فاتحة الكتاب

باسمك اللهم أفتتح هذا الكتاب، ومنك وحدك أنتظر حُسن الجزاء.

أما بعد؛ فهذا كتاب لم يكن ظهوره في الحسبان، فهو في الأصل باب من كتاب قدَّمته إلى الجامعة المصرية عن «أثر التصوف في الأدب والأخلاق»، وأُلِّفتْ لدرسِهِ لجنةٌ مكونة من الدكتور منصور فهمي، والأستاذ مصطفى عبد الرازق، والدكتور عبد الوهاب عزام، ورأت هذه اللجنة أن الباب الخاص بالمدائح النبوية خليقٌ بأن يظهر مستقلًّا عن الأصل بعض الاستقلال، وكان هذا الاقتراح فرصة تلقَّفتها في نشوة الجذلان؛ لأني كنت أشعر أن المدائح النبوية في الأدب العربي تستأهل الظهور في كتاب خاص.

ومن الخير أن أُصارح القارئ بأن هذه الفصول نُسِخت نسخًا من الكتاب الأصيل، فلم يُحذف منها شيء، ولم يُضَفْ إليها شيء؛ لأني قدَّمتها إلى المطبعة في أيام كانت كلها شواغل، ولأني آثرت أن تظهر كما فاض بها القلب، فلا يفسدها تأنُّق، ولا يزوِّرها تنميق.

والحق أني لا أستطيع أبدًا أن أكتب البحث الواحد مرتين؛ لأني أنتزع أدبي من ثورة العقل والقلب، وقد درست نفسي مرات كثيرة؛ فرأيت السهم الأول أنفذ في جميع الأحيان، ورأيت معاودة الصقل والتهذيب ضربًا من الزخرف لا تسيغه طبيعةٌ فُطِرت على الثورة والاقتحام.

وإني لأعترف بأني مأخوذ بنشوة النصر وأنا أقدِّم هذا الكتاب إلى القُرَّاء، فما كنت أحسب أن الزمان سينصفني هذا الإنصاف؛ فأكون أول من يرسم خصائص المدائح النبوية في الأدب العربي، وهو موضوع كان يجب أن تُعيَّن رسومه وحدوده منذ أزمان.

وقد تلقيت جزائي سلفًا على تحبير هذه الفصول، فلن أنسى ما حييت تلك التحيات الطيبات التي تلقيتها من الدكتور منصور فهمي، والأستاذ مصطفى عبد الرازق، والدكتور عبد الوهاب عزام، ومن قبل هذا أنست بموضوع البحث، فكان ذلك الأُنس أفضل جزاء.

وأي أُنسٍ أعظم من شغل النفس بتلك الأقباس الروحانية التي بثَّها نبي الإسلام في أرجاء الوجود؟

إن ذلك الروح القهار، روح الرجل الذي اتهمه معاصروه بالشعر والسحر والجنون، إن ذلك الروح هو شعلة أبدية ستظل ما بقيت الأرض والسماء فتنة للعقول والقلوب، وسيأتي زمان يرتاب فيه الناس في مكانة محمد بن عبد الله من التاريخ، وسيقول قوم إن شمائل ذلك الرجل أقوى وأخطر من أن يسمح بمثلها الوجود، وسيقولون إنه لم يكن إلا رمزًا تَمثَّل به الناس كيف تكون مكارم الأخلاق.

إي والله، سيقولون ذلك، فلنسبقهم نحن بهذا القول مع الاعتراف بأنه عرف هذه الدنيا وشهد هذا الوجود، وأي غرابة في أن يخلق الله رجالًا يمثلون العظمة الروحانية، ويظلون على الدهر مضرب الأمثال؟

وقد كان حظ النبي محمد أوفى الحظوظ بين الرسل والأنبياء، فكل نبي قامت من حوله الأساطير، وصُوِّرت شمائله بألوان صيغ أكثرها من الخيال، أما النبي محمد فحجته الباقية هي القرآن، وهو كتاب لم يُضَفْ إليه سطر واحد بعد موت ذلك الرسول، فهو من الوثائق التاريخية التي يندر أن يكون لها مثيل.

وإلى من نوجِّه هذا القول؟

أتروننا ندافع عن ذلك الكتاب المجيد؟

ومن عسى أن يكون أعداء ذلك الكتاب؟

وهل كان الملحدون إلا ناسًا سخفاء طاشت حلومهم، وظنوا الزيغ من البراقع التي تستر الغباوة والجهل؟

ومن العجب أن نرى بين أعداء القرآن من يُعجَب بشعر أبي نواس، ويراه صالحًا لأن يوضع في الميزان مع أكبر شعراء اليونان.

فأين شعر أبي نواس كله من آية واحدة ستظل أعجوبة البيان في جميع الأزمان؟

وما أدري والله كيف يعقل من يهذي بمثل هذا القول، إلا أن يكون السخف صار من علائم التفوق في هذا الزمن الرقيع!

إن أعداء القرآن لا يعادونه عن عقل، وكيف يعقل من يعادي البدر المشرق، والجبل الركين؟ إنها نزوات تطوف برءوس الممرورين الجبناء الذين توهموا أنه لم يبق للإسلام أوس ولا خزرج، وأن الوادي خلا من الأُسْد الغضاب، ألا ساء ما يتوهمون.

ومع ذلك سيذهب الملحدون مع الذاهبين، وإن بقيت لهم ذكرى فستكون صورة من صور إبليس، فإن تعلَّلوا بأن الشهرة مغنم عظيم، فليتذكروا أن إبليس سيظل أشهر منهم، وإن قضوا طوال الأعمار في خدمة الإفك والضلال.

سيقول السفهاء من الناس: وما دخل هذا الكلام في مقدمة كتاب المدائح النبوية؟

ونجيب بأننا نصوِّر حالة من أحوال هذا الزمان، فنحن لم نخلق أعداء نحاربهم، وإنما نحارب أعداء نراهم رأي العين، وهم — والله — أحقر من أن نعرض لهم بنقد أو ملام، ولكن حقارتهم لا تمنع المؤمن من وخز صدورهم بلواذع الهجاء، فقديمًا كان الشيطان الرجيم ملعونًا بألسنة المؤمنين.

وما الذي يمنع من حرب الزور والبهتان؟

إن التورع عن لحوم الآثمين ليس إلا ضربًا من الجبن، وبفضله استنسر البغاث، وصار للآثمين أشياع وأحزاب.

ومن العجب في مصر بلد العجائب أن تحيا الغيرة على الأطلال، وتموت الغيرة على الحقائق، فلو انتُهِب حجرٌ من أحجار الكرنك لكان انتهابه نكبة وطنية، وكان الصراخ لضياعه عملًا يثاب عليه من يحسن البكاء والعويل.

أما زعزعة الإيمان في هذا البلد، فهي أقل خطرًا من سقوط حجر أثري تحرسه وزارة الأشغال؛ لأن رعاية الآثار بدعة عصرية يعرفها الأوروبيون، والأمريكان، أما رعاية العقائد فسنة قديمة سحب عليها الدهر ذيل النسيان.

وما أقول هذا تعصبًا للدين — وهو تعصب شريف — وإنما أقوله تعصبًا لحقيقة أدبية تغار عليها الأذواق، فليست الثقافة أن نعرف أوهام المشرق والمغرب، وإنما الثقافة أن نعرف ما يجب أن يُعرَف، وقد آن أن يفهم الغافلون أن الأمة التي يحفظ أطفالها القرآن، هي أهدى من أمثال الأمة التي يحفظ أطفالها أقاصيص لافونتين.

وما أقول هذه الحقيقة وحدي، وإنما يعرفها خلق كثير لا يصدهم عن الجهر بها إلا الخوف من الاتهام بالتعصب والرجعية، وهو اتهام لا أقيم له أي وزن؛ لأن حزب الشيطان أضعف من أن يُحسب له حساب.

وقُرَّائي من غير المسلمين لا يسيئهم هذا القول، فليس القرآن ملكًا للمسلمين، وإنما هو ملك للإنسانية جمعاء، وكذلك كانت التوراة وكان الإنجيل، وهل كانت الشرائع إلا موارد يفزع إليها الظماء في عالم العقول، والقلوب، والأذواق؟

ونعود إلى موضوع الكتاب فنقول: كانت المدائح النبوية أول الأمر نوعًا من المدائح التي تجري على الطرائق الجاهلية، وقد فصَّلنا ذلك في الفصل الأول من الكتاب، فعرضنا لداليَّة الأعشى، ولاميَّة كعب، وقصائد حسان، ثم تكلمنا عما وقع في خطب علي بن أبي طالب من المدائح، وبيَّنا كيف نشأ مدح أهل البيت، وكيف ترعرع هذا الفن في البيئات الإسلامية، ثم خصصنا الكميت بدراسة وافية، وهو شاعر فحل شرع للشيعة مذاهب القول، وعلَّمهم أساليب الجدل والحجاج، وأتبعنا ذلك بفصل عن دعبل، وهو شاعر خبيث اللسان، ولكنه ترك لنا تائيَّة قليلة النظائر والأمثال. ومضينا إلى قصائد الشريف الرضي في صريع كربلاء، وقصائد مهيار في أهل البيت، فأعطينا القارئ فرصة يتعرف فيها إلى طوائف من النوازع الروحية، قلَّ من اهتم بها من الباحثين.

فلما وصلنا إلى البوصيري، وقفنا على آثاره وقفة طويلة، وحدَّثنا القارئ عما عنده من ضروب السحر والفتون، ثم تكلمنا عن أثر البُردة في اللغة العربية، وأرينا القارئ كيف انتهى فن المدائح النبوية إلى فن أدبي رفيع، هو فن البديعيات، الذي أذاع في الناس ألوانًا من الثقافة الأدبية، وساقنا ذلك إلى التحدث عن رجل شهير بين أصحاب البديعيات: هو ابن حِجة الحموي الذي أذاع أدب مصر والشام في القرن الثامن.

ثم تكلمنا عن المدائح النبوية في شعر ابن نباتة المصري، وختمنا الكتاب بالكلام عن قصة المولد النبوي.

ذلك موضوع الكتاب الذي نقدمه إلى القراء فرحين مغتبطين، وليس فيه بحمد الله ما نعتذر عنه إلا الإيجاز، وهو عذر يقبله القارئ حين يتذكر أنه كان في الأصل بابًا من كتاب.

ولْنُسارعْ فنحدث القارئ بأننا لم نُرِد الاستقصاء، وإنما اكتفينا بالكلام عن آثار الشعراء الفحول، ولو أردنا التحدث عن هذا الفن من جميع نواحيه لساقنا البحث إلى الكلام عن ناس لم يكن لهم من الذوق الأدبي خلاق.

والله نسأل أن يتقبل هذا البحث الذي لم نُرِدْ به حين أنشأناه غير وجهه الكريم.

محمد زكي عبد السلام مبارك

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤