القديم والجديد، الشرق والغرب

  • الشرق والغرب. خصائص ظروف نهضة الشرق.

  • تشكل العقيدة المعاصرة: دور الأممية والتعليم وخلافهما.

  • تطور الثقافة العربية المعاصرة.

  • أصحاب النزعة الغربية، أصحاب النزعة التقليدية، المعتدلون، التحديثيون.

  • مشكلة العلاقة بين القيم الغربية والتقليدية.

  • صراع الأفكار: قضية المرأة، اللغة العربية.

  • آراء القادة العرب بشأن مشكلة الشرق والغرب.

لاحظ هنريش هاريني أنَّ «كل عصرٍ يتَّخذ وجهات نظر جديدة، تكون له أيضًا عيون جديدة»، ويمكن القول إن عملية انتقال الشعوب العربية من العصور الوسطى إلى المعاصرة «واتحاد وجهات نظر جديدة» كانت عملية بالغة التعقيد والاضطراب.

وكل مجتمعٍ إنساني هو نظامٌ متكامل يعمل على دعم وتثبيت هذا التكامل حتى يحتفظ بالظروف اللازمة لتحقيق نمو العمليات التي تتمُّ فيه في المرحلة الراهنة. ويتعرض هذا التكامل دائمًا في مجرى العملية التاريخية لحدوث خلل في إطار البنية التحتية والفوقية، مما يؤدي إلى استحالة تحقيق النظام لوظائفه الخاصة به. وحتى يتسنى له استعادة هذه الإمكانيات في الظروف الجديدة، فإنَّ على النظام أن يَنسجم مع الوضع الجديد عن طريق إزالة المتناقضات التي تظهر. غير أنَّ التغيرات تمسُّ بعض عناصر النظام فحسب، تلك العناصر التي تُقاوم هذا التغيير بشدة، مما يدفع بظهور التناقُضات من ناحية ويُعرقل عمليات التغيير من ناحيةٍ أخرى. وبهذه الطريقة يتخذ نمو المجتمع الإنساني، بصفةٍ خاصة، صورة الصراع الدائم بين المستقبل والماضي.

ويَتراجع القديم، تحت ضغط التطور الاجتماعي الاقتصادي والثقافي، مقاومًا بشراسة، مُستعيدًا تارةً وخاسرًا تارةً مواقعه. وكما كتب لينين فبقَدر «ما تتسم الحياة الاقتصادية والسياسية والرُّوحية بطابعٍ أممي» (٩، ٣١٨)، وبقدر ما تنمو قوى التجديد من جيلٍ إلى جيل (تعاظم وسائل الإنتاج الأممي ومواد الاستهلاك ونمو وسائل الإعلام الجماهيري) يكون التسارع النسبي لإيقاعات انهيار المؤسَّسات والأنظمة القديمة.

اكتسب الصراع بين القديم والجديد في الوعي الاجتماعي في البلاد العربية حدةً غير عادية؛ إذ إنَّ كل القوى المتعارضة على الساحة قد اشتركت تقريبًا فيه، تلك القوى التي كانت تَستند على المؤسَّسات والمقاييس وسلوكيات المجتمع الشرقي التقليدي والمعاصر، ومن هنا كان الوضع الدرامي للوعي الاجتماعي العربي. وقد خلق هذا الصراع عديدًا من المفارقات في المجتمع العربي، إلى جانب الهزات الاجتماعية والصراعات العقائدية والأخلاقية المعقدة، أو «الشيزوفرنيا الثقافية» حسب التعبير الموفَّق للشاعر الباكستاني ف. فايز. وقد أحدثت موجة المعاصرة التي اتَّجهت نحو الشرق ردَّ فعل محافظًا بشدة. أما تحولات الحياة التي كانت تَطرح كل ساعة مفاهيم ومعايير جديدة، فقد كانت تعمل أحيانًا في اتجاهٍ معاكس. عملت هذه التحولات على إثارة روح المقاومة لدى القديم، مما أعاق عملية التجديد وساعدَ على بقاء هذا القديم حيًّا. فالنمط الجديد الذي يتحوَّل إلى قديمٍ كان يَسهل استيعابه نسبيًّا من المجتمع التقليدي، ومفاهيم القديم (العضوية) والجديد (المرفوضة والممنوعة) في الوعي الاجتماعي تُعدُّ تحولاتٍ ضخمة من نوعٍ خاص؛ فهي تنتقل فيما بينها بصورةٍ مُستمرة مشيرة إلى مراحل تطور الشعب روحيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، فالذي كان بالأمس مرفوضًا وممنوعًا يُصبح اليوم مقبولًا ومُمتدَحًا. وكان هناك نوع آخر من الجديد لم يجئ نتيجةً للتطور المحلي، وإنما جاء من الغرب ليدخل في صدامٍ مع كل أنظمة الحياة وأنماط الفكر القائمة، وكان من الضروري أن تَلحقه بعض التغيرات حتى يتمكَّن من تخطي القصور الذاتي الاجتماعي الثقافي، وكذلك حاجز الاغتراب والنفور والشك التقليدي في كل ما هو مسيحي أوروبي أو يُمثل ثقافته. كان الرأي السائد أن الأوروبي ماكر غادر، وهو دائمًا عدو كامن للمسلم، كل هذا برغم نجاح نزعة التغريب، حتى إن بعض الذين نالوا تعليمًا أوروبيًّا كانت لهم نفس النظرة.

كان الماضي العزيز يُمثِّل ملجأً للمثقفين والقادة السياسيِّين في كل مرةٍ يُواجهون فيها الفشل في محاولاتهم تحقيق الأهداف القومية بالوسائل والطرق التي اقترحَتْها الديمقراطية البورجوازية؛ ولهذا فمع تعاظم أزمة الاتجاه القومي الليبرالي باعتباره ظاهرة من ظواهر الحياة السياسية للبلاد العربية وعلى رأسها مصر، وبقدر ظهور صعوبات على طريق تحديث المجتمع، كان من السهل أن نلاحظ على وجهٍ خاص، إلى جانب إزالة الحدود بين نظامَي القيم الشرقية والغربية، اشتداد عملية عزلة النظام الأول.

كان الغرب الرأسمالي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين أهم محرك مؤثر لقوى الأممية. فبعد أن دخل إلى الشرق باعتباره السيد والقاهر، امتلك سر التطور الحديث، واستطاع الغرب بوجهيه أن يكتسب شعورَين مزدوجين؛ الحب والكراهية. ومهما كانت التجربة مُؤسفةً في تلك السنوات، ومهما كانت مرارة الإحباط في أوروبا «المتحضِّرة»؛ فقد خلَقَت الصلات الوثيقة المتعدِّدة بين الشرق والغرب، في مطلع القرن، أسلوبًا فكريًّا مُبتذَلًا عند العرب، وأصبحت الكثير من النماذج الغربية بالقياس إليها إيجابيةً لقيَمِهم الخاصة. وقد نما في وعي قطاع كبير من المثقفين العرب التصور الاستعماري عن شعوب الشرق، كشعوبٍ غير مؤهَّلة للتطور العلمي التكنولوجي، وللتنظيم الفعال للعمل إلى آخره.

كان على الشرق طوال النصف الأول من القرن العشرين أن يُفسِّر ويستوعب ويتفاعل مع كل ما يحمله إليه الغرب. وقد أدركت العناصر التقدمية في المجتمع العربي ضرورة استيعاب مُنجزات الثقافة الغربية، حتى لا يُصبح العرب منبوذين من التاريخ أو يتحولوا إلى مُستغَلين مُذَلين: في هذا الوقت أشار الغرب الرأسمالي للشرق نحو آفاق التطور الاقتصادي والاجتماعي. ذلك إلى جانب أن تطور الوعي الاجتماعي، بالصورة التي تمَّ بها هذا التطور في العصر الحديث، بدأ يستهجن الاقتباس المباشر ويُفضل الاقتباس بقدر تفهُّم العرب لشرطهم الخاص وإدراكهم لما أنجزوه هم أنفسهم في مجتمعهم قياسًا لمستوى التطور العالمي.

ويستطيع كل شعب أن يُدرك أصالته هو فقط بقدر وجود شعوب أخرى؛ فالشعب يقوم بتقييم حياة الشعوب الأخرى من خلال منظور تجربته هو التاريخية وثقافته، على أساس نظام قيمه التي تكونت عبر العصور. ولكن، مهما تباينت نظم هذه القيم فيما بينها، فإن عناصر واحدة تظل باقية في أساسها وهي التي تُحدِّد في النهاية الطبيعية البشرية والتطور العام للقوى المنتجة ولعلاقات الإنتاج، ويَسمح هذا بربط نظم القيم القومية بعضها ببعض، وتحديد أهميتها وقصورها وانتقاء وتحويل واستيعاب تلك المعايير التي تُلبي حاجات التطور الاجتماعي لهذه الأمة أو تلك على أفضل وجه؛ لهذا بالذات دفعت حاجات التطور الاجتماعي العالم الإسلامي الذي آمَن بنقائه الذاتي وفضائله (الأمر الذي قيَّد بشدةٍ اهتمامه بالعالم المسيحي)، ودفعته للاتجاه ناحية الغرب، نحو كل النظم الاقتصادية والاجتماعية السياسية الغربية ونظريات ومعايير الآخرين، بحثًا عن طريق التطور السريع.

رأى الكثيرون أن العناصر الرئيسية المميزة لنظام الثقافة الشرقي، خلافًا للغرب، تتمثَّل كقاعدة في السلبية والتواكل والاعتماد على العناية الإلهية، وعلى تصور أن الإنسان جزءٌ من الطبيعة. وهي عناصر تقف على النقيض من خصائص نظام الثقافة الغربية التي تقوم على مبادئ النشاط الخلاق والتخطيط والتأثير في الطبيعة. (يرى أمين الريحاني أن أهم ما يُميز الشرق هو الاستغراق في الأحلام والتأمُّل، والخضوع للقدَر، والإيمان بالمكتوب، والعواطف والقوى الروحية، والاستِسلام وبساطة الحياة والهدوء. أما الغرب فيميزه تطور العلوم والتكنولوجيا، والتجارة، والاختراع، والحروب والاستعمار، والاعتماد على القوى الذاتية، والتطور) (٨١، ج٢، ص٤٥-٤٦). تحدد الطابع الشرقي بتأثير ديانات التوحيد ونُظُم الفلسفة الدينية التقليدية التي ظهرت في الشرق، واكتسب هذا الطابع قوةً خاصة إبان العصور الوسطى، انعكست بدورها في الاعتماد كليةً على واقع العصور الوسطى. ودام هذا الجمود الفكري في أعلى صوره طويلًا يربط الشرق بالتقاليد.

كانت الحقائق البديهية في النموذج القروسطي للحياة، ترى الإيمان المتشائم باستحالة الوصول إلى الكمال على الأرض إلى الإيمان النهائي؛ ألا وهو القرآن الذي هو وحي، ومن ثمَّ قيمة مطلقة للمعرفة، وكتاب شامل جامع للوجود.

وصاغ العصر الحديث بديهية جديدة مبنية على مراعاة القيمة الذاتية للشخصية الإنسانية، وعلى قوة العقل البشري. وتحوَّل الإيمان المتشائم باستحالة الوصول إلى الكمال على الأرض إلى إيمانٍ متفائل في حركة العالم المُطلَقة نحو تحقيق المثل الأعلى. وبالرغم من أن البشرية تعرضت للإحساس بعدم الاستقرار (ثمنًا لتحول «المخلوق» إلى خالق) فقد ظلَّ الإيمان في تحقيق السعادة على كوكب الأرض باقيًا.

لقد كان أمر إعادة النظر في القيم أمرًا شاقًّا على النفس، فتحديد القيم الثقافية الاجتماعية وتقديرها من جديد، هو بالتحديد العملية الرئيسية المستمرة لصياغة الشخصية. ومن المعروف أن مستوى الحضارة الإنسانية قد تحدَّد بصورةٍ نهائية بمجموع أنشطة البشر، ولكن هذا المستوى نفسه كان يحدد، في كل مرحلةٍ من مراحله، الشخصية القياسية المثالية المميزة لعصرها. كتب ماركس وإنجلز: «إنَّ العلاقات البشرية العالمية تقوم على التطور العالمي لقوى الإنتاج»، وكل شعب «يصبح تابعًا للتحولات التي تحدث لدى الشعوب الأخرى» و«يجري استبدال الأفراد العالميِّين التاريخيين بالأفراد المحليِّين المحدودين» (٢، ٣٣-٣٤) … لكن الاتجاه إلى العالمية أخذ يصطدم بمقاومة الظروف والعناصر المكونة للشخصية الواقعية الداخلة في هذه أو تلك، من الفئات القومية العرقية أو الاجتماعية والمُصطبغة بصفاتٍ طبقية ما.

أصبح هذا الخلاف مصدرًا لموقف الصراع الدائم، وخاصة في مجال الوعي القومي؛ لأن الأمر كان يتعلق بتغيير المُعتقدات، وهو أمرٌ شديد الصعوبة يلزمه وفقًا لتعبير الأكاديمي أو خطومسكي: «تغيير التصور الفسيولوجي في الإنسان، واتجاه عاداته الفسيولوجية المتأصلة في الحياة لا أكثر ولا أقل» (١٦٥، عام ١٩٦٣م، ع١، ص٢٦٤).

ومن الأمور المميزة للقرن العشرين بصفةٍ خاصة أنَّ نهضة الشرق لن تكون مُفاجأةً بالمقارنة بإيقاع التطور العالَمي؛ ولأن القديم كان يجب أن يُواجه الجديد فورًا في كل المجالات السياسية والاجتماعية الثقافية، مُعطيًا في كل الاتجاهات تطورًا إيجابيًّا إلى جانب ردود الفعل السلبية. كان الصراع مريرًا بين القديم والجديد، وخاصةً في تلك البلاد التي كان اتصالها بالعالم الغربي في مطلع القرن الحالي عرضيًّا وبطريقةٍ غير مباشرة. وكان التطور فيها يحدث بفتورٍ نسبي، فإذا بها فجأة تَصطدم في العصر الحديث بالعالم الغربي، وبأنظمةٍ ومفاهيم غريبة عليها. حدث هذا، على سبيل المثال، في العراق والمغرب، بل وفي بعض البلاد الأخرى.

كتب الأديب المغربي المعاصر شرايبي في قصة «الحمار» يصف مشكلة تغير اتجاهات القيم عند المغاربة: «كانت اليقَظة مُفاجئة تمامًا كأنها فُرضت بالأمر … انتقل الناس والأشياء من عالمٍ عاشوا فيه على مرِّ العصور … إلى عالمٍ آخر أحسوا فيه أنهم ضائعون، غرباء، مهزومون مقدمًا» (٤٥، ٢٨).

ومهما قيل، ففي المائة سنة الأخيرة سقطت أو تزعزعت أسس المؤسسات الاجتماعية القديمة، بالرغم من أنَّ محاولات إقامة مؤسسات جديدة على الطراز الغربي لم تلقَ نجاحًا كاملًا في أي مكان، تغيرت وتمزقت الأواصر الاجتماعية التقليدية والعلاقات الأسرية وتغير طابع التفاعل بين السلطة والشعب. ظهرت مشاكل اجتماعية جديدة تطلَّبت جهودًا ذهنية مبتكرة: كان من الضروري تصورها من البداية قبل الشروع في حلها. وأصبح من البديهي أن التطور الحديث مستحيل دون نظام حديث في التفكير، وها قد نمَت فوق التقاليد الأخلاقية الثقافية الشرقية السميكة طبقة ثقافية جديدة رقيقة، وأخذ نمَط الحياة والأفكار يتغيَّر تدريجيًّا بتأثير عوامل التحديث ونتيجة لنشاط «الصفوة» من المثقَّفين المُتنورين. بدأ الناس في اعتياد استخدام الأشياء الجديدة عليهم، ودخلوا في علاقاتٍ جديدة عليهم ووجدوا لأنفسهم ببطء وصعوبة، حلًّا وسطًا داخل «الوسط الديني الجبار»، واعتادُوا على الروح والنموذج الجديد للفكر الذي لا يمكن فصله عن هذه الأشياء وتلك العلاقات. كانت كل فكرةٍ جديدة على العقل تُسبِّب في أول الأمر بلبلةً تامة: كل شيء انقلب رأسًا على عقب، وشيئًا فشيئًا استوعب الإنسان المفاهيم التي كانت بعيدة عن تصوراته المباشرة، وعندما كان الأمر يتطلَّب الاصطدام بفكرةٍ جديدة كان استيعابها عندئذٍ أخف وطأة.

عجل تطوُّر وسائل الإعلام الجماهيري، وديمقراطية التعليم في كل مراحله، عملية تحديث الوعي القومي الضرورية التي لا تقهر، وعجل كذلك صياغة الرؤية الحديثة على قاعدة وفي إطارٍ من ظروف الحياة المتغيِّرة، وهنا لعب التعليم دورًا خاصًّا. لم يقتصر دور التعليم على إعداد الإنسان لتخيل المفاهيم والظواهر التي لم يألفها، وإنما أصبح الأداة الأكثر فعالية لتثبيت تأثير الوضع الجديد للحياة في الوعي، وفي دفع الإنسان عند الضرورة للاعتماد على عقله وقواه الخاصة، وأيقظَت فيه الاهتمام بما يدور خارج اهتماماته وحاجاته اليومية بفرض كل المُتغيرات في نمط الحياة.

وخلق اشتراك فئات عريضة من السكان في عملية التطوُّر الحديث تفاعلًا متسلسلًا من الاحتياجات الجديدة والتنامي السريع للطلب على المكاسب المادية والروحية والإسراع في نفس الوقت بإعادة النظر في المقاييس الاجتماعية الثقافية. وقد حضَر هذا بدوره من فاعلية الجديد.

لقد أصبح التحوُّل في الأفكار والمشاعر الذي خلقه تصارع القديم والجديد، وتقييم الأشكال التي عالجها هذا الصراع، وبحث أفضل صور الترابط بين القديم والجديد، هو الموضوع الثابت للفكر الفلسفي العربي وللكتابة الاجتماعية والأدبية والشعر. احتفظت الثقافة العربية المعاصرة بقيَمِ الماضي الثقافية (التقاليد والعادات)، تلك القيم التي لم تدخل طرفًا في التناقُض النزاعي مع مطالب الحياة، ونجحت في البقاء حيثما وجدت الثقافة القومية ذاتها.

وأصبحت الأفكار والنظريات القادمة من الخارج، والتي تُلبي الحاجات الماسة للأمة أيضًا جزءًا من الثقافة القومية. (اكتسبَت بعض وجهات النظر والمفاهيم التي لاقت انتشارًا واسعًا في العالم أهمية معيَّنة بالنسبة للرأي العام، بالرغم من أنها لم تكن تُمثل بالنسبة للأمة أهمية حقيقية، ولم يكن من المُمكن ببساطة حتى اتخاذها مُودة). وبالتدريج تكوَّنت لدى العرب أنظمة من الآراء قادرة على الإسهام في حلِّ مُشكلتهم التاريخية الرئيسية، ألا وهي الوقوف جنبًا إلى جنب مع الأمم الحرة حقيقة. وفي إطار هذه المشكلة اكتسبت مشكلة العلاقة بين «ما نعرفه» وبين ما هو «دخيل» علينا أهمية خاصة، نفى البعض أهمية الثقافة العربية، على حين رأى الآخرون أن تفاعلها مع الثقافة الغربية يخلق صيغةً لنهضةٍ ثقافية جديدة إلى آخره (انظر على سبيل المثال: ١٠٩، ٢٨–٣٢)، وتُركز الصراع حول قضية التراث الثقافي في مشكلات اللغة العربية والعلاقة بالثقافة الروحية والمادية للغرب. وهنا انعكس التعارُض، بصفةٍ خاصة، (تارة بصورةٍ علنية وتارة بصورةٍ خفية) في صورة صراع بين حراس العقيدة والتقاليد واللغة التقليديين الذين رأوا في التفاعُل مع الغرب، وخاصةً في مجال الثقافة والأخلاق، تهديدًا للأصالة الإسلامية العربية الشرقية، وبين أصحاب الاتجاه الغربي الذين أولوا أهمية خاصة لعملية تحديث المجتمع على أساس تقليد النماذج الغربية، باعتبارها الطريق المأمون لتجاوز تخلف الشرق، ظهرت بين المتنازعين، أنصار الآراء المتطرِّفة، جماعات عديدة كان الاختلاف القائم بينها يتمثل في درجة تأييدها للثقافة التقليدية أو الحضارة «الغربية» المعاصرة.

كان غلاة التحديث، التغريبيون المتطرفون، يَنطلقون من الإيمان بالضرورة المطلقة لتغريب المجتمع الشرقي تغريبًا تامًّا من أجل خيره ومصلحته.

وعلى أصحاب النزعة الغربية، يردُّ صادق هجرس أحد قادة الحزب الشيوعي الجزائري بقوله: إنَّ التاريخ منذ عام ١٨٠٠م وحتى الآن يتلخَّص فيما يلي: «البربرية والتطرُّف من نصيبنا والبطولة والإنسانية من نصيب الدخلاء ونظامهم» (٢٣، ٣٠).

ودعا سلامة موسى إلى «الذوبان في أوروبا» (مجموعة «اليوم والغد») انظر (٦٣، ج٢، ص٢٠٧–٢٠٩). في عام ١٩٣٠م فنَّد سلامة موسى فكرة كيبلنج التي تقول: «إنَّ الشرق شرق والغرب غرب، توءمان لن يَلتقيا أبدًا» مُشيرًا إلى أن الاتفاق مع كيبلنج يعني التصالح مع التخلُّف الأبدي للشرق. وفي رأي موسى أنَّ الاختلاف بين الشرق والغرب لا يُكمن في أن الأول مُتمسكٌ بثقافته، أي بقيَمِه الروحية وحضارته التي تشكَّلت في الظروف المادية لوجود المجتمع، ويُفرِّق سلامة موسى بين هذين المفهومين (١١٦، ١٤)، فالثقافة والحضارة ظاهرتان تاريخيتان، وهذا يعني أنهما يخضعان لفعل قانون التطور. ومن وجهة النظر هذه فإن الشرق يُشبه أوروبا في العصور الوسطى: يكمن الخلاف بين الشرق والغرب بالذات في أنَّ الحضارة الشرقية الحديثة قامت على الزراعة البدائية، تمامًا كما حدث في الغرب في العصور الوسطى الذي دخل أخيرًا عصر التصنيع؛ حضارة المستقبل (١١٦، ٢٥–٢٩). ويُحاول سلامة موسى في مجموعة مقالات بعنوان «على مفترق الطرق» أن يثبت، على وجه الخصوص، التقارُب الشديد بين المصريين والشعوب الأوروبية. لكن سلامة موسى يتلاعب بالحقائق التاريخية كما يُريد، مؤكدًا حتى على وجود علاقات بين لغة قدماء المصريين واللغة الإنجليزية، معتمدًا فقط على مجرَّد وجود «مئات الكلمات المتشابهة أو القريبة في المعنى»! (٦٣، ج٢، ص٢١٩).

ويرى الكاتب المصري حسين فوزي أن التراث العربي ليس سوى همزة وصل، تربط بين الحضارة الإغريقية وعصر النهضة الأوروبية. كتب حسين فوزي: «كان من الأفضل للشعوب الناطقة باللغة العربية أن تترك كل أفكارها حول الثقافة العربية، ولا تُضيِّع وقتها في نبش القبور القديمة؛ فلن يجدوا شيئًا هناك» (١٠٩، ٣٢). وكتب السياسي السوري الشهير عبد الرحمن شرايبي أن سبب خمول العالم العربي يرجع «للتماسك بالقديم وللخضوع الأعمى لتأثير قوانين الجدود، حتى إنَّ بعض هذه البلاد لا يزال يعيش في العصور الوسطى.» ويرى أن العلاج الوحيد هو التجديد (١٧٦، ج٨٠، ص١٦٩).

وكان طه حسين يرى إمكانية النهضة القومية لمصر في بعث الثقافة الإغريقية اللاتينية الموجودة في يَنابيع الثقافة المصرية. وفي كتابه «مُستقبل الثقافة في مصر» والذي أثار ضجةً كبرى عند صدوره في عام ١٩٣٨م، يشير طه حسين إلى أنَّ أوروبا الحديثة تقف على قمة تطور المجتمع الإنساني، وهي بؤرة الثقافة الأكثر كمالًا، وأرفع الإنجازات في المجال السياسي والاجتماعي. ويؤكد طه حسين على أن مصر كانت مهدًا للحضارة الأوروبية (٦١، ١٥) التي هي «من وجهة نظر التطور الأيديولوجي والثقافي جزءٌ من أوروبا» (٦١، ٢٧)، وعلى أنه «لا يوجد خلاف جوهري بين المثقف المصري والمثقف الأوروبي؛ إذ إن هذا وذاك قد تكوَّنا على أساس الثقافتين الإغريقية والرومانية والديانات» (٦١، ٣٠)؛ ولهذا بالذات يرى طه حسين أن المصري الحديث يجب أن يكون حقيقة «جزءًا من أوروبا» (٦١، ٣٤)، وأن يَسير على نهج الأوروبيين وأن يخطو خطاهم حتى يُجاريهم، ويُصبح شريكًا لهم في الحضارة بخيرها وشرها، بحلوها ومرها، بما يَحبونه فيها وما يكرهون وما يُفضلون وما يستهجنون (٦١، ٤١)، ولن يصبح هذا ممكنًا إلا بالاقتباس الواسع واستيعاب منجزات الحضارة الغربية (٦١، ٤١–٤٥).

ويَنطلق المفكر اللبناني عمر فاخوري أيضًا من فكرة وجود «حضارة شرقية غربية» واحدة؛ إذ إن الثقافة الأوروبية مدينة بالكثير للشرق (٩٨، ٦٠-٦١). ويرى فاخوري، مثل سلامة موسى، أن الفرق بين الثقافة الشرقية والحضارة الغربية يرجع لكونهما موجودتَين على مستويَين مختلفين عن تطور حضارة واحدة؛ فحاضر الشرق هو ماضي الغرب الذي تَكمن قوته وتفوقه الآن بصورةٍ رئيسية في قوة صناعته (٩٨، ٦٣).

كان إعجاب المثقفين الليبراليين بالثقافة الغربية تعبيرًا عن أصحاب الميول الغربية الذين أخذوا في الظهور منذ مطلع القرن الماضي. كان هؤلاء المُثقَّفون يعتبرون أن الأفكار والمؤسسات السياسية الغربية ضرورية للتطور الخلاق لشعوبهم، ويجب اتخاذها كأمثلةٍ حية. كما اعترفوا بتفوق النموذج الغربي كنظامٍ اقتصاديٍّ فعال، وأضفوا صبغةً مثالية على نظام التعليم المعمول به في الغرب، وعلى مبدأ تقسيم السلطة إلى آخره. وأرجع المثقَّفون كل مصائب العالم الإسلامي إلى الجهل والخرافات والتقاليد البالية. إلا أنَّ التحديثيِّين المُعتدلين الذين كانوا يؤيدون فكرة الاستعانة بأفضل مُنجزات وقيم الغرب والحضارة الشرقية كان لهم تأثير أقوى على الرأي العام. ووجدت هذه الفكرة مُؤيِّدين لها أيضًا من بين أولئك الذين تلقَّوا تعليمًا أوروبيًّا، وكانت لهم صلة وثيقة بأوروبا، وأغلب هؤلاء كانوا من المسيحيِّين العرب.

كان أكثر هؤلاء تأييدًا وحماسًا في الدعوة لهذه الفكرة، في فترة ما بين الحربين، هو أمين الريحاني الذي كان يؤمن بأن حلَّ مشكلة «إنسانية الإنسان»، التي شغلت عقول كلِّ المُفكرين التقدميين العرب على اختلاف توجهاتهم الاجتماعية والسياسية، أمرٌ مُمكن إذا ما استوعب الشرق الثروة الثقافية للغرب (دون تقليد أعمى له)، وتعرَّف أمين الريحاني على الثروة الثقافية للشرق: اضطلع الكاتب بمُهمة نقل المعارف التي اكتسبها الغرب إلى الشرق ونقل الشعر وفلسفة الشرق إلى الغرب (٨١، ج٢، ص٨). وقد فصَل الريحاني بشدةٍ بين الثقافة الأوروبية والسياسة الأوروبية، وكان يَحلُم بمَجيء الزمن الذي يُعتبر فيه الإنسان المثقف هو الإنسان القادر على اختيار «فضائل عباقرة الشرق والغرب» (٨١، ١٥٠). وقد كتب عن نفسه قائلًا: «بداخلي يعيش سرفانتس والمعري. إنهم يُحافظون في نفسي على وحدة الإنسانية والمثل الأعلى على الطريق الحقيقي للإنسانية» (٨٤، ٦٧٧).

استحوذ هذا الاتجاه على العقول وأصبح قويًّا خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية، واشتد الاهتمام بالأدب الأوروبي، وتمَّت ترجمة أعمال كثيرة منه إلى اللغة العربية (ويشير كراتشكوفسكي إلى أن هذه الأعمال لم يتمَّ انتقاؤها بعنايةٍ مما يدلُّ على الاحترام الزائد لكل ما هو «غربي»). كان الكُتاب العرب يُكنون احترامًا شديدًا لكل تيارات الحياة الثقافية الجديدة، بل أدخلوا تيارًا جديدًا في الشِّعر العربي التقليدي الذي يتميز برسوخه ومقاومته للتأثير الخارجي. وقد اتجه البعض ناحية الثقافة الرومانية (الفرنسية في المناطق الواقعة تحت تأثير فرنسا والإيطالية في ليبيا)، واتجه الآخرون ناحية الثقافة الأنجلوسكسونية (في المناطق الواقعة تحت سيطرة إنجلترا)، تبعًا للتربية وما لحقَ بها من تأثيراتٍ ثقافية وسياسية.

أما التقليديُّون المُتشدِّدون، وبخاصة رجال الدين، فقد رفضوا بحزمٍ وبصورةٍ قاطعة كل ما هو غربي باعتباره شرًّا مطلقًا؛ وذلك خلافًا لأصحاب النزعة الغربية. وقد أرجع هؤلاء التقليديون، وهم يتباكون على تدهور العالم الإسلامي، هذا التدهور إلى رفض المسلمين التمسك بدينهم الإسلامي وبالتراث العربي الإسلامي. وفي تحولهم ناحية الغرب وثقافته (ليست المادية فقط) وقيَمِه. وأثنوا على العصور الوسطى مُنتقدين رذائل المجتمع البورجوازي، مدافعين عن المؤسسات التقليدية التي حافظت على المعايير الأخلاقية. وقد طرح التقليديون فكرة إمكانية البعث القومي على أساس الإسلام وحده مُؤكِّدين مقدرة الإسلام على حل المشكلات الجذرية للعصر الحديث وعلى طابعه التقدمي، وعلى تطابق الدين والعلم. يقول الشاعر التونسي الشهير محمد شاذلي خازندار (١٨٨١–١٩٥٤م): «أتجه ببَصَري لعصر الخلفاء الراشدين وأرى فيه قلعةً منيعة» (٣٢، ٦١). وقد دعا الأديب المصري الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي مُواطنيه، في الربع الأول من القرن العشرين «أن يقفوا من الثقافة الأوروبية موقف الغربال الذي يمرُّ منه الدقيق ويمنع النخالة»، وكان مقتنعًا أن من الخير للمصري أن يفرَّ من الثقافة الأوروبية «فرار السليم من الأجرب» (٦٣، ج٢، ص١٩٣). وكتب المنفلوطي وهو أحد المؤيدين الأشدَّاء لتربية الشباب بروح التقاليد: «يجب أن نعطي الشباب أمثلةً من الحياة الثقافية لبغداد وقرطبة، لا من الحياة الثقافية لباريس أو روما أو سويسرا أو نيويورك. يجب أن ندعوهم لفعل الخير مُستشهدين بآيات القرآن الكريم، وأن يُقدم لهم أحاديث أنبياء الشرق وحكمائه، لا سطورًا من روسو وبيكون ونيوتن وسبنسر» (١١٤، ١٩٠).

وبالرغم من أن التقليديِّين دافعوا بحماسٍ عن فكرة الأهمية القصوى للمؤسسات الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية للإسلام وجوهريته في ازدهار الشعوب العربية، فقد اضطرتهم الظروف في النهاية إلى التصالح أولًا مع ظهور الثقافة المادية الغربية في حياة المجتمع الشرقي، ثم، بعد ذلك، مع معتقدات العلم ونُظُم التعليم الغربي الغريبة عليهم. لقد كان الشرق يرهب الجديد ويحتاج إليه.

كان الملك ابن سعود عدوًّا لا يَحيد للثقافة الغربية؛ فقد حرَّم كل شيء يمتُّ بالصلة لها، من الفونوغراف إلى السينما، بالرغم من أنه اضطرَّ لاستخدام الأدوات الصناعية الحديثة ذات الأهمية القصوى، بالرغم من الهيبة التي كان يتمتَّع بها واستشهاده بالقرآن، اضطر إلى محاولة إقناع العلماء لمدة شهور بأنَّ المُستحضرات الطبية الغربية لا علاقة لها بالسِّحر، كما سعى جاهدًا لإقناع الإخوان — أعضاء القرى التي كان لها صبغة عسكرية — بأن يُوافقوا على اقتناء سيارة (١٦٢، ١٩٦).

كانت وجهات نظر السلفيِّين التحديثيِّين المعتدلين بالغة الدلالة؛ فقد عارضوا، من ناحيةٍ، التغريب باعتباره ظاهرة اجتماعية، ودعوا من ناحيةٍ أخرى لتنقية الإسلام وإعادة النظر فيه برُوح الإصلاحيِّين المسلمين الذين ظهروا في مطلع القرن. وقد رفض التحديثيون المعتدلون ورجال الدين، الذين تبعهم عددٌ لا بأس به من المسلمين المثقفين، المذاهبَ الاجتماعية والأخلاقية للغرب، ولكنهم اعترفوا في الوقت نفسه بضرورة التطور العلمي التكنولوجي والتعليم الحديث من أجل نهضة شعوب الشرق.

وظهر في سوريا ومصر في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات عددٌ من المنظمات والدوريات التي اتخذت مواقف محافظة. أول هذه الجمعيات من هذا النوع هي «جمعية الشبان المسلمين» التي تأسَّست عام ١٩٢٧م، وكان هدفها المُعلن بعث مجد الإسلام والنضال ضد الإلحاد والتغرُّب، وتجديد الدور العام للشريعة، والعودة إلى القرآن باعتباره نظامًا عقائديًّا متكاملًا (٥٧، ٦٥-٦٦). وقد اتخذت معظم الجماعات الجديدة لنفسها أهدافًا مشابهة، إلا أن جمعية الإخوان المسلمين الشهيرة التي تأسست عام ١٩٣٣م وجمعية «مصر الفتاة» قد تبنَّوا مفهومًا أقرب إلى مفاهيم الإصلاحيين المسلمين. كان برنامج هذا المفهوم غير مقيد بالاتجاه القومي المصري، الذي كان جزءًا لا يتجزأ من نظرية الثقافة العربية الإسلامية المُستنِدة إلى الإسلام واللغة العربية. كما أنه وضع في اعتباره أيضًا التحديث الشامل لحياة المجتمع مع التمسُّك المطلق بروح ونص القرآن (٥٧، ٧١–٧٣).

تعرَّضنا بصورة عابرة للاختلاف الجذري بين التغريبيِّين على اختلاف أنواعهم والتقليديِّين، ويتلخَّص هذا الاختلاف في أن البعض اتخذ الاتجاه نحو الغرب أساسًا لنهضة المجتمع الشرقي، على حين رأى الآخرون أن هذا الأساس يكمن في الثقافة التقليدية. وإذا كان التقليديون لم يستطيعوا أن يُنكروا المغزى الفعال للتطور العِلمي التكنولوجي، وتجربة النشاط الاقتصادي المنظم من أجل النهضة القومية، فإنَّ أصحاب الاتجاه الغربي لم يستطيعوا بدورهم أن يُنكروا تمامًا أن الثقافة الشرقية، الموجودة في أساس الحضارة الأوروبية نفسها، تمتلك هذه القيم الروحية الضرورية لتأكيد الأمة. حتى أولئك التغريبيُّون المتشدِّدون قد نادوا بالاحتفاظ بالخصائص القومية في مجال الثقافة. يقول طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»: «إنَّ الثقافة يجب أن تكون قومية وإنسانية» (٦١، ٣٠٤). ويقول في موضعٍ آخر: «إن التقارب المفتوح مع أوروبا لا يُشكل خطرًا على أصالتنا القومية أو على ماضينا … إذا لم نُصبح نسخةً أوروبية طبق الأصل» (٦١، ٤٨–٥٦).

ويقول الفيلسوف والفقيه المصري المشهور مصطفى عبد الرازق: «أريد أن تَستوعب مصر أسس الحضارة الغربية، وأن تُصبح واحدةً من القوى المحركة للتطور الإنساني. على أن تحتفظ بوجهها؛ أي لغتها ودينها» (٥٧، ٢٣٣).

ويتوقف منصور فهمي، العميد السابق لجامعة الإسكندرية، في بحثه لمشكلة «الشرق والغرب» عند السؤال القديم، وهو بالتحديد: ما الذي يجب أن نأخذه من الغرب؟ ويتوصل إلى رأيٍ فحواه أننا يجب أن نأخُذ كل ما يمكن أن يعود علينا بالنفع، محتفظين، في الوقت نفسه، بأصالتنا: «ليس من المخيف لو أن الشرق استخدم كل ما تعطيه المعرفة من ثمار العلم. الأمر المخيف هو أن تتم عملية الأخذ هذه في جوٍّ من نكران الذات.» وعلى هذا الأساس فإنه نتيجةً للتفاعل بين الغرب والشرق ستولد حضارة جديدة، حضارة «العقل والضمير في أنقى صورها الإنسانية، حضارة فريدة تحتفظ للإنسانية بأفضل وأروع ما أعطى الشرق والغرب» (١٧٦)، (١٧٦، ج٧٧، ص٢٦٣).

الأمر الذي اتفق عليه الجميع، أو تقريبًا الجميع، سواء من قوًى مختلفة أو مراحل مختلفة من تطورهم الروحي، هو أهمية «القيم الروحية القومية»: الإسلام، الشعور بالتضامن، حسن النية، الصبر، القُدرة على تأمل الطبيعة والعلاقة الحميمة مع الطبيعة الذي يُعدُّ الإنسان جزءًا عضويًّا منها. وقد أشير في نفس الوقت إلى أن الغرب الذي يَفتقد إلى هذه القيم الروحية يقف هو نفسه في تعارضٍ مع الطبيعة مُتعاملًا معها بعنفٍ بغرض تطويعها. إنَّ الغرب يُشبه تمامًا القوة الغاشمة للصناعة والآلة التي استعبدت الإنسان، هو والإلحاد والانحلال شيء واحد.

وكتبت صحيفة الأهرام في الثامن من نوفمبر عام ١٩٣٢م: «إنَّ للشرق جوهرًا روحيًّا يقف ضد المادية … لقد هبت المادية لتدمير الجوهر الروحي للشرق. وها قد أصبح الأتراك أوروبيين، وتسير بعض الحكومات العربية في طريق تغريب سكان الشرق مُعتمدة على شكل الحكم ونظام التعليم الغربي (١٤٤، ١٩٦). ويرى ميخائيل نعيمة أن الثقافة الشرقية والعربية بالذات لها أهمية إنسانية، فهي تُعطي لقلب وعقل وروح الإنسان قوة التضامن والحب والأخوة (٥٦، ٥٢٠–٥٢٢). ويؤكد توفيق الحكيم، على نحوٍ غير مجازي، أن آسيا وأفريقيا ارتبطتا بالزواج، في مرحلةٍ من مراحل التاريخ وأخرجتا للوجود «أوروبا» ذلك الكائن الجميل الرشيق الذكي، ولكن اللعوب الأناني الذي لا يهمه سوى أمر نفسه واستعباد الآخرين (٦٨، ١٧٤). ويضيف: لقد فتح الغرب للبشرية مملكة الأرض. أما الشرق فقد فعَل أكثر من هذا؛ لقد فتح للناس مملكة السماء (٦٨، ١٠٦). إنَّ منجزات الغرب المادي، في رأي الحكيم، تقتل في الإنسان أسمى فضائله (٦٨، ١٧٦).

وأصبحت الدعوة إلى عدم إظهار التطرف والسعي إلى التجديد، وإلى محاولات الاحتفاظ بالقديم أمرًا ملحًّا. يقول العقاد: «إنَّ المبالغة في الجديد أمرٌ خطير على العقيدة، تمامًا كخطورة الجمود على انتشار المعرفة» (٩٥، ٥٣). ومِن المؤيدين لهذا الرأي منصور فهمي (١٧٦، ع٧٧، ص٢٥٧–٢٦٣) والكاتب السوري سامي الكيالي (١١٠، ٧٥). وقد أشار الأخير إلى أهمية تسليح الشباب للنضال من أجل مستقبل أفضل؛ إذ إنَّ الجديد يجب أن يُعطى القوة ولكنه لا يجب أن يهدم فضائل القديم (١١٠، ٧٥). ويَذكُر سامي الكيالي أن الثقافة الغربية تُعتبر سلاحًا للشباب والمثقفين لإدراك الذات، وأعلن في عام ١٩٤٣م أن رسالتنا في استيعاب الحضارة الغربية حتى نفهم حضارة الشرق. فإذا ما استوعبناها فإننا سنأخُذ النواة ونُلقي بالقشرة. إنَّ ما يعنينا هو الجوهري وليس العرضي» (١١٠، ٨١-٨٢). وكان طرح القضية على هذا النحو يعني بالنسبة للتحديثيِّين العثور على حلٍّ للتناقض الموجود في معادلة «الحب والكراهية» للغرب.

عمل تطور الحياة السياسية وازدياد قوة الرجعية وبقاء المشكلة الفلسطينية بلا حل، ونمو النزعة المُتشائمة بشأن إمكانية التغيير الجذري للمُجتمع بمُساعدة المؤسسات والمناهج الغربية في ظروف الاحتلال أو شبه الاحتلال، وتسلُّط الغرب في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، على دفع الكثير من أيديولوجيِّي الاتجاهات التحديثية العرب إلى تغيير مواقفهم، وأدَّى بهم إلى استنتاجٍ فحواه أن على المجتمع العربي المعاصر، أن يبني حياته على أساس الثقافة العربية الإسلامية.

وقد حدث تحولٌ حادٌّ في هذا المجال للكاتب والمفكِّر السياسي البارز محمد هيكل؛ ففي عام ١٩٣٦م كتب هيكل، ردًّا على الذين انتقَدُوه متَّهمين إياه بالتخلي عن التحديثيِّين الذين كان لهم منذ قريب زعيمًا، أنه كان مخطئًا في افتراضاته بأن النهضة العربية سوف تحدُث نتيجة الاقتباس من الغرب في المجالات الفكرية والروحية. ويُؤكد هيكل رفضه لاقتباس القيم الروحية من الغرب، مُتمسكًا، كما أعلن من قبل، برأيه بضرورة اقتباس نتائج الاكتشافات العلمية والتطور التكنولوجي منه: «خُيِّل لي في وقتٍ ما … أنَّ نقل النموذج الغربي للحياة الفكرية والروحية سيكون طريقنا للنهضة، وما زلت أشارك أصدقائي (طه حسين ومحمود عزمي) وجهة نظرهم في أنَّنا بحاجةٍ لنتائج النشاط العقلي للغرب، وأنَّ علينا بقَدر المستطاع أن نغترف من هذا المصدر. ولكني أختلف معهم الآن بصدد المظاهر الروحية للحياة، وأعتقد أنَّ الحياة الروحية للغرب لا تصلح لأن نأخذها ونستوعبها» (٥٧، ١٩٩). وعلاوة على ذلك فإن الحضارة العالمية ذاتها بحاجةٍ إلى نهضةٍ روحية؛ لهذا «الضوء الجديد» الذي ينبلج من الشرق؛ فالعلم وحده غير قادر على تلبية حاجات الفرد الروحية (١٢١، ٦٧٠–٦٧١).

أما منصور فهمي، وهو أحد قادة جمعية الوحدة العربية التي كانت تُصدر مجلة بنفس هذا العنوان، فقد نجح في صياغة جوهر هذا التحوُّل حين كتب في عام ١٩٣٧م يقول: «علينا أن نعود لتراثنا الثقافي الخاص بعد أن نتخلَّص من الثقافة الغربية. لقد كنا ندعو من قبل إلى التخلص من جمود الإسلام وإلى أن نُطلق العنان للعقل البشري، ودعَونا للتجديد في الأدب، لكن كل هذا كان هباءً. لقد مرَّت السنون، وغيَّرنا من موقفنا؛ لأنَّ دعوتنا لتحديث الإسلام أدَّت إلى إهمال الديانات، كما أدَّى دفاعنا لصالح تحرير المرأة ورفض الحجاب إلى انتشار للرذيلة، وكل هذا كان نتيجةَ إعجابنا بأوروبا» (٥٧، ٢٠٧).

كان التعارض بين التحديثيِّين والتقليديين شديدًا في حدته أحيانًا، وكان السجال بينهم متواليًا. وأبرز شاهد على ذلك هو العاصفة المُدوية التي انطلقت بظهور كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، الذي ألَّفه واحد من شيوخ الأزهر هو الشيخ علي عبد الرازق؛ وذلك في عام ١٩٢٥م، وكذلك البحث الذي نشره طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية آنذاك بعنوان «في الشعر الجاهلي» (١٩٢٦م)، وقوبل كلا المؤلفين (لا عبثًا) على أنهما يشنَّان هجومًا مباشرًا على أركان العقيدة. وكانت النتيجة أن اتُّهم طه حسين بالارتداد، وحُرم علي عبد الرازق بقرارٍ من مجلس الأزهر من التدريس في هذه الجامعة الإسلامية، ومِن مُباشَرة مهامِّ منصبه كقاضٍ، ويمكن أن نتذكر الجدل الذي احتدم عام ١٩٣٠م في جامعة القاهرة بشأن قول كيبلنج إن «الشرق شرق …». وقد دافع الكاتب والفيلسوف المصري عباس محمود العقاد عن صحَّة فكرة الشاعر الإنجليزي، بينما اعترض عليها سلامة موسى مؤكدًا ضرورة التحديث الشامل للشَّرق على أساس أَورَبة الحياة كلها. وقد حصل العقاد في الاقتراع الذي أُجري بشأن هذا الجدل على ٢٢٨ صوتًا بينما حصل موسى على ١٧٢ صوتًا (١١٦، ٢٤). أليس لهذَين النصيبَين من الأصوات دلالته، وخاصة أن الاقتراع تمَّ في الجامعة التي تُعتبر دائمًا معقلًا للفكر الحر؟

مثالٌ آخر على الصراع بين التغريبيِّين والتقليديِّين يُعطيه ظهور عملين يُمثلان هذين الاتجاهين في آنٍ واحد تقريبًا. في عام ١٩٣٨م صدر كتاب الأديب والكاتب المسرحي الشهير توفيق الحكيم «عصفورٌ من الشرق»؛ يَذهب محسن بطل القصة إلى فرنسا لإتمام تعليمه. وفي باريس يلتقي بأحد المهاجرين الروس، ويدخل معه في نقاشٍ بشأن خصائص الثقافتين الشرقية والغربية.

ويدين الكتاب الرُّوح المادية والعقلانية المميزة للغرب، ويُثني على الجوهر الروحي للشرق. إن توفيق الحكيم هنا على ثقةٍ من أن «العالم المادي» سوف يجلب الهلاك «للعالم الروحي» (٦٨، ١٠٦-١٠٧، ١٧٥-١٧٦). وفي هذه الفترة نفسها صدر كتاب حسين فوزي «سندباد العصر»؛ لا يُخفي بطل الكتاب، الذي طاف بالعديد من بلدان الشرق، إعجابه المباشر بكلِّ ما يصدر عن الغرب، ويعبر عن ازدرائه للتقاليد وللثقافة الشرقية.

وعلى وجه العموم، فإنَّ الصراع القديم والجديد في مجالَي الأدب واللغة قد اكتسب حدةً خاصة، وأصبحت المشكلات الأدبية ظاهرة لها أهمية اجتماعية وسياسية. وظهرت عدة تيارات وجماعات أدبية ذات صبغة تحديثية (وخاصة في مصر). وقد ميَّز سلامة موسى من بين التحديثيِّين في العشرينيات والثلاثينيات أنصار إقامة أدب قومي مصري حديث لا بالروح والجوهر فقط، وإنما أدبٌ مقيَّد بالواقع المصري أيضًا، خارج إطار التراث الثقافي العربي؛ أنصار إدخال الأساليب الفنية الأدبية الحديثة مع استخدام الأسلوب الجدلي، أنصار الأشكال والقوانين الأوروبية، المؤيدون لأفكار الأدب ذي الاتجاه الإنساني من أجل المشكلات العالمية، ثم جماعات الأدباء الذين يؤمنون بمبدأ خدمة الأدب لمصالح المجتمع (١١٧، ١٥٣). ويُشير العقاد في وصفه لمدرسة التحديثيِّين المصريين، التي يُعتبر هو نفسه واحدًا من زعمائها، أنها انتقلت من كونها مدرسة عربية خالصة إلى اتجاهٍ إنساني عام ومصري عربي، وعكسَت هذه المدرسة جوهر الإنسان الطبيعي، واعتبرت ثمرة من ثمار تأثير العقول العالمية وجزءًا من الوعي العام، ولكن المصريِّين أقاموها مستخدمين مادة الحياة المصرية واللغة العربية (٧٥، ١٠٨). انطلقت هذه المدرسة من مفهوم الشخصية الإنسانية الحرة والمستقلة، مُتعرِّضة للماضي بالنقد، وعملت على عكس الواقع وتقديم لغة الأدب الجديد تبعًا للمطالب الجديدة. وقد اتخذ ممثلو المدرسة المعروفة باسم المدرسة السورية الأمريكيَّة التي جمعت أدباء كل من سوريا ولبنان، المهاجرين إلى أمريكا، مواقف قريبة. وهؤلاء دعوا إلى أن يكون الأدب مرآة للواقع، وأعلنوا تمرُّدهم على ما في الحياة من تشوه، ورأوا أن أشكال وأساليب الشعر العربي أصبحت بالية: «إنَّ أدبنا جسدٌ بلا روح؛ إنه يحاول تقليد القديم، ناسيًا أن روح العصر في سوريا ومصر ليست هي رُوح عدنان وقحطان واليمن وبغداد … منذ ألف وألفَي عام مضت» (٧٤، ج٢، ص٢٠٧).

وأثارت قضية المرأة بوجهٍ خاص جدلًا عاصفًا، وما زالت هذه القضية بعد مرور مائة عام تحظى على الدوام باهتمام الرأي العام العربي. لقد غيَّرت الحياة الحديثة وديمقراطية التعليم ومدرسة النضال القومي التحرري، شيئًا فشيئًا، التصور القائم عن مكانة المرأة في المجتمع ونظرته للأسرة والزواج، تغيَّر أيضًا الوعي الذاتي للمرأة في المدينة العربية بالدرجة الأولى، وتلقى الفكر الاجتماعي دفعةً قوية في هذا الاتجاه من تركيا الكمالية، عندما أُلغي في عام ١٩٢٥م نظام تعدُّد الزوجات وحلَّ محله الزواج المدني. وفي عام ١٩٢٩م اشتركت المرأة في المجلس البلدي. وفي عام ١٩٣٤م شاركت في الانتخابات البرلمانية بعد أن حصلت أيضًا على حق الترشيح في المؤتمر القومي. أحدثت تركيا المسلمة، الحصن الرسمي التليد للإسلام، انعطافة نحو الأسلوب الأوروبي وقدمت طريق التطور المُمكن للعالم الإسلامي كله.

ودفعت الرغبة بالعناصر التقدُّمية إلى وضع العرب على الطريق إلى التطور الخلاق، والحصول على حرية الإنسان من قيود الأوضاع الأخلاقية والاجتماعية للعصور الوسطى، وتحقيق حرية المرأة أيضًا. في البداية حدَّدت خصائصُ وضع المرأة في المجتمعين المسيحي والإسلامي، إلى جانب بعض الاختلافات بين النصوص الدينية في الإسلام والمسيحية، والمُتعلقة بالعلاقات الأسرية والأحوال الشخصية ووضع المرأة في المجتمع؛ النشاطَ الكبير للدوائر المسيحية في حركة تحرير المرأة (بالرغم من أن دخول المُفكِّرين المسلمين في هذا النشاط كان أبعد أثرًا في العالم الإسلامي)، أضف إلى ذلك بعض الاختلاف في طرح الأولويات وأسلوب الطرح. واستطاعت الشخصيات الاجتماعية المسيحية أن تحصُل للمرأة على قدرٍ أكبر من التعليم والحقوق الاجتماعية. أما بالنسبة للمسلمين فقد ظلَّت المشكلات الرئيسية هي مشكلة الحجاب ومشكلة العلاقة بين الرجال والنساء.

و«ظلَّت المرأة السورية والفلسطينية رهينة التقاليد الصارمة. وفي السنوات الثلاث الأخيرة فقط (كتب هذا النص في عام ١٩٣٣م)، كان من الممكن ملاحظة الاتجاه المتنامي لاتباع المودة الأوروبية — بالخمار — في الحياة اليومية، وبعض النساء كنَّ سافرات الوجه» (١٤٤، ١٦٩).

وبعد الحرب العالمية الأولى أحرزت التشريعات في العالم العربي بعض التقدم الإيجابي في قضية الزواج والأموال الشخصية، كما أحرزت أول نجاحٍ لها بشأن تعليم المرأة واتخذت الخطوات الأولى نحو التحرير الاجتماعي للمرأة. ومع هذا ظلَّت المرأة في المجتمع الإسلامي خاضعةً للرجل وتقيَّدت وظيفتها الاجتماعية بمركزها الأسري. وساهم وعي النساء أنفسهن بحقيقة عدم المساواة، وتأثير الحركة النسائية العالمية، على خلق حركة نسائية في بعض البلاد العربية، كان هدف هذه الحركة (ولم يكن من المُمكن في ظروف الثلاثينيات أن يكون هناك هدفٌ آخر)، هو المطالبة بالمساواة التامة للجنسَين وتحرير المرأة. كان الأمر يتعلق بضرورة أن تصبح المرأة عضوًا في المجتمع الحديث، إلا أن قضية المرأة ظلَّت كسابق عهدها قضية العلاقات الأسرية بالدرجة الأولى.

أكَّدت المنظمة النسائية — الاتحاد السوري اللبناني — التي تشكَّلت عام ١٩٣٠م أن «المرأة أخت الرجل، أراد الرجل ذلك أم أبى، وهذه الأخت تُطالب بنصيبها في الحياة. افتحوا أمام المرأة أبواب المعرفة، العمل … ادعوها للمشاركة في آمالنا وأحلامنا … الحياة الحديثة تسير والمرأة تريد الحياة» (١٧٦، ٧٧، ص٤٥٣).

منذ البداية، أصبحت قضية تحرير المرأة واحدة من أهمِّ القضايا في النضال الأيديولووجي، وتميزت ثلاثة اتجاهات رئيسية في مسيرة حلها: الاتجاه التقليدي المحافظ، الإصلاحي الشامل المعتدل ثم التحديثي الغربي.

تمسَّك التقليديون بأن الحجاب الذي أقره الإسلام هو أساس القلعة الأخلاقية المأمونة وعفاف المرأة، وهؤلاء أرادوا الاحتفاظ به كنظامٍ أساسي تقليدي للمُسلمات يؤكد ارتباطها بالأسرة في المجتمع.

انطلق المسلمون الإصلاحيون هم ومَن يُشاركهم أفكارهم من الوعي بالدور الهام للمرأة في تشكيل الفرد أداة المجتمع الجديد في نهضة الإسلام. ورغم تمسُّكهم إجمالًا بالمواقف المحافظة بشأن قضية المرأة مُعتبرين أنَّ الحضارة الحديثة تُهدِّد المرأة بالفساد الأخلاقي، إلا أنهم دافعوا عن تعليم المرأة وتقديم بعض الحقوق الاجتماعية لها؛ ولهذا فقد اتسع نطاق تفسير القرآن وجرى الاستشهاد بالتاريخ والسنة وسيرة أمهات المؤمنين. كان هذا هو موقف رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥م) بصفةٍ خاصة. وقد كان يتمتَّع في فترة ما بين الحربين بسُمعةٍ رهيبة عالية بين الإصلاحيِّين المسلمين، وكذلك عبد الحميد بن باديس زعيم الإصلاحيِّين المسلمين في الجزائر أيضًا. كان هناك أيضًا أتباع مُباشرون للإمام محمد عبده الذي كانت أحكامه بشأن قضية المرأة أكثر راديكالية، وتطورت بعد ذلك على يد قاسم أمين (١٨٦٥–١٩٠٨م). لقد فسَّروا القرآن والسنة مُستنبطين أحكامًا ترفض مؤسسة الحجاب في الإسلام، وهو الاستنباط المنطقي لضرورة التوسع في حركة تحرير المرأة.

ومن بين هؤلاء أيضًا المفكر السياسي والاجتماعي التونسي الشهير الطاهر الحداد (١٨٩٩–١٩٣٥م)، الذي وضع كتابًا بعنوان «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» صدر عام ١٩٣٠م، يفسر الكاتب القرآن والسنة بحريةٍ، مُحاولًا أن يعرض للإسلام من حيث هو يُعطي المرأة حريات كبيرة تكاد تتساوى وحقوق الرجل في الأسرة والمجتمع (٩٥، ١١١). ويؤكد الحداد، عارضًا للوضع البائس للمرأة في المجتمع الإسلامي الحديث، أن هذا الوضع يَتعارض وأحكام القرآن ومطالب المجتمع المتحضِّر. ويلحُّ الكاتب من أجل نهضة تونس على إلغاء الحجاب والعزلة، وتعدد الزوجات والزواج القهري والطلاق إلى آخره، ويدعو إلى إعطاء المرأة التعليم العام والمِهَني الذي يجعل منها إنسانًا فعالًا بناء للحياة الجديدة. ومن الملاحظ أنَّ الحداد لم يتعرَّض لأية أحكام راديكالية، فهو يرى أنه نظرًا للظروف الحالية فالوقت لم يَحِن بعد للمُطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة «إننا بعيدون عن هذا وغير مُستعدين له حتى في الأفكار» (٥٨، ٢٠٤). ويُؤكد الإصلاحي التونسي أن الوظيفة الاجتماعية للمرأة تتلخَّص في أن تُصبح المرأة أما وزوجة وربة بيت. وحتى تتمكَّن المرأة من أن تُؤدي هذه الوظيفة على الوجه الأكمل فإنَّ عليها أن تتلقى التربية والتعليم المناسبين، وعليها أن تَمتلك تصورًا عن العلوم الإنسانية والطبيعية والمعارف التربوية الراقية، وإدارة المنزل والخبرات الحرفية مثل النسيج … إلى آخره (٢٠٥، ٢٠٦–٢٠٨).

وعلى عكس ذلك نادى التحديثيون التغريبيون بالتحرير التام للمرأة في الأحوال الشخصية، وفي مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية. من الجدير بالذكر أن موقف هؤلاء لم يجد تعاطفًا حتى بين أكثر نساء حركة التحرير.

في الثامن من يناير عام ١٩٣٠م دارت في كلية الحقوق بجامعة القاهرة مناقشة موضوعها: «يجب أن تتساوى المرأة مع الرجل في الحقوق والواجبات.» وهذه المناقشة يُمكن اعتبارها تصويرًا جيدًا للمزاج السائد في تلك الفترة. أجريت هذه المناقشة في شكل مناظرة. اتخذ المحامي محمود عزمي موقف الدفاع عن التحديثيِّين، واتخذ رشيد رضا الموقف المضاد. طالب محمود عزمي بالتخلي عن الحجاب وإعطاء المرأة حرية الحركة والحصول على التعليم، وإمكانية التصرف في ممتلكاتها الشخصية كما تشاء، واختيار زوجها، والنضال ضد تعدد الزوجات، والمطالبة بالطلاق وحق العمل الاجتماعي المفيد والحقوق المتساوية مع الرجل في الملكية الخاصة والميراث وكذلك في الحقوق السياسية.

ووقف رشيد رضا ضد الإلغاء التام للحجاب، وضد حرية تعامل النساء والرجال. ودافع عن نظام الميراث الذي سنَّته الشريعة، وسمح بحق المرأة في اختيار زوجها، لكنه لم يُعارض مع هذا مبدأ تعدُّد الزوجات، واتفق مع التحديثيين على ضرورة حصول المرأة على التعليم، والسماح لها بالتصرف في ممتلكاتها والاشتغال ببعض الأنشطة الاجتماعية (١٤١، ٣٢٦–٣٢٨).

ومن الأمور بالغة الدلالة الموقف الحَذِر الذي اتخذه المؤتمر المنعقد في بروكسل عام ١٩٣٨م (الطلاب العرب الدارسون في أوروبا). ترسم أعمال المؤتمر صورةً خاصة يمكن من خلالها تحديد المزاج العام للمثقَّفين التنويريين والمجتمع الطلابي في فترة ما بين الحربَين؛ فالمؤتمر الذي أيد التشريعات المدنية بشأن الطلاق لم يتَّفق حول قضية الحجاب. وأعرب الجميع عن تأييدهم لنزع الحجاب وحرية العلاقة بين المرأة والرجل، لكن الغالبية رأت أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه إلا بالتدريج، خطوة خطوة وبحذر (١٠٥، ١٠٥-١٠٦).

ولا يستطيع الباحث الذي يتعرَّض لقضية المرأة في العصر الحديث، أن يُغفل الاهتمام البالغ الذي أولاه الأيديولوجيون المعاصرون ورجال الدين لمسألة تعدُّد الزوجات. لكن هذا الاهتمام لم يكن ليتناسب مع مسألة تعدد الزوجات باعتبارها مؤسسة اجتماعية في طريقها للزوال. واستمر الجدل في العشرينيات والثلاثينيات محتدمًا حول تعدُّد الزوجات بصفته صراعًا، في الأساس، بين أنصار الجديد وأنصار القديم. وعكس هذا الجدل رد الفعل الإسلامي المحافظ تجاه تيار التحديث ذي النزعة الغربية من جانب، ودرجة تحديث المجتمع العربي من جانبٍ آخر. كان جوهر هذا الجدل يدول حول تفسير الآية القرآنية الشهيرة: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (١٠٤، سورة ٤: آية ٣).

ولا يوجد خلافٌ بين المفسرين حول السماح بتعدُّد الزوجات، وإنما أصبح الخلاف في السماح بأن يكون للرجل أكثر من أربع زوجات. يتمسَّك المحافظون المعاصرون بالتفسيرات الكلاسيكية، ويُؤيد جزءٌ كبير من المسلمين الإصلاحيين، أتباع رشيد رضا، وخاصة في شمال أفريقيا حيث التأثير الأوروبي أكثر قوة، تعدُّد الزوجات، مدافعين عن المعايير الاجتماعية للإسلام كدرعٍ ضد النزعات التحديثية المتطرفة.

يُؤكد رشيد رضا أن الغرب بمنعه تعدد الزوجات وسَّع في الواقع من نطاق الخيانة الزوجية. وللعقاد في هذا الصدد رأيٌ مُثير للانتباه؛ فهو يعترض، في معرض دفاعه عن مبدأ تعدُّد الزوجات، على الغرب إدانته للإسلام لسماحه بتعدد الزوجات ما دام أن الغرب المسيحي يمنع هذا المبدأ، لا نتيجة مُتطلبات أخلاقية رفيعة، وإنما نتيجة إيمان مترسخ منذ المسيحية المبكرة يرى أن المرأة هي شرٌّ، وأن على الرجل أن يتجنَّب هذا الشر بقدر الإمكان (١٤٣، ٩٢-٩٣).

ويستند خصوم تعدُّد الزوجات للسورة المذكورة سابقًا وإلى تاريخ الإسلام، رافضين بحزمٍ الزعم بأن تعدُّد الزوجات هو إحدى المؤسسات الاجتماعية الإسلامية (انظر على سبيل المثال ٥٨، ٦١). ويرى عبد العزيز فهمي وزير العدل المصري آنذاك مُستشهدًا بالقرآن، أن «القرآن الكريم» يحرم بصفةٍ عامة (!) تعدُّد الزوجات (١٠٣، ١٦٩).

ومن البداهة أن الخوف من خطورة اتساع وتعميق حركة تحديث المجتمع الإسلامي (وخصوصًا تأثير الغرب على الشباب)، وكذلك الخوف من حركة تحرير المرأة التي من شأنها أن تؤدي إلى تحديث المنزل؛ ومن ثَم كل نمط الحياة الإسلامي، كان لا بد أن يجمع بين المحافظين والإصلاحيِّين المُعتدلين ومُمثلي أوسع الدوائر العربية الثقافة. ولقيت حركة تحرير المرأة مقاومةً واسعة من جانب المتحمسين للماضي، كما لاقت الإجراءات الإصلاحية الموجهة لتحرير المرأة مواجهةً سلبية حتى من بعض الشخصيات التقدمية المعترف بها.

في العشرينيات من هذا القرن اعتبر محمد كُرد علي، أول عميد لجامعة دمشق ومؤسس ورئيس أكاديمية العلوم بدمشق، أنَّ المرأة يكفيها فقط التعليم الأولي، ويبدو أنه كان مقتنعًا تمامًا بأن «كل مَن يُساعد المرأة في الحصول على مساواتها في الحقوق مع الرجل يخدعها ويسخر منها» (٩٠، ١٤٣).

ويدعو الزهاوي المرأة قائلًا: «أيتها المرأة! اكشفي عن وجهك؛ فالنقاب مرض للمجتمع «فيكتب حافظ إبراهيم كأنَّما يرد عليه» لا، لا، لا أستطيع أن أقول، لتذهب المرأة. وقد كشفت وجهها، لتسير في السوق وسط الزحام، وسط الرجال الأجلاف (٥٦، ٢٩٥). وقد أثار كتاب الحداد، سابق الذِّكر، استنكارًا شديدًا وهجومًا حتى من جانب المسلمين التحديثيِّين، واتُّهم الكاتب بالزندقة، وسُحبت منه شهادة إتمامه للدراسة بجامعة الزيتونة الإسلامية؛ مما أغلق أمامه سبيل العمل في القضاء، وأفقده المزايا الأخرى التي يتمتع بها خريج هذه الجامعة. وقد اعتبر الإصلاحي المصري البارز طلعت حرب (١٨٩٨–١٩٤١م)، المرأة مخلوقًا أقل من الرجل فكريًّا فضلًا عن كونها غير قادرة على الإحساس بالمشاعر القوية.

وإذا طرحنا المواقف المتطرفة بشأن قضية المرأة جانبًا، فإن بإمكاننا أن نؤكد، استنادًا إلى مسوغاتٍ كافية، أن الرأي العام العربي ظل متمسكًا حتى نشوب الحرب العالمية الثانية بوجهة نظر أساسية، فحواها أن حياة المرء يجب أن تظلَّ محدودة في دائرة الاهتمامات المنزلية والعلاقات الأسرية. وعلى سبيل المثال، فإن المؤتمر الأول للطلاب العرب دعا، وهذا أمرٌ له دلالته، إلى توسيع قاعدة تعليم المرأة مُنطلقًا هنا من أمرٍ واحد؛ هو أن على المرأة أن تصبح أمًّا وزوجة مثالية. أما إمكانية الاشتراك في عملٍ اجتماعي مفيد فقد كان مقيدًا بعددٍ قليل من المِهَن الحرة.

•••

التقليدية والتحديثية؛ نظامان لوجهاتِ نظر متناقضة في داخلها. كان رد الفعل الطبيعي للوعي الاجتماعي على انتهاك الحقوق القومية وانتقاص الكرامة الوطنية إبان النضال من أجل الاستقلال، قد انعكس في عصر سيطرة فكرة الدولة القومية في السعي نحو إثبات الخصائص القومية وفي محاولات إثبات الذات. غير أن المبالغة في خصائص بعض الرموز القومية، إلى جانب أنها ساعدت الشعوب المحتلة والتابعة في نضالها من أجل التحرر، مساهمة في توطيد الصفوف القومية، قد غذَّت في هذه الشعوب الشعور بالاغتراب تجاه العرب، وأعاقت استيعاب الأفكار التقدمية والأشكال الحديثة للنضال الأيديولوجي والتجربة الثقافية والتاريخية للغرب. وفي المقابل، فتحت التحديثية أمام الشعوب إمكانية الاستفادة من ثروات الثقافة الغربية، واستيعاب طرق تنظيم النضال التحرري القومي على أساسٍ حديث. وفي الوقت نفسه فإن الأوهام تجاه الغرب وذلك الإيمان الذي ترسَّخ بعمق نحو رسالته الحضارية، أضعف من روح المقاومة والعزم لدى المثقفين العرب، وبعض فضائل القوى القومية الأخرى في نضالهم من أجل الاستقلال.

تميَّز التقليديون من شتى الاتجاهات مثلهم في ذلك مثل التغريبيين المعتدلين بالنظرة النقدية الأحادية للمجتمع الغربي، وتعرَّضت بعض المظاهر الخارجية للنظم الاجتماعية السياسية للغرب مثل الاحتلال والأخلاق البورجوازية، وغياب الاستقرار السياسي والاجتماعي وروح الجشع وغيرها إلى الإدانة. بينما لم يتعرَّض أحد، كقاعدة، للنقائص الجذرية للرأسمالية والمشكلات الفوارق الاجتماعية. وربما كان الريحاني أقرب من الآخرين في إدراك جوهر النظام الرأسمالي؛ فقد انتقد بحدةٍ المجتمع الرأسمالي مقتنعًا بضرورة إعادة البناء الاجتماعي للعالم، وتحقيق العدالة الاجتماعية على أساسٍ اشتراكي (٢٦، ٣٥–٣٧).

يُمكن وضع تصور عام عن الاتجاهات الفكرية للمثقفين في بداية العشرينيات بصدد مشكلة «الشرق–الغرب»، بناءً على إجابات الكتاب البارزين في استبيانٍ أجرَتْه مجلة «الهلال» في سبتمبر عام ١٩٢٢م (كانت الإجابة عن سؤال، هل يجب أن نقتبس من الغرب، ماذا بالتحديد وإلى أي درجة).

يرى اللبناني ميخائيل نعيمة أن الاحتفاظ بأصالة الشرق أمرٌ ممكن إذا رفض الاقتباس من الغرب (١٠٠، ٦٨)، ويُعبر عن تصوره الراسخ بشأن كون «الشرق بإيمانه (يقصد الإدراك الديني الكامل والشامل للعالم – ل) أقرب إلى إدراك الحقيقة عن الغرب بأسلوب تفكيره وعلمه» (يعني بداهةً أسلوب التفكير المنطقي – ل) (١٠٠، ٧١). ويؤكد سلامة موسى القبطي، على العكس من ذلك، أن على العرب أن يفتحوا الأبواب على مصاريعها أمام الثقافة الغربية (١٠٠، ٧١). ويزعم اللبناني جبران خليل جبران أن خبرات التنظيم ليس فقط ما ينقصهم، فعليهم أن يتعلموا من الأوروبيين تدبير الأمور والنظام (١٠٠، ١٠٦)، ويُشير الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي إلى ضرورة الاقتباس التدريجي، لما هو مقبول للعرب من المؤسسات الديمقراطية الغربية والمنجزات في المجال الاجتماعي والسياسي، مما يَقرُب العرب في رأيه، من السعادة الحقيقية (١٠٠، ١٢٣).

إنَّ كل هذه الآراء في جوهرها تعكس وضعية الأمور على امتداد فترة ما بين الحربَين كلها. ومن الجدير بالاهتمام أن الآراء السابقة، كلها تقريبًا، كانت لعربٍ مسيحيِّين (نعيمة، موسى، جبران)، زد على ذلك أن المسيحيِّين كانوا، بصورةٍ تقليدية، يَدعمون العلاقات الوطيدة مع الغرب، كما أنهم كانوا يتفقون مع المسلمين في كثيرٍ من وجهات النظر سواء أكانت مُتطرفة أو معتدلة.

•••

تحدَّدت نتيجة الصراع بين القديم والجديد تاريخيًّا. كان الجديد يَجرف أمامه البيئة الثقافية التقليدية بشكلٍ مستمر وفعال. وأدَّى الصراع إلى حتمية الحل الوسط بشأن عملية تكوين ثقافة قومية مُعاصرة ونظم عقائدية، إلا أن القديم ظل مؤثرًا.

كان الإسلام والتقاليد هما دعامة الاتجاه المحافظ في الوعي الاجتماعي. وكان الإسلام ولا يزال، ليس مجرَّد دين وإنما مجموعة من المعايير والمقاييس، تبدو هامة وضرورية في الحياة اليومية، بالرغم من أن هذه الأهمية وهذه الضرورة تكون أحيانًا وهمية. ويظلُّ الإسلام عنصرًا هامًّا في النفسية القومية؛ ولهذا فإنَّ التدين عمومًا بين الجماهير في الشرق يحمل طابعًا عاطفيًّا وعفويًّا أكثر بكثيرٍ ممَّا في الغرب. احتفظ الإسلام التقليدي بقوته بفضل الإيمان الأعمى في القوة المُطلقة لله والأفعال المقدرة، بفضل الآمال الخيالية في السعادة التي يحملها الدين للمعذَّبين والجهلاء. وقد دفع كل هذا الأيديولوجيِّين من شتى الاتجاهات إلى اللجوء إلى القرآن، وأصبح الجديد، الذي يَعني تدخُّلًا مستمرًّا في مجال سيطرة الإسلام، مهما كان مظهر هذا الجديد، يرتدي أحيانًا المسوح الدينية تمامًا كما كان يحدث في الماضي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤