الإسلام وفكرة التحرر القومي

الإسلام كسلاح أيديولوجي: أهمية مفهوم الخلافة.
الإسلام كجزء مكوِّن للثقافة القومية العربية.
الإسلام والجامعة العربية، «الإخوان المسلمون».
أوضحت القومية العربية في البلاد العربية، بصفتها الأيديولوجيا التي استحوذت أو كانت في طريقها للاستحواذ على الجماهير؛ ولهذا ومِن مُنطَلق كونها أيديولوجيا جماهيرية، أوضحت دائمًا علاقتها بالإسلام وخاصة نحو رموزه وخواصه ونحو ترسانة وسائله الدعائية التي تراكمت على مر العصور، كان على القوى التحررية في العالم العربي أن تنظر بعين الاعتبار للظروف الموضوعية التي تعيشها الشعوب العربية. وقد حاولت هذه القوى، وليدة هذه الظروف نفسها، العمل على تغييرها، ولكن لم يكن من الممكن. وقد تقيَّدت بقدرٍ ما بتصوراتها عن المثل الأعلى، ألا يَنعكس الإسلام على هذه التصورات فضلًا عن كونه عقيدةً مُسيطرة. ومع هذا فقد أحرزت عملية صبغ الفكر السياسي والاجتماعي، التي بدأت تحت تأثير نشاط أصحاب الاتجاه التنويري في القرن الماضي، والتي زادت سرعتها بفضل نشاط المثقفين الليبراليين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الحالي١ بطابعٍ علماني، أحرزت مُؤخرًا تطورًا محدودًا لأنَّ حركة التحرُّر العربي كانت موجَّهة ضد سيطرة الاحتلال الغربي؛ ومِن ثَم فبقدر ما كان العرب يُمثل العالم المسيحي بمقاييسه الأخلاقية ومعاييره الاجتماعية، وقيمه الثقافية والرُّوحية المختلفة عن المقاييس والمعايير والقيم الإسلامية. أصبح الإسلام السلاح الأيديولوجي الطبيعي في الكفاح من أجل الحرية وتأكيد الذات.
ذكرنا آنفًا أن المسلمين كثيرًا ما اعتبروا التوسُّع الأوروبي في الشرق امتدادًا للحملات الصليبية التي كانت تهدف للقضاء على أو تحقير الإسلام؛ ومن ثَم فقد رفعت الانتفاضة الضخمة المناهضة للاحتلال راية الإسلام. وقد أعلن كثيرٌ من القوميِّين انتماءهم له، مما ساعدهم على اكتساب تأييد الجماهير، وهو أمرٌ يُعطينا تفسيرًا لرد الفعل المريض الذي اجتاح العالم العربي في عام ١٩٢٤م، كنتيجةٍ لإعلان المجلس التركي إلغاء نظام الخلافة الإسلامية. قطاعٌ من المسلمين رأى في نهضة السيطرة الفكرية للإسلام والخلافة، أكثر من مجرَّد صيغة لبحث مجد وعظمة الشعوب العربية. كانت الخلافة بالنسبة لهم رمزًا سياسيًّا واقعيًّا لوحدة العالم الإسلامي في نضاله ضد الاستعمار.٢

ظلَّت الخلافة بالنسبة لبعض التيارات المتطرِّفة في الثلاثينيات رايةً للوحدة الإسلامية المناهضة لعدوان الغرب. ويُؤكد حسن البنا مؤسِّس أشهر جمعية رجعية هي جمعية «الإخوان المسلمون» في خطابٍ ألقاه عام ١٩٣٨م أن الخلافة بالنسبة للإخوان المسلمين «هي رمز للوحدة الإسلامية … وأن فكرة الخلافة والعمل على إحيائها بالنسبة إليهم من الأمور الرئيسية في برنامجهم» (٦٣، ج٢، ص٨٥)، وهي نفس الأفكار التي قام عليها حزب التحرير الإسلامي الذي تأسس في القدس في أوائل الخمسينيات (١٤٩، ١١٥).

لم تظهر فكرة الخلافة في فترة ما بين الحربَين نتيجةً للاختلافات السياسية والادعاءات الزعامية للقادة العرب (على وجه الخصوص، جاء في قرار مؤتمر القاهرة المنعقد في عام ١٩٢٦م أن اختيار الخليفة المسئول عن مطالب الشريعة في ظروف السيطرة الأجنبية على البلاد الإسلامية أمرٌ مُمكن)، وكذلك (انظر خطب أعضاء الوفود في مجلة عالم الإسلام بالفرنسية م٦٤). إن سيطرة الفكرة القومية والاتجاه الدائم واللَّحوح نحو علمنة المؤسسات السياسية والاجتماعية والقانونية في البلاد العربية، والتأثير الواضح القائم على العلاقة بين الناس والحكومة، لا على الأشكال القائمة على الدين، جعَلا من مشكلة بعث الخلافة أمرًا غير جوهري على المستوى العملي. وضيَّق العالَم المعاصر الفرص أمام تحقيق أفكار الجامعة الإسلامية المتطرفة أو إقامة حكومة دينية.

كانت غالبية المسلمين تُدرك المذهب الإسلامي في جانبه السياسي كمخطط أيديولوجي لنضال الشعوب الإسلامية المقهورة من أجل الاستقلال والتطور. كتب ابن باديس في جريدة «الشهاب» عام ١٩٣٠م: «إننا نَفهم الجامعة الإسلامية على أنها اتحاد القلوب» (١٥١: ٣٧٨). وهذه الكلمات تعكس المزاج السائد في فترة ما بين الحربين.

وفي غضون تلك الفترة، كان الإسلام الذي نادى بوحدة المسلمين، بغضِّ النظر عن الجنس والحدود الدولية، يرى أن القومية أمرٌ غريب عليه. على أن المفارقة هي أن الإسلام أصبح من العناصر المكوِّنة للمذاهب القومية، وعلى رأسها الجامعة العربية. وفي الغالب، ترفض الحركة الإقليمية الإسلام باعتباره واحدًا من أسس الوجود القومي. ويرى أحمد لطفي السيد أن الإسلام هو مجرَّد أساس أخلاقي (١٠١، ٤٦٥)، والقوميون السوريون، مثلهم في ذلك مثل القوميين التونسيين، لا يُعلقون على الإسلام أهمية فيما يتعلق بكونه أساسًا للمؤسسات الاجتماعية والسياسية. وفي الوقت نفسه، فإنَّ المذاهب الإسلامية في المغرب دخلت في أساس الأيديولوجيا القومية. ونلاحظ، بالمناسبة، أن الاتجاه القومي المغربي كان منفتحًا أكثر من غيره على أفكار الجامعة العربية.

أَولى أيديولوجيُّو الجامعة العربية اهتمامًا كبيرًا للإسلام، باعتباره عنصرًا هامًّا في الخاصية القومية العربية، وسلاحًا أيديولوجيًّا هامًّا في النضال من أجل التحرر، وأنفقوا كثيرًا من الجهد لاستخدام القرآن في إضفاء ظلال التقديس على المُثُل القومية وصبغ الإسلام بصبغةٍ عربية. وتكرَّر القول بأن القرآن أنزل باللغة العربية على نبيٍ عربي، وأن اللغة العربية هي لغة القانون والدين الإسلامي، وأن الإسلام هو جزءٌ من التراث الثقافي العربي. وحدَّدت مجلة «المنار» القاهرية الإسلام على أنه بشكلٍ رئيسي، مذهبٌ عربي ديني واجتماعي. وأشارت المجلة إلى الدور البارز للعرب في الشرق (١٣٦، ١٧٤).

وتحدَّث رشيد رضا وشكيب أرسلان عن الدور الخاص للعرب في الأمة؛ فقد ربط كلاهما نهضة الإسلام بنهضة العرب، أولًا بصفتهم المحافظين على لغة القرآن، التي تَربط بين المسلمين وحماة الأماكن المقدسة. وحتى الآن لا تزال هناك مقولات كثيرة، تُشبه تمامًا تلك التي ظهرت على صفحات الأهرام: «رسالة محمد نضال دائم ضد محاولات هدم الأمة العربية» (١٦٨، ٢٧/٤/١٩٧٢).

لقيَ هذا الموقف تأييدًا حتى من المسيحيين أنصار الجامعة العربية، الذين استوعبوا الإسلام لا باعتباره وحيًا بالطبع، وإنما ككنزٍ للثقافة العربية، وتجسيدٍ لتاريخ العرب الماضي. تنطبق هذه العلاقة على المُفكر المسيحي السوري قسطنطين زريق. يتناول زريق في كتابه «الوعي القومي» قضية التفاعل بين القومية والدين، ويُشير إلى أن الدين هو قوة روحية جبارة توارَثَها العرب. ويُؤكد المؤلف أن «القومية الحقيقية لا يمكن أن تقع في تناقضٍ مع الدين الحق؛ إذ إنَّ القومية في جوهرها هي حركة رُوحية هدفها بعث القوى الكامنة في الأمة، وتحقيق الإمكانات الروحية والفكرية الموجودة فيها، حتى تتمكَّن من أن تُسهم بنصيبها من الحضارة العالمية … لهذا فإنَّ على القومية أن تتقارب، باعتبارها حركة روحية، مع الدين، وتستلهم منه قوة الحياة ذاتها والروح السامية» (١٣٩، ١٦٨). والقومية العربية، في رأي زريق، لا تَتناقض ولا ترفض الدين، وإنما تقبله كله، وتستمد منه القوة والنقاء. وفي رأيه أيضًا أن كل الديانات تملك حقيقةً يقبلها الجميع، وهي المبادئ الأخلاقية اللازمة لبناء مجتمع مستقر ومُزدهِر. واختلاف الأديان ليس سوى اختلاف في الشكل الذي تُقدم من خلاله تلك المبادئ (١٤١، ٣٠٩). والإسلام بالنسبة لزريق أهم عنصر في تشكيل الأمة العربية. ويُبدي زريق ملحوظةً فحواها أننا لا يمكن أن نفهم التراث العربي الذي «يمُثل جزءًا من ثقافتنا المعاصرة» ما لم نفهَم الإسلام (١٥٣، ٨٢).

سبق أن تحدثنا عن أيديولوجيِّ الجامعة العربية المسيحي إدمون رباط، الذي رأى في مبدأ تضامن أصحاب العقيدة الواحدة مقدمة للتماسك القومي، واعتبر الإسلام بالدرجة الأولى دينًا للقومية العربية. ويُؤكد المؤرخ اللبناني المسيحي نيقولا زيادة في عام ١٩٤٣م أنه لا توجد بين العرب أيديولوجيا مسيحية أو أيديولوجيا إسلامية، وإنما هناك تراث عربي واحد فحسب، تراثٌ عام لكل العرب من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي (٥٦، ٥٢٢).

وفي عام ١٩٤٣م، دعا ميشيل عفلق، وهو واحد من مؤسسي ومُنظرِّي حزب البعث (وتبعه في ذلك الكاتب الاجتماعي اللبناني نبيه فارس) العرب، بغضِّ النظر عن عقائدهم، إلى دراسة الإسلام واحترام الرسول محمد. وأشار عفلق في كلمةٍ ألقاها في دمشق بمناسبة المولد النبوي إلى أن «محمدًا كان تجسيدًا لكل العرب. وسنكون نحن العرب أيضًا كذلك، محمدًا واحدًا» (١٣٦، ٦٣). من هنا كان التحول المنطقي: محاولات إثبات أن الوحدة العربية (وهي واحدة من الأهداف النهائية للقومية العربية) مرحلة ضرورية لبعث الإسلام ووحدة المسلمين (عنوان لمقالةٍ في الملحق الأدبي لجريدة السياسة) الصادرة في القاهرة عام ١٩٣٢م: «الجامعة العربية حجر الزاوية للجامعة الإسلامية» (٦٣، ج٢، ص١٦٦). ولكن دحض هذا السعي تأكيدات التقليديِّين الذين كانوا يرون أن مفهوم الأمة يختلف عن التفسير القومي لها، كما فند مزاعمَ كلِّ مَن رأى في الجامعة العربية هجومًا على مفهوم الأخوة الإسلامية والوحدة الإسلامية، وهما بؤرة مفهوم الأمة، وفنَّد كذلك رغبة كل منهم في تخليد تشتُّت الشعوب الإسلامية واعتبارها ضحية للاستعمار.

وفي عام ١٩٣٩م، كان من الممكن أن نقرأ في إحدى الصحف أن «هؤلاء الذين يدعون إلى الوحدة الإسلامية، يعلمون جيدًا أن من الضروري تكثيف الجهود لتحقيق الوحدة العربية أولًا، وهم والحمد لله أعقل من أولئك الذين يُريدون ربط بغداد بحيدر أباد، قبل أن ترتبط بغداد بدمشق» (٥٦، ٢٨٨).

وحاول الأيديولوجي البارز ساطع الحصري أن يُثبت وجهة النظر هذه في أعماله العديدة، مؤكدًا استحالة قيام وحدة سياسية إسلامية ما لم يتحقَّق التكامل السياسي للدول الناطقة بالعربية. وهذا الأمر الأخير هو أمرٌ أكثر واقعية من وجهة نظره. وما دام الأمر كذلك، فإنَّ أي هجومٍ على الوحدة العربية سوف يوصف بأنه هجومٌ على الوحدة الإسلامية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فما دام المذهب الدِّيني لا يصلح لأن يكون بطبيعته أساسًا لنظامٍ سياسي، عندئذٍ يصبح إعطاء الأولوية لفكرة الوحدة الإسلامية القائمة على القرآن، على مفهوم الوحدة العربية، أمرًا غير جائز شرعًا. وفي رأي الحصري أن الفقهاء الْتبَسَت عليهم الأمور، فخلطوا بصورةٍ تقليدية بين المظاهر الأخلاقية للأخوة الإسلامية وبين المظاهر السياسية للوحدة العربية (٦٤، ٨٨–٨٩).

وإلى جانب المحاولات التي بُذلت لإثبات أنَّ الوحدة العربية هي جزء مُكوِّن للوحدة الإسلامية وخطوة نحو بعث الإسلام، فقد طُرحت قضية أخرى تقوم على تصور الإسلام باعتباره أداةً لتحقيق أهداف الجامعة العربية. وردًّا على سؤالٍ وجَّهته مجلة «الهلال» بشأن إمكانية نهضة العالم العربي، أجاب الكاتب المصري البارز مصطفى صادق الرافعي (١٨٨٠–١٩٣٢م): «إنَّ نهضة الشرق العربي سيكون لها أساس راسخ إذا ما نهَض الإسلام واللغة العربية، وهما الركيزتان الخالدتان للأمة العربية» (١٤٤، ج٢، ص١٠٤). وفي عام ١٩٣٠م كتب سلامة موسى: «الإسلام هو دينُ بلادي، ومِن واجبي أن أُدافع عنه» (١٣٦، ١٤٦). وفي عام ١٩٤٦م أعلن مكرم عبيد وزير مالية مصر: «إنني مسيحي، هذه حقيقة، ولكن هذا من ناحية العقيدة فحسب. أما بالنِّسبة لوطني فأنا مسلم» (١٣٦، ١٤٦). ويرى الحصري أنَّ القومية تستخدم الدين لتُؤكِّد على قيمتها، وخاصةً أن لغة الكتب المقدَّسة هي لغة الأمة (٦٤، ٢٧–٣١)، ويقول الكاتب المصري زكي مبارك: «إننا نعتبر الإسلام صوت العرب في الشرق والغرب، ونرى أنَّ الإسلام هو التراث العربي الذي يشترك معنا فيه المسيحيون …» (٥٦، ٢٨٨).

تُعدُّ جمعية الإخوان المسلمين التي أسَّسها في مدينة الإسماعيلية حسن البنا (١٩٠٦–١٩٤٩م)، والذي كان يعمل مُدرِّسًا، واحدةً من أشهر وأنشط المنظَّمات التي كان برنامجها يقوم على تماسك التصورات القومية والإسلامية، وكانت هي المنظمة الوحيدة التي دخل في عضويتها أناس مِن كل الطبقات والفئات الاجتماعية، وعلى رأسهم الفلاحون وفقراء المدن والفئات الوسطى المحرومة والساخطة على الوضع الاقتصادي السيئ والقهر الأجنبي. كان الهدف الرئيسي لجمعية الإخوان المسلمين يقوم على النضال ضد السيطرة الأجنبية، وعلى محاربة النزعة الغربية في كل مظاهرها، ويسعى لإقامة دولة إسلامية على أساس العودة الكاملة إلى الشريعة والقرآن والسنة (وإضفاء الطابع الإسلامي على كل مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية)، ويعتبر أن مفهوم الإخوان المسلمين في تجديد السلفية بروح الإمام محمد عبده، التي تعمل للعودة إلى إضفاء الطابع المثالي على الماضي من أجل ازدهار المستقبل، هو في أقصى صوره، رفض لهذا المستقبل من أجل ماض خيالي (١٢٦، ١٧٩–١٨١).

وفي خريف عام ١٩٣٦م وجه البنا رسالةً لقادة الدول الإسلامية، صاغ فيها برنامج جمعيته على النحو التالي: تستحق الحضارة الغربية الإدانة التامة، فالحضارة الحقيقية هي حضارة الإسلام. وأساس المصائب التي حلت بالشعوب الإسلامية هو بالتحديد السيطرة الأجنبية، ومحاولة أوروبا المسيحية في فرض ثقافتها. والقرآن وحده هو الذي سينقذ العالم، القرآن الذي يحوي أسس كل الأنظمة الممكنة التي تحاول أن تجلب السعادة للإنسان أو ترشده إلى الطريق الصحيح (٣٦، ٥١–٥٢)، وكان شعار الجمعية: «الله غايتنا، والرسول قائدنا، والقرآن دستورنا، والجهاد طريقنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا» (١٧٩، ٣٠ أغسطس ١٩٦٦م).

أعطى البنا أهميةً خاصة للاتجاه القومي، وللجامعة العربية، في عملية تحقيق المثل الأعلى للإخوان المسلمين، وهو توحيد شعوب العالم داخل الإسلام باعتباره الهدف النهائي. وأكَّد البنا على القومية بصفتها المرحلة الأولى نحو نهضة العالم الإسلامي، والتي ستتحقَّق بفَضلها الوحدة القومية (ومن هنا جاءت إدانة الإخوان المسلمين لنُظُم تعدُّد الأحزاب التي لا تتَّفق وفهمهم لفكرة الأمة الإسلامية الواحدة، والأمة التي لا تَنقسم، والدعوة لعالمٍ طبَقي داخل أمةٍ واحدة).

والمرحلة الثانية للنهضة هي الوحدة العربية: بحكم أنَّ الإسلام قد ظهر في وسطٍ عربي ونزل بلسانٍ عربي، وأنَّ العرب أعطوا الإسلام للعالم فيجب توحيد العرب لبعث مجد الإسلام، وإحياء الدولة الإسلامية وتجديد قوتها وسلطتها (٦٣، ج٢، ص١١٥–١١٦). والمرحلة الثالثة هي الوحدة الإسلامية وإقامة الخلافة. وأعلن البنا في احتفال الجمعية بعيد تأسيسها العاشر: «إنَّ الإخوان مؤمنون بأن الخلافة هي رمز للوحدة الإسلامية … وهم يضعون فكرة الخلافة وبعثها أساسًا لبرنامجهم» (٦٣، ٨٤).

وبهذه الطريقة يكون الإخوان المسلمون قد حاولوا التوفيق بين المفاهيم المتناقِضة. وكما يَحدث عادة، فإن اتفاق بعض الخواص الظاهرية للحركات الفكرية التي تختلف في مضمونها الاجتماعي يخلق، إذا ما اتَّفقت أهدافها القريبة، أوهامًا أيديولوجية تظل باقية ما لم تتغير الظروف التي خلقتها.

•••

وبشكلٍ رئيسي، اتجهت حركة التحرر القومي للشعوب العربية في فترة ما بين الحربية بقيادة المثقَّفين الليبراليين ككل، لا نحو الحصول على السيادة والاستقلال السياسي التام (والاقتصادي بدرجةٍ أقل)، وإنما نحو إضعاف التبعية السياسية واكتساب دعم الحكم الذاتي والديمقراطية. وتميَّز الأيديولوجيون الليبراليون باستخدام الوسائل والطرق القانونية. كان التصور الزائف عن الدور الحضاري للغرب لا يزال راسخًا، وورث زعماء الحركة القومية عن زعماء ما قبل الحرب الآمال والمناهج، بل وحتى الشعارات أحيانًا. كانت الخبرة التي اكتسبوها في النضال هي أساسًا خبرة الاتجاهات الإصلاحية. وتحوَّلت حركة التحرر القومي في الظروف التاريخية الجديدة، من حركةٍ منعزلة إلى حركةٍ جماهيرية، مما أعاق من الاندفاع الثوري لهذه الجماهير.

إن التاريخ يُبين لنا أن رسوخ البورجوازية القومية والمثقفين البورجوازيين قد تعرَّض، في نضالهم من أجل الديمقراطية، في كل أنحاء البلاد العربية، لهزاتٍ ملحوظة، وأصبحت البورجوازية تسير في حركةٍ عكسية لنشاط الجماهير؛ فكلما زاد نشاط الجماهير قلَّت راديكالية البورجوازية، وأظهر القادة الليبراليون القوميون استعدادهم لقبول الحلول الوسط على حساب الديمقراطية، وحتى عندما أسفرت الأزمة عن انفجارٍ ثوري وانتفاضة شعبية شاملة، أنهت البورجوازية القومية والدوائر المؤيدة لها الأمر بصفقة، حلٍّ وسط رأت أنه أفضَل لها شأنًا مما كانت تُريده من الفعالية الثورية التي أيَّدتها الجماهير.

كانت القومية الإقليمية والجامعة العربية هما الشكلان الأيديولوجيان الرئيسيان لحركة التحرر القومي في فترة ما بين الحربين، وكثيرًا ما استغل الاتجاه القومي الإقليمي الإمكانيات التي أتاحتها له الجامعة العربية. وكلاهما، وخاصة الأخيرة، اعتمد كثيرًا على الإسلام وعمل على حل مسألة تربية الجماهير بالروح القومية ونشر الأفكار والمفاهيم الحديثة.

وبالنسبة للتحول السريع لحركة النضال التحرُّري القومي إلى حركةٍ جماهيرية وتعاظم نشاط البروليتاريا وارتفاع دور الطبقات التي قادَت، بعد الحرب العالمية الثانية، الحركة القومية في كل مكان؛ فقد بدأت الدوائر القومية بالفعل، منذ أواخر الثلاثينيات، في الإحساس باقتصارها على التركيز على المظاهر السياسية للمفاهيم القومية، والدعوة المباشرة للنضال ضد القهر القومي والتمييز السياسي. وقد كان من الضروري إيجاد خطط محدَّدة وبنَّاءة للإصلاحات الاقتصادية، وإعادة البناء الاجتماعي لصالح الارتفاع بمستوى معيشة الشعب (انظر على سبيل المثال ١٤٥، ٦٨).

١  يُؤكد طه حسين، وهو يعترف بأن الإسلام جزءٌ من الثقافة العربية، أنَّ الدين لا يمكن أن يكون أساسًا لحضارةٍ حديثة، ونظامًا أخلاقيًّا وأساسًا تشريعيًّا لها؛ ومن ثم لا يمكن أن يُصبح أيديولوجيا للنضال من أجل تجديد الأمة (٦١، ص٩، ص١١)، ويتبنى ساطع الحصري نفس هذا الموقف (٦٤، ٨٨–٩٩).
٢  جديرٌ بالذكر أن أمانة مؤتمر الجامعة الإسلامية الذي انعقد في مكة عام ١٩٢٦م تلقَّى كثيرًا من الخطابات تَقترح إنشاء جامعة للأمم الإسلامية تقوم بتوحيد المسلمين في نضالهم ضد الغرب (١٦٤، عام ١٩٢٦م، ع٢٠-٢١، ص٣٩٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤