع الصغير.

قال، وهو ينحني للممثلة الفرنسية ويرفع أصابعها إلى شفتيه: «أولًا وقبل كل شيء، لا يوجد أحدٌ لا يعرف مدام سيلارني. لقد التقينا من قبل، يا ليدي باتريك، أليس كذلك؟ سأشاهد زوجكِ في مسرحيته الجديدة في الليلة الأولى التي يُسمَح لي فيها بالخروج. وقد التقَيْت من قبلُ بالسيد دانييل»، ثم أضاف، وهو يصافح الوزير: «وربما يمنحني اللورد رومسي شرفَ أن يتذكرني.»

ثم استدار لمواجهة جيرالدين كونيرز، التي كانت تُراقبه باهتمام. فعرَّفتهما الليدي أنسيلمان أحدهما بالآخَر على الفور.

وقالت: «أعلم أنك لم تقابل الآنسة كونيرز لأنها كانت تسأل عنك. هذا هو ابن أخي روني، يا جيرالدين. أتمنى أن تُصبحا صديقَين.»

تمتمَت الفتاة بكلمات غير مسموعة وهي تصافحه. ونظر إليها الضابط الشاب لحظةً. ثم بدَت عليه الجدية إلى حدٍّ ما.

وقال بهدوء: «أنا أيضًا آمُل ذلك.»

تابعَت الليدي أنسيلمان: «أوليف، تعالَي لتتعرَّفي على ابن أخي إذا كان بإمكانكِ الاستئذانُ لحظةً من رفيقك. هذا هو كابتن جرانيت … وهذه هي الآنسة أوليف مورتون. وهذا شقيق جيرالدين … الملازم كونيرز.»

فتصافح الرجلان بلطف. ثم نظرَت الليدي أنسيلمان إلى الساعة واستدارت بخفةٍ نحو الممر.

وقالت: «والآن، على ما أعتقد، حان وقت الغداء.»

وبينما هي تتحرك إلى الأمام، لاحظَت فجأةً الرجلَ الذي كان يتحدث إلى مدام سيلارني. حيث ارتكن قليلًا إلى جانبٍ واحد وهو يراقب الضابط الشاب بفضول. فعادت إلى ابن أخيها ولمسته في ذراعه.

وقالت: «ترى يا روني، هل قابلت الجرَّاح الميجور طومسون في فرنسا؟ أيها الميجور طومسون، هذا هو ابن أخي، الكابتن جرانيت.»

استدار جرانيت في الحال ومد يده للرجل الآخر. فقط جيرالدين كونيرز، التي كانت فتاة تميل إلى ملاحظة الأشياء، والتي لديها أيضًا أسباب خاصة بها تجعلها مهتمَّة، هي مَن لاحظت التفحصَ الغريب نوعًا ما الذي ينظر به كلٌّ منهما إلى الآخر. ويبدو أن شيئًا ربما تقريبًا كان تحديًا ينتقلُ من أحدهما إلى الآخر.

قال جرانيت: «ربما لم أُقابلك شخصيًّا، ولكن إذا كنتَ الجرَّاح الميجور طومسون الذي كان يفعل أشياءَ عظيمةً مع المستشفيات الميدانية على الجبهة، فعندئذٍ مثل كلِّ شخص مسكين هناك أنا مَدين لك بدَين خاص من الامتنان.» واختتم الضابط الشاب بكل ودٍّ: «أنت الرجل الذي أعنيه، أليس كذلك؟»

انحنى الميجور طومسون لتحيته، وبعد لحظة اتجه الجميع عبر الممر، نحو المطعم، وبحثوا عن أسمائهم على البطاقات وأخذوا أماكنهم على المائدة التي كانت مخصصةً لهم. ألقت الليدي أنسيلمان نظرة سريعةً مدقِّقة حولها تليق بمضيفة خبيرة لتتأكَّد أن ضيوفها قد جلسوا بشكل صحيح قبل أن تُكرس نفسها لضيافة الوزير. كان لديها كلمةٌ أو كلمتان ستقولهما لكل واحدٍ منهم تقريبًا.

قالت: «لقد أجلستك بجانب الآنسة كونيرز، يا روني؛ لأننا نُقدم كل الأشياء الجيدة لرجالنا عندما يعودون إلى الوطن من الحرب.» وتابعت، وهي تلتفت إلى البحَّار: «وأجلستك بجانب أوليف، يا رالف؛ لأنني سمعتُ أنك ستغادر على متن سفينتك اليومَ أو غدًا؛ لذا فأنت أيضًا يجب أن تُدلَّل قليلًا. كقاعدةٍ عامة، أنا لا أوافق على جلوس المخطوبين بجانب بعضهم البعض، فهذا يُركز المحادثة بشكل كبير.» وأضافت، وهي تلتفت إلى مَن يجلس بجوارها: «ومن فضلك، أيها اللورد رومسي، لا تتخيَّل لحظةً أنني سأحنث في وعدي لك. فنحن سنتحدث عن كل شيءٍ في العالم ما عدا الحرب. وأنا أعلم جيدًا أنه إذا كان لدى روني أيُّ تَجارِب مثيرة بشكل خاص، فلن يُخبرنا عنها، وأنا أعلم أيضًا أن عقلك مليءٌ بالأسرار التي لا يوجد شيء في العالم سيحثُّك على إفشائها.» واختتمت كلامها، وهي تبتسم للممثلة الفرنسية قائلة: «سنحاول إقناع مدام سيلارني بإخبارنا عن مسرحيتها الجديدة، وهناك الكثير من أصدقائي على المسرح الفرنسي الذين يجب أن أسمعَ أخبارهم.»

وهكذا بدأ اللورد رومسي مأدُبةَ الغداء في جوٍّ من الارتياح. وهو رجلٌ قد تجاوز منتصفَ العمر بقليل، يتمتَّع ببِنْيةٍ قوية، ويميل إلى الرصانة، وتبدو ملامحه صارمة، بذلك الفكِّ القوي. وغمغمَ قائلًا: «أنت لبقةٌ دائمًا، يا مضيفتنا العزيزة، في الواقع، أنا لم أحضر هنا اليومَ إلا استجابةً لدعوتكِ ولوجودِ مدام سيلارني. من الصعب جدًّا تجنُّبُ الحديث عن الأشياء الكبرى، وبالنسبة إلى رجل في منصبي»، أضاف، وهو يخفض صوتَه قليلًا: «من الصعب جدًّا قولُ أي شيء يستحق الاستماع إليه عنها، دون أيِّ مظهرٍ من مظاهر إفشاء الأسرار.»

أكَّدَت له الليدي أنسيلمان بتعاطف: «نحن جميعًا نُقدر ذلك. لقد وعدَتْنا مدام سيلارني بإعطائنا الخطوطَ العريضة للمسرحية الجديدة التي تُقدمها في مانشستر.»

وافقت السيدة سيلارني على ذلك قائلة: «إذا كان هذا سيُثير اهتمامكم جميعًا، فإنها تبدأ — هكذا!»

ومن ثَم استمعوا جميعًا تقريبًا في صمتٍ واهتمامٍ بعضَ الوقت. حيث ساعدت إيماءاتُها، ونبرات صوتها، ورفعُ حاجبيها وكتفيها — في إضفاء الحياة واللون على المشهد الصغير الذي شرحَته. ولم يجرؤ على تجاذب أطراف حديثٍ مستقل إلا أولئك الجالسون عند الطرفِ البعيد من الطاولة. حيث تبادلَت السيدة كنينجهام، وهي المرأة التي أشارت إليها مضيفتها على أنها صديقتها الخاصة، التي تُشاركها شغفَها بالترفيه، الحديثَ بشكلٍ متقطع مع الرجل الجالس بجوارها، الميجور طومسون. وقد تناولَت أكثرَ من نصف غَدائها قبل أن تُدرك أن محادثتهما تجري من طرفٍ واحد؛ طرَفِها هي بالطبع. فراحت تتفحَّصه لحظةً بفضول. فوجدَت وجهه ساكنًا للغاية وخاليًا من التعبيرات، على الرغم من أن أشعة الشمس القادمةَ عبر النوافذ العالية المتسعة التي تُطل على الحديقة، كانت تنير وجهه بالكامل.

فقالت فجأةً بإصرار: «حدِّثني عن نفسك! لقد كنتُ أثرثر مدةً طويلة بما يكفي. لقد كنتَ خارج البلاد، أليس كذلك؟»

أجابها بجدية.

«لقد ذهبتُ مع الكتيبة الأولى. في ذلك الوقت كنت مسئولًا عن مستشفًى ميداني.»

«وماذا عن الآن؟»

أجاب: «أنا كبير المفتشين في المستشفيات الميدانية.»

«هل عُدت إلى الوطن في إجازة؟»

قال لها، بأسلوب جافٍّ بعض الشيء: «ليس بالضبط. يجب أن أحضر في كثيرٍ من الأحيان لأسبابٍ تتعلَّق بتفاصيلَ ذاتِ صلةٍ بإدارة عملي.»

قالت: «كان يجب أن أعرف جيدًا أنك جرَّاح.»

«هل أنت متخصِّصةٌ في علم دراسة الملامح، إذن؟»

قالت: «إلى حدٍّ ما. أترى، أنا أُحب الناس. وأحب وجود الناس من حولي. يعتقد أصدقائي أنني مصدرُ إزعاجٍ تام؛ لأنني أرغب دائمًا في إقامة الحفلات.» وأضافَت وهي تنظر إليه: «أنت لديك وجهٌ ساكن، بارد مثل الجراحين — ويداك أيضًا.»

قال باقتضاب: «أنت قوية الملاحظة.»

ضحكت قائلة: «أنا فُضولية أيضًا، وأنت على وشك اكتشافِ ذلك. أخبِرني لماذا أنت مهتم جدًّا بروني جرانيت؟ أنت لم تُقابله من قبل، أليس كذلك؟»

وللمرة الأولى تقريبًا استدار ونظر مباشرة إلى مَن تجلس بجواره. كانت امرأةً قد بدأ شعرها الأشقر في التحول إلى اللون الرمادي، حسَنة الملبس، ومفعمة بالحيوية، ومبتهجة. وهي ذات فمٍ مرح ووجه متسامح.

أجاب قائلًا: «أنا لم أقابل الكابتن جرانيت من قبل. ومع ذلك، فإن المرء يهتمُّ بطبيعة الحال بالجنود.»

قالت: «لا بد أنك قد قابلتَ الآلاف من أمثاله — إنه حسَن المظهر، ذو ملامح بريطانية للغاية، رياضي متحمس، شجاع، مع القليل من اللامبالاة، يكره التحدث عن نفسه والأشياء الجادة. لقد عرَفته منذ أن كان صبيًّا.»

استمر الميجور طومسون في الاهتمام بجدية.

وقال لنفسه وهو يُفكر: «جرانيت! هل أعرف أحدًا من عائلته، يا ترى؟»

ردَّت السيدة كنينجهام بخفة: «أنت تعرف بعضَ أقاربه، بالطبع. السير ألفريد أنسيلمان، على سبيل المثال، عمه.»

«وماذا عن والده ووالدته؟»

«لقد تُوفِّيا. هناك إقطاعية عائلية كبيرة في وارويكشاير، ومنزل ريفي ضخم، وهما الآن، للأسف، في أيدي الألمان. فهما يقعانِ في مكانٍ قريبٍ جدًّا من الجبهة. وكانت السيدة جرانيت من مدينة ألزاس. وهو كان سيُسافر مع فريق البولو، كما تعلم، إلى أمريكا، لكن ضلعه انكسَر أثناء قيامهم باختيار الفريق. ومن ثَم لعب الكريكيت مع فريق ميدلسكس مرةً أو مرتين أيضًا، وكان قائدَ فريق أوكسفورد في العام الذي تفوقوا فيه.»

غمغَم الميجور طومسون: «يا له من شخص متميز.»

قالت: «في الرياضة، بالقطع. لقد كان دائمًا أحدَ أكثرِ الشباب شهرةً في المدينة، لكن بالطبع النساء سوف يُفسِدنه الآن.»

سأل: «هل هذا من وحي خيالي، أم أنه تم الإبلاغ عن أنه سجين؟»

أجابت السيدة كنينجهام: «لقد اكتشفوا عدمَ وجوده مرتين؛ مرةً منهما لأكثر من أسبوع. هناك كل أنواع القصص حول كيفية عودته إلى الخطوط. إنه طائشٌ صغير، في رأيي. يجب أن أتحدث مع السيد دانييل بِضعَ دقائق وإلا فلن ينشر مذكراتي.»

ومن ثَم مالت نحو الرجل الجالس على الجانب الآخر، فتمكَّن الميجور طومسون من استئناف دور المراقب اليقظ، وهو الدور الذي بدا بطريقةٍ ما أنه مقدَّرٌ له أن يلعبه. واستمع دون اهتمام واضحٍ للمحادثة بين جيرالدين كونيرز والشابِّ الذي كان الميجور يُناقش أحواله مع السيدة كنينجهام.

قالت جيرالدين شاكيةً: «أعتقد، أنك تبالغ في تحفُّظِك الدبلوماسي بعض الشيء، يا كابتن جرانيت. فأنت لم تُخبرني بأي شيء. عجبًا، إن بعض الجنود الذين كنت أزورهم في المستشفيات أكثرُ إثارةً للاهتمام منك.»

فابتسم.

واحتجَّ قائلًا: «أؤكد لكِ أن هذا ليس خطَئي. لا يمكنكِ أن تتخيَّلي كيف سئم المرء من الأشياء الموجودة هناك، ويمكن للصحف أن تُخبركِ أكثر بكثيرٍ مما نستطيع. إذ إن الجندي يرى فقط القليلَ من زاوية القتال الخاصة به، كما تعلمين.»

قالت في إصرار: «لكن ألا يمكنك إخباري ببعض تَجارِبك الشخصية؟ إنها أكثرُ إثارةً للاهتمام مما يقرؤه المرء في الجرائد.»

أكَّد لها: «لم يكن لدي أيُّ تجارب شخصية. لقد مر علينا الوقت ببطءٍ مخيفٍ لمدة شهور.»

قالت وهي تضحك: «بالطبع، أنا لا أصدق كلمةً مما تقول.»

فسألها: «أنت لا تعتبرينني مراسلَ حرب، بأي حال من الأحوال، أليس كذلك؟»

هزت رأسها.

وقالت: «لغتك ليست تصويريةً بما فيه الكفاية! أخبرني، متى ستعود؟»

«بمجرد أن أتمكن من اجتياز كشف الأطباء — في غضون أيام قليلة، كما آمُل.»

كررت كلامَه قائلةً: «كما تأمل؟ هل تقصد ذلك حقًّا، أم أنك تقوله لأنه الشيء المناسب لقوله؟»

بدا عليه الاستياءُ من سؤالها إلى حدٍّ ما.

وقال ببرود: «حقيقة أنني أتمنَّى أن أعود، لا علاقة لها مطلقًا بإعجابي بعملي عندما أصل إلى هناك. في واقع الأمر، أنا أكرهه. وفي الوقت نفسه، يمكنكِ بالتأكيد تفهُّمُ أنه لا يوجد مكانٌ آخر لرجلٍ في سني ومهنتي.»

قالت بهدوء: «بالتأكيد، أنا حقًّا آسفةٌ لأنني أزعجتك. هناك شيءٌ واحدٌ أودُّ معرفته، رغم ذلك وهو كيف تمكنت من الهروب؟»

هز رأسه ولكن بدا أنه استعاد أسلوبه اللطيف بالكامل. وتلألأت عيناه وهو ينظر إليها.

وأجاب: «ها نحن أمام جدارٍ صُلب من المستحيل. كما ترين، قد يحاول بعض الزملاء الآخَرين تجرِبةَ الخدعة. وأنا أخبرتهم بالسر ولا أريد إفساد فرصهم.» وأضاف مع خَفْض صوته قليلًا: «بالمناسبة، هل تعرفين الرجل الجالس على بعد مكانَيْن على يسارك؟ إنه يبدو كأنه تمثالٌ شمعي، أليس كذلك؟»

قالت، بعد لحظة من التردد: «هل تقصد الميجور طومسون؟ أجل، أنا أعرفه. إنه هادئ جدًّا اليوم، لكنه رجل حسَن الصحبة للغاية.»

ثم نهضت مضيفتهم وتوجهت إليهم جميعًا بالحديث من طرَف المنضدة.

وقالت: «لقد قرَّرنا أن نأخذ قهوتنا في البهو.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤