المقدمة

  • خصائص العصر والعالم العربي.

  • المعطيات الأساسية: التركيب الاجتماعي للمجتمع العربي في مطلع القرن العشرين، الاتجاهات الأساسية لتطوُّر الفكر الاجتماعي السياسي العربي في العصر الحديث.

ما إن وضعت الحرب العالَمية الأولى أوزارها حتى تفجَّرت في العالم بأَسره عملية مُتعاظمة تميزت من جانبٍ بالتوجُّه الإيجابي نحو عالمية الإنتاج والاستهلاك، ونحو حياةٍ سياسية نشطة وبانتشارٍ للقيم الثقافية، كما تميَّزت من جانبٍ آخر بتطوُّر الأمم ونُظُم الدولة فيها، واقتصادياتها وثقافاتها. وقد حدَّدت ديناميكية هذه العمَلية التاريخ العربي في القرن العشرين كتاريخٍ لانتصار حركة التحرُّر القومي وللتفاعُل الشديد المُتبادَل بين ما هو قومي وما هو أُممي، هذا التفاعل الذي اتخذ بصفةٍ خاصة صورة الصراع بين القديم والجديد في كل مجالات الحياة، كما حدَّدت التاريخ العربي كتاريخٍ للقضاء على الإقطاع وقيام علاقات اجتماعية جديدة، وتميزت ديناميكية هذه العمَلية أولًا: بأنَّ الشعوب العربية أخذت في حل المهام التاريخية المنوطة بها في عصر التحوُّل من الرأسمالية إلى الاشتراكية، والذي افتتحته ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا، (التي كان من أبرز نتائجها التعجيل بالانقلاب الديمقراطي في العالم العربي)، وذلك في ظروف أزمة وانهيار الأنظمة الاستعمارية. ثانيًا: بأنَّ التطور السياسي، والتطور الاجتماعي الاقتصادي، وأيضًا التطور الثقافي في البلاد العربية، كان يتم في وجود وتحت تأثير الثورة العلمية الصناعية التي كانت تدفع بكل مظاهر عملية الأممية.

وقد ظهرت الاتجاهات العامة للتطور في بلدانٍ مُختلفة وعلى نحوٍ مُتباين من القوة، وذلك تبعًا للبِنية الاجتماعية الاقتصادية الخاصة بكلٍّ منها، وتبعًا لتميز طابع علاقات هذه البلدان مع العالم الخارجي.

وكنتيجةٍ لاختلاف التوجُّهات السياسية والاقتصادية والثقافية أصبح الوضع الخاص لكل دولةٍ عربية، بعد الحرب العالَمية الأولى أكثر وضوحًا، وأخذت الأمم العربية في التشكُّل. على أيَّة حال، فإنَّ قوى الجذب المركزي التي وقفت ضد قوى الطرد المركزي قد أحيَت وحدة أهداف الشعوب المناضلة من أجل الحرية والاستقلال، ودعَت أيضًا إلى اتفاقٍ محدَّد في المصالح الاقتصادية بفضل اللغة والثقافة والطبيعة النفسية المُشترَكة ووحدة المصير التاريخي والوضع الاجتماعي.

وقد انعكسَت خصائص تطوُّر البلدان العربية في تطور وعيها الاجتماعي، وأصبح مِن قبيل النافلة التأكيد على أنَّ الوعي الاجتماعي يَعكِس العمَلية الموضوعية للتطوُّر الاجتماعي. على أنَّ هناك، في الوقت الحاضر، جانبًا قد اكتسبَ مغزًى على قدرٍ كبير من الأهمية، ونعني بذلك المؤسسات الفوقية التي يَدخُل في عدادها الوعي الاجتماعي الذي دخَل في تناقُضٍ مع التنظيمات الاجتماعية القائمة، لا لشيءٍ إلا لمجرَّد أن الأخيرة تُمثِّل تناقضًا مع قوى الإنتاج الموجودة داخل الأطر القومية. وفي نطاق أمة محددة، فإن هذا الأمر يتم على نحو أوسع «لأن التناقض فيها يظهر لا داخل الأطر القومية الموجودة، وإنما بين الوعي القومي الموجود و… الوعي العام لهذه الأمة أو تلك» (٢–٣٠) فلكَي «يحدث تصادمٌ في بلدٍ ما ليس بالضرورة على الإطلاق أن يصل التناقض داخلها إلى مداه الأقصى» (٢–٧٤). وفي ظروف النجاح الكبير للأممية في كل مجالات الحياة المادية والنَّفسية للناس تحت تأثير الثورة العِلمية الصناعية، فإنَّ تلك التفاعلات المتبادَلة تُعبر عن سنة التطور للمجتمع البشري المعاصر.

لقد أصبحت الاتصالات والتعاون بين الشعوب، على مستوى البناء الفوقي، تؤثر بشكلٍ خاص على تشكيل الوعي العربي.

وتعدُّ أوساط المثقَّفين والمُفكِّرين ومُمثلي الجماعات الاجتماعية، وخصوصًا هؤلاء الأشخاص الذين تَعكس حياتهم بوضوحٍ العصر الذي يَعيشونه، بما فيه من تناقضٍ وتياراتٍ وقوًى معاكسة؛ موضوعًا له أهمية خاصة عند دراسة العمليات الأيديولوجية، والاهتمام الرئيسي في دراستنا للحركات الفكرية ينصبُّ على وجهات نظر الشخصيات الاجتماعية والسياسية البارزة، ومُمثِّلي المثقفين المبدعين الذين يعكسون الرأي العام، وكذلك على البرامج الحكومية والحزبية … إلخ.

إن نفسَ الظاهرة الواحدة قد تجد انعكاسًا مُتباينًا في عقول الناس، والمُنظرون الأيديولوجيون أناسٌ لهم مَقدرة على التعميم النظري لمصالح طبقةٍ بعينها أو جماعةٍ اجتماعية، وكقاعدةٍ، فإنهم يسدلُّون حجابًا ذا طابع طبقي على وجهات نظرهم، مُعتمِدين في هذا على مفاهيم إنسانية عامة غير طبَقية وغير حزبية، داعين إلى مشاعر قومية وإلى القضية الإنسانية إلى آخره، وفضلًا عن ذلك، فعلى الرغم من أن تطور العلاقات الاجتماعية الاقتصادية يَكمن في أساس التطور الفكري، فإنَّ الخصائص القومية والتقاليد، وما إلى ذلك، أمورٌ تَكتسِب أحيانًا مغزًى مبالغًا فيه، وذلك عندما تكون الأفكار لا تزال في طور التكوين. ونتيجةً لذلك، فإن فهم أي حركة فكرية قائمة لا يمكن أن يتمَّ بمجرد تحليل بياناتها وبرامجها الرسمية، وإنما من الضرورة بمكان ربط هذا كله بالواقع، وعلى الباحث، إذا ما أراد فهم اتجاهات تطور الفكر الاجتماعي، أن يَسعى أولًا وقبل كل شيء إلى مقارنة كل وجهات النظر والتقديرات وربطها بالزمان والمكان، وأن يضع في اعتباره علاقات الأشخاص بالواقع الفِعلي. ودرجة موضوعية العلاقة هنا، بين الشخص والواقع، تتحدَّد بمصالحه الاجتماعية، فضلًا عما لديه من حصيلة معلومات يَدخل في حيِّزها خبرات حياته ومعارفه العِلمية ونمط تفكيره الذي تكون بتأثير التربية والروابط الاجتماعية والمؤثِّرات الخارجية … إلخ. وعلاوة على ذلك، فإنَّ الآراء الذاتية يجب تقديمها في ضوء مغزاها الموضوعي بالنسبة إلى الجماعات والطبقات الاجتماعية في ذلك العصر. وفي هذا الصدد، فإنَّ الأقوال والمبادئ ووجهات النظر التي تُميز الشخصيات التاريخية أو الجماعات التي تَعكِس الاتجاهات الرئيسية للمصالح السياسية أو الاجتماعية لهؤلاء أو أولئك تُمثِّل قيمةً كبرى.

وسوف يتعين علينا، عند دراستنا لتطور الفكر الاجتماعي السياسي، أن نتعرَّض بشكلٍ خاص لاتجاهات هذا الفكر؛ أولًا: لأنَّ قوانين التطور الاجتماعي تظهر في شكل اتجاهاتٍ مسيطرة. ثانيًا: لأنَّ تقديم صورة كاملة تعكس العصر ووعي الناس من خلال التقديرات الذاتية التي تنطبق والعالم الموضوعي ككلٍّ لَهو، ببساطة، أمرٌ مستحيل.

إنَّ الحياة الفكرية للعرب، على مدى مائة وخمسين عامًا، كانت أكثر ما تكون حيوية في بلاد شرق البحر الأبيض المتوسط، في المنطقة الواقعة عند التقاء ثلاث قارات، وهي مصر ولبنان وسوريا. لقد كانت هذه البلاد منذ زمنٍ بعيد تُمثل بالنسبة للأوروبيِّين بوابة مؤدية إلى آسيا وأفريقيا، كما أنَّ هذه البلاد كانت أول ما يقع في مدار السوق العالمي، ممَّا ساعد على سرعة انحلال النظم الإقطاعية فيها، وبهذا أصبحت مسرحًا لعلاقاتٍ قوية بين الحضارتَين الغربية والشرقية، على حين أن بلدانًا كالمغرب والسودان والعراق، وهي تقع بعيدًا عن الاتجاه الرئيسي للروابط الثقافية والاقتصادية العالَمية الآخذة في الاتِّساع بسرعة، قد وصل إليها التحديث في النصف الأول فقط من القرن العشرين، بينما ظلت بلدان شبه الجزيرة العربية، المعزولة عن العالم العربي المتقدم بصحراواتٍ شاسعة، تحكمها، حتى منتصَف القرن العشرين، الأشكال القديمة للنظُم الاقتصادية الاجتماعية.

وقد ساهم هذا الواقع الخاص بتشكيل الفِكر الاجتماعي العربي في تحديد الدور السيادي لبعض البلدان الأكثر تطورًا، وفي مقدمتها مصر، مما يُبرر أولوية الاهتمام بهذه البلاد في دراستنا هذه، والتي تُعدُّ استكمالًا لكتابنا «تطور الاتجاهات الأساسية للفكر السياسي الاجتماعي في سوريا ومصر (العصر الحديث)» الصادر في عام ١٩٧٢م.

ظلَّت البلاد العربية في مُستهل القرن العشرين متخلفة وتابعة، واستمرت الرأسمالية المعاصرة تنمو فيها ببطء ولكن ليس بالطريقة الكلاسيكية. وبالرغم من أن الاتجاه العام للتطور الاجتماعي الاقتصادي في الغرب والشرق قد تحدَّد بفضل القوانين الأساسية العامة، فإن هذه القوانين لم تكن الأساس لظهور أبنية مُشابهة فيها، وعلى الرغم من أنَّ السياسة الاستعمارية للدول الغربية غيَّرت الطريق الطبيعي لتطور الاقتصاد القومي العربي، فإنَّ الأبنية الاقتصادية التي تكوَّنت تاريخيًّا، وكذلك تقسيم العمل التقليدي بين المدينة والقرية، قد تمَّ كسرها، كما تقوَّضت المِهَن والحِرَف المحلية. لقد اتَّجه الإنتاج الزراعي في عددٍ من البلاد العربية نحو إنتاج محصول زراعي واحد، وإلى جانب ذلك، وبغضِّ النظر عن الأهداف الذاتية الرأسمالية الأوروبية، فقد جرَت في الشرق عملية تسريع للتطور الاجتماعي، وتشكَّلت، تحت تأثير السوق العالَمي، علاقات اجتماعية هدفها توظيف رأس المال. وفي العالم العربي، ظهرت، إلى جانب الطبقات الأساسية والفئات الاجتماعية والجماعات الوسطية التي تُميِّز المجتمع الإقطاعي، أشكال اجتماعية جديدة ومتعدِّدة تَدين بوجودها للرَّوابط والأنماط الجديدة في علاقات الإنتاج. على أن الاختلاف بين أوروبا وآسيا تُلخِّص، كما أشار فلاديمير لينين، في أن البلاد التابعة والخاضعة للاستعمار قد دخلت مرحلة تبادُل السِّلَع على نحوٍ خاص، في خضمِّ تكوين السوق العالَمية، إلا أنها لم تصل بعد إلى مرحلة الإنتاج الرأسمالي (٦، ٣٥)؛ ولهذا فقد نمَت في العالم العربي البورجوازية التجارية بصورةٍ رئيسية وتحول أغلب ممثلي رأس المال التجاري الربوي، والمُلَّاك البورجوازيون الذين شكَّلوا مع الإقطاعيين القلة المُميزة في البناء الاجتماعي والاقتصادي، إلى رجال صناعة من النمط الرأسمالي، وانتشر هذا النموذج على نحوٍ مُنفصِل مكونًا «ما قبل البروليتاريا». أما الفلاحون (الذين شكلوا الغالبية الساحقة من السكان) فقد أصابهم الخمول من شدة معاناتهم للفقر، وارتفع عدد السكان من أهل الزراعة، ووقَف الفلَّاح من صغار الملاك عند حدود الإنتاج البسيط، وهو في نفس الوقت، غارقٌ في الديون.

لم تكن الفوارق الاجتماعية للقرية ملحوظة بعد. وظلَّ الفلاحون على وضعهم كقوةٍ سياسية سلبية، على حين تعاظَمَت أعداد الفئات الوسطى في المدينة بسرعةٍ هائلة: أصحاب العقارات الصغيرة، التجار، أرباب الصناعة، ضباط الجيش، مُمثلو المهن الحرة، خريجو المعاهد الدراسية العليا، المُدرسون، الأخصائيون، التقنيون، وهؤلاء ظلُّوا رغم استقلالهم نسبيًّا عن وسائل الإنتاج الإقطاعي، يدورون في فلك العلاقات الاجتماعية الإقطاعية والمؤسسات السياسية والقانونية والاجتماعية، وكذلك وقَعُوا تحت تأثيراتها الثقافية. وقد أثارت حالة التبعية، والاضطهاد القومي الذي تعيشه الشعوب العربية لدى تلك الفئات، الاحتجاج والمقاومة. وعلاوة على هذا، فإن درجة الراديكالية لدى مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، كل على حدة، تحدَّدت، كقاعدةٍ، حسب مكانتها في التدرج الاجتماعي والسياسي.

أدَّت خصائص تطور القوى الاجتماعية الجديدة التي كانت بمَثابة العمود الفقري للبورجوازية الوطنية العربية إلى تناقض مصالح هذه القوى، وبالتالي إلى تناقض فعالياتها السياسية، فمن ناحية سعى هؤلاء الذين ارتبطوا بالأرض إلى مُصادَرة فائض المحصول لدى الفلاحين، سواء بطريقةٍ إقطاعية أو شبه إقطاعية، أو بصورةٍ مباشرة أو ربوية، رغبة في الحفاظ على استقرار نمط الحياة على ما هو عليه، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ هؤلاء الذين أخذوا في تطوير الإنتاج الاقتصادي في مجال البضائع الذي تشكَّل في ظروف السوق العالَمية، أو الذين نزلوا إلى الساحة الاجتماعية كرجال أعمال رأسماليِّين؛ فقد انصرف اهتمامهم إلى نظامٍ رأسمالي؛ ولهذا فقد كانوا يمثلون نقطة ارتكاز للحكام الإقطاعيِّين والإمبرياليين الذين يُهمهم استقرار المؤسسات الاجتماعية التقليدية كما هي دون أدنى تغيير؛ فقد كانوا يَحصُلون من وراء هذا الوضع على بعض المكاسب. وفي الوقت نفسه عملُوا على القضاء على البقايا البائدة للإقطاع، حيث كانت تعوق بشدة عملية التحديث، وكانت في بعض الأحيان تقف بشدةٍ ضد الخضوع المطلق للغرب.

كان الإقطاعيون الذين تحوَّلوا إلى البورجوازية وكذلك الفئات الوسطى هم حماة الأيديولوجيا البورجوازية، فقد كانوا مؤهَّلين تبعًا للموقف التاريخي وتبعًا للأوضاع السياسية الداخلية والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية لأن يلعبوا دورًا — كبرَ أو صغر — في الصراع الحاسم من أجل تحويل المجتمع الإقطاعي على أسسٍ عصرية، ومن أجل التحرُّر القومي.

وقد وجَدَت خصائص الوضع الاقتصادي السياسي والوضع الاجتماعي الثقافي في العالم العربي تعبيرًا لها في التطور النسبي ذي الطابع الخاص للفِكر الاجتماعي السياسي في العصر الحديث.

ونحن نرى أن من المناسب أن نُكرِّر هنا تصوراتنا حول تطور الفكر الاجتماعي السياسي في البلدان العربية في العصر الحديث حتى نأخذَها كنقطة انطلاق:

  • (١)

    نقطة البداية في تحوُّل الشعوب العربية نحو طريق التطور المعاصِر (تجاوز قرون طويلة من العزلة والاتجاه نحو الثقافة العالَمية والحضارة الصناعية) صاحبة تكون الأيديولوجيا البورجوازية وصياغة فكرة حركة التحرُّر القومي. وقد اهتزَّت أسس العقيدة الإسلامية التقليدية وهيمَنة الجُمود والتزمُّت، وأُرسيت أسس الفكر النظري العلماني، وتمَّ الاعتراف بعظمة العقل البشري وبالدور الحاسم للإنسان في إعادة تشكيل المجتمع والطبيعة، وأخَذَت الكلمة المطبوعة في الانتشار، وكذلك التعليم المدني، واستيقظ الاهتمام بمنجزات العلم الحديث والتكنولوجيا، وتولد الوعي القومي.

  • (٢)

    تحدَّدت كثيرٌ من خصائص هذه العملية لكونها حدثَت تحت تأثير أوروبا الغربية: التدخُّل الأوروبي في البلدان العربية الذي حمل معه الاستغلال البَشِع والفقر المُدقِع لشعوبها. وفي الوقت نفسه ساعد هذا التدخل بصورةٍ إيجابية على سرعة نمو الرأسمالية فيها ونُضوج الانقلاب البورجوازي. وتُعدُّ المُحاولات التي قام بها الحكام الإقطاعيُّون لإعادة تنظيم القوات المسلحة بهدف توطيد وضعهم (بمعنى الضرورة المالية للجيش) هي الدفعة الأولى نحو تقييم الظواهر الجديدة للمجتمع الإسلامي التقليدي وإعادة نظر للتصورات القديمة، مما حدا بهؤلاء الحكام إلى «التعلم» على يد الغرب من أجل نقل «سرِّ» قوَّته الجبارة. ومنذ بداية القرن العشرين، أوجَدَت التغيُّرات التي دخلت على تركيبة المجتمع تحت تأثير السوق العالمية تيارًا عامًّا للتطور الاجتماعي الاقتصادي في الاتجاه الرأسمالي وما تبعه من تطورٍ للمؤسسات الفوقية (السياسة والفلسفة والدين والقانون … إلخ).

    ولعب تدويل منجزات الثقافة العالمية، في خضمِّ التطور السريع لوسائل الاتصال، دورًا هامًّا في هذه العملية، دورًا حافزًا ساعد على ظهور ما يتطلَّبه المجتمع النامي من الديناميكية.

  • (٣)

    وإذا كان العرب، حتى مطلع القرن التاسع عشر، قد عاشوا في عزلةٍ عن التيارات الرئيسية للفِكر الأوروبي، فإن المصريين والسوريين قد تخطَّوا مع مطلع القرن العشرين عددًا من المراحل، بدأت باستيقاظ الاهتمام بما أحرزه الأوروبيون من نجاحٍ في مجال الصناعة وحتى مُناهضته الاستعمار ونقد بعض ظواهر الحضارة الأوروبية البورجوازية، مرورًا بالتصور المثالي للبناء السياسي الاجتماعي لأوروبا الغربية ونظم التعليم بها. وإذا كانت العقيدة الدينية والمؤسسات والمعايير الإسلامية هي المُهيمنة تمامًا على العالم العربي منذ مطلع القرن التاسع عشر، فإنَّ العرب استطاعوا منذ النصف الثاني من القرن الماضي، أن يستوعبوا كثيرًا من النظريات والأفكار التي وضَعها الغرب والتي أصبح لها الآن مغزًى حاسم في الفكر العربي: الفكر الدستوري، الحياة النيابية، الحرية، العدالة، القومية … إلخ.

  • (٤)

    استوعب الرأي العام التقدمي في البلدان العربية، في سعيه نحو التقدم في المقام الأول، الأفكار والنظريات التي تعكس الجوانب التقدمية في الثقافة الأوروبية الغربية مُعيدًا صياغتها بما يتلاءم وظروفه المحلية. وقد ساعد هذا على الوعي بمُهمته التاريخية في إعادة تشكيل المجتمع الشرقي الإقطاعي في العصر الحديث، وفي صياغة مطالبه. لقد استعدَّ العرب للوقوف في صفوف المناضلين من أجل المثل العليا التي «عمل لها الغرب» على حد تعبير لينين (٤، ٤٠٢).

  • (٥)

    كان أهم ما يُميز رؤية الأيديولوجيين العرب التقدميِّين في العصر الحديث هو الحل التنويري لكل المشكلات السياسية والاجتماعية. وقد كانت قضية تشكيل الإنسان كشخصيةٍ اجتماعية نافعة يقع في بؤرة اهتمامهم، كما كان لقضية تعليم الشعب (الذي بدونه لا يُمكن تصور إمكانية التقدم) الأولوية إلى جانب قضايا الأخلاق التي تمَّت معالجتها بروح الأيديولوجيا البورجوازية.

  • (٦)

    وقد تحوَّلت الأفكار التي استقتْها القوى التقدُّمية من مصادر قريبة من روح فلسفة التحرير التي حمل لواءها رجال التنوير الفرنسيُّون إلى قاعدةٍ للثقافة العربية.

  • (٧)

    على أنَّ الفكر الاجتماعي السياسي النامي استمرَّ يُعاني من تأثير الأفكار والتصورات الإسلامية التقليدية. لقد وعى المُسلمون الآراء والمفاهيم والمعايير التي أخذوها عن الغرب على ضوء الدين الإسلامي وما اعتادوا عليه من نماذج ومفاهيم.

  • (٨)

    عانى المثقَّفون العرب، حتى في القرن التاسع عشر، من ازدواجيةٍ مأساوية عند تقييمهم للقيَم الثقافية والقومية الأوروبية، الأمر الذي تسبَّب عنه انفصال بين المثقَّفين التقدميِّين والسواد الأعظم من الشعب، فمن ناحيةٍ كان المثقَّفون فئة قليلة مُنعزلة إلى حدٍّ كبير عن الشعب، ومن ناحيةٍ أخرى، كانت هذه الفئة تؤمن إيمانًا قويًّا بأنَّ عليها وحدها يقع عبء المهمة التاريخية في فتح سبل السعادة للعرب.

  • (٩)

    ووضعت قضايا التنظيم السياسي للمجتمع على رأس قائمة قضايا الحياة الاجتماعية للبلدان العربية.

    فما إن قارب القرن التاسع عشر على الانتهاء حتى كانت أفكار الحرية والعدالة، على نحوٍ أو آخر، قد تملَّكت عقول المثقفين في البلدان العربية المتقدمة نسبيًّا. كان أكثر أشكال الحكم قبولًا في الشرق هو الملكية الدستورية، ورأت الأغلبية في الدستور والبرلمان الرافعة الجبارة التي تستطيع أن تضع الشرق على طريق التقدُّم. وكنتيجةٍ لتخلُّف العلاقات الاقتصادية الاجتماعية البورجوازية. كان النضال من أجل الحقوق الديمقراطية في العالم العربي قد بدء لتوِّه.

  • (١٠)

    كان موقف العرب (كشعوبٍ مُضطهَدة) منذ الربع الأخير للقرن الماضي قد وضع أمامهم مهمة التحرير القومي. وخصت القوى التقدمية جلَّ عملها لتنمية الوعي القومي: إن الانتفاضة العفوية الطارئة التي قام بها العرب ضد ظلم الأتراك وسياسة الدول الإمبريالية الأوروبية قد تحوَّلت إلى نضالٍ واعٍ من قبل الشعوب العربية من أجل الحرية والاستقلال. ما لبث أن أصبح عنصرًا هامًّا في تاريخها، وكان نمو حركة التحرُّر القومي والديمقراطي، وخاصة في آسيا ودول البلقان، حافزًا كبيرًا على مواصلة هذا النضال.

  • (١١)

    كان الشكل الذي اتخذته حركة التحرُّر القومي في مُختلَف البلدان العربية يتحدَّد وفقًا لظروفها الخاصة؛ ففي سوريا ولدت القومية العربية، وفي مصر القومية المصرية. واستيقَظَت بين سكان المغرب العربي الرغبة في الحصول على الحقوق السياسية والوطنية تحت رعاية فرنسا.

  • (١٢)

    حدَّدت خصائص نشأة البورجوازية العربية ككلٍّ قلَّة اهتمام أيديولوجيي البورجوازية العربية بالاقتصاد على الرغم من اتفاقهم جميعًا على الاعتراف بضرورة التطوُّر الاقتصادي الشامل للبلدان العربية. غير أنه لم تستحوذ على اهتمامهم، في ظروف التطور الاقتصادي الاجتماعي الضعيف، قضايا التفاوت الاجتماعي؛ فقد رأت الأغلبية أن تركيزات الثروة في يد القلة أمرٌ ضارٌّ بالمجتمع، إلا أنَّ المساواة الاجتماعية كانت أمرًا لم يُنادِ به حتى أكثر المُفكِّرين راديكالية. وعلى أيَّة حال، فقد بدأت الأفكار الاشتراكية في النفاذ إلى العرب مع مطلع القرن العشرين.

  • (١٣)

    لاقى طريق الإصلاح إجماعًا صحيحًا ومُثمرًا، على حين رأى البعض (في ظرفٍ محدد) شرعية الانقلاب الثوري كوسيلة للنِّضال عند الضرورة القصوى. أما أيديولوجيو البورجوازية العرب فقد زعموا أن انتفاضة الشعب الجاهل يمكن أن تؤدي في النهاية إلى قيام نظام استبدادي جديد.

  • (١٤)

    كان الفكر السياسي الاجتماعي في العصر الحديث، المُثقَل بالتراث الآسيوي القديم، قد تُجاوز تناقُضات النمو، وأخذ يتمثَّل مجموعة الأفكار التي شكَّلت الأساس النظري للنهضة الجبارة لنضال الشُّعوب العربية للتحرُّر القومي ولحركتها، عن طريق التطور وسعيها لأن تُصبح قوى خلاقة للتاريخ العالمي.

كان هذا هو منطلقنا لدراسة الفكر الاجتماعي العربي بعد الحرب العالمية الأولى. لقد وضع السياق التاريخي للعصر الحديث بمشكلة التحرُّر القومي والحصول على الاستقلال والسيادة، إلى جانب قضية تجاوز التخلُّف الإقطاعي وضمان قيام نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية، باعتبارها المشكلة السياسية الرئيسية.

وإمكانية حلِّ هذه المشكلات قد تلخَّص، قبل كل شيء، في التوزيع الجديد للقوى على الساحة الدولية، وفي ضعف الإمبريالية، وفي التحول الديمقراطي النسبي للرأي العام العالمي، وفي النتائج التي أحدثتها الحرب العالمية، وكذلك ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا في بنية المجتمع العربي نفسه بعد الحرب، وأخيرًا في الآثار الفكرية للتاريخ العربي الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤