الفصل التاسع

عناصر البردة

  • (١)

    تقع البردة في اثنين وثمانين ومائة بيت، فهي من القصائد الطوال، وأغلب الظن عندي أن البوصيري استأنس عند نظمها بميمية ابن الفارض، ودليل ذلك تشابه المطلعين، فإن مطلع قصيدة ابن الفارض:

    هَلْ نَارُ لَيْلَى بَدَتْ لَيْلًا بِذِي سَلَمِ
    أَمْ بَارِقٌ لَاحَ فِي الزَّوْرَاءِ فَالْعَلَمِ
    أَرْوَاحَ نَعْمَانَ هَلَّا نَسْمَةً سَحَرًا
    وَمَاءَ وَجْرَةَ هَلَّا نَهْلَةً بِفَمِ

    ومطلع قصيدة البوصيري:

    أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ
    مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
    أَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَةٍ
    وَأَوْمَضَ الْبَرْقَ فِي الظَّلْمَاءِ مِنْ إِضَمِ

    فذو سلم، وهبوب الريح، وإيماض البرق مما اشترك فيه الشاعران، مع وحدة الوزن والقافية، يضاف إلى هذا أن ابن الفارض قال:

    يَا لَائِمًا لَامَنِي فِي حُبِّهِمْ سَفَهًا
    كُفَّ الْمَلَامَ فَلَوْ أَحْبَبْتَ لَمْ تَلُمِ

    فتابعه البوصيري فقال:

    يَا لَائِمِي فِي الْهَوَى الْعُذْرِيِّ مَعْذِرَةً
    مِنِّي إِلَيْكَ وَلَوْ أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ

    كما تابع شوقي البوصيري حين قال:

    يَا لَائِمِي فِي هَوَاهُ وَالْهَوَى قَدَرٌ
    لَوْ مَسَّكَ الشَّوْقُ لَمْ تَعْذِلْ وَلَمْ تَلُمِ

    وقال ابن الفارض:

    طَوْعًا لِقَاضٍ أَتَى فِي حُكْمِهِ عَجَبًا
    أَفْتَى بِسَفْكِ دَمِي فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ
    أَصَمَّ لَمْ يَسْمَعِ الشَّكْوَى وَأَبْكَمَ لَمْ
    يُحِرْ جَوَابًا وَعَنْ حَالِ الْمَشُوقِ عَمِي

    فدار البوصيري حول هذا المعنى إذ قال:

    عَدَتْكَ حَالِيَ لَا سِرِّي بِمُسْتَتِرٍ
    عَنِ الْوُشَاةِ وَلَا دَائِي بِمُنْحَسِمِ
    مَحَضْتَنِي النُّصْحَ لَكِنْ لَسْتُ أَسْمَعُهُ
    إِنَّ الْمُحِبَّ عَنِ الْعُذَّالِ فِي صَمَمِ
  • (٢)

    وتشتمل البردة على عدة عناصر: ففي صدرها النسيب، ويليه التحذير من هوى النفس، ثم مدح النبي، والكلام عن مولده ومعجزاته، ثم القرآن والإسراء والمعراج والجهاد، ثم التوسل والمناجاة.

    والنسيب في البردة يتصل بالشوق إلى المعالم العربية، وكنت لمت البوصيري على هذا في كتاب «الموازنة بين الشعراء» ثم تبينت أنه اختار تلك المواطن لصلتها بمولد الرسول، وخاصة إذا لاحظنا أن النسيب لم يُقصد لذاته حتى يتحدث الشاعر عن هواه في بلبيس أو فاقوس، وإنما هو نسيب وقع موقع التمهيد لقصيدة دينية، ولولا حرص الشاعر على متابعة القدماء في افتتاح القصائد بالنسيب لما كان للتغزل في مثل هذه القصيدة مكان.

    ومع أن الشاعر كان فارغ القلب من الصبوات الحسية، فإنا نراه قارب الإجادة في التعبير عن لوعة الوجد حين قال:

    أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أَنَّ الْحُبَّ مُنْكَتِمٌ
    مَا بَيْنَ مُنْسَجِمٍ مِنْهُ وَمُضْطَرِمِ
    لَوْلَا الْهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلٍ
    وَلَا أَرِقْتَ لِذِكْرِ الْبَانِ وَالْعَلَمِ
    فَكَيْفَ تُنْكِرُ حُبًّا بَعْدَمَا شَهِدَتْ
    بِهِ عَلَيْكَ عُدُولُ الدَّمْعِ وَالسَّقَمِ
    وَأَثْبَتَ الْوَجْدُ خَطَّيْ عَبْرَةٍ وَضَنًى
    مِثْلَ الْبَهَارِ عَلَى خَدَّيْكَ وَالْعَنَمِ
    نَعَمْ سَرَى طَيْفُ مَنْ أَهْوَى فَأَرَّقَنِي
    وَالْحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذَّاتِ بِالْأَلَمِ
  • (٣)

    أما التحذير من هوى النفس فقد ابتدأه الشاعر بالكلام عن عذل الشيب، وفي ذلك دليل على أن الشاعر نظم البردة في أيام الاكتهال، وأبياته في هذا المعنى جيدة، وفيها شطرات تجري مجرى الأمثال، كقوله:

    وَالشَّيْبُ أَبْعَدُ فِي نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ

    وقوله:

    إِنَّ الطَّعَامَ يُقَوِّي شَهْوَةَ النَّهِمِ

    وقوله:

    إِنَّ الْهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ أَوْ يَصِمِ

    وقوله:

    فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ

    وقوله:

    وَمَا اسْتَقَمْتُ فَمَا قَوْلِي لَكَ اسْتَقِمِ

    وله نظرات في سياسة النفس على جانب من الدقة: كالتحذير من دسائس الشبع والجوع، وتشبيه النفس بالطفل «إن تهمله شبَّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم»، وهو يرى أن أداء الفرائض رتبة صغيرة لا تصل به إلى درجات الأصفياء، ويقول:

    وَلَا تَزَوَّدْتُ قَبْلَ الْمَوْتِ نَافِلَةً
    وَلَمْ أُصَلِّ سِوَى فَرْضٍ وَلَمْ أَصُمِ
  • (٤)

    وفي مدح النبي يتحدث عن تهجده، فيذكر أنه أدام قيام الليل حتى تورمت قدماه، ويتحدث عن إيثاره الجوع فيذكر أنه كان يشد أحشاءه من السغب، ويتكلم عن زهده فيذكر أن جبال الذهب راودته عن نفسه فاستعصم، ثم يذكر أنه سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم، وأنه الآمر الناهي، وأنه لا أحد أبر منه في قول «لا» و«نعم»، وأنه مرجوُّ الشفاعة، وأن المستمسكين به مستمسكون بحبل غير منفصم، وأنه فاق النبيين في الخَلق والخُلق، ولم يدانوه في علم ولا كرم، ويمعن في ذلك فيقول:

    وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ
    غَرْفًا مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ
    وَوَاقِفُونَ لَدَيْهِ عِنْدَ حَدِّهِمُ
    مِنْ نُقْطَةِ الْعِلْمِ أَوْ مِنْ شَكْلَةِ الْحِكَمِ

    ويحكم بأنه هو «الذي تم معناه وصورته»، وأنه منزَّه عن الشريك في محاسنه، ويقول:

    دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمُ
    وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ

    وله في مدح النبي أبيات جيدة حقًّا من الوجهة الشعرية، وانظر هذا البيت البارع الجميل:

    لَوْ نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَمًا
    أَحْيَا اسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرِّمَمِ

    وانظر هذه الوثبة الشعرية في تصوير شخصية الرسول:

    أَعْيَا الْوَرَى فَهْمُ مَعْنَاهُ فَلَيْسَ يُرَى
    لِلْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْهُ غَيْرُ مُنْفَحِمِ
    كَالشَّمْسِ تَظْهَرُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ بُعُدٍ
    صَغِيرَةً وَتُكِلُّ الطَّرْفَ مِنْ أَمَمِ
    وَكَيْفَ يُدْرِكُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَتَهُ
    قَوْمٌ نِيَامٌ تَسَلَّوْا عَنْهُ بِالْحُلُمِ
    فَمَبْلَغُ الْعِلْمِ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ
    وَأَنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمِ
    أَكْرِمْ بِخَلْقِ نَبِيٍّ زَانَهُ خُلُقٌ
    بِالْحُسْنِ مُشْتَمِلٍ بِالْبِشْرِ مُتَّسِمِ
    كَالزَّهْرِ فِي تَرَفٍ وَالْبَدْرِ فِي شَرَفٍ
    وَالْبَحْرِ فِي كَرَمٍ وَالدَّهْرِ فِي هِمَمِ
    كَأَنَّهُ وَهْوَ فَرْدٌ فِي جَلَالَتِهِ
    فِي عَسْكَرٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَفِي حَشَمِ

    وهذه أبيات في غاية من القوة، وإن كانت أخيلتها مقتبسة من معانٍ قديمة، وقوله بعد ذلك:

    كَأَنَّمَا اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ فِي صَدَفٍ
    مِنْ مَعْدِنَيْ مَنْطِقٍ مِنْهُ وَمُبْتَسَمِ

    من المعاني التي أكثر منها الشعراء، وقد نقلها البوصيري من النسيب إلى المديح، وقوله:

    لَا طِيبَ يَعْدِلُ تُرْبًا ضَمَّ أَعْظُمَهُ
    طُوبَى لِمُنْتَشِقٍ مِنْهُ وَمُلْتَثِمِ

    من الأخيلة العامية، وقوله في تفضيل النبي على سائر الأنبياء:

    وَكُلُّ آيٍ أَتَى الرُّسْلُ الْكِرَامُ بِهَا
    فَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ مِنْ نُورِهِ بِهِمِ
    فَإِنَّهُ شَمْسُ فَضْلٍ هُمْ كَوَاكِبُهَا
    يُظْهِرْنَ أَنْوَارَهَا للنَّاسِ فِي الظُّلَمِ

    هذا المعنى ينافي الأدب الجميل في رعاية حقوق الأنبياء، وهو يساير به نزعة ساذجة لا يقرها عقل، ولا يدعو إليها دين، وليس مما ينقص مجد النبي أن يكون لمن سبقوه من الأنبياء شخصية مستقلة عنه كل الاستقلال.

  • (٥)

    ثم تكلم عن مولد النبي فذكر أن إيوان كسرى انصدع، وأن نار الفرس خمدت، وأن بحيرة ساوة غاضت، وأن الشهب انقضت فوق الأصنام، ولم يُعرف لشيء من ذلك سند صحيح من التاريخ، ولا نعرف متى نشأت هذه الأخبار عند المسلمين، وأغلب الظن أنها من وضع القُصَّاص الذين أرادوا أن يصوِّروا مولد الرسول بالصور التي أُثِرت عن أنبياء الهنود، وقد أكثر مؤرخو المولد من هذه الأخبار، وطاف بها جمهور الناظمين في المدائح النبوية.

  • (٦)

    وتحدث عن المعجزات، فذكر سجود الأشجار للرسول، ومشيها إليه، وسير الغمامة أنى سار لتقيه حر الهجير، وما صنع الحمام والعنكبوت بالغار، وكيف كان لمس راحته يبرئ المريض، ويشفي من الجنون، وكيف كانت دعوته ترسل الأمطار في السنة الشهباء.

    وبعض هذه الأخبار يحتاج إلى تحقيق.

  • (٧)

    وتكلم عن القرآن فقال إنه ظهر «ظهور نار القرى ليلًا على علم»، وإن المديح لا يتطاول إلى ما فيه من كرم الأخلاق والشيم، وإن آياته:

    لَمْ تَقْتَرِنْ بِزَمَانٍ وَهْيَ تُخْبِرُنَا
    عَنِ الْمَعَادِ وَعَنْ عَادٍ وَعَنْ إِرَمِ

    وإنها:

    دَامَتْ لَدَيْنَا فَفَاقَتْ كُلَّ مُعْجِزَةٍ
    مِنَ النَّبِيِّينَ إِذْ جَاءَتْ وَلَمْ تَدُمِ

    وهذا أجمل ما يوصف به القرآن، فهو المعجزة الباقية، وهو أيضًا المعجزة الصريحة التي يعتز بها العقل، ويصح للمسلمين أن يواجهوا بها العالم غير مترددين، أما نبع الماء بين يدي الرسول، وتظليل الغمام إياه، وسجود الأشجار له، وما إلى ذلك من المعجزات، فهي مسائل يحتاج عرضها إلى مخاطرة، وهي مخشية الضر قبل أن تكون مرجوة النفع.

    وقوله في وصف آي القرآن:

    مَا حُورِبَتْ قَطُّ إِلَّا عَادَ مِنْ حَرَبٍ
    أَعْدَى الْأَعَادِي إِلَيْهَا مُلْقِيَ السَّلَمِ
    رَدَّتْ بَلَاغَتُهَا دَعْوَى مُعَارِضِهَا
    رَدَّ الْغَيُورِ يَدَ الْجَانِي عَنِ الْحُرَمِ

    كلمة صدق، ويكفي أن تقرأ القرآن بحيدة ونزاهة لتلمس هذه الحقيقة، فهو كتاب على جانب عظيم جدًّا من القوة، وليس عليه بعزيز أن يحمل عدوه على الإيمان بما فيه من روعة وجلال.

    والمعاني الشعرية قليلة فيما وصف البوصيري به آي القرآن، ومع ذلك نستجيد له هذين البيتين:

    لَا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ رَاحَ يُنْكِرُهَا
    تَجَاهُلًا وَهْوَ عَيْنُ الْحَاذِقِ الْفَهِمِ
    فَالْعَيْنُ تُنْكِرُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ
    وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ
  • (٨)

    ثم تحدث عن الإسراء بأبيات خفيفة الروح:

    يَا خَيْرَ مَنْ يَمَّمَ الْعَافُونَ سَاحَتَهُ
    سَعْيًا وَفَوْقَ مُتُونِ الْأَيْنُقِ الرُّسُمِ
    وَمَنْ هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى لِمُعْتَبِرٍ
    وَمَنْ هُوَ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى لِمُغْتَنِمِ
    سَرَيْتَ مِنْ حَرَمٍ لَيْلًا إِلَى حَرَمٍ
    كَمَا سَرَى الْبَدْرُ فِي دَاجٍ مِنَ الظُّلَمِ
    وَبِتَّ تَرْقَى إِلَى أَنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً
    مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ لَمْ تُدْرَكْ وَلَمْ تُرَمِ

    ثم وقع في أبيات لم يصقلها الذوق حين قال:

    وَقَدَّمَتْكَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا
    وَالرُّسْلِ تَقْدِيمَ مَخْدُومٍ عَلَى خَدَمِ
    وَأَنْتَ تَخْتَرِقُ السَّبْعَ الطِّبَاقَ بِهِمْ
    فِي مَوْكِبٍ كُنْتَ فِيهِ صَاحِبَ الْعَلَمِ
    حَتَّى إِذَا لَمْ تَدَعْ شَأْوًا لِمُسْتَبِقٍ
    مِنَ الدُّنُوِّ وَلَا مَرْقًى لِمُسْتَنِمِ
    خَفَضْتَ كُلَّ مَقَامٍ بِالْإِضَافَةِ إِذْ
    نُودِيتَ بِالرَّفْعِ مِثْلَ الْمُفْرَدِ الْعَلَمِ

    والبيت الأخير ثقيل أضرت به التورية النحوية.

  • (٩)

    وتكلم عن الجهاد فوصف النبي وأصحابه بالبأس والقوة، وبيَّن أن الأعداء سقطوا من صدمة الرعب والفزع:

    رَاعَتْ قُلُوبَ الْعِدَا أَنْبَاءُ بِعْثَتِهِ
    كَنَبْأَةٍ أَجْفَلَتْ غُفْلًا مِنَ الْغَنَمِ
    مَا زَالَ يَلْقَاهُمُ فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ
    حَتَّى حَكَوْا بِالْقَنَا لَحْمًا عَلَى وَضَمِ
    وَدُّوا الْفِرَارَ فَكَادُوا يَغْبِطُونَ بِهِ
    أَشْلَاءَ شَالَتْ مَعَ الْعِقْبَانِ وَالرَّخَمِ
    تَمْضِي اللَّيَالِي وَلَا يَدْرُونَ عِدَّتَهَا
    مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ لَيَالِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ

    ويعجبنا قوله في وصف جند الرسول:

    كَأَنَّمَا الدِّينُ ضَيْفٌ حَلَّ سَاحَتَهُمْ
    بِكُلِّ قَرْمٍ إِلَى لَحْمِ الْعِدَا قَرِمِ
    يَجُرُّ بَحْرَ خَمِيسٍ فَوْقَ سَابِحَةٍ
    يَرْمِي بِمَوْجٍ مِنَ الْأَبْطَالِ مُلْتَطِمِ
    مِنْ كُلِّ مُنْتَدِبٍ للهِ مُحْتَسِبٍ
    يَسْطُو بِمُسْتَأْصِلٍ لِلْكُفْرِ مُصْطَلِمِ
    حَتَّى غَدَتْ مِلَّةُ الْإِسلَامِ وَهْيَ بِهِمْ
    مِنْ بَعْدِ غُرْبَتِهَا مَوْصُولَةَ الرَّحِمِ
    هُمُ الْجِبَالُ فَسَلْ عَنْهُمْ مُصَادِمَهُمْ
    مَاذَا رَأَى مِنْهُمُ فِي كُلِّ مُصْطَدَمِ
    الْمُصْدِرِي الْبِيض حُمْرًا بَعْدَمَا وَرَدَتْ
    مِنَ الْعِدَا كُلَّ مُسْوَدٍّ مِنَ اللِّمَمِ
    وَالْكَاتِبِينَ بِسُمْرِ الْخَطِّ مَا تَرَكَتْ
    أَقْلَامُهُمْ حَرْفَ جِسْمٍ غَيْرَ مُنْعَجِمِ
    شَاكِي السِّلَاحِ لَهُمْ سِيمَا تُمَيِّزُهُمْ
    وَالْوَرْدُ يَمْتَازُ بِالسِّيمَا مِنَ السَّلَمِ
    كَأَنَّهُمْ فِي ظُهُورِ الْخَيْلِ نَبْتُ رُبًا
    مِنْ شِدَّةِ الْحَزْمِ لَا مِنْ شِدَّةِ الْحُزُمِ
    طَارَتْ قُلُوبُ الْعِدَا مِنْ بَأْسِهِمْ فَرَقًا
    فَمَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَهْمِ وَالْبُهمِ
    وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللهِ نُصْرَتُهُ
    إِنْ تَلْقَهُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا تَجِمِ
    أَحَلَّ أُمَّتَهُ فِي حِرْزِ مِلَّتِهِ
    كَاللَّيْثِ حَلَّ مَعَ الْأَشْبَالِ فِي أجَمِ

    وهذه الأبيات تخيرناها مما وصف به الجهاد والمجاهدين، وهي تمتاز بقوة السبك وروعة الخيال، وهي أيضًا من نوادر الشعر في قصيدة البردة؛ لأن الشعر لا يتفق لهذا الرجل في جميع المقامات.

  • (١٠)

    وقد ظهرت نفحات التصوف ظهورًا قويًّا في الجزء الأخير من البردة، وهو التوسل بالرسول:

    يَا أَكْرَمَ الْخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ
    سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَادِثِ الْعَمِمِ
    وَلَنْ يَضِيقَ رَسُولَ اللهِ جَاهُكَ بِي
    إِذَا الْكَرِيمُ تَحَلَّى بِاسْمِ مُنْتَقِمِ
    فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا
    وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ

    ويخاطب نفسه، ويدعو ربه، فيقول:

    يَا نَفْسُ لَا تَقْنَطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُمَتْ
    إِنَّ الْكَبَائِرَ فِي الْغُفْرَانِ كَاللَّمَمِ
    لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حِينَ يَقْسِمُهَا
    تَأْتِي عَلَى حَسَبِ الْعِصْيَانِ فِي الْقِسَمِ
    يَا رَبِّ وَاجْعَلْ رَجَائِي غَيْرَ مُنْعَكِسٍ
    لَدَيْكَ وَاجْعَلْ حِسَابِي غَيْرَ مُنْخَرِمِ

    ولنقيد أن الشطر الأخير من البردة ضعيف من الوجهة الشعرية، ولكنه لا يخلو من صدق، والصدق من أهم عناصر البيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤