المظاهر الأيديولوجية لحركة التحرُّر القومي في العالم العربي

  • بعض التصورات العامة بشأن النزعة القومية لدى الشعوب المقهورة.

  • أيديولوجيات الحركات القومية في العصر الحديث.

  • النزعة القومية في العالم العربي: التحوُّلات التي طرأت على اتجاه القومية العربية والجامعة العربية.

  • مفاهيم الجامعة العربية.

يَشغل الاتجاه القومي البورجوازي مكانة كبيرة في التاريخ الحديث والمعاصر للعرب، وهناك في الأعمال الماركسية ووثائق الأحزاب الشيوعية والعمالية ومؤتمراتها العالمية صيغ عديدة للمواقف النظرية للمشكلة العامة لنشأة النزعة القومية، وخاصة النزعة القومية لدى الشعوب المقهورة، إلا أنه ما تزال هناك حتى الآن آراء جدلية بخصوص عدد من مظاهر هذه المشكلة نجد لها انعكاسًا في الأدبيات المُتخصِّصة. إن دراسة القومية كظاهرةٍ اجتماعية من وجهة نظر تحديد المغزى الاجتماعي السياسي للتغيُّرات الشكلية التي طرأت عليها في مراحل مختلفة، ثم من وجهة نظر تناولها كنظامٍ له مفاهيم، تعدُّ ظاهرة بالغة التعقيد. وهناك آراء عديدة في الأدبيات الماركسية بهذا الصدد. ونحن نرى أنَّ من الضروري أن نطرح عددًا من التصورات العامة بشأن النزعة القومية لدى الشعوب المقهورة كشكلٍ من أشكال أيديولوجيات الحركات التحرُّرية، وذلك دون أن نزعم أننا سنُقدِّم بحثًا كاملًا ودقيقًا لهذه القضية.

ونقاط الانطلاق في دراستنا القومية ستكون، من جانب: أن القومية في جوهرها أيديولوجية بورجوازية مجسدة في منظومةٍ من وجهات النظر الشعبية اللاطبقية، تعكس على الصعيد النظري تضخيم الخصائص القومية، والتصور المُبالَغ فيه حول الأمة، والتقدير القومي المشوه للتفاعل المتبادَل بين القومي والأممي، والتأكيد على أولوية ما هو قومي على ما هو طبقي، ومن جانبٍ آخر: الاعتراف بوجود عناصر تقدمية داخل القومية، مثلًا عندما يكون «بعث الجماهير من سبات الإقطاع وحثُّها على النضال ضدَّ كل أشكال القمع القومي من أجل سيادة الشعب وسيادة الأمة» أمرًا تقدميًّا (٥–١٢٥).

أصبحت القومية في البلاد التي اتخذت التطور الرأسمالي طريقًا لها ودخلت دائرة التبعية، تُمثِّل شكلًا من أشكال الوعي الاجتماعي لأمةٍ مقهورة يعكس في الوقت ذاته الظروف الخاصة لهذا الوجود التابع. وقد عملت الإمبريالية موضوعيًّا على الحفاظ على الأشكال الاقتصادية الجامدة في البلدان المتخلِّفة، كما شوَّهت هذا الاقتصاد وغيَّرت من خصائص العلاقات الاقتصادية لهذه البلاد، وتسبَّبت عن طريق الانحراف بالمسار الطبيعي لها في تضخيم أهمية الفئات السياسية الفوقية البالية داخل النظام الاجتماعي. وعلاوةً على هذا كثيرًا ما لعبت العناصر البورجوازية دورًا ثانويًّا في تشكيل الروابط الاجتماعية وفي مجال النشاط السياسي. وقد كانت شعوب هذه البلاد محرومة من كل الحقوق السياسية فضلًا عن أنها كانت مقهورة قوميًّا. كان الحرمان من الحقوق والقهر يتجسَّدان في الظلام التام والشرور والتخلُّف والانحلال. وقد حدد كل هذا المهام التي اضطلعَت بها القومية لأمةٍ مقهورة في معادلةٍ بديهية: التحرر من كل أشكال الظلم السياسي والقهر القومي، هو الهدف الشَّعبي العام الأول على المستوى الذاتي، بقدر ما يُحقِّق هذا استجابة لمطالب الطبيعة الإنسانية. أما على المستوى الموضوعي فإنه يُمثِّل الخطوة الأولى نحو تقدمٍ حقيقي.

لم يتوقَّف نضال الإنسان من أجل الحرية عبر تاريخ البشرية كله، هذا النضال الذي أعتبره، أولًا وقبل كل شيء، دفاعًا عن مصالحه الخاصة من مفهومه الخاص. وقد اتخذ هذا النضال في كل مرحلةٍ من مراحل تطوُّر المجتمع الطبقي شكلًا أيديولوجيًّا، واعتمد — خاصةً — على القبلية الضاربة بجذورها إلى ذلك العنصر النفسي الاجتماعي، كالوعي بعلاقة الدم التي تربط بين أبناء القبيلة الواحدة، وكذلك عندما يتعلَّق الأمر بمصالح القبيلة ووجود أبنائها ذاتهم. وقد يدور النضال من أجل عقيدة «حقيقية» أو بحكم القبلية (وكثيرًا ما يكون هذا السبب وذاك معًا)، أو عندما تمسُّ هذه العقيدة الاحتفاظ باستقلال أو مصالح دولة إقطاعية، أو الاحتفاظ بالمزايا الإقطاعية أو الأسُس التقليدية، وأحيانًا يدور هذا النضال باسم الأمة أو من أجلها لجماعةٍ متجانسة اجتماعيًّا ولها سيادتها ومصالحها. وقد يحدث النضال من أجل مصالح البورجوازية القومية والفئات الاجتماعية المرتبطة بها.

وفي العصر الحديث، عصر الأممية الرفيعة المستوى، أصبحت الأمة في كل مجالات الحياة تقريبًا رمزًا لحركات التحرُّر حتى في حالة عدم تكونها بصورةٍ نهائية؛ أي في الوقت الذي تكون البورجوازية القومية فيه ما زالت في المرحلة الجنينية. وعلاوة على ذلك، كثيرًا ما تظهر الصياغة القومية للوعي، فضلًا عن اتخاذ نظام حكومي قومي، بعد أن تكون الأمة قد تكونت بالفعل في ظروف الاحتلال والتبعية، وهناك تراكم تدريجي في التغيرات التحتية والقومية يحدث بحكم قوانين تطور الاقتصاد العالمي، وهذه التغيرات تعمل على تحويل الشعوب التابعة والمستعمرة من هدفٍ إلى ذاتٍ فاعلة في التاريخ، فهذه الشعوب وبخاصة الصفوة المثقفة قد بدأت في الوعي بوضع العبودية والتبعية المزري الذي تعيشه، وسعت نحو التخلُّص منه أو حتى التخفيف من ثقل الظلم الواقع على كاهلها.

وأصبحت عناصر كثيرة من عناصر أيديولوجيات ما قبل البورجوازية، جزءًا مكملًا للوعي القومي وللأيديولوجية القومية.

وانعكسَت فيها الخصائص النفسية والثقافية القومية والمؤثِّرات الأيديولوجية الخارجية، ومبدأ البورجوازية القومية، وهو تطور الأمة على وجه العموم. وقد اعتمدت هذه العناصر جزئيًّا على تلك الغرائز الإنسانية؛ مثل الشعور بالانتماء إلى الوطن، والسعي لشغل وظائف محدَّدة في السلَّم الاجتماعي، التي تحوَّلت إلى سعي بعض الفئات الاجتماعية لشغل مكانة لائقة في المجتمع وداخل الأمة، وأصبحت شعاراتها هي وحدة اللغة والتاريخ والدين والتقاليد والأرض والمصالح والمقدسات.

لقد أصبحت العوامل النفسية ذات أهمية خاصة في الاتجاه القومي للشعوب المقهورة (معطية لهذه الشعوب ديناميكية فائقة)؛ وذلك بعد أن أصبح الشعب على قدرٍ كبير من التطور من الناحية الاجتماعية السياسية، وتمنِّي الحصول على الحقوق والإمكانيات التي يتمتع بها الآخرون (الأوروبيون)، وإمكانيات الحياة التي يَفتقدها هو نفسه.

وقد كشف فرانس فانون (١٩٢٥–١٩٦١م) عضو ومُنظِّر الثورة الجزائرية الشهير، والمُنحدر أصلًا من جزر المارتينيك في كتبه عن نفسية الشعب المقهور، فأشار إلى أن الأوروبيِّين يُشكِّلون في كل أنحاء أفريقيا أقلية متميزة ينظر إليها السكان الأصليون كجزء لا يتجزَّأ من النظام الاجتماعي والسياسي، ويربط فانون بشكلٍ صحيح حقيقة ظهور عقدة الإحساس بالدونية عند الأفارقة بكونهم غير مُتساوين في الحقوق الاقتصادية؛ فالعلاقة بين الأوروبيِّين والأفارقة كالعلاقة بين الفارس وحصانه، ويَشعر الناس باستمرار بعدم المساواة حتى في «لون الجلد» (١٣٨–٢٦): «غنيٌّ لأنه أبيض، أبيض لأنه غني» (١٣٧، ٣٢–٣٣).

وفي الوقت نفسه فإنَّ المواطنين الأصليِّين يَغمرهم الشعور بأنهم مُتفوِّقون روحيًّا، وهؤلاء حين يَعترفون بمنجزات الغرب العلمية والتقنية، يَنتمون بالتالي بشَكلٍ سلبي ومُضحِك إلى الثقافة الروحية للرجل الأبيض. ويتفاقم هذا الوضع نتيجة الممارسات القهرية التي تؤكد تفوق قيم الرجل الأبيض وتَفرض — بفضل عدوانيته — انتصار نمط حياته وأفكاره على الشعوب المحتلة (١٣٧–٣٥).

وتقوم سيكلوجية الشعوب المقهورة والتابعة على الوعي الذاتي الجماعي أو على السيكلوجية القومية، التي مِن أهمِّ أسسها فهم الإنسان بحسب انتماءاته لجَماعة عِرقية قومية محدَّدة، وعلاقاته بالمصالح المادية والروحية والحاجات التي تضمن بقاء وتطور هذه الجماعة. وقد أعطى هذا الظرف بالذات طابعًا محافظًا حادًّا للشعارات القومية وعمق من المظاهر السلبية لها. في هذه الحالة فإن الحاجز العرقي يبدو أكثر ارتفاعًا ومتانة من الحواجز الطبقية.

وكما ذكرنا من قبل فإنَّ السكان المحليِّين والأوروبيِّين حتى داخل نطاق المدينة الواحدة، كانوا يَبدون في الغالب في حالةٍ من العزلة كل منهم عن الآخر بفضل العُزلة الثقافية والروحية للجماعات الأصلية والأوروبية، بالرغم من حتمية الصلات التي ساهمت في كسر حواجز هذه العزلة. إنَّ ظاهرة الاغتراب تقلُّ ملاحظتها في الطبقات الاجتماعية «الراقية»، التي تتَّفق مصالحها مع بعضها البعض. أما في الطبقات «الدنيا» فقد تزايَدَت نتيجة الشك والمشاعر العدوانية المباشرة تجاه كل غريب. كان لتماسُك الأوروبيِّين بحكم هذه المشاعر العدوانية؛ ومن ثم الارتياب فيه، أثرٌ كبير في اشتداد عُقدة الخوف من الأجنبي عند المواطنين الأصليِّين، وكثيرًا ما أثار عدم المساواة في الحقوق السياسية والتبعية الاقتصادية واضطهاد العقيدة وثقافة الشعب ردود فعل وفاعلية، ظهرت على وجه الخصوص في صورة الاحتجاج ضد المركزية الأوروبية الغربية. وفي نفس الوقت ظهر اتجاه مُتعاظِم يسعى نحو الدفاع عن العادات والأعراف (كل العادات والأعراف) والثقافة القومية والدينية (في كل مظاهرها) والتراجُع عن المعتقدات الدينية والمؤسسات التقليدية (كلها حتى أقدمها شكلًا)، هنا أخذت القوى المحافظة في إبراز الجوانب المحافظة للنظم والتقاليد القومية والدينية الفلسفية، وأخذت القوى التقدُّمية في إبراز قوة أو واقعية جوهرها التقدمي وجوانبها الإنسانية، أصبحت الثقافة القومية بعد إبراز ملامحها المحافظة وسيلة للحفاظ على واستعادة الروابط الاجتماعية البالية والسلم الاجتماعي القديم. كانت محاولة سعي الشرق لمواجهة الغرب، ووضع الخصوصية القومية ضد مثيلتها الغربية في المجال الاجتماعي والثقافي، إلى جانب المغالاة في قيمة الطابع القومي للثقافة، أمورًا جوهرية بالنسبة للمفاهيم القومية التي ساعدت على التبرير والتأكيد الذاتيين على النزعة القومية، وطرحت مقولة مفادها أن الإنسان — خلافًا لما هو شائعٌ في الغرب — هو مركز الحياة الاجتماعية، وجرى التأكيد على الإنسانية الفريدة للثقافات الأفروآسيوية مقابل حضارة الغرب الصناعية البراجماتية. وخلافًا للفردية الغربية عوَّلت النزعة القومية العربية على «روح التضامن»، التي تقوم أساسًا على القيم الأخلاقية التقليدية للإسلام في صياغةٍ واحدة، مع تدعيم وحفظ القيم القومية الأيديولوجية. في هذه المواجَهة بين الشرق والغرب التي تميَّزت بسعي شعوب آسيا وأفريقيا نحو إبراز الجوانب الأخلاقية، كعاملٍ مُهيمِن، في الحياة الاجتماعية، انعكست على وجه الخصوص، صورة الصراع القائم بين الشرق المتخلف اقتصاديًّا والغرب المتطور.

كان للتوجه ناحية الثقافة القومية والقيم الثقافية أثره في التأييد الجماهيري لحركة النضال التحرري القومي، والمعروف أنه لم توجد هناك أيديولوجية واحدة طبقية دنيوية، استطاعت أن تُصبح أيديولوجيا لغالبية الشعب لفترةٍ طويلة في البلاد المستعمَرة والتابعة، إلا القومية التي استرشدت بحسِّ الجماهير، فقد أصبحت في فترة التحرُّر القومي، الأيديولوجية البارزة وربما المهيمنة. لكن كون القومية أصبحت في ذلك الظرف أيديولوجية ذات هيبة لدى الجماهير، لا يعني أكثر من كونها في الواقع تمثل مرحلةً من مراحل التطور الاجتماعي النفسي للشعب. إنَّ الجوهر البورجوازي للقومية ظلَّ موجودًا في كل تغيراتها؛ إذ إن النظريات القومية تؤكد الوحدة الوهمية لمصالح جميع الطبقات الاجتماعية، التي هي في النهاية في مصلحة البورجوازية قبل كل شيء. على العموم فقد كتب فلاديمير لينين أن «أي حركةٍ قومية لا يُمكن أن تكون سوى حركة بورجوازية ديمقراطية؛ إذ إنَّ جماهير المواطنين الرئيسية في الدول المتخلِّفة تتكون من الفلاحين الذين يعدون مُمثلين للعلاقات البورجوازية الرأسمالية» (٥، ٢٤٣)، وهذه المقولة اللينينية تنطبق تمامًا على العالم العربي.

لقد اتَّخذت القومية في البلاد المقهورة أكثر الأشكال تباينًا بالنسبة للظروف المحددة لنشأتها ونموها. إنَّ طابع المفاهيم القومية يحدد بخاصة تلك العوامل مثل متانة الأوضاع الاقتصادية والسياسية للبورجوازية القومية، ورسوخ الأنماط القبلية والإقطاعية، وإلى أي مدى يكون الوضع الداخلي والخارجي، ودرجة تبعية البلاد سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا إلى آخره، ملائمًا أو غير ملائم لنشاط البورجوازية المحلية، إلا أنه في جميع الأحوال، فإن كل أو معظم التيارات الأيديولوجية، وكل أو معظم أشكال الوعي الاجتماعي، تُضفي على نفسها طابعًا قوميًّا وتعمل بنشاط على رفع شعارات القومية، وذلك عندما تكون القومية في الصدارة؛ ولأن الطابع الطبقي لحركات التحرر الوطني وخاصة في البداية يكون مسدلًا على نفسه حجابًا بصورةٍ أساسية، مما يَجعل التناقضات الطبقية في فترة نضال الشعوب من أجل التحرر تتراجع أمام قادتها.

إنَّ القومية لدى الشعوب المقهورة يُمكن أن يكون لها توجُّه سياسي مُختلف يتحدَّد من ناحية نشأتها بما استقرَّ فيها من عناصر اجتماعية اقتصادية ونفسية؛ نشاط موضوعي إيجابي مناهض للاحتلال أو مناهض للإقطاع، أو نشاط سلبي يُساعد في المقام الأول على إعادة بناء الصور القديمة للعلاقات الاجتماعية، وتربية الجماهير بروح الأيديولوجيا البورجوازية.

كتبَ لينين «من الضروري أن يُفرق العمال مبدئيًّا بين اتجاهين، فنحن دائمًا وفي جميع الأحوال نقف مع بورجوازية الأمة المقهورة، بقدر ما تُناضل هذه البورجوازية ضد مضطهديها؛ ذلك لأننا أشجع وأثبت أعداء القهر. وبقدر ما تدافع بورجوازية الأمة المقهورة عن البورجوازية القومية بقدر ما نقف ضدها» (٨–٢٧٥).

إنَّ التاريخ يُقدم لنا كيف تَنمحي الملامح التقدمية لقومية الأمم المقهورة، وأين وبأي قدر، كلَّما وجدَت المشكلات العامة القومية والديمقراطية حلًّا لها، وعندما تظهر، في مرحلةٍ محددة من مراحل التطور التاريخي، ضرورة حتمية لإيجاد حلٍّ راديكالي للمشكلات الاجتماعية، تبدأ في السقوط وحدة كل القوى القومية التي تحقَّقت في أثناء النضال من أجل الاستقلال تحت شعارات قومية، وذلك بحكم قوانين النضال الطبقي، وعندئذٍ تقف القومية التي تبشر بعالمٍ طبقي حجر عثرة أمام التقدم، على الصعيد الدولي تقوم حركات النضال القومي بدعم المعسكر المناهض للاستعمار، ولكن بعد الحصول على الاستقلال تتَّخذ القومية بصورها المختلفة عادةً (وبرغم نشاطها المتباين)، موقفًا عدائيًّا من البروليتاريا والاشتراكية الأممية، ساعية إلى الحد من حركتهما.

وتظلُّ هذه أو تلك من مظاهر قومية الشعوب المقهورة باقية، ما بقي هناك احتمال ظهور أقل أعراض التمييز القومي، وما بقيت هناك عناصر مواجهة بين «نحن» و«هم».

إنَّ الاضطهاد والتمييز القوميَّين يثيران الاحتجاج حتمًا بصورةٍ علنية عارمة، أو مضمرة إلى حين، ويولدان سعيًا جارفًا نحو التحرر والعدالة.

لقد انتقل النضال التحرُّري للشعوب العربية في القرن العشرين من مرحلة الحركات الشعبية، التي لم تخرج بطبيعتها عن إطار الحروب التحررية للعصور الوسطى، إلى مرحلةٍ حديثة في النضال التحرُّري القومي. وقد اتَّخذت الأشكال الانتقالية تلك الحركات الجماهيرية مثل انتفاضة الصحراء (١٩١٦–١٩١٨م) بقيادة حسين شريف مكة، وحرب التحرير التي شنَّتها القبائل المغربية بقيادة عبد الكريم (١٨٣٥–١٩٢٧م)، والانتفاضة التي قامت ضد الإنجليز في العراق (١٩٢٠–١٩٢١م)، والنضال الطويل للقبائل الليبية ضد الاحتلال الإيطالي (١٩١٣–١٩٣١م). إن هذه الحركات ذات البنية التنظيمية القروسطية، وبما اكتسبته من أهميةٍ أضفتها عليها الرموز الدينية والتقاليد، وضعت نصب أعينها أهدافًا معاصرة في الاستقلال الوطني والنمو التقدمي والدفاع عن نمط معيشتها وكرامتها الإنسانية.

لم يَطرأ أيُّ انحلال على وحدة الرُّوحي والدنيوي في الإسلام تحت تأثير التحولات والانقلابات التي تحدث في الحياة اليومية، وحفظت هذه الوحدة للإسلام دوره الحتمي كصفةٍ سياسية.

فالانتفاضات ضد المحتلين الأوروبيِّين أو التهديدات بالتدخل الأجنبي، قد اتخذت كقاعدةٍ شكلًا دينيًّا، واعتبر الإسلام القوة الوحيدة القادرة على توحيد وحفز الشعوب على النضال من أجل أهدافٍ مشتركة، ما دامت نظرتها لا تزال دينية وما دامت الفكرة الوطنية (العنصر الضروري للفكرة القومية) لم تَنضج بعد.

قامت حركات التحرُّر تحت راية الجهاد وفي سبيل عزة الإسلام، ذلك الجهاد الذي فرضه الرسول على المسلمين، ومَن أطاعه فتحت له أبواب الجنة.

وكان على رأس معظم الانتفاضات التي جرت في القرن التاسع عشر في شمال أفريقيا قيادات جماعات دينية إسلامية. فقد كان نضال الشعب السوداني التحرُّري ضد الحكم التركي المصري وحربه ضد الإنجليز (١٨٧١–١٨٨١م) يَستلهم الفكر المهدي الذي أرسل الله به المهدي إلى الأرض ليُحرِّر البشرية به من آلامها، وبنفس الطريقة كانت الانتفاضة ضد الفرنسيِّين التي قامت بها القبائل في غرب الجزائر، والتي قادها عبد القادر الجزائري (١٨٠٨–١٨٨٣م) على مدى خمسة عشر عامًا (من ١٨٣٢ إلى ١٨٤٧م). إنَّ ابن رئيس الطريقة القادرية الصوفية، وهو إنسانٌ عميق في مشاعِره الدينية، فقيه في الدين وعلى درايةٍ واسعة بمراجعه، أعلن الجهاد، واستغلَّ «اسم الله» على نطاقٍ واسع في حربه ضد «الكفار». وقد أقسم عبد القادر بعد أن تولَّى قيادة الثورة أن يتمسَّك بقانون واحد هو القرآن، وأن يَمتثل لتعاليمه وحده … «القرآن والقرآن وحده». وفي الرسائل التي بعث بها إلى القبائل، والتي أعلن فيها عن عزمه توحيد المسلمين وضمان نصرة الحقوق وتوفير الأمان، وطرد العدو الدخيل على البلاد، طلب عبد القادر من الجميع الذين «يُمثلون السلطان … أن يعملوا دائمًا تبعًا لتعاليم القرآن وسنة الرسول» (١٣٥، ٢٧–٢٩).

وفي القرن العشرين كانت هناك حربُ تحريرٍ طويلة وواسعة المدى، أدارها الاتحاد الديني السياسي للقبائل التي كانت تسكن منطقة ليبيا الآن ضد الغزاة الإيطاليِّين، وعلى رأس هذه الانتفاضة وقَفَت قوة السنوسيِّين مُعلنة الجهاد المقدَّس ضد إيطاليا.

وفي العشرينيات من هذا القرن كانت هناك انتفاضة قبائل الريف في شمال أفريقيا (المغرب)، وكانت بقيادة الشيوخ البارزين الإخوة الرحمانية والخطابي، واشترط الميثاق القومي الذي عقدته القبائل في الريف عام ١٩٢١م للنضال من أجل الاستقلال عن الاحتلال الإسباني، وإعلان جمهورية تَحتكِم إلى القرآن والشريعة.

وهناك في شرق العالم العربي (في العراق) قامت القبائل التي هبَّت في عام ١٩٢٠م بإعلان الجهاد ضدَّ المُحتل الإنجليزي، وكانت الركائز الأساسية للانتفاضة التي انتشرت لتعم البلاد بأسرها في النجف والكوفة وأبو صخير، وكلها مراكز شيعية كانت تُبشر وتقود الانتفاضة مع أشراف القبائل. وكانت الدفعة القوية نحو هذه الانتفاضة هي فتوى الشيخ الشيعي محمد شيرازي الزعيم الروحي للثوار: «يجب على العراقيِّين أن يذودوا عن حقوقهم، هذا واجبهم، وعليهم أن يَلتزموا بالنظام عند زحفهم، وباستطاعتهم، إذا ما رفض الإنجليز الاستجابة لمطالبهم، أن يلجئوا للقوة بهدف الدفاع» (٣٥، ١٨٧).

إنَّ هذه الانتفاضات، ومن حذا حذوها، كانت تحمل بكل تأكيد طابعًا تحرريًّا، كانت تمثل في معظم الأحوال أعمالًا تستمد قدسيةً من القرآن، وكانت القبائل تتوحَّد من أجل وبهدف النضال ضد غرباء مُغتصبين. غير أن هذه الحركات لم تكن تتميَّز بالهوس أو التعصب الديني الذي كان موجودًا في العصور الوسطى. كان الشعب الثائر يَلتزم بالصبر في شكله الديني؛ ففي وقت الانتفاضة (في العراق على سبيل المثال) اتخذت إجراءات خاصَّة لتكفل التقارب بين أهل الشيعة وأهل السنة (١٤٢–٢٦٣)، وشدَّد قادة الحكومة في الريف على قومية نضالهم التحرُّري، وعلى أنه لا يحمل طابعًا دينيًّا (انظر ١٩). لقد سادَت روح العصر، كان للموقف التاريخي والأفكار الجديدة تأثير كبير على الوعي الجماعي في أوساط الفلاحين والبدو، انعكس في برامج وشعارات الحركات الشعبية في القرن العشرين. وقد وصف الشيخ محمد شيرازي (العراق) في ندائه للشعب هدف الانتفاضة بأنه تحقيق الاستقلال وإقامة حكومة عربية قومية، وتقديم الحقوق الشرعية للمُواطنين العراقيين (٣٥، ١٨٧). كما كتب وزير خارجية جمهورية الريف في رسالةٍ بعث بها إلى الإسبان أن دولة الريف «قامت على أُسسٍ حديثة وقوانين حضارية، وهي تعتبر نفسها دولة مستقلة سياسيًّا واقتصاديًّا، وتأمل أن تعيش حرة مثل بقية الشعوب» (٩٩، ١٢٩). وفي طرابلس الغرب قام زعماء حركة التحرر بإقامة مؤسسات جمهورية، وعملوا على إقامة مجتمع متقدم في كل نواحيه، وجعل طابع العصر زعماء الإقطاع مُضطرِّين إلى أن يعطوا المفاهيم العصرية أولوية: الجمهورية، الدستور، الحضارة، وذلك إلى جانب أنهم ظلوا محافظين على بقايا ديمقراطيتهم التقليدية الموروثة.

كان البناء السياسي لجمهورية الريف قريبًا لبناء تنظيم السلطة لدى القبائل المغربية، والذي كان أعلى مراتبه مجلس الأمة الذي يضمُّ مُمثلي القبائل. وقد تمَّ الاتفاق في الجمهورية على انتخاب المجلس العام لمُمثلي كل فئات الشعب، الزعماء والشيوخ، والحكومة مسئولة أمام رئيس الدولة، وهو مسئول بدوره، حسب تقاليد البلاد، أمام المجلس العام (٩٩، ١٣٨–١٤٠).

لقد كان تطور الوعي السياسي ما زال ضئيل الشأن، وكان اشتراك الفئات المتوسطة الجديدة في الحركات الشعبية قليلًا، ولم يكن لها تأثير يُذكر على الجماهير. أما هناك، حيث اكتسبت البورجوازية القومية خبرة في النضال التحرُّري القومي، كما حدث في العراق مثلًا، فإنها استطاعت الاندماج في الحركات الجماهيرية، بالرغم من أنها لم تكن مؤهَّلةً بعدُ آنذاك للاضطلاع بدور القيادة.

وُلد الوعي الذاتي القومي في البلاد العربية مع نهاية القرن الماضي، عندما بدأت هذه الدول بصورةٍ لا رجعة فيها عملية الارتباط بالمعاصرة على أساس تعميق وتقوية وتطوير عناصر الاقتصاد الرأسمالي والعلاقات الاجتماعية البورجوازية تحت تأثير السوق العالمية، آنذاك لم يكن للبورجوازية القومية العربية أي الفئات الوسطى الجديدة أي ثقل في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ولم يكن لديها حتى هذا الوقت إمكانية الطموح للاستيلاء على السلطة، ولكنها استطاعت بالاشتراك مع العناصر الليبرالية في دوائر الإقطاع وكبار المُلاك في ذلك الوقت، مجرَّد تحطيم طرق الحُكم التقليدية التي كانت تعوق التقدم، وقامت بإعادة بناء المجتمع العربي على النمط المثالي لدول غرب أوروبا.

سادت العالم العربي في فتراتٍ مختلفة من النصف الثاني من القرن الماضي في مصر وسوريا وتونس فقط، وهما أكثر هذه البلدان تقدمًا، حركات بورجوازية تنويرية وإصلاحية مأخوذة بالدرجة الأولى من مَصادر الفكر الأوروبي الغربي، وكانت هذه الحركات تمثل ظاهرة إيجابية في التطور البورجوازي للمجتمع العربي، وتعمل في الوقت ذاته حافزًا أيديولوجيًّا.

وظهرت القومية في بلادٍ مختلفة وعصور مختلفة لتعكس خصائص المكان والزمان.

وفي الربع الأخير من القرن الماضي أصبحت صياغة الأسس الأيديولوجية لحركة التحرُّر القومي، تُشكِّل واحدةً من أهم الاتجاهات الرئيسية في الفكر الاجتماعي في كلٍّ من سوريا ومصر. وفي هذا الوقت بالذات حاول المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٧–١٩٠٢م) وضع صياغة للفكرة العلمانية للقومية العربية، بينما حاول مصطفى كامل (١٨٧٤–١٩٠٨م) ولطفي السيد (١٨٧٢–١٩٥٣م) في مصر وضع صياغة الفكرة العلمانية للقومية المصرية. وقبيل الحرب العالَمية الأولى كان ميلاد الوعي الذاتي القومي في تونس والجزائر. أما يقظة الفكر الاجتماعي في بلدان شبه الجزيرة العربية، فتعود فقط إلى النصف الثاني من القرن العشرين.

لقد تركت السيطرة الأنجلوفرنسية الطويلة على العالم العربي آثارها على الحياة الفكرية، وتشكَّلت الحياة الاجتماعية تحت تأثير الشرعية والتقاليد، فضلًا عن قرارات سلطات الاحتلال والانتداب والوثائق القانونية التي تُصدرها الحكومات المحلية، وزرَعَ الإنجليز والفرنسيون، في المناطق التي احتلوها، مؤسساتهم السياسية والإدارية، ومارسوا سياستهم في مجال الثقافة.

اتَّبع الفرنسيون في الغالب نظامًا مباشرًا للحكم، بينما اتبع الإنجليز نظامًا غير مباشر، راعى نظام الحكم المباشر إدخال الفئات البيروقراطية في الوظائف المدنية التي تعمل لصالح إدارة الاحتلال، وعمل على كبت الثقافة المحلية التي أخذت في التراجع أمام الثقافة الأوروبية، الفرنسية، على أساس تعميق الثقافة الفرنسية وإخماد الثقافة المحلية، وعلى حساب نظم التعليم التقليدي، كل هذا شكَّل عنصرًا هامًّا في سياسة الإدماج التي اتبعتها فرنسا في مُستعمراتها.

أما في حالة تطبيق نظام الحكم غير المباشر، فقد ظلَّ المواطنون يَحتفظون بأوهام الاستقلال، فالإنجليز عادةً ما يتركون بناء السلطة المحلية في البلاد المحتلَّة والتابعة معتمدين على الأرستقراطية الإقطاعية الحاكمة. وفي هذه البلاد نشأت أنظمة عسكرية قومية يوجهها الإنجليز من خلال هيئة بلدية من الضباط. وقد سار الإنجليز خلافًا للفرنسيِّين، نحو إضفاء طابع المحافظة على المؤسسات التقليدية، وأظهروا اهتمامًا ملحوظًا بالثقافة المحلية الضيقة والتاريخ، وسعوا إلى الحفاظ على ما يُفرق بين الشعوب بهدف تدعيم موقف الاحتلال الإنجليزي.

أما طريقة الحكم غير المباشر التي اتَّبعها النظام الفرنسي وخاصة في تونس والمغرب، فقد اتَّصفت بوجود روابط أكثر وثوقًا بين النظم الإدارية والثقافية وغيرها في تلك المحميات بالدولة المستعمرة، مقارنة بتلك الروابط التي كانت موجودة في النظام الاستعماري الإنجليزي. ونتيجة لذلك فإنَّ السلطة والمؤسسات الإدارية والثقافية في كل من مصر والعراق على سبيل المثال، كان لها طابع قومي أكثر وضوحًا بالمقارنة بتونس، وكان هناك مناخ خاص للقوى التقدمية إبان فترة ما بين الحربين في كل من هذه المستعمرات، ظهرت فيه ردود فعل متباينة من حيث الشكل والقوة وربما المضمون، تجاه الظلم، كما تشكَّلت هناك أولويات خاصة وحلول للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولم يَقتصر الأمر على هذا؛ فقد حدَّد المناخ الاجتماعي الثقافي والسياسي المُميز خصائص تشكيل طبقة المثقَّفين القوميِّين.

فالطبقة المثقَّفة المحلية الجديدة في البلاد العربية التي وقعت تحت الرقابة الإنجليزية، والتي تلقَّت تعليمها — كقاعدةٍ — في أطر نظم التنوير الإنجليزية، وقعت تحت تأثير إنجلترا بتقاليدها مع ميل إلى الملكية والمحافظة المعتدلة. وعلى العكس من ذلك فقد بثت الديمقراطية الفرنسية في الصفوة المثقفة رُوحًا جديدة، تميل إلى المؤسسات الجمهورية وإلى الليبرالية. وفي نفس الوقت فقد أضعفت سياسة الإدماج الروابط بين المثقفين وشعوبهم.

في العشرينيات والثلاثينيات ظهرت القومية المحلية على قمَّة الحياة السياسية والأيديولوجية، وهو أمرٌ كان مرتبطًا بالإسراع بتكوين الأمم العربية وَفقًا لحدودها بعد الحرب العالمية. وقد أدَّى تقسيمها في آسيا بعد الحرب العالمية الأولى إلى سرعة ظهور أنظمة سياسية وقانونية، وجزئيًّا أنظمة اجتماعية ثقافية، ذات استقلالٍ ذاتي. وفي غربي العالم العربي فإن هذه العملية التي بدأت في القرن التاسع عشر استمرَّت في النمو.

كانت القومية المحلية موجَّهة ضد الاستعمار الإنجليزي في بعض البلدان، وضد الاستعمار الفرنسي في بلدانٍ أخرى، وفي ليبيا ضدَّ المُحتل الإيطالي. وإذا كانت القومية المحلية قد وجدت في مصر فقط في مطلع القرن، فإنها أصبحت تمثل — ربما — الشكل الرئيسي للفكر السياسي في بلادٍ أخرى غير مصر، وذلك في فترة ما بين الحربَين. وقد كتب الصحفي الفرنسي المُدقق جوفيليه عام ١٩٣٣م: «إنَّ أهم القوى وأكثرها عددًا وأفضلها تنظيمًا موجهة الآن نحو إقامة دول، من المحتمل أن تُصبح فيما بعد دولًا قومية» (١٤٤، ٢١٠).

أجرى القوميون، واضعين نصب أعينهم الاندفاع العفوي للجماهير نحو التحرُّر الوطني والديمقراطية، البحوث، وأوجدوا الشعارات الشعبية، وأنشئوا نظامًا للأفكار التي ما إن تأخذ بلبِّ الجماهير حتى تُحيلها إلى سندٍ قوي في النهاية البورجوازية التي تَفرض ديكتاتوريتها في إطارٍ إقليمي.

لقد أُحيط كل ما هو ذو خصوصية قومية في كل بلدٍ باهتمام بالغ: التاريخ، اللغة، السمات الشخصية والعادات المحلية. وفي رحلة البحث عن جذور الخصوصية القومية، وحب الاهتمام الأكبر إلى التاريخ القديم، فترة ما قبل الإسلام، وفي جميع الأحوال إلى فترة ما قبل ظهور الحكم التركي العثماني على الساحة العربية.

ففي مصر تبنَّى العديد من الأنصار فكرة الفرعونية التي تقوم على الاعتقاد بأن المصريين المعاصرين هم أحفاد مُباشرون لسكان البلاد القدماء. وفي لبنان رفعوا عقيرتهم مُؤيدين للنظرية القائلة بأنَّ أصل اللبنانيِّين هم الفينيقيون. واعتبر القوميون العراقيون أنفسهم سلالة الكلدانيين والبابليين، واعتبر السوريون أن أجدادهم هم الآراميون والآشوريون … إلى آخره. وأصبح مفهوم الوطن هدفًا لمناقشاتٍ حامية. وخلافًا لأنصار الجامعة العربية الذين رأوا أن وطن العربي هو كل الوطن العربي، وعرف الإقليميون الوطن بأنه البلد الذي يولد فيه الإنسان، ويتمتَّع فيه بحقوقٍ محدَّدة وتقع عليه نفس المسئوليات التي تقع على المواطنين الآخرين.

وتشهد المجادلات الشديدة التي دارت خاصة في هذا الاتجاه، على تطور الوعي الذاتي القومي فيما يخصُّ دور ومكانة وإمكانية تطوير اللهجة واللغة الفصحى، ومحاولات التأصيل النظري في العشرينيات لحتمية التفاعل المُثمر بين اللغة الفصحى واللغات المحلية عند صياغة اللغة القومية في مصر وسوريا وتونس.

وفي ذات الوقت، وبقَدر فهم الشعوب العربية لمصالحها المشتركة في النضال من أجل الاستقلال، تصاعَدَت أهمية القومية العربية أو الجامعة العربية التي ولدت كفِكرةٍ في الربع الأخير من القرن الماضي إبان حركة التحرُّر العربي في الأقاليم الآسيوية من الإمبراطورية العثمانية، وهي فِكرة سياسية تقوم على تصور أن العرب كلهم أمة واحدة، وأنَّ الجامعة تعكس الوعي الذاتي القومي العربي بصورةٍ مُبلورة.

وقد وُجدت القومية العربية بصورةٍ واضحة في الشعارات ورموز «ثورة الصحراء» المناهِضة للترك، والتي كان هدفها استقلال العرب وإقامة خلافة عربية ذات أقاليم إدارية لها حكم ذاتي تقع على المناطق التي تُحدِّدها مدينتا مرسين وأدانا جنوبي تركيا، وإيران والخليج الفارسي في الشرق، والساحل العربي على المحيط الهندي في الجنوب (باستثناء عدن، وهو وضعٌ لا يزال قائمًا)، وسواحل البحرين الأحمر والمتوسِّط حتى شبه جزيرة سيناء في الغرب (٣٥، ٦٥).

كان لإقامة حدود سياسية جديدة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وانهيار الروابط الاقتصادية التقليدية، وظهور مؤسَّسات إدارية وقانونية واقتصادية وثقافية جديدة؛ دورُه في وقف عملية تكوين أمة عربية موحَّدة على أراضي الإمبراطورية العثمانية في آسيا، وتكونت في هذه المنطقة بشكلٍ مُكثَّف أمم عربية قائمة بذاتها: عراقية، لبنانية، سورية وفلسطينية، وتحوَّلت القومية العربية الآن، بعد أن احتفظَت بخواصِّها و«رموز عقيدتها» من الأيديولوجية الخاصة لهذه الأقاليم العربية إلى حركةٍ أيديولوجية جبارة ترفض الطائفية، وتَعكِس رد فعل الشعوب العربية ضد القهر والتهديد الحقيقي القادم في صورة الاستعباد الجديد. وظهرت القومية العربية كمفهومٍ عرقي لغوي يعمل على ضرورة توحيد جهود الشعوب العربية من أجل تحقيق أهداف عامة محدَّدة. وانعكس هذا في حركة تضامن ودعم النضال المسلح لشعوب سوريا والمغرب ضد السيطرة الفرنسية في العشرينيات، وما تركه من أثرٍ خاص في موجة الاحتجاج العارم ضد السياسة الإنجليزية لتوسيع حركة هجرة اليهود إلى فلسطين، وضد حلِّ المشكلة الفلسطينية لصالح اليهود في عام ١٩٣٦م، كذلك في دعم انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأعوام من ١٩٣٦ إلى ١٩٣٩م. وقد ساهمت المشكلة الفلسطينية منذ النصف الثاني من الثلاثينيات بشكلٍ كبير في نَشر أفكار الجامعة العربية، التي استحوذت على عقول السكان المسلمين في شمال أفريقيا، وخاصة مصر التي تحوَّلت تدريجيًّا إلى مركزٍ للجامعة العربية، في هذا الوقت أيضًا تشكَّلت الجامعة العربية كعقيدةٍ وتمَّت صياغة أهدافها. وقد استندت أيديولوجية الجامعة العربية إلى عوامل مشتركة واقعية أهمها التراث الثقافي واللغة والتاريخ، وهي عوامل وضعها في البداية أيديولوجيو القومية العربية في سعيهم الطبيعي نحو تقنين الفكرة وإضفاء طابع لا طبقي عليها.

ولو أنَّنا وضعنا في رسمٍ بيانيٍّ تطور الأيديولوجيات في البلاد العربية على مدى قرن، فسوف نلاحظ النمو التدريجي في قوة أهمية فكرة القومية العربية بدءًا من الربع الأخير للقرن الماضي وحتى «الثورة الكبرى في الصحراء»، التي مثَّلت ذروة نضال العرب من أجل التحرر القومي. إن ظهور دولة عربية مكان ولايات الإمبراطورية العثمانية الذي صاحَبَه نشاط الاتجاهات الإقليمية تميز بسقوطٍ حادٍّ في نشاط حركة القومية العربية، هذا النشاط الذي عاد للظهور تدريجيًّا مرةً أخرى في مُنتصَف الثلاثينيات فقط. فنضال البلدان العربية من أجل تحقيق استقلال سياسي حقيقي، والجهود المبذولة لحلِّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الإقليمية التي ظهرت بعد الحرب العالمية، قد حدَّدا تمامًا إقليمية الاتجاهات. أما هزيمة العرب بعد الحرب الفلسطينية الأولى وإنشاء دولة إسرائيل والإحساس بالإذلال القومي، فقد كانت أمورًا عملت كلها على إيقاظ الأمزجة القومية على فحوى الجامعة العربية.

تعود فترة الذروة الجديدة للجامعة العربية إلى النصف الثاني من الخمسينيات. فقد أدَّى فشل العدوان الثلاثي على مصر وإقامة الجمهورية العربية المتَّحدة ونجاح الثورات القومية الديمقراطية، إلى خلق ظروف مواتية لفكرة القومية العربية. غير أنَّ هذه الفكرة قد فقدت قيمتها الحقيقية كسلاحٍ أيديولوجي في الستينيات وأوائل السبعينيات (في هذه الفترة انهارت الجمهورية العربية المتحدة، ووقعت حرب الأيام الستة والأحداث الدموية في لبنان في عامَي ١٩٧٥-١٩٧٦م).

كيف نُفسر الصعود والسقوط في تطور أيديولوجية الجامعة العربية؟ إن دراسة تطور القومية العربية كشكلٍ من أشكال الوعي الاجتماعي، يُبين لنا أن درجة الفعالية والمغزى التاريخي للقومية العربية، وكذلك الأولويات التي كونت مفهوم عناصر الجامعة العربية، تتوقف على قوى الجذب والطرد المركزيَّين وعلى المظاهر الاقتصادية.

وهكذا فإن المصلحة الاقتصادية ترغم البورجوازية القومية إبان قيامها على أن تعمل من أجل حكومة قومية، والتوحُّد تحت إدارة الأسواق المحلية، وعلى العكس فإنَّ المصلحة الاقتصادية للبورجوازية القومية كطبقةٍ مُهيمنة، تُحفِّزها إلى زيادة الأسواق والنفاذ إلى الأسواق الاقتصادية الواقعة خارج حدود بلادها؛ لهذا كانت شعارات القومية العربية تعدُّ في الحالة الأخيرة غطاءً مناسبًا لمصالحها النفعية، والدليل على ذلك خبرة إقامة الجمهورية العربية المتحدة. إن الثقافة العربية الإسلامية المشتركة تُعتبر بالنِّسبة للشعوب العربية عاملًا قويًّا وفعالًا بصفةٍ دائمة في تنشيط فكرة الجامعة العربية، في الوقت الذي تُعتبَر فيه الخصائص الإقليمية للتقاليد والقيم الثقافية تربة لنمو القومية الخاصة.

كان «للارتباط الوثيق» بين مستوى فعالية الجامعة العربية ومستوى تأثير القومية الإقليمية (العلاقة عكسية: كلما قويت الأولى ضعفت الثانية) أثر مباشر، لوحظ آنفًا في تحول القومية العربية من أيديولوجيةٍ إقليمية إلى أيديولوجيةٍ ذات مغزًى عربي عام.

وهناك أمورٌ شتى اكتسبت معانيَ جديدة، ومن بينها القومية العربية التي تغيرت حتى العناصر المكونة لأساسها النظري، فإذا كانت القومية العربية قد حدَّدت فيما سبق حركة التحرر هدفًا لها، وعلى الأخص دولة غرب آسيا، فإن الجامعة العربية الآن تُشكل في المقام الأول سلاحًا (وحدة عربية مختلفة تقوم على اتحاد كل الدول العربية)، ووسيلة لإنجاز الأهداف السياسية لحركة التحرُّر، وللدفاع عن المكاسب الوطنية، ولإزالة آثار العدوان الإسرائيلي … إلخ.

وعلى الرغم من الغموض الذي اكتنف فكرة «إمبراطورية عربية»؛ وذلك في فترة نجاح الانتفاضة المناهضة للحكم التركي في العشرينيات، فقد اكتسبَت هذه الفكرة شعبية كبيرة. وكان الحديث عن إقامة الإمبراطورية والخلافة العربية لا يخرج مع بعض الاستثناءات القليلة، عن الإطار النظري، وعمل غياب هدف اقتصادي موحد، مع اختلاف المستويات الاجتماعية والثقافية، والمطامع والنزعات الزعامية لدى الحكام العرب التي كانت تمثلها ادعاءات القيادات السياسية، على فشل أيَّة محاولة للتكامل. الأمر الجوهري هو أن الوعي العربي بالخطر الإمبريالي الذي يتهدده، وفهم العرب لوحدة الهدف في النضال ضد عدو مشترك، كان لا يزال مشوشًا؛ فإن القوميين في كل بلدٍ عربي يتصوَّرُون أن الخطر الحقيقي يتمثل فقط في التهديد المباشر لهذا البلد، سواء من جانب الاستعمار الإنجليزي أو من جانب الاستعمار الفرنسي، والذي يتَّخذ شكل أعمالٍ عدوانية محددة ضد الشعب. وعلاوة على ذلك فقد كان القوميون العرب يتصوَّرون، كقاعدةٍ، أنَّ حصول بلادهم على الاستقلال والتخلُّص من نير الأجنبي، هو الخطوة الأولى نحو اتحاد العرب؛ وعلى هذا فقد قاموا بدعوة الدول العربية المستقلَّة لدعم نضالهم التحرري.

كانت ردود الفعل الأولى للقوميِّين العرب تجاه الوضع السياسي المتغير في العالم، تكشف عن التحولات الجوهرية لوجهات نظرهم بالنسبة لقضية الوحدة؛ ففي عام ١٩٢٠م افتُتح في دمشق المؤتمر السوري العام الذي أعلن استقلال سوريا في حدودها الطبيعية وأعلن فيصل ملكًا عليها. ومن بين المسائل التي طرحها المؤتمر إعادة توحيد الأرض السورية (كمرحلةٍ أولى)، ثم إقامة اتحاد فيدرالي بعد ذلك بين سوريا والعراق، وتقوية الروابط مع البلدان العربية الأخرى.

كان تطور الأحداث بعد الحرب العالَمية الأولى سببًا في إبراز فِكرة التكامل التام للدول العربية كمجرَّد وهم سياسي، إلى جانب إبراز أن السعي الواعي للعرب نحو توحيد جهودهم من أجل المصالح المشتركة أصبح أمرًا أكثر حتمية. وانحاز البعض لمسألة اتحاد العرب في أي شكلٍ من الأشكال (يوسف هيكل: إنَّ اتحاد العرب أمرٌ تَفرضه مصالحهم السياسية. إنه يَسمح لهم بأن يحتلُّوا مكانًا لائقًا تحت الشمس) (١٢٣، ٤٥)، بينما رأى آخرون أن الأمر الضروري هو مجرَّد التقارب وتقوية الصلات على أساس معاهَدات تُحقِّق حكمًا ذاتيًّا لكل دولةٍ لصالح الوحدة مُستقبلًا (٥٦، ٩)، ورأيٌ ثالث رفض أصحابه فكرة التكامل التام مؤيِّدين إقامة اتحاد فيدرالي (اتخذ المشتركون في المؤتمر الأول للطلاب العرب في أوروبا هذا الموقف (١٠٥، ٥٥–٥٨).

وقد ركَّز الفكر السياسي العربي جلَّ اهتمامه بعد الحرب العالمية الثانية على وحدة الأعمال والأهداف للتضامُن العربي في النضال ضد الإمبريالية من أجل تأكيد دور الشعوب العربية التاريخي. على أنه مع مطلَع الثلاثينيات شاع الرأي القائل بأنَّ الجامعة العربية تقوم أساسًا على «وحدة المعاناة» (٦٣، ج، ١٦٦)، وظهرت رغبة وحيدة تتلخَّص في الاتحاد للنضال ضد قوى الاحتلال. وقد نبَّه رجل القانون المصري البارز عبد الرازق السنهوري عام ١٩٣٠م على خطورة الإقليمية التي تهدد العرب بالفرقة وتشتت القوى (٦٣، ١٥٩)، كما ذكَّر الكاتب السوري سامي الكيالي القوميِّين المصريين بخطورة الاستعمار، وشدد على ما يمثله من تهديدٍ للعرب جميعًا (١١٠، ٦٦). ومع مطلع القرن، تلك الفترة التي غلب عليها الطابع الإقليمي القومي، لم تستطع وجهة النظر التي تبناها القوميون العرب، والتي ترى أن مفهوم الوحدة العربية هو جزءٌ عضوي في فكرة القومية العربية، ولم تستطع أيضًا أن تسيطر على الوعي الاجتماعي.

وكثيرًا ما كانت شعارات ورايات الجامعة العربية التي ترفض الإقليمية، كمبدأ، ستارًا لأهدافٍ إقليمية خاصة، ستارًا للنزعات التوسُّعية لأكثر فئات البورجوازية العربية قوة، وكذلك ستارًا للادِّعاءات الزعامية للقادة العرب. لقد غلبت القومية المحيلة على الجامعة العربية بصورةٍ معينة. علاوةً على ذلك فكثيرًا ما استخدمت القومية العربية والوحدة العربية كسلاحٍ لحلِّ المشكلات المحلية الضيقة.

كان فيصل ملك العراق يَحلُم طوال حياته بإقامة ولايات عربية متَّحدة. وقد سعى نحو إنشاء علاقاتٍ وطيدة مع ممالك «البحر العربي»، وإلى وحدةٍ عراقية سورية تحت تاجه. وقد رأى السياسي العراقي فاضل الجمالي أنَّ العراق هو الوحيد الذي عليه في النهاية أن يحتلَّ المكانة القيادية للأمة العربية في المجتمع الدولي وأن يُصبح زعيمها في النضال التحرُّري القومي (١٠١، ٥٢٠–٥٢١). وبمعنى آخر فقد اعترف بالوحدة العربية تحت رعاية العراق، وهاجم الملك ابن سعود في خطابٍ له شريف مكة مُعلنًا أن «نجد قد هبَّت لتُحرِّر العرب وتُوحِّدهم» (١٦٢، ٢٣٨). وقد كان إعلان المملكة العربية السعودية في عام ١٩٣٢م، التي تضمُّ نجد والحجاز والأقاليم التي انضمَّت لهما، بمثابة الخطوة الأولى لتحقيق فكرة الوحدة العربية (١١١٤، ١١).

ومن الأقوال الجديرة بالاهتمام ما أكَّده مكرم عبيد (١٨٣٩–١٩٦١م) الأمين العام لحزب الوفد بشأن القومية والوحدة العربية: «إنَّ المصريين عرب. إنهم عربٌ عندما يُناضل العالم العربي من أجل الاستقلال التام، مِن أجل نهضة الحضارة العربية، ولا بدَّ من قيام جبهة واحدة تقف ضد الاستعمار من أجل الحفاظ على القومية وازدهارها» (١٢٦، ١٢٧). وقد كتب محمود عزمي عن شخصيةٍ مصرية بارزة أخرى: «إنَّ مصلحة كل الشعوب العربية تتطلَّب قيام جبهة عربية … إنها ضرورةٌ ملحة من أجل الدفاع عن وجودها. إنَّ لغة المصالح هي لغة العصر» (١١٠–٦٦).

اختفت مطامع البورجوازية المصرية وراء الرموز والشعارات الرومانسية للجامعة العربية. وبدأ الحديث في مصر يدور مرةً أخرى حول فكرة العربية ووحدة العالم العربي للمرة الأولى (من منطلقٍ سياسي بالدرجة الأولى) عندما تشبَّع محمد طلعت حرب (١٨٩٨–١٩٤١م) مؤسِّس بنك مصر بفكرة إنشاء شبكة من فروع البنك في البلدان العربية (١٥٥–٣٥٩).

ونشر الكاتب المصري المشهور إبراهيم المازني (١٨٨٩–١٩٤٩م) مقالًا له بمجلة «الرسالة» في أغسطس عام ١٩٣٥م تحت عنوان «حول القومية العربية»، أعرب فيها عن أمله في أن تُصبح الوحدة العربية يومًا ما أمرًا واقعًا، ولاحَظ المازني أن هذا قد يَسمح بفتح الأسواق العربية أمام مصر، ويُحقِّق بالتالي تصنيع البلاد العربية، وهو الأمر الذي لا تهتم به الدول الأجنبية المسيطرة (١٦٣، ١٩٦٠، ع١٢، ٨–٩).

إنَّ وجود عناصر لا طبقية في الجامعة العربية يُلقي ظلالًا على ما بها من عناصر طبقية، وتَسمح «عمومية» الجامعة بوضعها، كتيار، جنبًا إلى جنب مع الأفكار السياسية التي تقوم على تصور وحدة المصالح الواقعية أو الوهمية للجماعات مُتعدِّدة القومية، التي تشكَّلت على أساس الاشتراك في الإقليم أو العرق، الثَّقافة أو الدين مثل الزنوجة أو فكرة وحدة البلاد الناطقة بالفرنسية أو الجامعة السلافية أو الجامعة الإسلامية، إلا أن توجه ودرجة تقدمية الجامعة العربية يتحدد في كل مرحلةٍ بطابعٍ طبقي، وبمصالح القوى الحاكمة التي ترفع شعارات هذه الجامعة.

كان الدافع الرئيسي وراء فكرة الجامعة العربية في الفترة موضوع البحث، هو سياسة الدول الاستعمارية التي أثارت مقاومة واعية أو غير واعية في أشكالٍ مُتباينة، منها عقدة كراهية الأجانب، والنضال المسلَّح ضدهم. وظل الاعتقاد السائد بأن العرب أمة واحدة هو دعامة الجامعة العربية، زِد على ذلك الوضع الخاص للعرب وسط العالم الإسلامي؛ فقد جعلهم هذا الوضع يرون أنهم هم الذين نقلوا لأوروبا كثيرًا من قيم الثقافة الإغريقية الرومانية، بل طرحَت آنذاك فكرة أن العرب كانوا هم الذين وضعوا البداية الأولى لكل الاكتشافات الكبرى في العلم، إلى حد التأكيد العجيب بأنَّ أسلاف الطيارين المعاصرين عاشوا في إسبانيا إبان حكم العباسيِّين والأمويين (١٤٤–٧٩). وكتب عبد الرحمن عزام باشا يقول: «إنَّ العرب هم شعب المستقبل» (١٤٤–٤٨). ويبدو أن ابن باديس كان مؤمنًا تمامًا بأن الله اختار العرب ليُؤدوا رسالتهم على مستوى العالم بأسره: «إنقاذ العالم من الشر والضلال»، وأن «الأمة العربية استطاعت أن تسموَ بالعالم وأن تضع الإيمان بالله فوق كل الديانات» (٥٧–٢٥٣). وهكذا استمر النضال تحت راية الجامعة العربية ضد الانفصالية والطائفية. وكان الحديث يدور دائمًا حول الماضي المجيد للعرب، وأن السبب في تقهقُر الثقافة العربية يرجع إلى الانقسامات القومية والدينية.

وعلى أيَّة حال، فإن مُنظِّري الاتجاه القومي والكتاب الاجتماعيِّين لم يتَّفقوا على رأيٍ واحد بشأن مفهوم «الأمة» و«الوطن». تناول الجميع الموضوع مِن زوايا سياسية واجتماعية مختلفة تبعًا للتربية والنواحي الشخصية، وعدَّدوا الكثير من أسماء العناصر المحدَّدة لتكوين الأمة، ومن بينها اللغة والدين والتاريخ والثقافة والعوامل الجغرافية والأخلاقية … إلى آخره. وقد رأى البعض (كرد علي، الحصري، وهيكل) أنَّ الخاصية الأساسية للأمة هي وحدة اللغة والثقافة، على حين رأى آخرون (سعدي، عزمي) أنَّ هذه الخاصية هي وحدة المصالح، وأضاف البعض (كُرد علي) وحدة العقيدة أو وحدة الأصل إلى معادَلة الأمة؛ الأمر الذي اعتبره الآخرون غير جوهري كصفةٍ للأمة (هيكل والعلايلي). على أنَّ وحدة اللغة والتاريخ والثقافة ظلَّت في جميع الحالات تُشكِّل المكونات الرئيسية في صياغة مفهوم «الأمة»، وأضيف إليها (كأمر ضروري وجوهري أو مُستحب) وحدة المكان والمصالح والأصل والمثل والشعور بالانتماء إلى الأمة … إلخ.

ويرى الريحاني أن الوطنية تقوم على ثلاثة أسس: اللغة والشعور القومي والمصلحة المشتركة (٨٢، ج١، ٢١٣): «لغتنا واحدة، أدبنا واحد ويجب أن يكون وطننا واحدًا» (٨٠–٥٦). وكتب يوسف هيكل «إنَّ اللغة والثقافة والتاريخ والمصالح المشتركة هي أساس الأمة والوحدة السياسية» (١٢٣، ٤٧–٤٨). ويَجيء الشعب، كما تجيء وظيفة اللغة والثقافة وهما العنصران الهامان في تشكيل الأمة، إلى جانب وحدة التاريخ والمصلحة والرغبة في الاتحاد (١٢٣، ٢٠). وكتب ساطع الحصري: «إن اللغة هي روح الأمة وحياتها» و«التاريخ هو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها» (٦٧، ٢٠–٢١). وكتب كُرد علي: «اللغة والأصل هما عُنصرا الوطنية. على أن الأول أقوى من الثاني.» ورأى الرافعي أن «اللغة هي شكل وجود الأمة وطريقة تفكيرها» إلى آخره (٥٦، ٨٥٨).

ثمَّ اضطر أيديولوجيو الجامعة العربية إلى السعي نحو إثبات إمكانية الحفاظ على مصالح الشعوب العربية، كل على حدة، في إطار «أمة عربية كبرى» نتيجة لتعاظم التيارات الإقليمية. وحين كانت نزعة القومية المصرية تُمثِّل أكثر المشاكل تعقيدًا، بذل ساطع الحصري جهدًا عظيمًا لإثبات أن مصر دولة عربية، وأن القومية المصرية مثلها مثل أي قوميةٍ في العالم العربي لا تتعارَض مع القومية العربية (٦٤). وقد كتب عن نفس القضية السوري سامي الكيالي وغيرهما (١١٠–٥٧، ٦٩، ٧٢)، وشدَّدوا جميعًا على أن كل دولةٍ «سيكون لها حكمها الذاتي في حلِّ مشكلاتها الخاصة في إطار الوحدة المُفترَضة» (١١٠، ٢٢).

وأدَّى تطور التاريخ السياسي والقومية المصرية إلى تقارب مواقف أصحاب الجامعة العربية وكثير من القوميِّين المصريين. وأدرك العقاد صيغة «الاختلاف في الوحدة» (١١٠، ٧٢)، وكذلك طه حسين نصير نظرية ثقافة البحر الأبيض المتوسط.

وكتب أنور الجندي: «إنَّ الذين يتمسَّكون بالأفكار القدمية يتصوَّرون أن الوحدة يمكن أن تقوم، كما كانت في الماضي، تحت رعاية حاكمٍ واحد … أما أصحاب الأفكار المعاصرة فيفهمون الوحدة كما تفهمها أوروبا الحديثة: لا جدوى من الوحدة إذا لم يُحتفَظ فيها بحرِّية القومية والعنصر القومي، والسيادة التامة للقومية في الحياة الداخلية والعلاقات الخارجية، مثل هذه الوحدة لا تسمح لقوميةٍ بتدمير قومية أخرى، ولا تسمح بعلوِّ شعب على شعبٍ آخر» (عام ١٩٣٩م، ٥٦، ٤٩٥).

بدأ ساطع الحصري (أبو خلدون، ١٨٨٠–١٩٦٩م)، أبرز مُنظِّري حركة الجامعة العربية، نشاطه في الثلاثينيات. وكان الهدف الرئيسي من وراء الدعوة للجامعة هو تحقيق الوحدة العربية (التكامل الشامل للعرب). كان ساطع الحصري يَعتبر أن العرب هم كل مَن يَسكُن البلاد العربية (في المنطقة من جبل زاجروس حتى المحيط الأطلسي) ويتكلَّم العربية (كلغةٍ أم) (٦٦، ص٦٠: ٦٥، ص٤٤، ٤٩). وعلى هذا النحو تُصبح وحدة المكان والأصل مكونات لا تدخل حتمًا في صياغة الأمة وإن كانت ذات أهمية كبيرة (٦٧، ١٢٠). والعلاقة بين الإنسان والوطن بالنِّسبة للحصري، هي علاقة روحية أكثر منها علاقة مادية (٦٤، ١٠). إنَّ العرب يُشكلون أمةً واحدة بدونها لا يملكون حريتهم. وفكرة الوحدة العربية هي محور القومية العربية، على حين أن الأمة هي كيان اجتماعي يقوم بفضل تطور العلاقات بين أناسٍ على أساس مبدأ المنفعة المتبادلة والمصالح (٦٤، ص٦٩، ص١٠٦)، والوعي المتماسك بوحدة الأصل واللغة والتاريخ والعادات والدين والوسط الجغرافي إلى آخره (٦٤، ص١١، ص٣٢). إن اللغة المشتركة الوحيدة هي في المقام الأول وحدة المصير التاريخي، التي تخلق سعي الناس إلى الاتحاد وإلى تشكيل فكرة القومية بل وإلى تشكيل الأمة نفسها (٦٤، ٣٤)، واللغة والتاريخ يخلقان معًا الوحدة الروحية بين الناس. لكن هذه الوحدة لا تخضع لقوانين العالم المادية ولا ترتبط بمكانٍ أو زمان، وهي تميز المجتمع الإنساني عن الحيوانات (٦٤، ١١). وكتب الحصري في عام ١٩٣٨م: «أعتقد أن وحدة الثقافة هو أقوى العوامل التي بمقدورها أن تُعدَّ لتحقيق كل أشكال الوحدة الأخرى» (٦٤، ١٠٦).

كان ساطع الحصري واحدًا من أوائل الذين عملوا بدأبٍ على إثبات انتماء المصريِّين إلى الأمة العربية، وأكَّد أن مصر بالذات يجب أن تَضطلِع بالدور القيادي في حركة التحرر القومي. ويرى الحصري أن مصر، وهي أكبر وأقوى دولة في العالم العربي ومركزه الثقافي الرئيسي الذي له أكبر الصلات بالحضارة المعاصرة، ترتبط مع باقي الدول العربية بوحدة اللغة؛ ولأنَّ الوحدة العربية المعاصرة بالنِّسبة لها بقدر أهميتها للدول الأخرى (٦٤، ص١٠٩–١٢٠، ص١٣١–١٣٤، ٦٥، ص٦٤–٨٠).

ويَنعكِس تطور مفهوم الجامعة العربية في أعمال أمين الريحاني أبرز دعاة هذه الفكرة في العشرينيات، فقد داعَبَه في عام ١٩١٨م حلم اتحاد الولايات العربية على غرار سويسرا (يضمُّ هذا الاتحاد سوريا ولبنان وفلسطين)، ويكون في مراحله الأولى تحت وصاية الدول الأوروبية (٧٩، ١٧٦). وفي بداية العشرينيات أصبحت فكرة تكامل المناطق العربية في دولةٍ واحدة هي هدف حياته. وفي مايو عام ١٩٢٣م كتب أمين الريحاني رسالةً إلى القائد السوري القومي كُرد علي جاء فيها: «إن الحكومة التي اتخذت مِن شعار نحن عرب قضيتها قبل أن تقول نحن مسلمون أو مسيحيُّون لجديرة بالثَّناء.» (١٧٠، عام ١٩٧٥م، ع١٨، ص٩٦)، وحتى يخلق تقاربًا بين القادة العرب، قام الريحاني برحلةٍ في البلاد العربية داعيًا إلى فكرة اتحاد عربي.

وكان الريحاني يرى ضرورة الوصول في المرحلة الأولى إلى بعض الاتفاق في وجهات النظر والتشكيلات الحكومية ذات النمط الفيدرالي تحت رعاية الملوك على أساس الوحدة التاريخية الثقافية للشعوب العربية، وأيضًا العوامل «الطبيعية» (وحدة المكان، تشابه مصالح السكان)؛ وذلك عند أخذ الحكام بسياسةٍ مناسبة موجَّهة نحو الوحدة (٨٦، ج٢، ص٤١٣). وقد كان الحديث يدور هنا حول وحدة دول المشرق (لبنان، سوريا، فلسطين، العراق، نجد، الحجاز، اليمن) في المنطقة «من حلب إلى عدن، ومن العريش إلى خانقين» (٨٢، ج٢، ص١١٢).

ورأى أمين الريحاني في الوحدة العربية الطبيعية تاريخيًّا إمكانية تجنُّب الهيمنة الاستعمارية، بقدر ما تسمح للدول العربية بالنهوض باقتصادها والارتفاع بالمستوى الثقافي للسكان، الأمر الذي يَضمن للعرب الاستقلال الاقتصادي ومن ثَم السياسي (٨٣، ٢٩٩). ويجب أن تئول القيادة الروحية في الدولة العربية المتَّحدة مُستقبلًا إلى خليفةٍ يَنتسِب إلى القرشيِّين، كما يجب أن تَنفصِل السلطة الروحية عن السلطة المدنية، ويتعين أيضًا على جميع الحكام الذين ستدخل دولهم ضمن هذه الوحدة الاحتفاظ بصلاحيتهم، بعد أن يتنازلوا للحاكم الأعلى عن مجال الدفاع والسياسة الخارجية فقط، وكذلك عن تحديد الاتجاه الرئيسي للنمو الاقتصادي والخط العام للمصالح المشتركة، ويجب أن يعمل هذا على القضاء على الرُّوح القبلية التي ستتراجع أمام الشعور القومي، وتتراجَع الطائفية أمام قوة العقل والعدالة والصبر، هذه «عقلانية عربية جديدة» تسمو «بالمصالح العربية والسياسية العربية الواحدة فوق كل مصلحةٍ وفوق كل سياسةٍ أخرى» (٨٦، ج٢، ص٤١٣).

ويعلم الريحاني جيدًا أن «الوحدة المُمكنة يُمكن في البداية أن تتَّخذ شكلًا جزئيًّا لا مركزيًّا؛ وذلك لأنَّ الحكومة والحاكم الحاصلين حاليًّا على الاستقلال أو شبه الاستقلال لا يستطيعان أن يَتنازلا ولن يَتنازلا عن حقوقهما السياسية الإقليمية» (٨٢، ج٢، ص٨٦). سوف يتحقَّق التكامل التام ويُصبح شاملًا بصورةٍ تدريجية فقط، ذلك إذا ما تمَّ الحفاظ في جميع الأحوال على بعض الشروط: وجود جهاز حكومي جيد التنظيم في كل البلاد العربية، شبكة واسعة من المدارس القومية، ونظام اتِّصال متطور (٨٦، ج٢، ص٤١٣)، الوصول إلى فكرٍ سياسي مشترك، ووحدة ثقافية مع انتشار شامل «للشعور القومي».

وأصبح واضحًا للريحاني في الثلاثينيات أنَّ الوحدة السياسية للعرب أمرٌ غير واقعي، فهو يدعو الآن لإيجاد أي شكلٍ مُمكن من أشكال التكامل يكون مُثمرًا لما تتطلَّبه الظروف (١٠١، ١١٨). وقد كتب الريحاني في خطابه إلى أمين الحسيني مفتي فلسطين يقول: «ليس هناك سوى مخرج واحد أمام العرب، وهو بالتحديد وحدة الكلمة والأفعال والأهداف القومية» (٧٩، ٤٠٥). لقد وجدت الجامعة العربية في شخص أمين الريحاني المتغنِّي باسمها وإن اصطبغ مذهبه السياسي بلونٍ عاطفي واضح.

في ديسمبر من عام ١٩٣٨م عُقد في بروكسل المؤتمر الأول للطلاب العرب الدارسين في أوروبا. وتُمثل أعمال المؤتمر أهميةً كبرى، وخاصة لأنَّها تساعد على تحديد وجهات نظر الطلاب والمثقفين السائدة آنذاك، تجاه الجامعة العربية، بشكلٍ دقيق. وقد عرَّفت قراراتُ المؤتمر العربيَّ بأنه كل من يتحدَّث اللغة العربية ويَحمل الثقافة العربية ويشارك في الشعور القومي العربي (١٠٥–١٣)، وتبعًا لهذا فقد اعتَبَرَت، بداهةً، المناطق الموجودة في آسيا وأفريقيا والتي تسكنُها غالبية عربية جزءًا لا يتجزَّأ من «الوطن العربي». فالعرب يُشكلون أمةً واحدة تمتلك «حقًّا مقدسًا في السيادة»، والوطنية الجارفة لهذه الأمة (الشعور بضرورة الحُصول على الاستقلال وتحقيق الوحدة … القائمة على وحدة الوطن واللغة والثَّقافة والتاريخ وإدراك الصالح العام)، تقود العرب إلى «تحرير الوطن العربي ورَبطُ أجزائه كلها وإقامة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصورةٍ سليمة ومُتناسقة مع بعضها البعض إذا قُدِّر لها القيام. وعلى ذلك فالهدف المطروح أمام القومية العربية يتلخَّص في رفع مستوى الشعب وزيادة ثرواته المادية والروحية، وجعله شريكًا في العمل العام لخير البشرية.» وأشاد المؤتمر بسعي الشعوب العربية نحو الوحدة الطوعية وتأييده لإقامة اتحاد فيدرالي تتمتَّع فيه كل دولةٍ بالحكم الذاتي الداخلي؛ تبقى السياسة الخارجية وقضايا الدفاع وكذلك المُشكلات الاقتصادية والاجتماعية العامة مِن اختصاص الحكومة الفيدرالية. أما الاتحاد الفيدرالي فيُعدُّ خطوة ضرورية نحو التحرُّر السياسي والقومي التام (١٠٥، ١٣).

إنَّ أول مُحاولة مركَّبة لوضع أساس نظري للجامعة العربية نجدها في كتب السياسي السوري إدمون رباط «الدولة العربية المتحدة» (حلب ١٩٢٥م) و«وحدة سوريا ومُستقبل العرب» (باريس ١٩٣٧م) بحث رباط مسألة أصل العرب، وحاول أن يعرض حتمية اتحاد الشعوب العربية وحقها المطلق في وجودٍ سيادي. (مثل هذه المحاولات كانت نادرةً في الثلاثينيات وأصبحت في الأربعينيات ظاهرة مُعتادة. أما في الخمسينيات فقد أغرقت أسواق الكتب الأدبيات التي تَتناول مشكلات القومية والوحدة العربية). وفي رأي رباط أنَّ عملية الامتزاج والتمثل بين الشعوب قد مست العرب بصورةٍ أقل مما حدث لشعوب العالم الأخرى. ويَعتبر الباحث كل الساميين شعبًا واحدًا؛ ولهذا فتاريخ العرب الحقيقي بالنسبة له هو مجموع تاريخ الساميِّين (البابليِّين والآشوريِّين والفينيقيِّين) الذين كانوا يتمتَّعون «بروحٍ عربية» (عدد من القادة العرب البارِزين يُشاطرون هذا الرأي). فيؤكد سامي شوكت مثلًا في عام ١٩٣٩م أن للعرب تاريخًا يزيد على ألف عام استوعب داخله تاريخ كل الساميِّين (١٣٩، ٣٦). ويؤكد رباط أن هذا النوع من الأجناس «المهجنة» مؤهَّل لتشكيل أمم موحدة. وعلاوة على هذا، فإن اختلاط الأشكال العرقية (وتُمثلها الشعوب السامية)، وامتزاجها بالثقافة العامة، يُؤدِّي إلى تكوين نمط مثالي للأمة ما دام الدِّين، وهو قومي في جوهره، واللغة الحية، وتطابق العادات والمؤسسات الاجتماعية والمعايير الجمالية العامة، تعتبر كلها أمورًا مميزة وسمات غالبة للحضارة بوجهٍ عام. والأمة العربية تنتمي إلى الأمم من هذا النمط؛ إذ إنها قامت من الناحية العرقية على أساس امتزاج جماعات مُماثلة، وعلى الحضارة العربية التي تُسمَّى خطأ حضارة إسلامية. ويَفترض رباط أن الإسلام هو دين قومي عربي ظهر كوسيلةٍ لتلاحُم العرب. وبالرغم من أن الدين في حد ذاته لا يُعتبر شرطًا حتميًّا لظهور ونمو العلاقات القومية الداخلية العامة، فإنه يلعب في المرحلة الأولى لقيام الأمة دورًا هامًّا؛ إذ إنه يَعمل على تشكيل ودعم الشعور بالانتماء إلى الجماعة.

وتبعًا لفِكرة الأيديولوجي السوري، فإنَّ الحدود الجغرافية للعالم العربي الواحد تتَّحد «في منطقة جغرافية متَّصلة تضمُّ عرب آسيا الذين يُشكِّلون نواة الأمة العربية.» وهذه المناطق «لا تُعتبَر مناطق منفصلة ومستقلة من الناحية الاقتصادية، فعلى مدى قرونٍ طويلة تكوَّن تقسيم محدد للعمل بينها، وهناك تفاعل بين بنياتها الاقتصادية يكمل كل منها الآخر في المنظومة العامة.»

ويَعتبر رباط أن الوحدة العربية يُمكن أن تتمَّ تدريجيًّا؛ ففي المرحلة الأولى يجري البحث في إقامة وحدة إقليمية لسوريا في حدودها الطبيعية، ثم يلي ذلك تكامُل دول الهلال الخصيب (العراق وسوريا). وفي المرحلة التالية يُمكن أن تنضمَّ لهذا التشكيل الذي تُصبح العراق مركزًا له (كدولةٍ مستقلة وغنية) بلدان شبه الجزيرة العربية (١٣٩، ١٠٣–١١٩).

وفي عام ١٩٣٨م نشر السوري قسطنطين زريق، أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكيَّة في بيروت مجموعة مقالات حول مشكلات الوعي القومي. وهذا الكتاب الذي يحمل اسم «الوعي القومي» يعدُّ تقريبًا أول محاولة منظمة لبحث هذه القضية. يرى زريق أن السبب وراء تخلف العالم العربي يكمن في تأخر الوعي القومي، وتسلط التعصب والجهل والأنانية والانهيار الأخلاقي إلى آخره، وهي ذات العوامل التي تقوم عليها الهيمنة الاستعمارية في البلاد العربية (٧١، ٥٣)؛ ولهذا فالقومية العربية التي تعمل على تعميم الشعور بالمسئولية الجماعية وسعي العرب نحو الوحدة، تُعدُّ بالنسبة لهم ضرورة حيوية. ويرى زريق أن الإمبراطورية العربية الكبرى هي الهدف الأسمى لكلِّ عربيٍ وطني (٥٦، ٥٢٠). ولزريق كتابات حول الرسالة الخاصة للعرب في نهضة العالم. يرى زريق أن هذه الرسالة هي «استيعاب معارف الغرب والجمع بين مختلف التيارات التي ظهرَت نتيجة التفاعل بين الشرق والغرب، ثمَّ التوفيق بينها جميعًا على تبايُنها بعد إيجاد مركب ما يصبح مشعلًا يضيء المستقبل. كما رأى أن بإمكان العرب أن يُعطوا العالم كما أعطوه في الماضي حضارتهم» (١٥٣، ٩٥). والقومية من وجهة نظر زريق تعدُّ نبعًا روحيًّا لنضال العرب من أجل المبادئ السامية، فالقومية هي محصلة القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العصر الحديث، ويَضع زريق وحدة اللغة (العربية) بما لها مِن حيويةٍ خاصة ومُرونة رائعة على رأس العوامل الهامة في ربط الأمة. وهناك عامل آخر هام يُحدد، في رأي زريق الأمة؛ ألا وهو التقاليد (الذاكرة الحية للأمة)، ثم ثالث هذه العوامل وهو وحدة المصالح (١٥٣، ٩٥)، ويُعطي زريق، شأنه في ذلك شأن كثيرين غيره سعوا لتوطيد الشعور القومي، أهميةً كبرى لدور الإسلام كقوةٍ روحية جبارة موروثة من الماضي (١٣٩، ١٦٧–١٦٨).

ومِن الأمور التي جذبت انتباه الباحث السوري موقف يوسف هيكل، أحد أيديولوجي الجامعة العربية المصريِّين. وقد لخَّصه في كتيب بعنوان: («نحو الوحدة العربية»، القاهرة، ١٩٤٣م). يقوم مفهوم يوسف هيكل على تصور الشعب كجماعةٍ اجتماعية تَمتلِك لغةً وقيمًا أخلاقية وثقافة واحدة (١٢٣، ١٨). وبناءً على هذا فإنَّ الشعب العربي، في تصور هيكل، هو شعب اللغة العربية والثقافة العربية، الذي يَسكُن المنطقة من العراق إلى المغرب، أضف إلى هذا أن وحدة اللغة والثقافة ليست عاملًا مُكونًا للشعب فقط، وإنما عاملٌ هام لتطور الشعب إلى أمةٍ عندما تضيف إليه وحدة الماضي التاريخي، ووحدة المصالح، والسعي نحو الوحدة السياسية (١٢٣، ٢٠). ومِن الطريف أن نلاحظ أن يوسف هيكل لم يولِ اهتمامًا للنقاء العِرقي كعاملٍ حتميٍّ للأمة، وهو هنا يَنطلِق من أن النقاء العرقي لا معنى له، ومِن أن الشعب يتكوَّن نتيجةً لامتزاج جماعات عرقية مختلفة، ويحمل سمات تلك الجماعة التي تترك أثرًا أكبر في عملية التمثُّل، وهي بالذات الجماعة التي تصبح لغتها وثقافتها وأخلاقها ودينها لغة وثقافة وأخلاق الشعب (١٢٣، ٢٤). ويرى هيكل إلى جانب هذا أنَّ الإسلام تراثٌ ثقافي عربي (١٢٣، ٤٠)، وأنَّ وحدة العرب في أي شكلٍ من الأشكال تتوقف على مصالحهم المشتركة في النضال من أجل «مكان تحت الشمس» (١٢٣، ٤٥). إلا أن أفضل أشكال الوحدة هي الوحدة الفيدرالية أو الكونفيدرالية التي تجمع القدرات داخل دول الحكم الذاتي، ويكون لها سياسة خارجية واحدة. والخطوة الأولى نحو الوحدة هي، في رأي هيكل، يُمكن أن تكون في استعادة سوريا لحدودها الطبيعية (١٢٣، ٨١–٨٢، ٨٨).

وتَرجع واحدة من محاولات وضع نظرية للقومية العربية إلى اللبناني عبد الله العلايلي التي نُشرت في عام ١٩٤١م بعنوان «دستور العرب». يسعى الكاتب بالاستناد إلى المواد التاريخية والتوجُّه إلى مفاهيم علم الاجتماع والتاريخ الأوروبيِّين، إلى إثبات حقيقة وجود أمة عربية وقومية عربية هدفها النهائي الوحدة العربية (٨٦، ٩٨)، وهو يَعتبر كل المناطق التي لم تكن تنتشر فيها اللغة العربية إطلاقًا، وأصبحت تنتشر فيها الآن، مناطق عربية. علاوة على ذلك فإن العلايلي يَعترف بوجود عالَمين عربيَّين أحدهما غربي والآخر شرقي (٩٦، ١١٧). ويرى الكاتب في محاولةٍ لتشكيل مفهوم القومية العربية أنها ظاهرة اجتماعية تمامًا تنطلق من وحدة اللغة والوطن (الوحدة الجغرافية) والمثل كمُحصلةٍ للمواقف والقيم الأخلاقية المشتركة النابعة من الجذور الدينية (٩٦، ٧٤). كما يرى أن «القومية العربية هي وعي العرب بوجودهم الاجتماعي على الوجه الأكمل» (٩٦، ٨٨). وعنده أنَّ الشعور القومي تكوَّن بتأثير تلك العوامل مثل وحدة اللغة والمصالح المشتركة والعوامل الجغرافية، والأصل والتاريخ والعادات. زِد على ذلك أن «الركيزة الأساسية التي يقوم عليها بناء الأمة.» هي اللغة العربية ومشاعر الانتماء لأمةٍ واحدة ووعي الناس بحقيقة أنهم مُرتبطون بوشائجٍ مشتركة، ويَتقاسمون مبادئ أخلاقية واحدة رضعوها مع لبن أمهاتهم، وبتقاليد موروثة (٩٦، ٧٨).

ويرى العلايلي أنَّ «تشابه الأبنية الاجتماعية» في الأجزاء المكونة «لوطنٍ عربي واحد» أمرٌ ضروري لتحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية للقومية العربية في إطار وحدة حكومية تضم الشعوب والأراضي العربية؛ ولهذا يجب الوصول، أولًا، إلى تقاربٍ بين الأبنية الاجتماعية للبلاد العربية ارتكازًا إلى اللغة العربية، وإلى تقاربٍ في مجالَي التشريع والثقافة. وفي الحكومة العربية الواحدة المُستقبلة سيكون لكل دولةٍ وظيفة لها نوعيتها الفريدة: فدولة تقوم بالقيادة الأيديولوجية وأخرى تقوية الأركان الأخلاقية إلى آخره، ويقع عبء القيادة السياسية على العرق باعتبارها أغنى دولة عربية، وكخُطوةٍ أولى نحو الوحدة العربية، تم التخطيط إلى التكامل بين سوريا والعراق كإجراءٍ آنيٍّ ناضج تمامًا (٩٦، ص١٢٤، ١٢٦، ١٢٨).

يُعتبر تناول المشكلة القومية من جانب الأديب اللبناني التقدمي رائف خوري (المولود في عام ١٩١٨م) تناولًا فريدًا بالنِّسبة لعصره، حدَّد رائف خوري في كتابه «ملامح الوعي القومي» (بيروت، ١٩٤١م) الذي يردُّ به على كتاب زريق متبعًا في ذلك المفهوم المادي في تفسير التاريخ، حدَّد الأمة على أنها مجموعة من الناس ارتبطوا لمدةٍ طويلة بالعيش المشترك، وتتماسَك الوحدة القومية بفضل اللغة المشتركة والوطن الواحد والحياة الاقتصادية والثقافية والعادات والتقاليد الواحدة (١٥٣، ٩٣). يتحفَّظ رائف خوري بعض الشيء في اعتبار العقيدة والأصل المشتركين في صفاتٍ جوهرية للأمة، كما يقف ضد المبالغة في دور اللغة في تكوين الأمة، ويرى أن اللغة لا تُشكِّل الأمة، وإنما ظروف حياتها المتغيرة هي التي تُحدِّد درجات تطور اللغة، ولا يعدُّ هبوط وارتفاع ثقافة اللغة دالة على خصائصها الداخلية (١٥٣، ٧٠). ويُشير خوري في صياغته لوجهة نظره بشأن المصالح المشتركة باعتبارها علامة مُميزة للأمة، إلى أن الجماعات الاجتماعية المُختلفة المكونة للأمة، يُمكن أن تكون لها مصالح مُتباينة مع أن الأمة تظل برغم ذلك أمة. وفي رأي خوري أيضًا أنه يجب الحديث عن المصالح المشتركة لغالبية الأمة في كل لحظةٍ من تاريخها (١٥٣، ٨٥).

وفي خريف ١٩٣٥م عُقد اجتماع ضم الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية، ونوقش فيه قضية الوحدة العربية، وخلص الاجتماع إلى أن رفع شعار الوحدة يظلُّ أمرًا غير واقعي، ما دامت هناك في البلاد العربية أنظمة مُختلفة تعيش كلٌّ منها في ظروفٍ خاصة، كما أنَّ حكام هذه البلاد ليسوا على استعدادٍ للتنازل عن صلاحياتهم. وطرحت الأحزاب مجتمعة شعار «اتحاد عربي» (اتحاد اختياري للدول المستقلَّة يبقى فيه النظام السياسي لكل دولةٍ كما هو) بدلًا من «وحدة عربية». وعلى هذا الاتحاد أن يقوم بمُساعَدة الدول التي لم تَحصُل على استقلالها بعدُ في التخلُّص من ثقل التبعية. وفي الوقت نفسه أعلن الشيوعيُّون أنهم يُشاركون الشعوب العربية في سعيهم نحو التضامن والتعاون (٧٢، ١٧٨–١٧٩).

وفيما يَلي نُورد بعض آراء مُمثلي الفكر العربي البارزين بشأن قضايا القومية العربية في مختلف الفترات.

في العشرينيات: عبَّر سعد زغلول (١٨٥٧–١٩٢٧م) قائد الثورة المصرية التي قامت عام ١٩١٩م عن رأيه بحدةٍ ضد الوحدة العربية قائلًا: «كم يُساوي صفر + صفر؟» – «صفرًا!» وهو يعني هنا عُقْم الوحدة السياسية للبلاد العربية (٦٦، ٦١).

وقال عبد الرحمن عزام باشا الذي أصبح فيما بعد أمينًا عامًّا للجامعة العربية «نحن مصريون أولًا، ثم عرب، ثم مسلمون» (٦٦، ٦٧). وفي رأي المصري حسين كامل: إنَّ المصريِّين «مصريون أولًا وأخيرًا»، وهي نفس الآراء التي تبنَّاها سياسيُّون مصريون بارزون منهم منصور فهمي وعباس عمر (٦٦).

على حين يُؤكِّد الشاعر المصري حافظ إبراهيم على عكس ذلك حينما يقول: «إننا عرب، وسواء ولدت في مصر أو في سوريا … فكلُّنا أسرة واحدة» (٣٩، ١١٠). وكتب الشاعر السوري فخري البارودي ما معناه: «بلاد العرب وطني! تمتدُّ من الشام إلى بغداد، ومن نجدٍ إلى اليمن، ومن القاهرة إلى أبراج تطوان» (٩٦، ١٢٧).

ويَعتبر الكاتب اللبناني جبران خليل جبران أن التلاحم بين البلاد العربية أمرٌ مستحيل مع سيطرة الاستعمار الذي يعوق من وجود هذا التلاحم. ويرى أن التقارب السياسي هو محض أوهام ما لم يتحقَّق الاستقلال الاقتصادي (١٠٠، ١٠٢).

وعلى العكس من ذلك كان الشاعر العراقي جميل الزهاوي مؤمنًا بإمكانية التضامن. على أنه يرى أنه لن يتم قبل مرور زمن يتراوح بين خمسة عشر عامًا وعشرين عامًا (١٠٠، ١٢٠). ويرى شاعرٌ عراقي آخر لا يقلُّ شهرةً عن الزهاوي وهو الشاعر معروف الرصافي (١٨٧٥–١٩٤٥م)، أن تحقيق وحدة عربية أمرٌ مُمكن إذا ما حصلت الدول العربية على استقلالها القومي والسياسي (١٠٠، ١٥٦).

في الثلاثينيات: كتب اللبناني أمين الريحاني في مقالةٍ له عام ١٩٣٤م: «إنَّ الوحدة العربية ليست أمرًا ممكنًا فحسب، إنها أمرٌ مُحقَّق، إن لم يكن اليوم أو غدًا ففي خلال خمسين عامًا، كمرحلةٍ للتطور القومي» (٨٢، ج٢، ص٨٦).

ونشرت مجلة «الهلال» المصرية مقالًا لعزام باشا عنوانه «الإمبراطورية العربية: هل ستُوجد؟» ويؤكد الكاتب في مقاله أنه في العصر الحالي، عصر المؤسَّسات الضخمة التي تمتلك مصادر جبارة، تُصبح الحكومة العربية المتحدة ضرورة تاريخية، وهذه الحكومة هي الضمان الوحيد للحرية ولأمن العالم الداخلي والخارجي (٦٣، ج٢، ص١٦٨).

وفي عدد أغسطس عام ١٩٣٥م من مجلة «الرسالة» القاهرية كتب الأديب المصري الشهير إبراهيم المازني: «إنني أومن بما يُسمونه القومية العربية.»

ويتميَّز النصف الثاني من الثلاثينيات بظهور أعمال رباط وزريق والحصري، وكلها وضعت أساسًا لشرعية ظهور القومية العربية ولواقعية التكامل بين البلاد العربية. وفي عام ١٩٣٨م أعلن الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر أنه لا يؤمن بالوحدة العربية (١٣٩، ٤٨). وعلى سؤالٍ وجَّهته مجلة «الهلال» عام ١٩٣٨م إلى قادة الرأي العام المصري: لطفي السيد، بهاء الدين بركات، ومطران حول ما إذا كان من الممكن تحقيق وحدة عربية، جاءت الإجابات مشوبة بالشك (١٣٩، ٤٨). وعلى صفحات مجلة «الهلال» أيضًا كتب محمود عزمي مقالًا يبدو فيه كما لو كان يستعرض فيه نتائج الجدل حول القومية العربية تحت عنوان «الجبهة العربية، ضرورة إنشائها وطابع تكوينها» جاء فيه: «يجب أن نترك كل الأحاديث حول القومية العربية والأراضي العربية، ونَرفض النزعة العربية الشوفينية (ليس العرب وحدهم هم الذين يعيشون في البلاد التي تَنتشِر فيها اللغة العربية)، وأن نتخلَّى عن فكرة العربية الشوفينية وعن التركيز على الجوانب الدينية في القومية، وإنما يجب الوصول إلى تلاحُم الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بين البلاد العربية» (٦٣، ج٢، ص١٧٢). وكما ذكَرنا من قبل فإن هذه النظرة قد وجدت تأييدًا أيضًا من جانب طه حسين الذي وقف بجانب أي وحدةٍ بين الشعوب، يَحتفظ فيها كل شعب بوطنه وأصالته وحرياته الديمقراطية، وحكمه الداخلي الذاتي وسيادته في مسائل السياسة الخارجية.

غير أن فكرة الجامعة العربية لم تلقَ اعترافًا واسعًا حتى بداية الحرب العالمية الثانية.

وحتى عام ١٩٤٠م لاحَظَ ساطع الحصري، وهو واحد من المَراجع الموثوق بها في هذه القضية، أن أفكار الوحدة العربية لا تزال قليلة الانتشار. أما فيما يتعلَّق بمصر فذكر أن قلةً قليلة هي التي ترفع شعار «الوحدة العربية فوق كل شيء» (٦٦، ٦٧).

وحتى الاستفتاء الذي أُجري في عامَي ١٩٦٧ و١٩٦٨م بين مجموعةٍ من المدرسين العراقيين أوضح أن ٨٫٩% فقط من الذين أجابوا على استمارة الاستفتاء يؤيدون الوحدة العربية، ومهما كانت هناك أخطاء في نظام الاستفتاء فإن هذه النتيجة لها دلالتها (١٠٦، ٣٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤