كيف تتعلم العبقرية

يكره عامة الناس التعليلات الطبيعية البسيطة، ويحبون أن يروا معجزة في رجل جاهل يشفي المرض أو رجل أبله يسيل لعابه يهذي بكلمات ويتكهن عن الحظوظ.

وقبل أكثر من عشرين سنة كان يجول حول مقاهي القاهرة صبي أو شاب يضرب سبعة أرقام في سبعة أرقام مثلها ويخرج الحاصل وهو واقف بلا حاجة إلى قلم وورق، وكان عامة الناس يجدون فيه معجزة ويصفونه بأنه عبقري.

إن العبقرية عند هؤلاء معجزة وكأن الشعوب كلها من تراب في عموميتها، ولكنها من ذهب في قلة من الرجال الأفذاذ، فهم يفهمون أكثر ويعرفون أكثر من عامة الشعب، متعلميه وجاهليه.

وتعلُّق الناس بالمعجزات هو علة الدعوى بأن المؤلف أو المخترع أو المكتشف «عبقري» يخالف سائر الناس، وعلة الدعوى أيضًا بأن الأبله يشفي المرضى أو يتكهن بالمستقبل، وهي في أساسها رغبة فيما يخالف المألوف.

بل لقد أُلِّفت الكتب في ماهية العبقرية وتمييزها من النبوغ. والقارئ لهذه الكتب، إذا كان على شيء من الذكاء، يحس بلاغة أو غفلة هؤلاء المؤلفين؛ فإن لومبروز صاحب الرأي السخيف بشأن المجرمين «المولودين» الذين ورثوا الإجرام أو الميل إلى الإجرام هو نفسه الذي ألَّف: «رجل العبقرية»، وجعله أيضًا وارثًا لهذه القوة الذهنية التي يعتقد عامة الناس أنها معجزة وأنها قمة لن يمكنهم أن يصلوا إليها مهما جهدوا واجتهدوا.

وقد انتهينا من لومبروز بشأن الإجرام وعرفنا، بل أيقنا، أن الوسط الاجتماعي أو الاقتصادي السيئ هو الذي يهيئ للجريمة، ولكننا لم نصل بعدُ إلى القول بأن الوسط الاجتماعي أيضًا هو علة العبقرية، وكما نستطيع أن نعلِّم الصبيان كيف ينشئون مجرمين نشالين مثلًا نستطيع كذلك أن نعلِّمهم كيف ينشئون أذكياء عباقرة.

ألسنا نرى رياضيين يقومون بالمعجزات في العدو والوثب والسباحة وحمل الأثقال والمصارعة؟ فهل أحد منا يعزو قوَّتهم هذه إلى الوراثة؟ أي إلى أنهم ولدوا أقوياء؟

الجواب لا؛ لأننا نعرف أنهم دُربوا حتى وصلوا إلى تفوقهم هذا، وكذلك الشأن في العبقرية؛ فإنها تحيا في وسط معين وتحتاج إلى تربية وتدريب بحيث يستطيع أن يتحمل العبقري ذهنيًّا ما يستطيع أن يتحمل الرياضي جسميًّا.

إذا كانت العبقرية تُورَّث فإننا يجب أن نسلِّم أيضًا بأن الذكاء يُورَّث، وبأن هناك شعوبًا تمتاز بالذكاء وأخرى لا تمتاز به، وعلى هذا الأساس يجب أن نبرِّر الاستعمار؛ إذ هو — في منطق دعاة الوراثة — حكم أمة ممتازة بالذكاء لأمة لا تمتاز به. وللأولى إذن حق استغلال الثانية، أليست هي ممتازة؟

وإذا كانت أسرة تمتاز بالذكاء وأخرى لا تمتاز به، فمن حق الأولى أن تستغل الثانية، وإذن عندنا ما يبرِّر الاستعمار ثم الاستغلال.

ثم هناك بيض وسود، والبيض أذكياء والسود مغفَّلون. وإذن لا يجوز لأحد أن يقول بالمساواة بين الاثنين، هذا حكم الوراثة.

وأنا أُسلِّم بأن فردًا قد يمتاز من آخر بمقدار من الذكاء الموروث، ولكن هذا المقدار ليس علة العبقرية من طرف أو علة الغفلة من طرف آخر، وإنما السبب الأساسي، بل الوحيد، للذكاء الخارق، وللطيبة المفرطة، وللاختراع والاكتشاف، هو الوسط وليس الوراثة، كما أن السبب الأساسي للنبوغ في الجريمة وفي الرياضة هو الوسط؛ أي البيئة التي تحمل على الاهتمام بشأن معين فيكون التفكير فيه والتدريب عليه إلى درجات التفوق.

قبل نحو مائة سنة ألَّف جالتون كتابه «العبقرية الوراثية»، وقد زعم فيه أن الذين حكموا العالم واكتشفوا واخترعوا وقاتلوا ونجحوا في المعارك، إنما ترجع عبقريتهم إلى الوراثة. وبرهان ذلك عنده أننا نجد أبناء عمومتهم وخئولتهم عباقرة مثلهم مما يدل على أن للعبقرية «دماء» تجري في عروق أفراد الأسرة.

ولم أحتج إلى كثير من التفكير كي أسأل: «ولماذا لا نقول إن واحدًا منهم وصل إلى القمة ثم صار يساعد الآخرين بالمحاباة أو بالتربية على الوصول أيضًا مثله؟»

ألسنا نعرف نحن في مصر كيف أن أبناء العمومة والخئولة، مَن قَرُب منهم ومَن بَعُد، كانوا يصلون إلى القمم في العهود الماضية عندما كان واحد منهم وزيرًا أو وكيل وزارة أو نحو ذلك؟

وهل يمكن أن نقول إن تفوق العنصر التركي في المناصب العالية العامة قرابة ١٥٠ سنة في مصر على العنصر المصري برهان على عبقرية تركية؟

الجواب لا. وإذن ما هو السبب؟

السبب هو البيئة؛ أي الوسط.

وقبل نحو ستين سنة ألَّف رجل إنكليزي، كان قد تألمن، كتابًا عن تفوق الجرمان بالوراثة على سائر شعوب العالم، وهو هراء ضخم.

ومثل هذا الهراء الضخم نسمعه من الكتَّاب الجهلة عن تفوق الرجل على المرأة في الذكاء. وقد يضحك القارئ حين يعرف أن بعض البراهين على هذا التفوق أن الرجل يخترع ويكتشف، أما المرأة فلا!

وكيف تخترع المرأة وتكتشف وهي تطبخ البامية والبطاطس، وتمسح البيت كل يوم وتغسل الأطفال كل ساعة؟! هل هذه الأعمال تبعث على الاختراع والاكتشاف؟

إن الرَّجل يكتشف ويخترع؛ لأنه يحيا في بيئة الصناعة والتجارة والعلم والفن والهندسة والطب، فالمجال؛ أي الوسط، يبعث على الاختراع والاكتشاف.

بل الوسط يغيِّر الطبيعة الموروثة.

فإنه يحدث في الهند أن تخطف ذئبة طفلة بشرية، ثم بدلًا من أن تأكلها تربيها ثم تصير لها أمًّا رحيمة، وتنشأ الطفلة مع الذئاب، فلا تمشي على قدميها وإنما على يديها وقدميها مثل الذئبة، وتستيقظ عند الغروب وتبقى ساعية تسرق الفراخ وتعوي طول الليل، وتأكلها نيئة بأمعائها وتنام في النهار.

وهذه الحوادث مؤكدة، وقد قرأنا عنها كثيرًا ولا مجال للشك فيها فالوسط هنا، وسط الذئاب، جعل الطبيعة البشرية طبيعة ذئبية؛ أي غيرها.

هناك أوساط بشرية تعمل للتجمد الذهني، كالوسط الزراعي مثلًا؛ فإن ميدان الاكتشاف والاختراع، بل ميدان التفكير فيه يكاد يكون معدومًا، ولذلك تجد التسليم التام للقدر والحظ.

أذكر أني سألت أحد الفلاحين عن علة وفاة أحد أقربائه، فضحك مني وقال يهزأ بي: كيف مات؟ لماذا مات؟ مات. مكتوب عليه وعلينا الموت، مقدر علينا.

ومثل هذا الموقف من القدر لا يدعو إلى بحث الموت؛ أي لا يدعو إلى الاكتشاف.

ولكن ساكن المدينة يتذكى ويسأل ويستفهم ولا يسلِّم للقدر. الوسط الزراعي أوجد النظام الإقطاعي الجامد، والتسليم للقدر، وكراهة التغير أو التطور، واحترام التقاليد، وسائر المجموعة من الأخلاق الإقطاعية التي لا يزال أكثرها — بحكم الوسط الزراعي — فاشيًا في بلادنا.

ولكن الوسط المدني، وسط المدينة والمصنع والمتجر والجريدة اليومية والمناظر السينمائية والكتب ونحوها، هذا الوسط جعل ساكن المدينة أذكى من ساكن الريف، أو بالأحرى زاد ذكاؤه حدة ويقظة، في حين جعل الوسط الزراعي ذكاء الفلاح في نوم وغفلة، ومن هنا تفوق أوروبا الصناعية على أقطار الشرق الزراعية.

وهناك ظروف تزيد ذكاءنا حدة وتوقظنا وتقلقنا، فنسأل ونستفهم، ثم نفهم.

فالأم التي لا تبدي ذكاء بشأن أي موضوع تفهم من حركات طفلها وإيماءاته الصغيرة ما لا نفهمه نحن؛ لأنها قلقة عليه مهتمة به، فذكاؤها هنا يقظ بالقلق والاهتمام.

وبكلمة أخرى نقول إن الدرس الأول في «كيف نتعلم العبقرية» هو الاهتمام.

الاهتمام البالغ الذي يشبه الهوس هو الخاصة الأولى للعبقرية وكثير من القصص الطريفة عن المخترعين والمكتشفين تدل على هذا الاهتمام الذي يغمر النفس والعقل ويُنسي العبقري مواعيد غدائه أو أسماء أصدقائه، بل يكاد ينسيه كل شيء إلا موضوع دراسته وتفكيره، حتى لتعزو إليه الغفلة أو البلاهة.

وهذا الاهتمام نفسه هو صفة ذلك الصبي أو الشاب الذي كان يضرب ٧ أرقام على ٧ بلا حاجة إلى ورق وقلم؛ فإنه كان يجهل كل شيء في الدنيا إلا عملية الضرب هذه التي أصبح عبقريًّا فيها لاهتمامه بها، هذا الاهتمام الذي استغرق كل مجهود عقله ونفسه حتى لم يعد يبذل أي مجهود لشأن آخر في حياته.

وهناك بالطبع ظروف تزيد اهتمامنا أو تنقصه، ففي أيام الأزمات حين نخشى الحرب مثلًا يتضاعف بيع الصحف؛ أي إن الناس يقرءون أكثر مما كانوا قبل الأزمة، والقراءة تفتِّق ذكاءهم وتجعلهم يفكرون في المستقبل الخاص لهم والعام للشعب والعالم.

وإذا شئت أيها الأب أن تزيد ذكاء ابنك حدة فاملأ دنياه الصغيرة بالاهتمامات التي تشغله واجعل له مصلحة اجتماعية أو مالية في هذا الاهتمام، وعلمه العديد من الهوايات التي تغمر شخصيته وتحمله على التفكير والعمل.

•••

إن معظم الاختراعات كانت هوايات تشغل فراغ المخترعين فقط، ولكنها كانت تجد منهم الاهتمام الذي يحرِّك الذكاء ويكاد يزيده.

والريفيون لا يفكِّرون في عمق؛ لأن وسطهم لا يدعو إلى الاهتمام.

والمرأة في البيت لا تفكِّر في عمق؛ لأن وسطها لا يدعو إلى الاهتمام.

والريفي يفكِّر في عمق عندما ينتقل إلى المدينة حين تحرِّك أشياؤها المختلفة ذكاءه، فيهتم.

والمرأة تفكر حين تختلط بالمجتمع وتعمل وتنتج، وتهتم.

الدرس الثاني في العبقرية أو الذكاء العالي أن نتعلم الحضانة؛ أي كما تحضن الدجاجة وترقد على بيضها حتى يتفقأ وتخرج الفراخ، كذلك نحتاج نحن إلى أن نرقد على الفكرة التي تخطر لنا ونتركها أيامًا ونعود إليها من وقت لآخر، نتركها للعقل الباطن كي يعمل بخياله وأحلامه فيها، ثم نعود إليها كي نسلط عليها العقل الواعي؛ أي ندرسها بعقلين.

وأحيانًا يؤدي المرض مثل هذه الحضانة؛ لأن المريض في سريره يفكر كثيرًا ويحلم كثيرًا، وهو يعود من وقت لآخر لأفكاره يستأنفها ولكنه لا يجترها، وإنما يعاودها بالتنقيح.

وأحيانًا يؤدي الجرح النفسي إلى القلق، فالتفكير، فحدة الذكاء؛ لأن النفس تبقى مهمومة قلقة.

ومن هنا القيمة العليا التي نجدها أحيانًا — وأحيانًا فقط — لبعض الأمراض التي تقلقنا أو تُلزِمنا السرير.

الفكرة الحسنة لن تفرخ إلا كما تفرخ البيضة. كلتاهما تحتاج إلى أن تحضن أيامًا أو أسابيع.

الدرس الثالث في «كيف نتعلم العبقرية» هو أن نتعود الثقافة؛ أي نجعل الثقافة عادة ننشأ عليها ونحن أطفال في البيت، وهذا بالطبع يجب أن يضطلع الآباء به، كما يجب أن تكون هناك كتب مغرية نحبها ونُقبِل على موضوعاتها منذ الطفولة، فننشأ مستطلعين متسائلين مستفهمين.

وميدان العلم هنا أوسع من ميدان الأدب، فإذا كانت كتب الأطفال عن هذه الدنيا تبحث وتشرح موضوعاتها العلمية في الاختراع والاكتشاف فإن الصبي ينمو نموًّا عضويًّا نحو الشباب ثم نحو الرجولة المكتملة يدرس ولا يطالع، ويبحث ولا يسلِّم، ويؤمن بالمنطق السيكلوجي العلمي ولا يسلِّم بالعقائد الموروثة.

وكثير من عاداتنا ونحن في الأربعين أو السبعين من العمر تعود إلى أننا تعودناها أيام الشباب أو الصبا، فإذا كنا نلعب الورق أو نأكل اللب أو نسري عن همومنا بالسجاير أيام صبانا أو شبابنا، فإن مما لا شك فيه أننا سنستمر على هذه العادات حين نبلغ الستين أو السبعين من العمر.

وإذا كنا قد تعوَّدنا الدراسة والاستطلاع فإن عاداتنا ستبقى بشأنهما إلى أن نموت ولو بلغنا المائة من العمر.

خلاصة القول أن العبقرية لا تورَّث وإنما نحن نتعود ونتدرب عليها ونحققها بظروف وبيئات معينة: أولها الاهتمام، وثانيها الحضانة، وثالثها العادة. فانظر أين مكانك من كل هذا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤