التحولات

  • العالم العربي على طريق التطور الرأسمالي.

  • التغيُّرات التي طرأت على البِنية الاجتماعية.

  • تحديث ظروف المعيشة.

  • الأنشطة الاجتماعية لمُختلِف الفئات الاجتماعية.

  • تأثير العوامل الخارجية.

نتيجةً للحرب العالمية «بدا أن الشرق قد خرج عن مساره إلى الأبد» واتجه تطوُّره «نهائيًّا ناحية الرأسمالية الأوروبية» (٧٠–٤٠٢).

وأخذ التطوُّر الاقتصادي الاجتماعي للعالم العربي يكتسب ديناميكيته يومًا بعد الآخر، وأصبحت الاتجاهات التي برزت مع نهاية القرن الماضي تزداد وضوحًا. ودعَتِ الحاجة إلى تطوير الرأسمالية العالمية إلى ضرورة إدخال التكنولوجيا الحديثة في الزراعة والإسراع في التصنيع على أساس خلق فروع جديدة للصناعة.

صاحَبَ اتِّساع إنتاج وسائل الصناعة والنمو السريع لسكان المدن، وكذلك حركة البناء ونشاط المؤسَّسات الصناعية الضخمة التي كانت ملكيتها، كقاعدة، حكرًا لرأس المال الأجنبي، أو كانت واقعة تحت رقابته، نموٌ في عدد المؤسسات التي تقوم بالمعالجة الأولية للمواد الخام ونمو في صناعة النسيج والخياطة والأغذية والصناعات المدنية، ولم تكن هناك منافسة تذكر مع رجال الأعمال الأجانب.

وسيطر التطور الرأسمالي أولًا وقبل كل شيء على الصناعة والمدينة، بينَما ظلَّت القرية زمنًا طويلًا نسبيًّا مُحتفظة باستغلال الأرض والفلاحين بطريقةٍ إقطاعية أو شبه إقطاعية، واستحدثت عناصر عديدة مميزة للشكل الإقطاعي في العلاقات الاجتماعية، إلا أنَّ القرية ما لبثت أن دخلت بدورها في العملية الشاملة.

لم تكن إيقاعات التطوُّر في البلدان العربية واحدة. كانت الحياة الاقتصادية تتميَّز بحيويةٍ خاصة في مصر حيث توطد وضع الاحتكارات القومية التي خلقت، على أيَّة حال وضعًا خاصًّا لمصر على مستوى العالم العربي.

لقد تمَّ انهيار الطبقات والفئات الاجتماعية التقليدية، وتكونت طبقات وفئات أخرى جديدة، حدث ذلك في بعض البلدان ببطء، وحدث في بلدانٍ أخرى سريعًا، وفي كل مكان تكوَّنت البنية الاجتماعية على أساس تنوع الأنظمة الاقتصادية، فكان من عناصرها الإقطاعي، ورجل الأعمال على النمط الرأسمالي، ومُستأجرو الأرض الزراعية، والعامل الصناعي. على أنه لم تحدث تحولات جذرية في البنية الاجتماعية بالمقارنة مع تلك التي حدَثَت في نهاية القرن الماضي، بالرغم من أن الملاك الذين تحوَّلوا إلى بورجوازية والذين قادوا الاقتصاد جزئيًّا أو كليًّا على أسسٍ رأسمالية قد حلوا محل الأرستقراطية الزراعية في أكثر البلدان العربية تطورًا.

أظهر العديد من ملاك الأرض اهتمامًا متزايدًا بالاتجاه نحو العمل في المشروعات. وعلاوة على ذلك فقد استثمروا أموالهم في المضاربات وتجارة الخردة والبِناء، فضلًا عن دخولهم مجال الصناعة، وتكوَّن الكادر الأساسي للبورجوازية الصناعية من كبار المُزارعين والتجار والمرابين والسماسرة والمضاربين والبيروقراطية الفاسدة.

كان لاستبداد رأس المال الأجنبي، وسوء الأحوال السياسية، وغياب أو ندرة الإجراءات الوقائية، والتخلُّف الصناعي، وتقلص السوق الداخلية نتيجة فقر السواد الأعظم من الشعب … إلى آخره، أثر كبير أعاق نمو الصناعة الوطنية وأوقف مُبادرات رجال الأعمال الوطنيِّين، وحدَّ من اتِّساع عدد من فروع الاقتصاد، ممَّا أبقى للبورجوازية التجارية وضعًا أفضل مقارنةً بالبورجوازية الصناعية.

تغيَّر وضع القرية، ولم تكن الاختلافات الطبقية فيها واضحة تمامًا. غير أن عملية تحديد مجالات النشاط أصبحت أكثر كثافة. لقد وقعت القرية بكل المقاييس في براثن الفاقة: لم تطرأ على الدخول من الزراعة أية زيادة١، بينما ازداد عدد السكان، وزاد الثقل النوعي للحِرَف الصغيرة وعدد العُمال الزراعيِّين (خاصة في مصر). وقد استجمع أغنياء الريف قوتهم، وعلى خلاف الفلاحين الأثرياء الذين عاشوا في القرن الماضي، فقد أخذ هؤلاء يعملون في مجال الاقتصاد بقوةٍ أكبر.

لقد تغيَّرت ملامح المدينة بشدة، ومع التعجيل بعملية التمديُن ونشوء ونمو العلاقات البورجوازية وإعادة بناء الحياة الاجتماعية في ثوبٍ معاصر، استمرَّت زيادة الطبقة المتوسطة عددًا وأهمية، وخاصة البورجوازية الصغيرة في المدينة والفئة المميزة التي تنتمي إلى البورجوازية المتوسِّطة (صغار رجال الصناعة والتجارة وأصحاب المهن الحرة والمثقَّفون والمُوظَّفون والضباط والحرفيُّون).

وقد شكَّل صغار التجار والحرفيُّون قطاعًا هامًّا من سكان المدينة، وتكفي الإشارة إلى أن تعداد سكان مدينة بغداد في بداية العشرينيات وصَل إلى مائتي ألف نسمة، ووصل عدد الدكاكين بها إلى أربعة آلاف دكان، بينما وصل عدد الدكاكين في مدينة البصرة ذات الستين ألف نسمة إلى ألفين، فضلًا عن المقاهي والمطاعم الصغيرة التي لا تُحصى، وكذلك أنواع التجارة الأخرى (٢١–٦٠).

لقد حدثت تحوُّلات ضخمة في الحياة الاجتماعية في أوساط المثقَّفين والطلاب، مما كان له أثر هام في تطور الفكر الاجتماعي. وإذا كان المثقَّفون العرب قد خرجوا قبل الحرب العالمية الأولى أساسًا من بين أوساط الأرستقراطيِّين والفئات الليبرالية صاحبة الأملاك أو من الفئات المميزة في المجتمع، والتي لها علاقات جزئية بالتجارة، فالآن وبفضل عملية تطوير ديمقراطية للتعليم ساد مُمثلو الطبقات المتوسطة بين المثقَّفين العرب والطلاب.

وتُشير الإحصاءات الرسمية في كلٍّ من مصر وسوريا ولبنان والعراق إلى أنَّ عدد التلاميذ في تلك البلدان قد وصل إلى ٣٠٠–٦٠٠ ضعف (١٤٤، ص٧٤). وفي تونس قبل الحرب العالمية الأولى احتكرت الأرستقراطية ومن هم على قمة البورجوازية في المدن التعليم العالي. وفي عام ١٩٣٩م كان ٧٥% من المحامين و٥٠% من الأطباء وحوالي ٠% من الصيادلة وكلهم من المسلمين، ينتمون إلى الطبقات المتوسِّطة والفقيرة (١٧، ص١٠٢-١٠٣).

وإبان النصف الأول من القرن العشرين كانت بروليتاريتا المدينة ما زالت قليلة العدد نسبيًّا وشديدة الارتباط بالريف، وكانت في غالبيتها من عمال الجيل الأول الذين كانوا يخدمون في المؤسسات الصغيرة، التي تعمل بالصناعات التحويلية، وكذلك في الورش اليدوية وأعمال البناء، وفي مجال الخدمة، وكانت في نفس الوقت تحتفظ بالعادات والمفاهيم المميزة للقرية الإقطاعية.

وربما كانت مصر استثناءً؛ حيث وصل عدد العمال بها في نهاية الحرب العالمية الثانية حوالي المليون ونصف المليون شخص يعملون في مؤسَّسات لا يقلُّ عدد العمال فيها عن خمسين، وكان بينَهم من يُمثِّلون الجيل الثالث من العمال.

وكانت السمة المميزة للبلدان العربية في العصر الحديث هي كثرة الفئات والطوائف الاجتماعية المتوسِّطة التي كانت تظهر دائمًا إلى جوار الطبقات الاجتماعية الأساسية؛ ففي الريف كان هناك تعدُّد كبير مُتباين من السكان تختلف في نوعية علاقتها بملكية الأرض، من الإقطاعي إلى الأجير. وفي المدينة كان هناك عديد من الطوائف الاجتماعية، من الاحتكاري إلى الدَّهماء، إضافة إلى الدولاب الإداري البيروقراطي بمختلف رتبه وكل فئات المثقفين، وكانت الفئات الاجتماعية الانتقالية موجودة دائمًا في حالة تفاعُل مُتبادَل في داخلها وبينها وبين الطبقات الأساسية ذات الحدود الثابتة. إنَّ الطابع الجماهيري للتقسيمات الاجتماعية لتلك البورجوازيات الصغيرة هو من مُميِّزات هذا المجتمع الذي لم تأخُذ فيه الطبقات الحديثة (البروليتاريا والبورجوازية) صورتها النهائية بعد، وهو أمرٌ يُلائم، ككل، جميع الأنماط المتعدِّدة لصورة الإنتاج التجاري الصغير في البلدان العربية.

لقد حدَّد عدم وجود شكل اجتماعي مُتبلور إلى حدٍّ بعيد المناخَ الأيديولوجي في البلدان العربية؛ فالفعاليات السياسية والاجتماعية للفئات الوسطى المُختلفة الأهداف والتقاليد والأفكار كانت تُشكِّل درجات مُتناسِبة على حسب ما وعَتْه من مصالحها الخاصة. وقد أوجب تبايُن روابطها التوليدية، ووضعها الانتقالي في البِنية الاجتماعية، عدم استقرار الأمزجة ووجهات النظر السياسية، وكانت كل فئةٍ مؤهَّلة للظهور على الساحة الاجتماعية، مرة كقوةٍ تقدمية نسبيًّا ومرة أخرى كقوة محافظة نسبيًّا أيضًا.

إن التحولات تدفع أمامها تحولات، فمع تغير البنية السياسية الاجتماعية تغيرت الحياة الاجتماعية أيضًا. وربعُ قرن هو زمن ليس بالقصير حتى بالنِّسبة لمجتمعٍ متقدم، فإذا ما وضعنا نصب أعيننا الإيقاع المُتزايد للتحول التاريخي، نجد أن هذا الزمن أكثر ضرورة للدول المتخلفة التي كان كلُّ عقد من الزمان يَحمل إليها عناصر جديدة لها وزنها في التحوُّل التاريخي، فكثيرٌ من النجاحات التي أحرزَتْها الصناعة إبان نموِّها، وظهور وسائل النقل الحديث والإضاءة الكهربية والمراجل البخارية وتلك التي تَعمل بالديزل في الريف، وانتشار السلع الاستهلاكية الأوروبية التي تُعدُّ من عناصر الراحة في أوروبا، وحركة اتِّساع المدن نتيجةً للهجرة المكثَّفة إليها، ولنجاحات في مجال التعليم الشَّعبي، والتعامل مع الأوروبيِّين، وخاصة في مجال العمل، قد دخل إلى حياة قطاع عريض من جماهير الشعب، وعملت هذه الأمور بثباتٍ على تغيُّر وعي الناس، فظهرت اهتمامات ومعايير جديدة.

لم تَسِر عملية التحديث على وتيرةٍ واحدة، كما لم تَدخُل في كل مجالات الحياة، ولا في حياة كل السكان بدرجةٍ متساوية، لكنها مسَّت بشدة المدينة العربية على وجه الخصوص، هنا تعايَش عالَمان كلٌّ منهما مُغتربٌ عن الآخر، عالم الماضي وعالم الحاضر، بيد أنَّ قوى المعاصرة كانت من الضخامة، كما كانت التغيرات الاجتماعية الاقتصادية من الأهمية، بحيث إن حائط الاغتراب القائم بين هذَين العالَمين ما لبث أن تهاوى بسرعة.

أما الريف فقد كان يعيش في الماضي وهو يرزح تحت وطأة الحاجة والصراع المرير من أجل البقاء. وكان المُستقبل بالنسبة لأغلبية الفلاحين أمرًا خياليًّا. وكان الواقع بالنسبة لهم هو اللحظة الراهنة ومُتطلبات الجسد.

كان العالم الروحي للفلاحين هو عالم القضاء والقدَر والجمود الذي وصفه خبير الريف المصري عيروط بقوله: لدى الفلاح «ميلٌ جارف لكلِّ ما هو مقدَّس (البركة)، وللخوارق، وللأولياء وما يأتي على أيديهم من مُعجزات» (١١، ص١٥٣–١٥٦).

وهذا الإيمان الجبري عند الفلاحين لم يكن مجرَّد انعكاس للنزعة الصوفية، وما تختصُّ به العقيدة الإسلامية من التسليم بالقضاء والقدر، وإنما جاء نتيجة لإدراك الواقع آنذاك، وللمشاعر الحسية وللارتباط التام بالطبيعة، وبالتالي لسيطرة العلاقات الاجتماعية ولاستبداد السلطة.

وقد أشار الباحث الفرنسي جاك بيرك في الخمسينيات، وهو يَصِف حال القرية المصرية، إلى أن «وسائل الاتصال الجديدة وأدوات التبادُل التجاري استطاعت كما يبدو في أول مراحلِها أن تُعطي دفعةً معنوية للفلاحين، إلا أنها لم تقدم لهم أية إصلاحات» (١٣٢، ص١٦).

كان الانفصام بين المدينة والرِّيف يقلُّ ببطءٍ شديد. أما الآن فقد أصبح واضحًا بصورةٍ ملحوظة أن المدينة قد أخذت في التحضُّر بسرعةٍ لا تُقارن بما آلت إليه القرية؛ فاستخدام الجرار الزراعي والأثاث الحديث والموتور الذي يَعمل بالبنزين ليس دليلًا على انهيار الاضطراب الذي يسود حياة الريف. غير أنَّ كل التغيرات السريعة نسبيًّا في الظروف المادية للمجتمع وتقدم وسائل الاتصال الجماهيري والسعي الطبيعي للناس نحو الجديد، ورغبتهم في ألا يتخلفوا عن الآخرين إلى جانب ما تمَّ من إصلاحاتٍ ثقافية وتشريعات تقدمية إلى آخره، قد قوض الأركان التقليدية للقرية وجذبها جذبًا إلى خضم المعاصرة، ولم يعد النشاط الاجتماعي تمييزًا استثنائيًّا لدائرةٍ ضيقة من صفوة المجتمع؛ ذلك أنَّ هذا النشاط قد صار جزءًا لا يتجزأ من الوجود الاجتماعي للناس، مع نمو وعيهم الذاتي في إطار عملية تحديث الوضع الحياتي نفسه لهم.

لقد مزَّقت التغيرات الاقتصادية والإدارية والسياسية هيبة ونفوذ الأرستقراطية الإقطاعية المورُوثة، كما أخذت الروابط الاجتماعية للمجتمع ما قبل الرأسمالي في الضعف ثم الانهيار، وتراجَعَت الصفوة المحلية (علماء الدين والقضاة ومشايخ الحارات ورؤساء الطوائف المهنية في المدن) في مُنتصَف القرن العشرين مُفسِحة مكانها للفئات الوسطى الجديدة المرتبطة بتطور المجتمع المعاصر.

لقد أخذت الآن الفئات الوسطى في المدينة، ومن لحق بها من بعض الطبقات الاجتماعية في الريف، زمامَ المبادَرة السياسية من يد الفئات الانتقالية، بينَما بقيَت جماهير الفلاحين كما هي كقوةٍ سلبية. أما البروليتاري الذي خرَج لساحة النضال الطبقي والتحرُّر الوطني فقد كانت ندرته وعزلته وقلة نضجه السياسي سببًا في أن يلعب دورًا تابعًا في إطار حركة التحرُّر القومي في النصف الأول من القرن العشرين، ودخلت البورجوازية الكبيرة، والملاك الذين تحوَّلوا لبورجوازيِّين، طريقًا في المنافسة مع الأرستقراطية والإقطاع والمحتل الأجنبي حول حق استغلال الكادحين، ولما لم تكن لهم اليدُ الطولى بعدُ؛ فقد كانوا مهيئين لقبول الحلول الوسط. كانت الفئات الوسطى في المدن أكثر الجميع حساسية لقبول الأفكار الجديدة، ولا يَرجع هذا الحماس إلى ما تمتَّعت به نسبيًّا من تعليمٍ رفيع، بل إلى ما رأت فيها هذه الفئات من مصالحٍ وإلى ما كانت تُوفِّره هذه الأفكار من مكانةٍ في البِنية الاجتماعية. لقد كانت الطبقة الوسطى هي الجانب الأكثر تأثرًا بالتطوُّر الاقتصادي والثقافي، كما نجحت في إقامة علاقات مع الصفوة المثقفة وعلية القوم وجماهير الشعب، ممَّا لعب دورًا هامًّا في إعادة بناء المجتمع على أسسٍ جديدة؛ وذلك بالرغم من أنَّ هذه الطبقة كانت تُمثِّل قطاعًا صغيرًا نسبيًّا حتَّى في أكثر البلدان تقدمًا. لقد انتشر التعليم الحديث بين الفئات الوسطى بالتحديد، حيث تكوَّن طابع المدينة المعاصرة التي اتَّخذت نمط الحياة الأوروبي مثلًا لها، وتَشكَّل أسلوب التفكير الحديث على أساس النمو السريع للوعي الفردي في أعلى درجة تُميِّز كل بورجوازي. وبين أبناء الفئات الوسطى أيضًا وبالتحديد أولئك الذين كانوا يُمثِّلون السواد الأعظم من القراء، وجد أيديولوجيو كلِّ الاتجاهات مُستمعين ووسطاء مؤهَّلين لنقل الأفكار الجديدة إلى صميم الجماهير، وبفَضل وجودِهم ذاته وسطها استطاعوا أن يضعوا تصوُّرًا عن الشعب وآماله؛ ولهذا وبفَضلِه بدا أنهم هم أنفسهم قد تأثَّروا بشدةٍ بالفئات الوسطى التي تمثَّلت الأفكار الجديدة تبعًا لتصوراتها هي، وأسبغت عليها بعد ذلك «نظامها» واستطاعت أن تُوصِّل إلى «الأوساط الحاكمة» أماني الشعب في أن يُعبِّر عن وعيه الخاص؛ ولهذا، وذلك ما شكَّل مظهرًا هامًّا للتحوُّلات الجذرية في الحياة السياسية للبلدان العربية في القرن العشرين، سرعان ما اكتسبت حركة التحرُّر القومي طابعًا جماهيريًّا. علاوةً على أنَّ الفئات الوسطى، وخاصة في المدن، قد أصبحت قاعدة للأحزاب السياسية.

احتلَّ الشباب مكانةً خاصة في البنية الاجتماعية للمدينة، وبخاصة الطلاب وخرِّيجو المعاهد الدراسية العصرية. وكان الوضع الاجتماعي للشباب حتى عهدٍ قريب قد تحدَّد بالخضوع المطلق لهيبة كبار السن. أما الآن فقد خرجوا إلى ساحة النضال السياسي مُحاولين أن يَلعبوا دورًا مستقلًّا متظاهرين بتجاهُل أهل الرأي، بالرغم من أنهم كانوا لا يَزالون إلى حدٍّ كبير واقعين تحت تأثيرهم الأخلاقي والأيديولوجي ولم يكن هذا أمرًا جديدًا، ويُمكن اعتبار تقوض الأركان التقليدية للمجتمع، والذي تمثل بالدرجة الأولى في فقدان الشريعة والتقاليد لقوتيهما المطلقة والمنظمة لعلاقات الناس وتراجعهما المُستمر أمام التشريعات المدنية.

أهم ظاهرة في الحياة الاجتماعية للبلدان العربية، دخول جماهير الشعب جنبًا إلى جنب مع مُعترك الحياة الاجتماعية، وما أحرَزته قضية المرأة من نجاحٍ أكثر حتى بالقياس إلى حركة التنوير، على مدى اتساع التغيرات التي ميَّزت تطور المجتمع العربي في الفترة المطروحة للبحث.

إن النتيجة الرئيسية للتحولات في المجال الاجتماعي الاقتصادي أصبحت في التناقض المتزايد بين حاجة وتطلُّعات العالم العربي في المقام الأول والأنظمة السياسية القائمة والتبعية السياسية والاقتصادية للدول الاستعمارية الأوروبية من الناحية الأخرى. وقد وجد هذا التناقض مخرجًا له في نمو الطابع القومي وتطوُّر حركة التحرُّر الوطنية. وقد ساهم هذا الوضع كثيرًا في تهيئة الظروف لحلِّ المشكلات السياسية والتطور الحديث في ظروف التوزيع الجديد للقوى على الساحة الدولية، والانتصار الملحوظ للديمقراطية، وسرعة التقدُّم الثقافي والاجتماعي السياسي العالمي. لقد عَملت التأثيرات الخارجية في مجموعها، بقوةٍ في النمو التقدُّمي للعرب وفي تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي لديهم بالمذاهب الحديثة (بالرغم من أن بعضها أحيانًا كان يعمل على إعاقة هذا النمو، وعلى صياغته بصورةٍ معاكسة).

ومن المُحتمَل إرجاع النشاط الهائل للفكر السياسي الاجتماعي في البلدان العربية الواقعة في شمال أفريقيا في مُنتصَف العشرينيات، بالدرجة الأولى، لتلك العوامل السابقة التي اكتسبت أهميةً عالمية شاملة، إلى جانب تأثير الموقف العام الذي تكوَّن في المشرق العربي.

ومرَّت حركة مناهضة الاستعمار بتغيراتٍ نوعية لوحظت حتى مع مطلع القرن العشرين؛ فقد تراجَع دور المُنتديات الثقافية والاجتماعية، كقُوى محرِّضة ومنظَّمة، أمام الأحزاب السياسية، ولقي نشاط المثقَّفين تأييدًا مباشرًا بمشاركة جماهير الشعب في أحداث الحياة الثقافية والاجتماعية، وبذلك أصبحت الجماهير قوة رئيسية في النضال ضد الاستعمار.

لقد أخذ الفكر السياسي الاجتماعي في البلدان العربية دفعة قوية من الحرب العالمية الأولى ومن التسويات التي تبعت انتهاءها. لقد أضفت الحرب على العالم العربي روحًا ثورية؛ لأنَّ عشرات الآلاف من العرب قد اشتركوا فيها تحت شعارات «الحرية، والديمقراطية». وبالرغم من أن هذه الشعارات قد رفعت لصالح الأهداف الإمبريالية للدول المتحاربة، فإن ما كانت تحمله من رموزٍ قد جاءت استجابةً لمشاعر وأماني الشعوب المحتلة والتابعة، وأيقظت فيها الرغبة في حياةٍ وطنية، وألهبت أفكار الحرية القلوب وتعللت نفوس المهانين والمذلين بالأمل في الخلاص من المهانة والمذلة.

في خطابه المفعم بالحماس كتب أمين الريحاني (١٨٦٧–١٩٤٠م) وهو واحد من كلاسيكيِّي الأدب العربي الجديد في رسالة بتاريخ ١٧ أبريل ١٩١٧م «… مارس هذا العام هو أعظم مارس في التاريخ: سقطَت بغداد وسقطت غزة وسقط أعظم نظام في العالم نظام أسرة رومانوف، الذي سيَقتفي أثره آل هبسبورج وجوجتسيو-ليرن وحتمًا الحكام العثمانيون. لقد سطعت شمس الديمقراطية التي ستُضيء الشرق كله. لقد دخلت الجمهورية العظمى (الولايات المتحدة–ليفين) الحرب وانتصرت الحرية الإنسانية على عدوها الشرير ألمانيا، وليس لديَّ أدنى شك في أن الشعوب الصغيرة المضطهدة ستحصل الآن بعد الحرب على حريتها، وسوف تحيا بشكلٍ جديد» (٧٩–١٦٨).

لقد كان لثورة أكتوبر الاشتراكية العُظمى في روسيا أهمية لا تُمحى في التربية السياسية للعرب ولحركة التحرير الوطني في البلدان العربية، كما أنها حرَّكت الشعوب المستبدة في المستعمرات وفي البلاد التابعة، وقوَّت لديها الإيمان في الانتصار النهائي والثِّقة في إرادة نضال الجماهير، ووضعت نقطة البداية في جميع الانتفاضات الثورية للعمال وحركة النضال التحرُّري الوطني في ثورةٍ واحدة قادرة على إسقاط الإمبريالية … وكشفت للعالم كله، وفي مقدمته الشعوب المحتلَّة والتابعة التي تُمثِّل أكثر من نصف البشرية، الطريق الصحيح لحل قضيتها الوطنية (١٠، ٢٤١–٢٤٢).

ولكن يبدو أنه كان من الصعب تقدير أهمية تلك الأنشطة التي قامت بها الحركة الثورية في روسيا مثل إعلان حقوق الشعوب في روسيا (حول مُساواة وسيادة الشعوب القاطنة في روسيا وحقها في تقرير المصير وإلغاء كل أشكال التميُّز القومي والديني) المنشور في نوفمبر عام ١٩١٧م، وكذلك الرسالة الموجَّهة إلى جميع الكادحين المسلمين في روسيا والشرق التي أكَّدت على مبدأ حرية وعدم المساس بالمعتقدات والعادات والمؤسسات القومية والثقافية للمسلمين، وكذلك البدء في نشر مسلسل تقسيم البلدان العربية إلى مناطق نفوذ (بين إنجلترا وفرنسا وروسيا القيصرية).

لقد وصلَت أخبار ثورة أكتوبر، التي جاءت بالحرية الاجتماعية للعمال في روسيا، فضلًا عن أنها حررت الشعوب التي كانت واقعة تحت نيِّر الاحتلال القيصري، إلى العالم العربي، وتركت في كل مكان تأثيرًا قويًّا على حركة التحرُّر الوطني، وهي القضية التي برزت على ما عداها من قضايا الحياة آنذاك، فكتبت صحيفة «الفرات» الناطقة باسم الثورة العراقية في عام ١٩٢٠م «إن تأثير الثورة البلشفية الذي مسَّ الجميع قد دفع الشعوب للنضال من أجل حقوقها وتغيير حياتها …» (١٠٢، ١٨٦–٢٨٧)، وهناك في أقصى شمال القارة الأفريقية كتب فيني دي أوكتوب «من أقصى جنوب تونس إلى الحدود الغربية للمَغرب لا يُوجد عربي ولا بدوي واحد لم يعرف بأمر ثورة أكتوبر العظمى» (٢٢، ٤٩).

لقد شكلت المبادرة السياسية التي خرجت من الشعب الروسي المتحرر تهديدًا لوجود الاستعمار ذاته؛ ومن ثَم فقد جاء رد فعل العالم الرأسمالي سريعًا. وفي السابع من يناير ١٩١٨م ظهر البيان الأنجلوفرنسي حول نية منح الاستقلال للعالم العربي الواقع تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، وكانت محاولة تحييد الفعل الثوري لروسيا السوفيتية واحدة من المحاولات العامة التي أثارت فودرو ويلسون الرئيس الأمريكي لأن يعلن عن «النقاط الأربع عشرة» التي قضت على وجه الخصوص بالاعتراف بحق جميع الشعوب في تقرير مصيرها.

لقد أعلنَت آلة الدعاية الجبارة للعالم الرأسمالي أن «النقاط الأربع عشرة» تُمثِّل تتويجًا لقرارات الغرب الديمقراطية. وقد أصبحت هذه النقاط رمزًا لإيمان القوى التقدمية في البلدان العربية، وكانت النقطة الثالثة عشرة والتي تنص على أن «كل شعب يمتلك وحده حق تحديد سياسته واختيار طريقه الذي يَرى أنه يُؤدي به نحو التطور دون عوائق أو موانع أو تهديدات أو إرهاب ودون التَّفريق بين دولةٍ قوية وأخرى ضعيفة» بمَثابة سلاح سياسي في نضال العرب من أجل الاستقلال. غير أنَّ تاريخ ما بعد الحرب قد فضح كذب الوعود التي أسرفت في بذلها الديمقراطية الأمريكية والأوروبية، وأعطى تطور الاتحاد السوفيتي للشعوب المقهورة مثلًا مُلهمًا للديمقراطية الحقة.

١  هبط مستوى دخل الفرد في مصر (أسعار عام ١٩١٢م) من ١٢٫٣ جنيه في أعوام ٢١–١٩٢٨م إلى ٩٫٦ جنيه في الأعوام ٣٥–١٩٣٦م (٤٤، ١١٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤