هذا العلم الجديد

حدث منذ مدة قريبة أن أحد البنائين، وكان قد تجاوز الخمسين، احتاج إلى أن يقف على خشبة تعترض وتصل بين جدارين، وكانت على ارتفاع نحو عشر طبقات من البناء. فلما توسَّط الخشبة نظر إلى أسفل فوجد الهوة التي تفصل بينه وبين الأرض، فتجمدت عضلاته، وجعل يصرخ، كأن كابوسًا كان قد استولى عليه، وعجز عن أن يتقدم أو أن يتأخر.

وحضر إليه زملاؤه وجعلوا يشجعونه على النهوض، ولكنه لم يستطع. ولم تكن الخشبة تتسع لأكثر من واحد يقف عليها؛ ولذلك لم يقترب منه أحد لمعاونته على النهوض، واقتصروا على تشجيعه وتحريضه. وبعد أن أقنعوه بأن يكف عن الصراخ وبعد أن استطاعوا تهدئته قليلًا استطاع، وهو يلهث، أن يصل إلى نهاية الخشبة وينجو.

وجعل زملاؤه يضحكون ويسخرون منه، ويروحون ويجيئون على الخشبة في نشاط حتى ضحك هو من نفسه. وانتهى عمل اليوم وقصد كل منهم إلى منزله، ولكن في الصباح التالي لم يحضر هذا العامل ولم يره زملاؤه بعد ذلك، ويبدو أنه ترك هذه الصناعة واختار ما هو أقل خطرًا وخوفًا منها.

•••

وحدث أن فتاة تزوجت بضغط من أبويها، ولم تكن تحب زوجها، وليس في الدنيا شيء أو إنسان نكرهه قدر ما نكره الاقتراب الجنسي من شخص لا نحبه. واشمأزت الفتاة، ولكن عاطفة الاشمئزاز عمَّت كيانها النفسي كله، فصارت تشمئز من الطعام أو بعضه فلا تأكل، حتى هزلت. وأصبح اختيار الغذاء لها مشكلة حتى بعد أن انفصلت عن هذا الزوج الذي كانت تكرهه … مشكلة باقية مع زوال أسبابها الغريبة.

•••

وحدث أن فتاة جميلة كان أبواها يتعلقان بها ويدللانها. ومات الأب، وماتت الأم بعده ببضعة شهور، وتغيرت الدنيا الباسمة إلى دنيا عابسة في وجه الفتاة، فجعلت تنفرد وتنعزل في غرفتها وتحلم بدنيا أخرى في الخيال غير هذه الدنيا، ولذَّ لها الخيال فاستمسكت به وأرسخت كيانها النفسي عليه، واطمأنت إلى حياة الخيال. وكان هذا جنونها الذي رفضت أن تتركه وتعود إلى دنيا الواقع.

•••

فهنا ثلاثة أمثلة عن الاضطراب النفسي الذي قد يصيب أي إنسان إذا كانت طفولته قد سارت في غير الطريق السوي بحيث يكون قد أُخيف وأُزعج وهو دون الثالثة أو الرابعة من العمر؛ فإنه في هذه الحال يكمن الخوف في نفسه حتى إذا اعترضه ظرف مماثل لهذا الخوف القديم عاوده الفزع واستولى عليه جمود الرعب كما حدث في البناء الذي تجمَّد على الخشبة.

وإذا كان قد مرت به حادثة أو حوادث جعلته يشمئز وهو طفل فإن اشمئزازه هذا يبقى كامنًا في نفسه، فإذا بلغ العشرين أو الثلاثين وطرأ عليه طارئ يدعو إلى الاشمئزاز فار به إحساسه القديم، كما حدث لهذه الفتاة.

وإذا كان الطفل قد دُلل في الطفولة وأسرف أبواه في تدليله حتى جعلا له الدنيا كما لو كانت مفروشة بالورود، ثم إذا مات هذان الأبوان، فإن الطفل لا يطيق العيش بعد ذلك، ويستسلم لخيال الجنون.

مَن الذي علَّمنا ذلك؟

الذي علَّمناه هو فرويد. وقد علمناه في كثير من الأخطاء وسلك بنا طريقًا يحفل بالأشواك، حتى لتكاد مهمتنا تقتصر على التخلص من الأخطاء والأشواك.

لا، لم يعلمنا فرويد علمًا ولكنه فتح بصيرتنا لفهم الطبيعة والأشياء فتح بصيرتنا. ثم نحن نحاول الآن أن نفتح عقولنا بالعلم؛ أي بالتجارب.

تعلَّمنا من فرويد، ومن أنصاره وأصدقائه، أن السنوات الأربع الأولى من العمر هي كنز العواطف الذي نستمد منه سائر أعمارنا، وأيما عاطفة سيئة تختبئ في كياننا النفسي فإنها ستُثار وينفض غبارها على حياتنا إذا اصطدمنا بأحداث تولِّد ما يشبه أو يقارب تلك العواطف المندسة في نفوسنا أيام الطفولة.

كلنا يستطيع، إذا كان سليمًا، أن يقف على الخشبة التي تصل بين جدارين في بناء عالٍ. وكل فتاة تستطيع أن تتحمل هذا الاشمئزاز لوقت ما ثم تنساه. وكلنا يستطيع أن يتحمل موت أبويه. ولكن ذلك البناء الذي رعَّب، وتلك الفتاة التي اشمأزت، وتلك الأخرى التي دُللت، كل هؤلاء قد أُسيء إليهم في طفولتهم فعرف الاثنان الأولان الخوف، وعرفت الثالثة التدليل المسرف الذي أعجزها بعد ذلك عن الاستقلال.

تعلَّمنا من فرويد، ومن أنصاره وخصومه، أننا إذا كظمنا خوفنا أو اشمئزازنا أو شهواتنا أو همومنا فإنها تستحيل إلى بخار محبوس ينفجر عندما يجد مكانًا ضعيفًا يخرج منه. وأعظم ما يهيئ له هذا المكان الضعيف أن يعترض الإنسان صعوبات تشبه ما اعترضه أيام طفولته.

الشجى يبعث الشجى.

ولكن هناك أحيانًا شجى مكتومًا قد كظمناه ونسيناه، فإذا حدث لنا ما يثير مثله أو أقل منه كثيرًا تذكرناه وأحييناه.

اعتبر هذا المثال: كان بافلوف، الذي ربط بين الفسيولوجية والسيكلوجية، يجرِّب تجاربه في الكلاب. وحدث أن فاض ماء النهر المجاور لمكان الكلاب واقتحم الماء أقفاصها فجعلت تنبح وتصرخ ولا تجد مهربًا، وكان صراخًا هستيريًّا؛ أي كان رعبًا وفزعًا وارتعاشًا؛ لأن الماء كان يتزايد ويوشك أن يخنقها.

ثم أُدركت وأُنقذت.

ولكن هذا الرعب والفزع والارتعاش مع الصراخ الهستيري كان يعاودها إذا دخل قليل من الماء، قليل جدًّا، إلى أقفاصها وبلَّل أيديها وسيقانها.

عاطفة قديمة مكظومة في حبسة القفص تُثار من النسيان فتُذكر لأقل حادث يقاربها أو يشبهها.

وهذا هو شأننا نحن أيضًا. ألا ترى الأم تسمع عن أم قد مات ابنها فتذكر هي أيضًا ابنها الذي مات قبل عشرين سنة، وتبكي وتنتحب؟

لما ألحَّ الألمان على لندن بإلقاء القنابل من طائراتهم عمدت الحكومة البريطانية إلى ترحيل الأطفال إلى أماكن بعيدة في الريف كي تأمن عليهم، ووُجد أن أولئك الأطفال الذين تحملوا الغربة، بل تحملوا الأخطار، هم الذين لم يعرفوا المخاوف والمفازع ولم يضربوا ولم يكظموا في سنيهم الماضية. أما الذين ضُربوا وأُخيفوا وأُفزعوا فكانوا يضطربون ويُرعبون لأقل حادث مخيف.

والعِبرة أننا إذا أردنا السلامة لأبنائنا عندما يكونون شبانًا وكهولًا وشيوخًا فإن خير ما نفعله أن نؤمِّن طفولتهم من الخوف والفزع، أجل، ومن الاشمئزاز والتدليل.

ما الذي يُعمل لسلام النفس؟

أعظم ما يُعمل له، كما قلنا أن نعيش مع أبوين سليمين بحيث لا نجد في طفولتنا خوفًا أو اضطهادًا أو تدليلًا. وأعني التدليل المسرف؛ لأن التدليل المعتدل نافع؛ إذ يجعلنا نهفو إلى البيت ونسعد بذكرى الأبوين طيلة حياتنا.

وأسوأ ما في الخوف والاضطهاد أننا نكظم. ولا بد أن نكظم؛ لأننا لا يمكننا، ونحن أطفال، أن نرد اللطمة أو نفطن إلى أن ما نخاف منه لا يستحق هذا الرعب الذي نحسه.

ومعظمنا يشقى لأنه خائف، أو بكلمة أخرى لأنه جبان.

نحن جبناء لأننا في طفولتنا مرت بنا مخاوف كثيرة فكمنت، ثم واجهنا مجتمعًا يجعلنا جميعًا مغامرين، نكسب ونخسر، ونخشى الغد، ولا نثق بالمستقبل الذي قد يفاجئنا بالمرض أو الإفلاس أو موت الأبناء أو نحو ذلك.

مخاوف أصيلة في المجتمع تثير مخاوف طفولتنا القديمة فيكون من ذلك شقاؤنا وتوتراتنا.

ولكن الشجاع هو الذي لم تمر به مخاوف في الطفولة إلا في يسر، أو كان مقدارها صغيرًا فتغلب عليه، فهو يجابه الدنيا وما فيها من مغامرات وهو شجاع لا يبالي الفقر أو المرض أو أية فاجعة أخرى؛ أي إنه يجتاز الخشبة التي بين الجدارين بلا خوف وهو سعيد بهذه الشجاعة.

هذا العلم الجديد الذي أنار بصيرتنا ويكاد هذه الأيام ينير عقولنا هو علم النفس البشرية، هي السيكلوجية.

وهو الآن علم؛ أي تجارب في الكلاب والقردة والصبيان والنساء والرجال المتزوجين والعزب، والعاملين والعاطلين والأذكياء والبلداء. وقد تعلمنا منه أن المجتمع يصنع الفرد، والعائلة تصوغ الإنسان، والعائلة بالطبع جزء من المجتمع، بل هي أخطر أجزائه في الموقف السيكلوجي.

وتعلمنا منه أن العبقرية من ناحية، والجريمة من ناحية، إحداهما طرف لفضائل المجتمع وذكائه والأخرى طرف لرذائله وتوتراته.

تعلمنا منه أن الأمراض النفسية هي أمراض قررها المجتمع لأفراده؛ لأنه رسم خططًا وعيَّن آفاقًا وأوجد وسائل لا تُطاق، فكان منها الخوف حتى إذا سار فيها الفرد اكتسب عواطفها وتحطَّم وجُن. ولن يحيا الفرد حياة سليمة إلا في مجتمع سليم وعائلة سليمة.

وأيما تغيير في المجتمع لا بد أن يحدِث تغييرًا آخر في العواطف والأخلاق والأهداف والوسائل بين الأفراد، ولن نستطيع أن نغيِّر الأخلاق في أمة بالنصح والإرشاد، وإنما نغيِّرها فقط بتغيير وسائل العيش والارتزاق.

لا، لا يمكن فردًا أن يسعد إذا كان يعيش في مجتمع شقي. وأولئك الذين يعيشون في مجتمع شقي ويحاولون تحقيق السعادة لأنفسهم يتخذون عادة أحد طريقين:
  • الطريق الأول: الذي يسلكه الأكثرون، الانفراديون، هو الهروب من المجتمع بالاعتكاف والابتعاد عن مشاكله، وقد يشربون الخمر أو يقرءون القصص البوليسية؛ كي يخدروا عقولهم ويغيبوا عن حقائق هذا المجتمع، وهؤلاء سلبيون.
  • والطريق الثاني: الذي يسلكه الأقلون الاجتماعيون هو طريق الكفاح الذي يمارسونه كي يغيِّروا هذا المجتمع ويصلحوا مؤسساته التي تعفنت ويوجِدوا الطمأنينة بدلًا من الخوف، وهؤلاء إيجابيون، ولكنهم يفعلون ذلك في غير الإسراف والشطط اللذين وقع فيهما القديس تولستوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤