الفصل التاسع والعشرون

قال جارفيس بصوت خفيض: «ثمة سيدة تريد مقابلتك، يا سيدي.»

فاستدار جرانيت بسرعة في كرسيِّه. وبشكل غريزي تقريبًا أغلق الجزء العلوي من المكتب الذي كان يجلس أمامه. ثم نهض واقفًا وشبك يده. وتمكَّن بجهد من إخفاء القلق الذي أعقب شعوره الأول بالمفاجأة.

وصاح قائلًا: «آنسة وورث!»

فتقدمَت نحوه بثقة، ويداها ممدودتان، وبدَت نحيفة، وترتدي ملابسَ سوداء رصينة، ووجنتاها شاحبتان أكثر من أي وقتٍ مضى، وعيناها أكثرُ لمعانًا. ثم ألقت الفِراء الذي تُدفئ به يدها على كرسيٍّ وبعد لحظةٍ جلست عليه بنفسها.

سألته بلهفة: «هل كنتَ تتوقع قدومي؟»

كان جرانيت متفاجئًا بعض الشيء.

وقال لها: «كنت أتمنَّى أن تُراسليني. فقد طلبتِ مني، إذا كنتِ تتذكرين، ألا أراسلك.»

وافقَت على ذلك قائلة: «كان ذلك أفضل. إذ حتى بعد مغادرتِك فقد واجهتُ الكثير من المتاعب. حيث وضعني ذلك الرجلُ البغيض، الميجور طومسون، قيد استجواب منتظم مرةً أخرى، واضطُررت إلى إخباره في النهاية …»

صاح جرانيت بقلق: «بم؟»

قالت: «أننا مخطوبانِ لكي نتزوج. لم تكن هناك حقًّا طريقةٌ أخرى للخروج من المأزق.»

كرَّر جرانيت في خواء: «أننا مخطوبان.»

أومأت برأسها.

وتابعت: «لقد ضغط عليَّ بشدة، وللأسف قدمت بعض الاعترافات … حسنًا، كانت هناك ضرورة … وهي، على أقلِّ تقدير، كانت مساوَمة. لم تكن هناك سوى طريقةٍ واحدة للخروج بشكل لائق بالنسبة إليَّ، وقد استخدمتها. هل تُمانع في ذلك؟»

أجاب: «بالطبع لا.»

وتابعت: «وكان يجب مراعاة مشاعرِ والدي. حيث كان غاضبًا في البداية …»

قاطعها قائلًا: «هل أخبرتِ والدك؟»

أوضحت قائلة، وهي تتحسَّس الفراء: «كان عليَّ أن أفعل ذلك. فقد كان موجودًا طوال الوقت الذي استجوبني فيه ذلك الرجل طومسون.»

«هل يعتقد والدك إذن أننا مخطوبان، أيضًا؟»

أجابت بجفاء: «أجل، وإلا فللأسف كنتَ ستخضع لمزيدٍ من تحقيق الميجور طومسون مرةً أخرى. ومنذ تلك الليلة، أصبح من المستحيل تحملُ العيش مع أبي. ويقول إنه يجب أن يُعيد بناء جزءٍ من عمله مرة أخرى.»

فسألها: «هل تسبَّبت القنابل بالفعل في بعض الأضرار، إذن؟»

أومأت برأسها، وهي تنظر إليه بفضولٍ للحظة.

وقالت: «أجل، لقد تسببَت في ضرر أكثر مما يعرفه أي شخص. لقد أصبح المكانُ مثل القلعة الآن. وهم يقولون إنهم إذا تمكنوا من العثور على الرجل الآخر الذي ساعد في إشعال ذلك الوهج، فسيُعدَم رميًا بالرصاص في غضون خمس دقائق.»

انحنى جرانيت، الذي كان يقف واضعًا مرفقه على رفِّ المدفأة، وأخذ سيجارةً من صندوق.

وقال: «إذن، من أجل صالحه، دعينا نأمُلْ ألا يجدوه.»

قالت بهدوء: «وصالحنا.»

وقف جرانيت ونظر إليها بثبات، بينما يحترق عود الثقاب بين أصابعه. ثم رمى به بعيدًا وأشعل آخَر. كانت الفترة الفاصلة مليئةً بالتوتر غيرِ المعلن، الذي مرَّ فجأة.

ثم سألت: «هل ستظنني شرهةً للغاية، إذا قلتُ إنني أريد بعض الطعام؟ فأنا أتضوَّر جوعًا.»

شعر جرانيت للحظة بالدهشة. ثم تحرك باتجاه الجرس.

وصاح: «كم هو سخيفٌ مني! بالطبع، لقد وصلتِ للتو، أليس كذلك؟»

أجابت: «لقد جئت مباشرةً من المحطة إلى هنا.»

فتوقف وسألها.

«أين تقيمين، إذن؟»

هزت رأسها.

وقالت: «لا أعرف بعد.»

كرَّر قائلًا: «لا تعرفين بعد.»

قابلت نظرتَه دون أن تجفل. بينما احمرَّ خداها قليلًا، رغم ذلك، وارتجفت شفتاها.

ثم أوضحت قائلة: «انظر، لقد أصبحت الأمورُ مستحيلة تمامًا بالنسبة إليَّ في ماركت بيرنهام. لن أقول إنهم لا يصدقونني — ليس والدي، بأيِّ حال من الأحوال — لكن يبدو أنه يُعتقد أن ما حدث هو خطئي بطريقةٍ ما، وأنك لو لم تكن هناك في تلك الليلة لما حدث الأمر. وأنا مراقَبة طوال الوقت، في الواقع لم يتحدث معي أحد بكلمةٍ لطيفة … منذ أن غادرتَ. أنا فقط لم أستطع التحمُّل أكثر من ذلك. فحزمتُ أمتعتي هذا الصباح ورحلت إلى هنا دون أن أنبس ببنتِ شفةٍ لأحد.»

نظر جرانيت إلى الساعة. كانت الساعة العاشرة والربع.

فقال، وهو يرن الجرس: «حسنًا، أولُ شيء نفعله هو أن نُحضر لكِ شيئًا لتأكليه. هل تمانعين في الحصول على شيءٍ هنا أم أنكِ ترغبين في الذَّهاب إلى مطعم؟»

قالت: «أنا أفضل تناول الطعام هنا. فلستُ لائقة للذهاب إلى أي مكان، كما أني متعَبة.»

ومن ثم رن الجرسَ وأعطى جارفيس بعض الأوامر. بينما وقفت الفتاة أمام المرآة وخلعت قبعتها وعدلَت شعرها بيديها. كانت تتصرفُ وكأنها في منزلها تمامًا.

فسألها: «هل أتيتِ بدون أي أمتعة على الإطلاق؟»

هزت رأسها.

وقالت: «لديَّ حقيبة ملابس وبعض الأشياء بالأسفل في سيارة أجرة.» وأضافت وهي تستدير: «لقد طلبتُ من السائق أن يوقف محركه وينتظرَ بعض الوقت — حتى أقابلك.»

كانت هناك ابتسامةٌ طفيفة على شفتيها، وبريقٌ جذاب في عينيها. فأمسك جرانيت بيدها وربت عليها بلطف. وكان ردُّها هستيريًّا تقريبًا.

وقال: «إنه لطفٌ منكِ أن تثقي بي هكذا. سوف يجلب لكِ جارفيس شيئًا لتأكليه، ثم سأصطحبكِ إلى بيت عمتك. أين تعيش؟ في مكانٍ ما في كنسينجتون، أليس كذلك؟ وغدًا يجب أن نتحدَّث عن الأمور.»

فألقَتْ بنفسها مرةً أخرى على الكرسي المريح ونظرت حولها.

وقالت: «أنا أودُّ التحدث الآن.»

فنظر نحو الباب.

وقال: «كما يحلو لك، لكن جارفيس سيحضر الآن ومعه شطائرك مباشرة.»

تجاهلت احتجاجَه.

وقالت: «لقد اضطُررتُ إلى القول إنني مخطوبةٌ لك، لإنقاذك من شيء ما — لا أعرف ما هو. وكلما فكَّرت في الأمر، بدا أكثرَ فظاعة. لن أسألك حتى عن أي تفسير. فأنا … أنا لا أجرؤ.»

نظر جرانيت إلى سيجارته للحظة بتمعُّن. ثم ألقى بها في المدفأة.

وقال ببرود: «ربما أنت حكيمة. ومع ذلك، عندما يحين الوقت سيُصبح هناك تفسير.»

فتابعت قائلة: «إنه الحاضر الذي أصبح يُمثل مشكلة. فقد اضطُررت إلى مغادرة المنزل، ولا أعتقد أنني أستطيع العودة مرةً أخرى. ووالدي ببساطة غاضبٌ مني، ويبدو أن كل شخص حول المكان تُسيطر عليه فكرة أنني، بطريقةٍ ما، السببُ فيما حدث في تلك الليلة.»

احتجَّ قائلًا: «يبدو لي هذا ظلمًا بعض الشيء.»

ردَّت على نحوٍ فظ: «هذا ليس ظلمًا على الإطلاق. لقد قلتُ لهم كلَّ الأكاذيب، وعليَّ أن أدفع ثمنها. لقد أتيت إليك … حسنًا، لم يكن هناك أيُّ شيء آخر لأفعله، أليس كذلك؟ أتمنى ألا تعتقدَ أنني وقحةٌ بشكل رهيب. أنا على استعدادٍ تام للاعتراف بأنني معجبةٌ بك، وأنني قد أعجبتُ بك منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها في غداء الليدي أنسيلمان. وفي الوقت نفسِه، إذا لم تُغير تلك الليلةُ الفظيعة كلَّ شيء، كنتُ سأتصرف تمامًا مثل أيِّ امرأة شابة أخرى تَرَبَّت على مفاهيمَ غبية ولائقة؛ فأنتظر وأتمنَّى، وأجعل من نفسي حمقاءَ كلما رأيتُك في الجوار، وفي النهاية، على ما أظن، أُصاب بخيبةِ أمل. كما ترى، لقد غيَّر القدرُ ذلك. كان عليَّ أن أدَّعيَ خطوبتنا لإنقاذك … وها أنا ذا» أضافت مع ضحكة عصبية صغيرة، وهي تدير رأسها بينما يُفتح الباب.

دخل جارفيس مع الشطائر ووضعها على طاولة صغيرة بجانبها. وسكب جرانيت مشروبًا من أجلها، وخلط لنفسه مشروبًا مع الصودا، وأخذ شطيرةً من الطبق أيضًا.

ثم قال، بمجرد خروج جارفيس: «أخبريني الآن، ما الذي يدور في ذهنكِ بشأن وجودي هناك في ماركت بيرنهام في تلك الليلة؟»

وضعت شطيرتها جانبًا. وارتجَف صوتها لأول مرة. فأدرك جرانيت أنه تحت كلِّ هذا السلوك الهادئ كان هناك بركان يفور.

وقالت بحزم: «لقد أخبرتُك أنني لا أريد أن أفكر في تلك الليلة. فأنا ببساطة لا أفهم.»

قال في إصرار: «هل لديكِ تصورٌ للأمر في عقلك؟ أنتِ لا تُصدقين، حقًّا، أن ذلك الرجل كولينز، الذي عثر عليه مضروبًا بالرصاص …»

نظرَت إلى الباب.

ثم قاطعته: «لقد أصابني الأرقُ في تلك الليلة. وسمعت صوت سيارتك عندما وصلت، ورأيتُكما معًا، أنت والرجل الذي ضُرب بالرصاص. ورأيتُ … أكثر من ذلك. لم أكن أنوي أن أخبرك بذلك ولكن ربما هذا أفضل. وأنا لا أطلب منك أي تفسير. كما ترى، أنا إنسانة ذاتُ نزعة فردية. وأنا فقط أريد شيئًا واحدًا، أما الباقي فأنا ببساطةٍ لا أهتم به. بالنسبة إليَّ، إلى نفسي، إلى مستقبلي، بالنسبة إلى سعادتي فإن أي شيء آخر ليس له أهمية، وأنا لا أتظاهر أبدًا بأنني أيُّ شيء آخر سوى إنسانة أنانية للغاية. أنت فقط تعرف الآن أنني قد كذبت، على نحوٍ بشع.»

فقال: «لقد فهمت. تناوَلي شطائركِ وسوف آخذُكِ إلى منزل عمتك. وغدًا سأرسل رسالةً إلى والدك.»

تنهدَت تنهيدة طفيفة.

وقالت: «سأفعل أيَّ شيء تقوله، فقط … من فضلك انظر إليَّ.»

انحنى قليلًا. فأمسكَت معصمَيْه، وفجأة أصبح صوتها أجش.

وسألَتْه: «أنت لم تكن تتظاهرُ بكل تلك المشاعر؟ لا تجعلني أشعر بأنني كنتُ غبية للغاية. هل تهتم بي ولو قليلًا؟ أم أن كلامك كان مجردَ هراء؟»

كانت ستجذبه إلى أسفلَ أكثر، لكنه ابتعد.

وقال: «اسمعي، عندما أخبركِ أنني سأرسل رسالةً إلى والدكِ غدًا، فأنتِ تعرفين ماذا يعني ذلك. أما بالنسبة إلى البقية، فيجب أن أفكر. ربما هذا هو المخرج الوحيد. بالطبع أنا معجب بك، ولكن الحقيقة أفضل، أليس كذلك؟ لم أكن أفكر في كل هذا. في الواقع، أنا أحبُّ امرأة أخرى.»

التقطت أنفاسها للحظة، وأغلقَت نصف عينيها كما لو أنها تتغاضى عن شيءٍ بغيض.

وغمغمت قائلةً: «أنا لا يُهمني ذلك. أترى إلى أيِّ مستوًى وضيع وصلت — سأتحمل حتى ذلك. تعالَ» وأضافت، بينما تنهضُ واقفة: «إن عمتي تذهب إلى الفراش قبل الحادية عشرة. يمكنك أن توصلني إلى هناك، إذا أردت. هل ستُقبِّلني؟»

انحنى نحوها بطريقةٍ تخلو من العاطفة ولمست شفتاه جبهتها. فأمسكت بوجهه فجأةً بين يديها وقبَّلتْه على شفتيه. ثم استدارت نحو الباب.

وصاحت قائلة: «بالطبع، أنا أشعر بالخجل الشديد، لكن بعد ذلك … حسنًا، أنا على طبيعتي. تعالَ معي، من فضلك.»

فتبعها إلى أسفل وركبا سيارة الأجرة، وانطلقا نحو كنسينجتون.

وسألتْه فجأةً: «منذ متى وأنت تعرف الفتاة الأخرى؟»

فأجاب: «قبل أن أتعرف عليك بقليل.»

فخلعت قفازها. وشعر أن يدَها تتسلَّل لتلمس يده.

ورَجَته قائلة: «ستحاول قليلًا أن تُعجب بي، أليس كذلك؟ فأنا لم يكن هناك أيُّ شخص يهتم بي لسنوات عديدة — ليس طوال حياتي. عندما بدأت أختلط اجتماعيًّا بالناس … منذ أن بدأت … كنت أتصرفُ تمامًا مثل الفتيات الأخريات المهذبات، واللواتي تربَّين بشكل جيد. وقد جلست فقط وانتظرت. كما فضلتُ تجنُّب الرجال بدلًا من التعرف عليهم. وجلست وانتظرت. لم تُعجب الفتيات بي كثيرًا. وقلن إنني غريبة الأطوار. وأنا الآن في الثامنة والعشرين، كما تعلم. ولم أستمتع بالسنوات الستِّ الماضية. حيث انشغل والدي في عمله. وهو يظن أنه قد أدَّى ما عليه إذا ما أرسلني إلى لندن أحيانًا لزيارة عمتي. وهي تُشبهه كثيرًا، لكنها منشغلة بالإرساليات بدلًا من العلم. يبدو أن أيًّا منهما ليس لديه الوقت ليصبح إنسانًا.»

قال جرانيت بلطف: «لا بد أنكِ تعيشين في مأساة.»

أمسكت يده بيدها، واقتربَت منه قليلًا.

وغمغمت: «واستمرَّ الحال هكذا عامًا بعد عام. لو كنت جميلة، لكنت هربتُ وأصبحت ممثلة. لو كنت ذكية، لكنت غادرت المنزل وفعلتُ شيئًا. لكنني مثل الملايين من الأخريات — أنا لستُ مختلفةً عنهن. كان عليَّ أن أجلس وأنتظر. وعندما قابلتك، بدأت فجأةً في إدراك كيف هو الإحساس عندما أعجب بشخصٍ ما. وكنت أعلم أنه ليس هناك أي فائدة. ثم حدثَت هذه المعجزة. فلم أستطع كبح جماح نفسي.» وواصلَت بإصرار: «لم أفكر بهذه الفكرة في البداية. لكنها جاءت لي مثل وميضٍ رائع أن الطريقة الوحيدة لإنقاذك …»

سألها: «لإنقاذي من ماذا؟»

أجابت بسرعة: «مِن إعدامك رميًا بالرصاص كجاسوس. هذه هي الحقيقة! فأنا لست بلهاء، كما تعلم. قد تظن أنني بلهاءُ فيما يتعلق بك، ولكني لستُ كذلك بشكل عام. إلى اللقاء! هذا هو منزل عمتي. لا داعي لأن تدخل معي. اتصل بي على الهاتف صباحَ الغد. سألتقي بك في أي مكان. إلى اللقاء، من فضلك! أريد أن أهرب.»

راقبَها وهي تذهب، بينما هو مذهولٌ قليلًا. فتحَت لها البابَ خادمةٌ أنيقة، وبعد بضع كلمات من الشرح، أشرفت على إدخال أمتعتها إلى القاعة. ثم عاد سائق سيارة الأجرة.

فغمغمَ جرانيت: «عُد بنا إلى ساكفيل ستريت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤