الصليب الأزرق

ما بين شريط أُفق الصباح الفضيِّ ومياه البحر الخضراء المتلألئة، رسا المركبُ في ميناء هارويتش، وانطلق منه حشدٌ من الناس كذُبابٍ كثيف، ولم يكن الرجل الذي يتعيَّن علينا أن نتبعَه واضحًا وسط هؤلاء الناسِ على الإطلاق، ولا كان هو راغبًا في أن يكون كذلك. لم يكن ثمةَ شيءٌ ملحوظ بشأنه، عدا تبايُنًا بسيطًا بين الملابس المبهجة الخاصة بالعطلات التي كان يرتديها ووجهه المرتسمة عليه أمارات الجديَّة. اشتملتْ ملابسُه على سُترةٍ خفيفة، رمادية فاتحة، وصدرية بيضاء، وقبَّعة فضية من القشِّ يَلفُّها شريطٌ أزرق رمادي. وعلى النقيض كان وجهه النحيل داكنًا، وانتهى بلحية سوداء قصيرة كثَّة بدتْ إسبانية تستدعي إلى الذهن الياقاتِ الإليزابيثية. كان يدخِّن سيجارة بجديةِ متبطِّلٍ لا شاغلَ له، ولم يكن في مظهره ما يدلُّ على أن السُّترة الرمادية تُخفي مسدسًا محشوًّا بالرَّصاص، ولا أن الصَّدريَّة البيضاء تُخفي بطاقةَ هوية شُرطي، ولا أن تحت قبعة القشِّ واحدًا من أشدِّ العقول في أوروبا قدرةً على التفكير والتحليل؛ إذ كان هذا هو فالانتين، رئيس شرطة باريس وأشهر محقِّقٍ في العالم؛ وكان قادمًا من بروكسل إلى لندن لينفِّذَ أعظم عملية اعتقالٍ في القرن.

كان فلامبو في إنجلترا، وكانت شرطةُ ثلاثِ دول قد اقتَفتْ أثرَ هذا المجرم الكبير مؤخرًا من مدينة جِنْت إلى بروكسل، ومن بروكسل إلى بلدة هوك أوف هولاند؛ وكان من المتوقع أنه سوف يستغلُّ عدمَ معرفة الحاضرين في المؤتمر الأفخارستي، الذي كانت ستجري فعالياتُه في لندن، بعضهم ببعض والفوضى الحاصلة فيه. وكان من المحتمل أن يُسافرَ في هيئة كاتبٍ أو سكرتير قليلِ الشأن ذي صلةٍ بالمؤتمر؛ ولكن، بالطبع، لم يكن في مقدور فالانتين التيقُّنُ من ذلك؛ فلم يكن يمكن لأحد أن يكون لديه شيءٌ يقينيٌّ بشأن فلامبو.

كانت أعوامٌ كثيرة قد مرَّت منذ أن توقَّف عملاقُ الجريمة هذا فجأةً عن نشر الفوضى والاضطراب في العالم؛ وعندما توقَّف، حلَّت — كما قالوا بعد وفاة رولان، أحد قادة جيوش شارلمان — سكينةٌ عظيمةٌ على الأرض، ولكن في أفضل أيامه (أعني بالطبع أسوأَها)، كان فلامبو شخصيةً مهيبة ومعروفًا في العالم كله بقدرٍ يُضاهي القيصر نفسَه؛ ففي صباح كلِّ يوم تقريبًا كانت الصحيفةُ اليومية تُعلن إفلاتَه من العواقب المترتبة على جريمة مذهلة بارتكابه جريمةً أخرى. كان جاسكونيًّا ذا قامة ضخمة وجرأة جسدية، ورُويت عنه حكاياتٌ من أغرب ما يكون عن وقائع مارَس فيها مزاحًا رياضيًّا؛ كيف قلَب قاضي التحقيق رأسًا على عقِب وأوقفه على رأسه، «ليصفي ذهنه»، وكيف جرى عبرَ شارع ريفولي وهو يحمل شُرطِيًّا تحت كل إبِطٍ من إبطَيه. ويحقُّ له أن يقال عنه إن قوَّته الجسمانيةَ المدهشة كانت عادةً ما تُوَظَّف في مثل هذه الوقائعِ التي رغم كونِها غيرَ دموية فقد كانت مهينة؛ فقد كانت جرائمُه الحقيقية هي في الأغلب جرائم سطْوٍ مبتكرة وواسعة الأثر، غيرَ أن كل سرقةٍ من سرقاته تكادُ تكون بمنزلة خطيئة جديدة، ويمكن أن تُشكِّل بذاتها قصة. كان هو مَن أدار شركة الألبان التيرولية الكبرى في لندن، بدون معامل ألبان، ولا أبقار، ولا عربات، ولا حليب، وإنما ببضعة آلاف من المشتركين؛ فقد كان يخدم هؤلاء المشتركين عن طريق إجراءٍ بسيط يتمثَّل في نقْل عُلَب الحليب الصغيرة من أمام بيوت الناس إلى عملائه. وكان هو من دأَب على تبادُل رسائلَ غامضة وخاصة مع سيدة شابة، تمَّ الاستيلاءُ على حقيبة رسائلِها بكاملها، بحيلة مدهشة تمثَّلت في تصوير رسائلِه وتصغيرها تصغيرًا متناهيًا ثم وضعها على شرائح مجهر. ومع ذلك كانت البساطةُ الشديدة هي السمة التي اتَّسمَ بها كثيرٌ من حيله المبتكرة. فيقال إنه أعاد ذات مرة طِلاءَ كل أرقام البيوت في أحد الشوارع في جُنح الليل لمجرد أن يحوِّل وِجهة أحد المارَّة صوبَ فخٍّ منصوب له. ومن الأمور المؤكَّدة تمامًا أنه ابتكر صندوق بريد عموديًّا قابلًا للنقل، وكان يضعُه عند زوايا الضواحي الهادئة اعتمادًا على احتمال أن يضع فيه الغُرباء حوالات بريدية. وأخيرًا، كان معروفًا عنه كونه لاعبَ أكروبات مذهلًا؛ فبالرغم من بِنْيتِه الضخمة، كان بمقدوره أن يقفزَ عاليًا كالجراد ويتوارَى في قِمَم الأشجار كالقرد؛ لذا، عندما شرَع فالانتين العظيم في رحلة البحث عن فلامبو، كان على دراية تامة بأن مغامراتِه لن تنتهيَ حالَ عثوره عليه.

ولكن كيف كان سيتمكَّن من العثور عليه أصلًا؟ كانت أفكار فالانتين العظيم لا تزال في طَوْر الترتيب فيما يتعلَّق بهذا الشأن.

كان يوجد شيء واحد لم يكن فلامبو، بكل ما أُوتيَ من مهارةٍ في التنكُّر، يستطيع أن يُخفيَه، وهو طولُه الفريد. لو كانت عينُ فالانتين الثاقبة قد لمحتْ بائعة تفاح طويلة، أو جنديًّا طويل القامة من رُماة القنابل، أو حتى دوقة طويلة طولًا مقبولًا، لكان قد قبَض عليهم على الفور، ولكن في القطار الذي كان يستقلُّه كله لم يكن ثمة أحدٌ يمكن أن يكون فلامبو متنكِّرًا، مثلما لا يمكن لقِطَّةٍ أن تكونَ زرافةً متنكِّرة، وكان بالفعل قد تأكَّد بنفسه من أنه ليس ضمْنَ الناس الذين كانوا على ظهر المركب. وأمَّا الناس الذين استقلُّوا القطار من هارويتش أو خلال الرحلة، فقد انحصروا يقينًا في ستة أشخاص، كانوا عبارةً عن موظف قصير في السكك الحديدية مسافر إلى نهاية الخط، وثلاثة مزارعين قصار القامة، ممن يبيعون منتجاتِهم في السوق، وقد استقلُّوا القطار بعد محطتين، وأرملة كانت آتيةً من بلدة صغيرة في مقاطعة إسكس، وقَسٍّ قصير القامة للغاية من قساوسة الروم الكاثوليك، كان قادمًا من قريةٍ صغيرةٍ بمقاطعة إسكس. وفيما يتعلَّق بالحالة الأخيرة، فَقَدَ فالانتين قدرتَه على السيطرة على نفسه وكاد يضحك؛ فقد كان القَسُّ الضئيل الجسد إلى حدٍّ كبير يمثِّل نموذجًا لسذاجة أهلِ شرق إنجلترا؛ إذ كان له وجْهٌ مستدير ومتبلِّد كقطعة من فطير نورفولك، وعينان خاويتان من التعبير كخواء بحر الشمال، وكان معه العديدُ من الطرود الورقية البُنِّيَّة، والتي كان عاجزًا عن تجميعها. كان المؤتمر الأفخارستي بلا شك قد أخرج العديدَ من تلك المخلوقات من ركودها المحلي، كفيفةً وعاجزة، كحيوانات خُلْد خرجتْ من جحورها. كان فالانتين رجلًا متشكِّكًا على النمط الفرنسي المتشدِّد، ولم يكن بوُسْعه أن يُكِنَّ أيَّ محبة للقساوسة، ولكن كان بمقدوره أن يَشعر نحوهم بالشفقة، وهذا القَسُّ ربما كان ليثير مشاعر الشفقة لدى أيِّ شخص؛ فقد كان يحمل مظلَّة ضخمة رثَّة، كانت تسقط منه باستمرار على الأرض، ولم يكن، على ما يبدو، يعرف أيٌّ من طرفي تذكرةِ عودته هو الطرف الصحيح، وكان يوضِّح لجميع ركَّاب عربة القطار، بسذاجة بلْهاء، أن عليه أن يكون حريصًا، لأنه يحمل معه شيئًا مصنوعًا من فضة خالصة «مطعمًا بأحجار كريمة زرقاء» في أحد الطرود الورقية البُنِّيَّة التي كانت بحوزته. وجَد الفرنسي تسليةً متواصلةً في ذلك المزيج الطريف الذي اتَّسم به الرجل من سذاجة أهل إسكس وبساطةٍ ورِعَةٍ حتى وصل القَسُّ (بطريقة ما) إلى محطة توتنهام ومعه كل طروده، وعاد ليأخذ مظلَّته، وعندما فعل، كان من طِيب نفس فالانتين أن حذَّره ألا يكون اعتناؤه بالشيء الفضي الذي كان بحوزته بأن يخبر الناس جميعًا بشأنه. ولكن بغضِّ النظر عمَّن كان فالانتين يخاطبه، فقد ظلَّ متنبِّهًا بحثًا عن شخص آخر؛ إذ كان يبحث باستمرار عن أي شخص، غنيًّا كان أو فقيرًا، ذكرًا كان أو أنثى، يصِلُ طولُه إلى ست أقدام؛ لأن فلامبو كان أطولَ من ذلك بأربع بوصات.

وصل فالانتين إلى شارع ليفربول، وهو على يقين مطلق من أنه لم يَغفُل عن المجرم حتى ذلك الحين. وبعد ذلك ذهب إلى المقرِّ الرئيسي لسكوتلانديارد لإضفاء الشرعية على وَضْعه وليرتِّبَ للحصول على المساعدة إذا ما احتاج إليها، ثم أشعل سيجارة أخرى ومضى في نزهة طويلة في شوارع لندن. وبينما كان يسير في الشوارع والميادين خارجَ نطاق منطقة فيكتوريا، توقَّف فجأةً عن السير وظلَّ واقفًا. كان المكان حوله عبارة عن ميدان هادئ هدوءًا غريبًا، وكان يعجُّ بسكون وليد الصدفة، كما كان معهودًا في لندن. بدَت البيوت المرتفعة المنبسطة المحيطة موسرةً وغيرَ مأهولة في ذات الوقت، وبدا مربعُ الشجيرات في الوسط مهجورًا مثل جزيرةٍ مخضرَّة صغيرة في المحيط الهادي. وكان ارتفاعُ البنايات في أحد جوانب الميدان الأربعة أعلى بكثير من بقية الجوانب، مثل منبر، وخالفت واحدةٌ من مصادفات لندن المحبَّبة اصطفاف بنايات هذا الجانب؛ وأقصد بذلك مطعمًا بدا كما لو كان قد شرَد عن منطقة سوهو. كان مقصِدًا ذا جاذبيةٍ غير معقولة، وبخارجه نبتاتٌ متقزمة في أُصُصٍ وستائر طويلة ازدانت بخطوط طولية باللونَيْن الأصفر الليموني والأبيض. كان المطعم مرتفعًا كثيرًا عن الشارع، وبطريقة المزْج بين كل ما هو غير متناسق المعتادة في لندن، امتدَّت درجاتُ سُلَّمٍ من الشارع حتى الباب الأمامي، مثلما قد يمتدُّ سُلَّمُ حريقٍ إلى نافذة الدور الأول لبنايةٍ ما. وقف فالانتين ودخن سيجارة أمام الستائر ذات الخطوط الصفراء والبيضاء، وجال في ذهنه أنها طويلة.

أروع ما في المعجزات أنها تحدُث. تتجمع بضعُ سُحُب معًا في السماء لتصنع شكلَ عينٍ بشريَّة محدِّقة، وتقف شجرة منتصبة في مشهد طبيعي لرحلةٍ مشكوك في أمْرها متخذةً شكلَ علامة استفهام جملةً وتفصيلًا. لقد رأيتُ هذين الأمرين بنفسي في الأيام القليلة الماضية. نجد الأميرال نيلسون يموت في لحظة انتصاره، ورجلًا يسمَّى ويليامز يَقتُل بطريق الخطأ رجلًا اسمه ويليامسون (المعنى الحرفي للاسم هو ابن ويليام)، ويبدو الأمر وكأنه نوعٌ من قتْل الأبناء. الخلاصة هي أنه يوجد في الحياة قدرٌ من المصادفة الساحرة الذي قد يغفله دومًا الأشخاصُ الذين يضعون في الحسبان وقائع الأمور. وكما عبَّرت جيدًا مفارقة بو، من الحكمة أن نأخذ في الحسبان الأمورَ غير المتوقعة.

كان أريستيد فالانتين فرنسيًّا إلى أقصى درجة؛ والذكاء الفرنسي هو ذكاء ذو طابع خاص ومتفرِّد. إنه لم يكن «آلة مفكرة»؛ فتلك عبارةٌ بلْهاء تَتبَع مفهومَي الجبرية والمادية المعاصرَين؛ فالآلةُ ليست سوى آلةٍ لأنه لا يمكنُها التفكيرُ، لكنه كان رجلًا مفكِّرًا، ورجلًا بسيطًا في الوقت نفسه. إن كل نجاحاته الرائعة، التي بدتْ وكأنها من أعمال السحر، قد تحقَّقت عن طريق الاجتهاد في التفكير المنطقي، والتأمل الفرنسي الواضح والمألوف. إن الفرنسيين لا يبهرون العالمَ بأيِّ تناقضٍ وهميٍّ، وإنما يبهرونه بالبديهيات؛ إنهم يَبلغون أقصى حدٍّ في إنجاز الأمور البديهية، كما في حالة الثورة الفرنسية، غيرَ أن السبب تحديدًا وراء فهْم فالانتين لحدود المنطق، هو أنه فَهِم المنطق. فمَن لا يعرف شيئًا عن المحرِّكات هو فقط مَن يتحدَّث عن عمل المحركات بدون وَقود؛ ومَن لا يعرف شيئًا عن المنطق هو فقط من يتحدَّث عن الاستدلال بدون أُسُس أولية قوية لا جدالَ فيها. في حالتنا هذه لم يكن لديه أُسُسٌ أولية قوية؛ إذ كان أثَرُ فلامبو قد فُقِد في هارويتش، ولو كان في لندن بأيِّ حال، فقد يكون متنكِّرًا في أيِّ هيئةٍ كانت، من متشرِّدٍ طويل القامة في ساحة ويمبلدون كومون إلى رئيس مأدبة طويل القامة يقترح نَخْبًا في فندق متروبول. وفي ظلِّ هذه الحالة المجرَّدة من الافتقار إلى المعرفة، كان لدى فالانتين رؤيتُه وطريقتُه الخاصة.

في مثل هذه الحالات، كان يضع في الحُسبان ما هو غير متوقع. في مثل هذه الحالات، عندما لا يكون بإمكانه اللِّحاقُ بركْب المعقول، كان ببرود أعصاب وعناية يلحق بركْب اللامعقول؛ فبدلًا من الذهاب إلى الأماكن الصحيحة؛ كالبنوك، ومراكز الشرطة، وأماكن اللقاء، كان بطريقة ممنهجة يذهب إلى الأماكن الخطأ؛ فكان يطرق بابَ كلِّ منزلٍ خالٍ، ويأبى التوقُّفَ عند كلِّ طريق مسدود، ويسلُك كلَّ حارة مسدودة بالقمامة، ويتجنَّب كلَّ طريق ملتوٍ يَحيد به عن السبيل بلا جدوى. وقد دافَع عن هذا المسارِ المجنون بطريقة منطقية تمامًا؛ قال إنه لو كان لدى المرء أيُّ دليل، لكان هذا هو أسوأ طريق؛ ولكن إذا لم يكن لديه أيُّ دليل على الإطلاق، فعندئذٍ يكون أفضل طريق؛ لأنه عندئذٍ لا يوجد سوى احتمال أنه من الممكن لأيِّ شيء غريب استرعى انتباه المطارِد أن يكون قد استرعى قبلَه انتباه المطارَد. لا بدَّ للرجل أن يبدأ من موضعٍ ما، ومن الأفضل أن يكون في الموضع الذي يُحتمل أن يكون الرجل الآخر قد توقَّف عنده. شيءٌ ما في درجات السُّلَّم المؤدية إلى المتجر، شيء ما في هدوء المطعم وغرابته، استحثَّ كلَّ ما لدى المحقِّق من قليل من خيال رومانسي وجعلَه عاقدَ العزْم على التعامل مع الأمر بعشوائية. صَعِد درجاتِ السُّلَّم، وبعدما جلس إلى طاولة بجوار النافذة، طلب فنجانًا من القهوة السوداء.

كان الصباح قد انتصف، ولم يكن قد تناول طعامَ الإفطار؛ إذ ذكَّره بجوعه الفتاتُ القليلُ المتناثر على طاولته من وجبات إفطار أخرى، وبعد أن أضاف بيضةً مسلوقةً إلى طلبه، واصَل بتأمُّل ٍتقليبَ بعض السكر الأبيض في قهوته، آخذًا في التفكير طوال الوقت بشأن فلامبو. استحضر كيف كان فلامبو يهرب، مرَّةً بالاستعانة بأحد مقصات الأظافر، وأخرى باستغلال حريق في منزل، ومرة بالاضطرار إلى دفع ثَمَن خطاب غير مختوم، ومرة بجعْل الناس ينظرون من خلال تلسكوب إلى مُذَنَّب قد يُدمِّر العالم. اعتقد المحقِّقُ أن عقله يُكافئ في براعته عقْلَ المجرم، وهو ما كان صحيحًا. لكنه أدرك تمامًا العِلَّة؛ قال لنفسه بابتسامة مريرة: «المجرم هو بمثابة الفنَّان المبدِع؛ أما المحقِّق فليس سوى الناقد.» ورفع فنجان قهوته إلى شفتَيه ببطء، ووضعه بسرعة كبيرة؛ إذ كان قد وضع فيه مِلحًا.

نظر إلى الوعاء الذي جاء منه المسحوقُ الفضي؛ كانت بالتأكيد سُكَّريَّةً، مخصصة بلا شك للسكر مثلما أن زجاجة الشمبانيا مخصصةٌ للشمبانيا، وتساءل لماذا يضعون فيه المِلح؟ ونظر إلى الطاولة ليرى إن كان عليها المزيد من الأوعية التقليدية؛ نعم، كان توجد مِملَحتان مملوءتان تمامًا. لعله كان يوجد بهارٌ من نوع خاص في المملحتين. تذوَّق ما فيهما، وكان سكَّرًا، ثم جال بناظرَيه في المطعم باهتمام متجدد، ليرى إن كان يوجد أيُّ آثار أخرى لذلك الذوق الفني غير المعتاد الذي يضع السكر في المِمْلحتين والمِلح في السكَّرِية. وباستثناء بقعة غريبة من رذاذ سائل ما داكن على أحد الجدران المغطَّاة بورق حائط أبيض، بدا المكانُ بكامله أنيقًا ومبهجًا وعاديًّا. دقَّ الجرس مستدعيًا النادل.

وعندما جاء النادل مسرعًا، بشعرٍ مجعَّد وعينَين يعلوهما بعضُ الغِشاوة في تلك الساعة المبكِّرة، طلب منه المحقِّق (الذي لم يكن يخلو من تقدير لأبسط صور المزاح) أن يتذوَّق السكَّر ليرى إن كان يرتقي إلى السمعة المرموقة للفندق. كانت النتيجةُ أن تثاءب النادلُ فجأةً واستفاق.

تساءل فالانتين: «هل تقومون بهذه الدعابة اللطيفة مع زبائنكم كلَّ صباح؟ ألم تشعروا أبدًا بأن تبديل المِلح والسكَّر قد صار دعابة مملَّة؟»

وعندما ازداد هذا التهكُّمُ وضوحًا، أكَّد له النادل متلعثمًا أن المنشأة لم يكن لديها هذه النية على الإطلاق؛ ولا بد أن الأمر هو خطأٌ بالغُ الغرابة. التقط السكريَّة ونظر إليها؛ والتقط المملحة ونظر إليها، وأخذت الحيرةُ التي كانت تعلو قسَماتِ وجهه في الازدياد. وأخيرًا استأذنه في المغادرة، ومضى بخطوات سريعة مبتعدًا، وعاد بعد بضع ثوانٍ ومعه مالكُ المكان. تفحَّص المالك هو الآخر السكرية وبعدها المملحة، وعلَت الحيرةُ قسماتِ المالك أيضًا.

وفجأةً بدا أن النادل يَلثَغُ بوابلٍ من الكلمات.

تَأْتأَ باندفاع قائلًا: «أَزُنُّ (أظنُّ) … أَزُنُّ أن رَجُلَي الدين هما من فعلا ذلك.»

«أي رَجُلَي دين؟»

قال النادل: «رَجُلا الدين اللَّذان ألقيا حساءً على الحائط.»

كرَّر فالانتين قولَه: «ألقيا حساءً على الحائط؟» واثقًا من أن هذا القول لا بدَّ أن يكون نوعًا من الكناية الإيطالية الغريبة.

قال النادل بحماس، وهو يُشير إلى بقعة الرذاذ الداكن على ورق الحائط الأبيض: «نعم، نعم. ألقيا به هناك على الحائط.»

نظر فالانتين متسائلًا نحو المالك، الذي سارع وأسعفه بإفاداتٍ أوفى.

قال: «نعم، يا سيدي. هذا صحيح تمامًا، مع أني لا أظنُّ أن له أيَّ علاقة بالسكر والملح؛ لقد دخل رجلا دينٍ إلى المطعم وشربا حساءً هنا في وقت مبكِّر جدًّا، ما إن فتحنا أبوابَنا. كانا شخصَين هادئين، ومحترمين جدًّا؛ دفع أحدهما الفاتورة وخرج، أما الآخر، الذي بدا واعظًا فأبطأ إلى أقصى حدٍّ، فاستغرق بضع دقائق أكثر في جمع أغراضه، ولكنه خرج أخيرًا، عدا أنه في اللحظة التي سبقت خروجَه إلى الشارع عمَد إلى التقاط إنائه، الذي كان قد فرغ من نصفه فقط، وألقى بالحساء ضاربًا به الحائط. كنتُ حينئذٍ في الغرفة الخلفية، وكذلك كان النادل؛ لذا ما كان بوسعي سوى أن اندفعتُ خارجًا لأجد الحائط ملطَّخًا والمكان خاليًا. لم يتسبَّبْ ذلك في أي تلفيات، إلا أنه كان تصرُّفًا شائنًا يبعث على الحيرة، وحاولتُ اللحاق بالرجلَين في الشارع، غير أنهما كانا قد صارا بعيدَين جدًّا؛ ولم ألحظْ سوى أنهما انعطفا عند الزاوية التالية وسلكا شارع كارستيرز.»

في لحظات كان المحقِّق قد هبَّ واقفًا، مرتديًا قبَّعتَه ومُمسكًا بعصاه في يده. كان بالفعل قد قرَّر أن في ظل حالة الانعدام التام للأفكار في ذهنه، فليس بوسعه إلا أن يَتبَع أولَ أَمارة غريبة تبدَّت له؛ وتلك كانت أَمارةً غريبة بما يكفي. وبعد أن دفع فاتورته وأغلق الباب الزجاجي خلفه، ما لبِث أن انعطف وسلك ذلك الشارع.

من حسن الطالع أنه حتى في تلك اللحظات المفعمة بالإثارة كانت عينه هادئةً ولمَّاحة؛ إذ مرَّ شيءٌ ما في واجهة أحد المحلات أمام عينه كلمحةٍ خاطفة؛ ومع ذلك عاد لينظرَ إليه. كان المحلُّ متجرًا شهيرًا لبيع الخُضر والفاكهة، وكانت مجموعةٌ من السلع معروضةً في الهواء الطلق وموضوعًا عليها بطاقاتٌ واضحةٌ تحمل أسماءَ تلك السلع وأسعارها. في أبرز قسمين كان يوجد كومتان للبرتقال وللمكسَّرات على الترتيب؛ على كومة المكسَّرات قصاصة ورق مقوَّى، مكتوبٌ عليها بطبشور أزرق بخط سميك، «أفضل برتقال يوسفي، الاثنتان ببنس.» وعلى البرتقال كُتِب وصفٌ مماثلٌ في الوضوح والدقة، «أجود مكسرات برازيلية، ٤ بنسات للرطل».

نظر السيد فالانتين إلى هاتين اللافتتين، وخُيِّلَ إليه أنه قد صادف هذا الشكل الشديد البراعة من المزاح قبل ذلك، وأن ذلك كان منذ وقتٍ قريب إلى حَدٍّ ما. لفت انتباه الفاكِهانيِّ ذي الوجه المشرَب بحمرة، الذي كان ينظر بتجهُّم إلى حدٍّ ما عبْرَ الشارع ويجول فيه بعينيه جَيئةً وذهابًا، إلى عدم دقة هذه الإعلانات. لم يَنبِسِ الفاكِهاني ببنتِ شَفة، ولكنه همَّ بحدَّةٍ بوضع كل بطاقة في مكانها الصحيح. استمرَّ المحقِّق، مستندًا على عصا المشي خاصَّتِه، في تفحُّص المتجر. وأخيرًا قال: «أرجو أن تعذرني، يا سيدي الفاضل، إنْ بدا ما سأقوله غيرَ ذي صلة، ولكني أريد أن أُوجِّهَ لك سؤالًا في علم النفس التجريبي وتَداعِي الأفكار.»

رمقَه صاحبُ المتجر ذو الوجه المشرَب بحمرة بنظرة تَوَعُّد؛ ولكنه استمرَّ يهزُّ عصاه بمرَح، وتابع قائلًا: «لماذا … لماذا تُوضَع بطاقتان بطريقة خاطئة في متجر للخُضَر مثل قبَّعة رجل دين جاءت إلى لندن في إجازة؟ أو في حال إذا لم يكن كلامي واضحًا، ما الصلة الغامضة التي تربط بين فكرة المكسرات التي وُضع عليها علامة بوصفها برتقال وفكرة رجلَي دين، أحدهما طويلٌ والآخر قصير؟»

خرجتْ عَينَا التاجرِ من محجرَيهما كعينَي حلزون؛ وبدا عليه حقًّا لهنيهة أن ثمَّة احتمالًا أن يُلقيَ بنفسه على الغريب. وأخيرًا قال متلعثمًا بغضبٍ: «لا أعرف ما علاقتُك بالأمر، ولكن إن كنتَ واحدًا من أصدقائهما، يمكنك أن تخبرَهما نيابةً عني أنني سأُوسع هذين السخيفَين ضربًا، سواء أكانا قسَّين أم لا، إن بعثرا تفاحاتي ثانيةً.»

تساءل المحقِّق، بتعاطف كبير: «حقًّا؟ هل بعثَرا تفاحاتِك؟»

قال البائع المنفعل: «أحدُهما فعل. دفعها فتدحرجتْ في كل مكان في الشارع. كنتُ سأُمسِك بهذا الأحمق لولا أنه كان عليَّ أن أجمعها.»

سأله فالانتين: «أي طريقٍ سلك هذان القسَّان؟»

قال الآخر على الفور: «سلكَا ذلك الشارع الثاني على الجهة اليسرى، ثم عبرا الميدان.»

قال فالانتين: «أشكرك.» واختفى في لمْح البصر. على الجهة الأخرى من الميدان الثاني وجَد شُرطِيًّا، وقال مخاطبًا إياه: «هذا أمرٌ عاجل، أيها الشُّرطيُّ؛ هل رأيتَ قسَّيْن يرتديان قبَّعتَي رجالِ دين؟»

بدأ الشُّرطيُّ يضحك ضحكةً مكتومة، ثم قال: «رأيتُهما، يا سيدي؛ ولو سألتني سأقول لك إن أحدَهما كان مخمورًا؛ فقد وقَف في منتصف الطريق مما أربك تلك …»

قاطعه فالانتين فجأةً قائلًا: «في أيِّ اتجاه ذهبا؟»

أجاب الرجل: «استقلَّا إحدى تلك الحافلات الصفراء هناك، التي تذهب إلى هامستيد.»

أبرز فالانتين بطاقةَ هُويَّتِه الرسمية وقال بسرعة كبيرة: «استَدعِ اثنين من رجالك ليأتِيَا معي في مطاردة.» وعبَرَ الطريق بطاقةٍ انتقلت عَدواها إلى الشرطيِّ الضخم؛ مما دفعه إلى التحرُّك في رشاقة شبْه كاملة طاعةً له. وفي دقيقة ونصف كان قد انضمَّ إلى المحقِّق الفرنسي على الرصيف المقابل مفتشٌ ورجلٌ في ملابسَ مدنية.

استهلَّ الأول الكلام، بوجْه مبتسم يوحي بالاهتمام: «حسنًا، يا سيدي، وما الذي يمكننا …؟»

أشار فالانتين فجأةً بعصاه، وقال: «سأخبركما ونحن على متن تلك الحافلة.» وأخذ يندفع ويُراوغ عبْرَ زحام الحركة المرورية المتشابكة. وعندما غاص الثلاثةُ في المقاعد العلوية للحافلة الصفراء وهم يلهثون، قال المفتش: «كان يمكننا أن نَمضيَ بأربعة أضعاف السرعة في سيارة أجرة.»

أجاب قائدُهما بهدوء: «هذا صحيح تمامًا، لو كنَّا نعرف إلى أين نحن ذاهبون.»

تساءل الآخر، محدِّقًا: «حسنًا، إلى أين أنتَ ذاهب؟»

دخَّن فالانتين سيجارتَه بتجهُّمٍ لبضع ثوانٍ؛ ثُم، وهو يتخلَّص من سيجارته، قال: «إن كنتَ تعرف ما يفعله رجلٌ ما، فاسبقْه؛ ولكن إن كنتَ تريد أن تخمِّنَ ما يفعله، فابْقَ خلفه؛ هِمْ على وجهِك عندما يهيم على وجهه؛ وتوقَّفْ عندما يتوقَّفُ؛ وتَنقَّل بنفس البطءِ الذي يتنقَّلُ به، عندئذٍ قد ترى ما رآه وقد تفعل مثلما فعَل. كلُّ ما يمكننا فعلُه هو أن نَبقَى منتبهين لأيِّ شيء غريب.»

تساءل المفتش: «أيَّ نوعٍ من الأشياء الغريبة تقصدُ؟»

أجاب فالانتين: «أي شيءٍ غريب من أيِّ نوع.» وارتدَّ إلى حالة من الصمت الحَرُون.

سارتِ الحافلةُ الصفراء ببطءٍ عبرَ الشوارع الشمالية لمدة من الوقت بدَتْ وكأنها ساعاتٌ متواصلة؛ لم يكن المفتش العظيم ليقدِّمَ مزيدًا من التوضيح، ولعل مساعدَيْه شعرَا بشكٍّ صامتٍ ومتزايد في مأموريته، ولعلهما شعرَا، أيضًا، برغبة صامتة ومتزايدة في تناول طعام الغداء؛ إذ مضت الساعاتُ متسللةً متجاوزةً بكثير ساعة الغداء الطبيعية، وبدا وكأن الشوارع الطوال لضواحي شمال لندن تزداد طولًا على طول مثل تليسكوب جهنمي. كانت واحدةٌ من تلك الرِّحلات التي يشعر فيها المرء دومًا بأنه قد بلغ ولا بد نهايةَ الكون أخيرًا، ليكتشفَ بعد ذلك أنه بلَغ بداية منطقة توفنيل بارك فحسب. تلاشت لندن تدريجيًّا وحلَّ محلَّها حاناتٌ قذرة وشجيراتٌ كئيبة، ثم عادت للظهور من جديد، على نحوٍ لا يمكن تفسيرُه، في هيئة شوارع رئيسية متوهِّجة الإضاءة وفنادق صاخبة. كان الأمر يُشبه المرورَ عبرَ ثلاث عشرة مدينة شعبية منفصلة، كلٌّ منها تُلامس الأخرى فقط، ولكن على الرغم من أن شفقَ الشتاء كان بالفعل قد صار مُحْدِقًا بالطريق المنبسط أمامهم، ظل المحقِّق الباريسي جالسًا في صمْت وترقُّب، يتطلَّع إلى مداخل الشوارع التي كان يمرُّ بها على جانبَي الطريق، وعندما اجتازوا حيَّ كامدن تاون، كان الشُّرطيَّانِ شبْهَ نائمَين؛ بدَر منهما ما يُشبه قفزةً على أقل تقدير عندما قفز فالانتين منتصبًا، وضرب كتفَ كلا الرجلين بيده، وصاح في السائق لكي يتوقَّفَ.

هرولا نزولًا على درجات الحافلة إلى الطريق دون أن يُدركا سببَ نزولهما، وعندما نظرا حولَهما بحْثًا عن شيء يستبينان منه وجدا فالانتين يُشير بإصبعه بانتصارٍ نحو نافذةٍ على الجانب الأيسر من الطريق؛ كانت نافذةً كبيرة، تُشكِّلُ جزءًا من الواجهة الطويلة لحانة مُذَهَّبة وفخمة؛ كان هذا هو الجزء المخصَّص لتناول عشاء لائق، ووُضع عليه لافتةٌ مكتوب عليها «مطعم». كانت هذه النافذة، كشأن بقية النوافذ كلِّها بامتداد واجهة الفندق، مصنوعةً من زجاج بلوري مزيَّن بالرسوم؛ ولكن كان في منتصفها أثرُ تهشُّمٍ كبير أسود، مثل نجمة في الجليد.

صاح فالانتين، ملوِّحًا بعصاه: «ها هي علامتُنا أخيرًا، المكان الذي فيه النافذة المكسورة.»

تساءل مساعدُه الرئيسي: «أيُّ نافذة؟ أيُّ علامة؟ عجبًا، ما الإثبات على أن لهذا أيَّ علاقةٍ بهما؟»

كاد فالانتين يكسر عصاه المصنوعة من البامبو سخطًا.

صاح قائلًا: «إثبات! يا إلهي! الرجل يبحث عن إثبات! بالطبع، ثمةَ احتمالٌ نسبتُه عشرون إلى واحد أن لا علاقة لذلك بهما. ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل غير ذلك؟ ألا ترى أن علينا إما أن نتبع احتمالًا واحدًا بعيدًا أو أن نعود إلى البيت لنخلد إلى النوم؟» وشقَّ طريقَه دخولًا إلى المطعم، وتَبِعه رفيقَاه، وسرعان ما جلسوا وأمامهم وجبةُ غداء متأخر على طاولة صغيرة، ونظروا من الداخل إلى الزجاج المهشَّم الذي كان يتَّخذ شكل نجمة، وحتى حينئذٍ لم يكن الأمر مفيدًا ولا أضاف لهم معلومة جديدة.

قال فالانتين مخاطبًا النادلَ وهو يدفع الفاتورة: «لقد تحطَّمتْ نافذتُكم، حسبما أرى.»

أجاب النادل: «نعم، يا سيدي.» وهو ينحني بانهماك شديد منشغلًا بباقي الحساب، الذي أضاف إليه فالانتين بصمتٍ إكرامية سخية، فاعتدل النادلُ وقد بدتْ عليه حيوية خفيفة ولكن لا تُخطِئُها عين.

قال: «أوه، نعم، يا سيدي. أمرٌ غريب جدًّا، يا سيدي.»

قال المحقق بفضول غير مبالٍ: «حقًّا؟ أخبرْنا عن الأمر.»

قال النادل: «حسنًا، دخل سيدان يرتديان ملابس سوداء، اثنان من أولئك القساوسة الغرباء الذين يتنقَّلون على عجل هنا وهناك. تناولا غداءً صغيرًا رخيصًا في هدوء، ودفع واحدٌ منهما مقابله وخرج. كان الآخر في طريقه للخروج لينضم إليه عندما نظرتُ إلى باقي الحساب مجددًا ووجدتُ أنه كان قد دفع لي ما يزيد على ثلاثة أضعاف ما ينبغي عليه دفعه. قلتُ للرجل الذي كاد يخرج من الباب: «من فضلك، لقد دفعتما أكثر مما يتعيَّن عليكما دفعُه بكثير.» قال، بهدوء شديد: «هل فعلنا حقًّا؟» قلتُ: «نعم.» وأمسكتُ بالفاتورة لأريَه إياها، وأصابتْني صدمة.»

سأله محاورُه: «ماذا تعني؟»

«حسنًا، لو أن أمامي سبعة أناجيل لأقسمتُ عليها أنني كنتُ قد كتبتُ ٤ شلنات في تلك الفاتورة، ولكني حينئذٍ رأيت أنني قد كتبت، بوضوح شديد، ١٤ شلنًا.»

صاح فالانتين، وهو يتحرك ببطء، ولكن بعينين متشوقتين: «حسنًا؟ وماذا حدث بعد ذلك؟»

«قال القَس الذي كان عند الباب بكل هدوء: «آسف على التسبُّب في إرباك حساباتك، ولكن هذه الزيادة ستغطي تَكلِفة النافذة.» فقلتُ: «أي نافذة؟» قال: «النافذة التي سأكسرها.» وهشَّم ذلك الجزء بمظلَّتِه.»

علتِ الدهشةُ وجوهَ السائلين الثلاثة، وقال المفتش بصوت خافتٍ: «هل نحن نطارد معتوهَين فارَّيْن؟» وتابع النادل سرْدَ القصة المضحكة بقدر من الاستمتاع:

«لثانيةٍ أُصبْتُ بصدمة شديدة شلَّتْ حركتي، ولم أستطعْ فعْلَ شيء. سار الرجل خارجًا من المكان وانضمَّ إلى صديقه عند ناصية الشارع. ثم مضيَا بسرعة كبيرة عبر شارع بولوك، فلم أتمكَّنْ من اللِّحاق بهما، رغم أنني تجاوزتُ الحواجز في سبيل ذلك.»

قال المحقِّق: «شارع بولوك.» وانطلق في ذلك الطريق بنفس سرعة الغريبَين اللَّذين كان في أعقابهما.

قادتْهم رحلتُهم عبرَ طُرُقٍ غيرِ ممهدة إلا بطوبٍ مثل الأنفاق، وعبرَ شوارع قليلة الإضاءة بل وبها نوافذ قليلة؛ شوارع بدَتْ وكأنها تشكَّلت من الخلفيات المصمتة لكل شيء وكل مكان. كانت الظُّلمة آخذةً في الازدياد، ولم يكن من السهل، حتى على شُرطِيَّي لندن، تخمينُ الاتجاه الذي يسيرون فيه بالضبط، ومع ذلك كان المفتش متأكدًا إلى حدٍّ ما من أنهم سيمرُّون في النهاية بجزءٍ من مرجة هامستيد هِيِث. فجأة اخترقت نافذةٌ ناتئة مضاءة بالغاز شفقَ المغيب الأزرق مثل فانوس إضاءة له فتحةٌ واحدة بارزة يخرج منها الضوء؛ وتوقَّف فالانتين للحظة أمام متجرِ حلوى صغير مبهرَج. وبعد تردُّدٍ للحظة دلَف إلى الداخل، ووقف وسط الحلويات ذاتِ الألوان المبهرجة بانجذاب تامٍّ، واشترى ثلاثة عشر سيجارًا من الشوكولاتة باهتمام خاص. كان من الواضح أنه يُحَضِّر لاستهلال للكلام؛ ولكنه لم يَحتجْ إليه.

كان في المتجر امرأة شابة شديدة النحالة، بدَتْ أكبرَ من عمرِها أعوامًا، أخذَت في تأمُّل مظهره الأنيق بمحض استفهام تلقائي؛ ولكن عندما رأت الزي الأزرق للمفتش يحجب البابَ خلفَه، بدا أن عينيها قد انتبهتا.

قالت: «أوه، لو كنتم قد جئتم بشأن ذلك الطَّرد، فقد أرسلتُه بالفعل.»

كرَّر فالانتين الكلمة متسائلًا: «طرد؟» وكان دورُه هو هذه المرة لكي ينظر باستفهام.

«أعني الطَّرد الذي تركه السيد؛ السيد رجل الدين.»

قال فالانتين، وهو ينحني إلى الأمام ويظهر عليه أول إقرار حقيقي بالتلهُّف: «بالله عليكِ! بحق السماء أخبرينا بما حدث بالضبط.»

قالت المرأة بقليل من الشك: «حسنًا، دخل رجلا الدين منذ حوالي نصف ساعة واشتريا بعض النعناع وتحدَّثا قليلًا، وبعد ذلك مضيا خارجَين في اتجاه مرجة هامستيد هيث، ولكن بعد ذلك بثانية، ركض واحد منهما عائدًا إلى المتجر، وقال: «هل تركتُ طردًا؟!» بحثت في كل مكان ولم أستطع أن أرى أيَّ طرد، وعندئذٍ قال: «لا بأس؛ ولكن إن ظَهَر، من فضلكِ أرسليه إلى هذا العنوان.» وترك لي العنوان وشلنًا مقابل أتعابي. وبالطبع، بحثت في كل مكان، ووجدت أنه قد ترك طردًا ورقيًّا بُنِّيًّا، فأرسلتُه بالبريد إلى المكان الذي ذكره. لا يمكنني أن أتذكَّر العنوان الآن؛ إنه في مكان ما في مدينة وستمنستر، ولكن لمَّا كان ذلك الشيءُ يبدو شديدَ الأهمية، اعتقدتُ أن الشرطة ربما جاءت بشأنه.»

قال فالانتين باقتضاب: «وها قد جاءتْ.» ثم أضاف متسائلًا: «هل مرجة هامستيد هيث قريبة من هنا؟»

قالت المرأة: «مسيرة خمس عشرة دقيقة في هذا الاتجاه مباشرةً، وستصِلُ مباشرةً إلى الأرض المكشوفة.» انطلق فالانتين بسرعة خارجًا من المتجر وبدأ يركض، وتبعه المحققان الآخران وهما يهرولان في تقاعس.

كان الشارع الذي سلكوه بحذر ضيِّقًا جدًّا وتطوقه الظلال حتى إنهم عندما خرجوا فجأةً إلى الأرض المشاع الخالية والسماء الواسعة اندهشوا عندما وجدوا أن المساء ما زال لم يحلَّ بعدُ والسماء صافية. انغمست قُبَّة رائعة من لون أخضر طاووسي في لون ذهبي وسط الأشجار القاتمة والآفاق البنفسجية المظلمة. كان اللون الأخضر المتوهج قاتمًا بما يكفي ليُبيِّن موضع نجمة أو نجمتين كريستاليتين، وكان كلُّ ما تبقَّى من ضوء النهار عبارة عن بريق ذهبي يُغطي حافة منطقة هامستيد وتلك المنطقة الخالية المعروفة التي تُدعَى فيل أوف هيلث. لم يكن المتنزهون الذين يجوبون هذه المنطقة قد تفرَّقوا تمامًا؛ إذ جلس بعض الناس متناثرين في أزواج عديمة الشكل على الأرائك؛ وهنا وهناك تجدُ فتاة من بعيد لا تزال تصرخ مذعورة على إحدى الأرجوحات. ازدادت السماء عظمةً وطوَّقت تحت ظلمتها الانحطاطَ الفجَّ للإنسان؛ وبينما كان فالانتين واقفًا عند بداية المنحدر يُلقي نظرةً شاملة على الوادي، رأى ما كان يبحث عنه.

وسط الظلمة والتجمعات الآخذة في التفرُّق كان يوجد في ذلك المدى تجمُّعٌ لم يتفرَّقْ ويتَّسم بسواد من نوع خاص؛ تجمُّعٌ من شخصين يرتديان ملابس رجال الدين، ورغم أنهما كانا يبدوانِ صغيرَين كالحشرات، استطاع فالانتين أن يرى أن أحدهما كان أصغر كثيرًا في الحجم من الآخر، ورغم أن الآخر كان يتخذ وضع انحناء تلميذ لمعلمه وكانت هيئتُه غيرَ واضحة، استطاع أن يرى أن طول الرجل كان أكثرَ من ست أقدام. أطبقَ فمَه ومضى إلى الأمام، وهو يلفُّ عصاه في الهواء في نفاد صبر. وعندما قطع قدرًا كبيرًا جدًّا من تلك المسافة وتعاظَم حجمُ الشخصين المتَّشحَين بالسواد كما في مجهر ضخم، كان قد أدرك شيئًا آخر؛ شيئًا أجفله، ولكنه كان قد توقَّعه بطريقة ما. أيًّا كانت هوية القسِّ الطويل القامة، فإنه لم يكن ثمةَ شكٌّ بشأن هوية القسِّ القصير. كان صديقَه من قطار هارويتش، الراعي الروحي لأبرشية إسكس، القصير الممتلئ، الذي حذَّره بشأن طروده الورقية البُنِّيَّة.

حينئذٍ، وإلى الحدِّ الذي وصل إليه هذا الأمر، اتَّسق كلُّ شيء أخيرًا وعلى نحوٍ منطقيٍّ بقدرٍ كافٍ. كان فالانتين قد علم عن طريق استفساراته هذا الصباح أن الأب براون من إسكس كان يجلب معه صليبًا فضيًّا مُطعَّمًا بالياقوت الأزرق، وهو أثرٌ مقدَّس كان له قيمةٌ كبيرة، ليُريَه لبعض القساوسة الأجانب في المؤتمر. كانت هذه دون شك هي «الفضة المطعَّمة بأحجار كريمة زرقاء»؛ وكان الأب براون دونما شكٍّ هو الرجل الأغرُّ الصغير الحجم الذي كان في القطار. والآن لم يكن ثمةَ غرابةٌ في أن ما توصَّل إليه فالانتين كان فلامبو قد توصَّل إليه أيضًا؛ لقد توصَّل فلامبو إلى كل شيء. أيضًا لم يكن ثمةَ غرابةٌ في أنه عندما سمع فلامبو بأمر صليب مطعَّم بالياقوت الأزرق كان لا بد أن يحاول سرقتَه؛ فذلك أكثرُ أمرٍ طبيعي في التاريخ الطبيعي كلِّه. وبكل تأكيد لم يكن ثمةَ غرابةٌ في أن فلامبو كان لا بد وأن يحصل عليه بطريقته الخاصة في ظلِّ وجود شخص سخيف مُنقاد مثل الرجل صاحب المظلة والطرود. كان من نوعية الرجال الذين يمكن لأي أحد أن يقتادَهم بحَبْل إلى القطب الشمالي؛ فلم يكن من المفاجئ أن ممثلًا مثل فلامبو، متنكِّرًا في هيئة قَسٍّ آخر، يمكن أن يقودَه إلى مرجة هامستيد هيث. إلى ذلك الحدِّ بدتِ الجريمةُ واضحةً بما يكفي؛ وبينما أشفق المحقِّقُ على القسِّ لقلَّةِ حيلته، شعر تجاه فلامبو بالاحتقار لانحداره في الإجرام إلى مستوى الإيقاع بضحية بهذا القدر من السذاجة. ولكن عندما فكَّر فالانتين في كل ما جرى في غمار ذلك من أحداث، وفي كل ما قاده إلى انتصاره، قدَح ذهنَه من أجل التوصُّلِ إلى تفسيرٍ منطقيٍّ للأمر؛ ما العلاقة بين سرقة صليبٍ فضِّيٍّ مطعَّم بالياقوت الأزرق من قَسٍّ من إسكس وإلقاء الحساء على ورق الحائط؟ وما العلاقةُ بين السرقة وتسمية المكسرات برتقالًا، أو دفع ثَمَن النوافذ أولًا وتحطيمها بعد ذلك؟ كان قد وصل إلى نهاية مطاردته؛ ومع ذلك غاب عنه، بطريقةٍ ما، استيعابُ ما جرى أثناءها من أحداث. عندما كان يفشل في مهمة ما (الأمر الذي نادرًا ما كان يحدث)، عادةً ما يكون قد توصَّل إلى مفتاح اللغز، ولكنه أخفق في الإمساك بالمجرم، أما في هذه الحالة، فقد توصل إلى المجرم، ولكن لم يتمكَّن من التوصل إلى مفتاح اللغز.

كان الشخصان اللَّذان يتبعونَهم يتقدَّمان ببطء مثل ذباب أسود عبَرَ تضاريسَ خضراءَ ضخمة لتَلَّةٍ. كان باديًا بجلاءٍ انغماسُهما في محادثة محتدمة، ولعلهما لم يلحظا الموضع الذي كانت أقدامُهما تقودهما إليه؛ إلا أنه كان من المؤكَّد أنهما كانا ماضيَين نحو مرتفعات مرجة هامستيد هيث الأكثر قَفْرًا وسكونًا. ومع دُنوِّ ملاحقيهما منهما، اضطرَّ المطاردون إلى استخدام الأوضاع الجسمانية المهينة التي يستخدمها مطاردو الغزلان، كالجثوم والاختباء خلفَ الأَجَماتِ، بل والزحفِ منبطحَين على أربعٍ وسط العُشْب الطويل. بهذه الأوضاع البارعة الصعبة دنا الصيادون من فريستَيهما بمسافة كافية حتى إنه صار بمقدورهم أن يسمعوا حديثهما كهمهمةٍ، ولكنهم لم يستطيعوا تبيُّنَ أيِّ كلمة عدا كلمةَ «منطق» تتكرَّر مرارًا بصوتٍ عالٍ ويكاد يكون طفوليًّا. ما إن صار المحققون فوق أرضٍ منحدرة شديدة الانحدار وأَجَمات كثيفة متشابكة، حتى كادوا أن يفقدوا تمامًا أثرَ الشخصين اللذَين كانوا يتبعونهما، ولم يعثروا على أثرِهما مجدَّدًا مدة عشر دقائق أصابهم خلالها كربٌ عظيم، وبعدئذٍ دار أثرُهما مؤدِّيًا إلى حافة تلَّةٍ كبيرة على شكل قُبَّة تُشرِف على أرض منبسطة في خلفيَّتها مشهدُ غروب موحِش وزاخر بالألوان. تحت إحدى الأشجار في هذه البقعة المهيبة المهملة كان يوجد مقعدٌ خشبي قديم مُتَداعٍ، وعلى هذا المقعد جلس القسَّان اللذان كانا لا يزالان منخرطَيْن في حديثٍ جادٍّ معًا. كان اللونان الأخضر والذهبي لا يزالان يتشبَّثان بالأُفق الذي كانت ظلمتُه آخذةً في التزايد؛ ولكن القُبَّة التي كانت تعلوه كانت تتحوَّل ببطءٍ من اللون الأخضر الطاووسي إلى اللون الأزرق الطاووسي، وانفصلَتِ النجومُ أكثر فأكثر مثل جواهر متراصَّة. مُصدِرًا إشارةً صامتة لتابعيه، تمكَّن فالانتين من التسلُّلِ خلف الشجرة الكبيرة المتفرعة الأغصان، وبينما كان واقفًا هناك في صمْتٍ تامٍّ، سمع كلماتِ القَسَّين الغريبين لأول مرة.

بعد أن أخَذ يستمع لدقيقة ونصف، تملَّكه شكٌّ شديدٌ جدًّا؛ فقد صار لديه احتمالٌ أنه قد جرَّ الشُّرطيَّين الإنجليزيين إلى مرجةٍ مقفرة ليلًا في مهمةٍ تُضاهي في جنونها البحثَ عن التين في نباتاته الشوكية؛ إذ كان القسَّان يتحادثان مثل القساوسة تمامًا، بورعٍ، وبسعة اطلاع وتمهُّلٍ، عن غوامض علم اللاهوت السامية. كان قس إسكس الصغير الحجم يتحدَّث ببساطة أكثر، ووجهه المستدير متَّجِهٌ نحو النجوم التي تزداد تَلأْلُؤًا؛ بينما تحدَّث الآخر ورأسه مُطأطأ، كما لو أنه لم يكن يستحقُّ حتى أن ينظر إلى تلك النجوم. بيد أن الحديث لم يكن يعدو أن يكون حديثًا كَهَنُوتِيًّا بريئًا يمكن للمرء أن يسمعه في أي رُواق أبيض مَسْقوف في دير إيطالي أو في أي كاتدرائية إسبانية ذات جدران سوداء.

كان أول ما سمعه هو الجزء الأخير من واحدةٍ من جمل الأب براون والتي انتهَتْ بقوله: «… ما كانوا يقصدونه حقًّا في العصور الوسطى من كون السموات غير قابلة للتغيير.»

هزَّ القَسُّ الأطول رأسَه المُطأطأ وقال: «آه، نعم، يحتكم أولئك الكفار المعاصرون إلى مَنطقِهم؛ ولكن مَن بمقدوره أن ينظر إلى تلك الملايين من العوالم دون أن يشعر بأنه قد يكون ثمَّةَ وجودٌ لأكوان رائعة فوقنا حيث المنطقُ فيها غيرُ منطقي على الإطلاق؟»

قال القَسُّ الآخر: «لا؛ فالمنطق منطقي دومًا، حتى في المطهر الأخير، عند الحدود الضائعة للأشياء. أعرف أن الناس يتهمون الكنيسة بالاستهانة بالمنطق، ولكن العكس تمامًا هو الصحيح؛ فلا أحدَ على ظهر الأرض يُعْلي من شأن المنطق مثل الكنيسة، ولا أحدَ على ظهر الأرض يُقرُّ بأن الربَّ نفسه يخضع للمنطق سوى الكنيسة.»

رفع القَسُّ الآخر وجهَه العابس نحو السماء المرصعة بالنجوم، وقال: «ولكن مَن يعرف إن كان يوجد في ذلك الكون اللامُتَنَاهي …؟»

قال القَسُّ الصغير الحجم، مستديرًا بحدَّة في مقعده: «لا مُتناه من الناحية المادية فقط.» ثم أضاف: «ليس لا متناه بمعنى التملُّص من قوانين الحقيقة.»

خلفَ الشجرة كان فالانتين آخذًا في قضْم أظافره في حنَق صامت. بدا وكأنه يكاد يسمع الضحكاتِ المكبوتة للمحققَين الإنجليزيين اللذَين أتى بهما إلى ذلك المكان البعيد استنادًا إلى تخمين خيالي فقط لكي يستمعا إلى الثرثرة الميتافيزيقية للقسين المسنَّين اللطيفين. وفي غمرة تململه فاته الاستماعُ إلى إجابة رجل الدين الطويل التي كانت مفصَّلة بالقدر نفسه، وعندما عاود الاستماع ثانية كان الأب براون هو من يتحدث:

«المنطق والعدل يتحكمان في أبعد النجوم وأكثرها وحدة. انظر إلى كل تلك النجوم، ألا تبدو وكأنها ألماسات وياقوتات فريدة من نوعها؟ حسنًا، يمكنك أن تتخيَّل أيَّ نبات أو تركيب صخري غير منطقي شئت. تصوَّرْ غابات من حجر الأدمنت له أوراق من الأحجار الكريمة؛ تصوَّرْ أن القمر عبارة عن قمر أزرق، ياقوتة زرقاء ضخمة واحدة، ولكن لا تتوهَّم أن كل ذلك الفلك المحموم يمكن أن يُحدِث أدنى تغيير في منطق وعدالة التدبير؛ ففوق سهول من حجر الأوبال الكريم، وتحت جروف منحوتة من اللؤلؤ، سيبقى موجودًا لافتة تحذيرية مكتوب عليها «لا تسرق».»

كان فالانتين على وشك النهوض من وضعية القرفصاء القاسية التي كان عليها والتسلل بعيدًا بهدوء قدر الإمكان، وقد تملَّكه أعظمُ شعور بالحماقة في حياته، غير أن شيئًا ما في صمْت القَسِّ الطويل جعله يتوقَّف حتى تكلَّم الأخير، وعندما تكلم أخيرًا، قال ببساطة، ورأسُه مطأطأٌ ويداه على ركبتَيه: «حسنًا، أعتقد أن العوالم الأخرى قد تتسامى عن منطقنا؛ إن سرَّ السماء الغامض أَعمق من أن يُسْبَرَ غَورُه، وأنا شخصيًّا لا أملِكُ سوى أن أُحني رأسي.»

ثم، بحاجبين لا يزالان مقطَّبَين وبدون أن يبدوَ أدنى تغيُّرٍ في وضعيَّتِه أو صوته، أضاف:

«فقط أعطني صليبَك المطعم بالياقوت الأزرق، أستفعل أم لا؟ نحن وحدنا تمامًا هنا، ويمكنني أن أمزِّقَك إرْبًا مثل دُميةٍ من القشِّ.»

أضاف الصوتُ والوضعية اللذان لم يتبدَّلا مطلقًا عنفًا غريبًا إلى ذلك التغيُّر المُرَوِّع في الحديث. ولكنَّ حارسَ الأثر المقدَّس، على ما يبدو، لم يأتِ بأي ردَّة فعل سوى أن أدار رأسَه قليلًا جدًّا، وظلَّ، كما بدا، محتفظًا بتعبير أحمق نوعًا ما على وجهه الذي كان يُولِّيه صوبَ النجوم. ربما لم يكن قد استوعب ما قيل، أو، ربما استوعبه وجلس بلا حَراك يتملَّكه الرعبُ.

قال القَسُّ الطويل، بنفس الصوت الخفيض وبنفس وضعية جسده الساكنة: «نعم، نعم، أنا فلامبو.»

ثم، بعد توقُّفٍ قصير، قال: «هيَّا، هلَّا أعطيتني ذلك الصليب؟»

قال الآخر: «لا.» وكان للكلمة الأحادية المقطع جَرْسٌ غريب.

فجأةً طرح فلامبو عنه كلَّ ادعاءاته الكهنوتية. عاد اللصُّ الكبير بظهره إلى الوراء وأسنده إلى مقعده وضحك ضحكةً منخفضة الصوت ولكنها كانت طويلة.

صاح قائلًا: «لا، لن تعطيَه لي، أيها الأسقف المغرور. لن تعطيَه لي، أيها المُغفل الضئيل المُتَبتِّل. هل تريد أن أُخبرك لماذا لن تعطيَه لي؟ لأنه معي بالفعل في الجيب الداخلي لمِعطفي.»

أدار الرجل الصغير الحجم ما بدا في الغَسَق أنه وجه مذهول، وقال بلهفة جبانة متردِّدة كلهفة شخصية القَسِّ روبرت سبالدنج في مسرحية «السكرتير الخاص»:

«هل … هل أنت متأكد؟»

قهقه فلامبو باغتباط ثم صاح قائلًا: «حقًّا، أنت مُسَلٍّ كمسرحية هزلية من ثلاثة فصول. نعم، أيها الأحمق، أنا متأكد تمامًا؛ فقد كان لدي من الفطنة وحسن التقدير ما جعلني أصنع نسخة من الطرد الصحيح، والآن، يا صديقي، بحوزتك النسخة وبحوزتي أنا الجواهر. حيلة قديمة، أيها الأب براون، حيلة قديمة جدًّا.»

قال الأب براون: «نعم.» ومرَّر يده عبر شعره بنفس المسلك الغامض الغريب، وأضاف: «لقد سمعتُ بها من قبلُ.»

مالَ عملاق الجريمة بجذعه ناحية القَسِّ الريفي الضئيل بنوع من الاهتمام الفجائي.

سأله: «سمعتَ بها من قبلُ؟ أين سمعتَ بها؟»

قال الرجل الصغير الحجم ببساطة: «حسنًا، لا ينبغي أن أخبرَك باسمه، بالطبع. كان شخصًا أتاني للاعتراف من أجل التوبة. أقبلتْ عليه الدنيا لنحو عشرين عامًا وعاش معتمدًا بالكامل على تبديل طرود ورقيَّة بُنِّيَّة طبقَ الأصل، وهكذا، عندما بدأتُ أشكُّ في أمرك، فكَّرتُ على الفور في طريقة هذا الرجل المسكين في القيام بالأمر.»

كرَّر المجرمُ قوله بحدَّة أكبرَ: «بدأتَ تشكُّ في أمري؟ هل كان لديك حقًّا الفطنة لكي تشكَّ في أمري لمجرد أنني جئتُ بك إلى هذا القِسْم الخالي من المرجة؟»

قال الأب براون بطريقة تنمُّ عن الاعتذار: «لا، لا، ما أقصده هو أنني شككتُ في أمرك منذ التقينا؛ إنه ذلك الانتفاخُ الصغير الذي يبرُز من الكُمِّ حيث تضعون السوار ذا الثقوب المسمارية.»

صاح فلامبو: «بحقِّ الجحيم! كيف سمعتَ بالسوار ذي الثقوب المسمارية؟»

قال الأب براون رافعًا حاجبَيه وقد بدا وجهُه خاليًا من التعبير نوعًا ما: «أوه، من رَعِيَّة الكنيسة القليلين خاصَّتي، تعرف ما أقصد! عندما كنتُ مساعِدَ كاهِنٍ في مدينة هارتلبول، كان ثلاثةٌ من رعيتي يلبسون أساوِر ذات ثقوب مسمارية. وهكذا، إذ شككتُ في أمرك منذ البداية، تأكَّدتُ من أن الصليب ينبغي أن يذهب في أمان. بأي طريقة، يؤسفني القول إنني كنتُ أراقبُك، وهكذا في النهاية رأيتك تُبدِّل الطردَين، ثم، بدلتُهما أنا مجددًا، وبعد ذلك تخليتُ عن الطرد الصحيح.»

كرَّر فلامبو قولَه بنبرة تساؤل: «تخليتَ عنه؟» ولأول مرة تظهر نبرةٌ أخرى في صوته غير نبرة الانتصار.

قال القَسُّ الصغير الحجم، متحدِّثًا بالطريقة غير المتكلَّفة نفسها: «حسنًا، هذا ما حدث. عدتُ إلى محل الحلوى وسألتُ إن كنتُ قد تركتُ طردًا، وأعطيتهم عنوانًا معينًا ليرسلوه إليه لو ظهر. حسنًا، كنتُ أعرف أنني لم أترك أيَّ طرد؛ ولكن عندما كنت مغادرًا مجددًا، فعلتُ ذلك. وهكذا، بدلًا من اللحاق بي وإعطائي ذلك الطرد القيم، أرسلوه سريعًا إلى صديق لي في وستمنستر.» ثم أضاف بحزن نوعًا ما: «تعلَّمتُ ذلك، أيضًا، من شخص مسكين في هارتلبول. كان معتادًا على فعل ذلك مع حقائب اليد التي كان يسرقها في محطات القطار، ولكنه في أحد الأديرة الآن. المرء يعرف تلك الأمور من اعترافات الناس، تَعرفُ ما أَعني.» وأضاف، وهو يفرك رأسه مجددًا بنفس النوع من الاعتذار الشديد: «لا يسعنا إلا أن نكون قساوسة. الناس يأتون إلينا ويخبروننا بهذه الأمور.»

انتزع فلامبو طردًا ورقيًّا بُنِّيًّا من الجيب الداخلي لمعطفه ومزَّقه تمزيقًا. لم يكن يحتوي بداخله على أي شيء سوى ورقٍ وعِصِيٍّ من الرصاص. هَبَّ واقفًا بإيماءة مهولة، وصاح: «أنا لا أصدِّقُك. لا أصدِّقُ أن ريفيًّا جلفًا مثلك يمكنه أن يُدبِّرَ كل ذلك. أعتقد أن الصليب ما زال معك، وإن لم تسلمْه … عجبًا، نحن وحدنا تمامًا، ولسوف آخذُه بالقوة!»

قال الأب براون ببساطة: «لا.» وانتصب واقفًا هو الآخر قائلًا: «لن تأخذَه بالقوة. أولًا، لأنه حقًّا لم يَعُدْ بحوزتي، وثانيًا، لأننا لسنا وحدنا.»

توقَّف فلامبو عن تقدُّمِه نحوه.

قال الأب براون، وهو يُشير بيده: «خلف تلك الشجرةِ يوجد شُرطِيَّان قويَّان وأعظم محقِّق على قيد الحياة. لعلك تتساءل، كيف جاءوا إلى هنا؟ أنا مَن أتيتُ بهم بالطبع! ولعلك تتساءل أيضًا، كيف فعلتُ ذلك؟ حسنًا، سأخبرك إن شئتَ! الرب يباركك، نحن مجبورون على أن نعرف الكثير من تلك الأمور عندما نعمل بين أوساط المجرمين! في الحقيقة، لم أكن متأكِّدًا من كونك لصًّا، ولم يكن من الصواب على الإطلاق التسبُّبُ في فضيحةٍ لواحدٍ منَّا نحن رجال الدين؛ لذا كان كل ما فعلته هو أنني اختبرتُكَ لأتبيَّن إن كان من الممكن لأيِّ شيء أن يجعلَك تُظهِر حقيقتَك. عادةً ما يُحْدِث المرء بعض الجلَبةِ إذا وجَد مِلحًا في قهوته؛ فإن لم يفعل، فلا بد أن لديه سببًا يجعله يلزم الصمت، ولقد بدَّلْتُ المِلح والسكر، والتزمتَ أنت الصمت. وعادةً ما يعترض المرء إذا ما كانت قيمةُ فاتورته أكبر مما ينبغي بثلاثة أضعاف؛ فإن دفَعها، فلا بد أن لديه دافعًا ما لجعْلِ الأمر يمرُّ مرور الكرام، ولقد بدَّلتُ فاتورتك، وأنت دفعتَها.»

بدا وكأن العالم في انتظار أن ينقضَّ عليه فلامبو مثل وحش كاسر، غيرَ أن شيئًا ما ألجمه وكأنه واقع تحت تأثير تعويذة ما؛ كان ما أذهله هو شعوره بأقصى درجات الفضول.

تابع الأب براون كلامَه بوضوح متمهل: «حسنًا، مثلما لم تكن لتترك وراءك أيَّ أثر قد تتبعه الشرطة، كان على أحدهم بالطبع أن يفعل ذلك. في كل مكان ذهبنا إليه، حرصتُ على أن أفعل شيئًا يجعلنا مثارَ الحديث لبقية اليوم. لم أتسبَّب في إحداث أضرار كبيرة؛ مجرد حائط ملطَّخ، وتفاحات أُسقطت وتبعثرَت، ونافذة مكسورة؛ ولكني أنقذت الصليب، مثلما سيبقى صليب المسيحية محفوظًا دومًا؛ لقد أصبح الآن في وستمنستر. ما أتعجب له بعضَ الشيء هو أنك لم تُوقفه بواسطة «صافرة الحمار».»

تساءل فلامبو: «بماذا؟»

قال القَسُّ، وقد بدا على وجهه تعبيراتٌ مضحكة: «أنا سعيد أنك لم تسمع بها أبدًا. إنها شيء سيئ، وأنا متأكِّد من أنك أفضل كثيرًا من أن تستخدمها، فما كنتُ أنا نفسي لأتمكن من مجابهة الأمر ولو حتى بواسطة «المكابح»؛ فساقاي ليستا بالقوة الكافية.»

قال الآخر متسائلًا: «بحق السماء، ما هذا الذي تتحدث عنه؟»

قال الأب براون، مندهشًا اندهاشًا مُستحسِنًا: «حسنًا، لقد اعتقدتُ أن من شأنك أن تكون على علم بالمواقع. آه، لا يمكن أن تكون قد وصلت بعدُ في طريق الخطيئة إلى هذه الدرجة!»

صاح فلامبو: «كيف، بحق الجحيم، تعرف كل هذه الأهوال؟»

لاح شبحُ ابتسامة سريعًا على الوجه البسيط المستدير لغريمه رجل الدين.

«أظن من خلال كوني ذلك المُغفل المُتَبَتِّل، كما نعتَّني. ألم يخطُرْ ببالك قط أن الرجل الذي لا يفعل شيئًا سوى الإصغاء إلى الآثام الحقيقية للرجال من المستبعد أن يكون جاهلًا تمامًا بشرور البشر؟ ولكن، في حقيقة الأمر، ثمةَ جانبٌ آخر من مهنتي، أيضًا، جعلني متأكِّدًا من أنك لستَ قَسًّا.»

تساءل اللصُّ، وهو فاغر فاه: «ماذا؟»

قال الأب براون: «هجومُك على المنطق. إنه أمر سيئ لاهوتيًّا.»

وفي الوقت الذي أدار فيه ظهرَه ليجمع أشياءه، برز الشُّرطيُّون الثلاثة من تحت الأشجار المكسوة بأضواء الشفق. كان فلامبو فنَّانًا وذا روح رياضية؛ لذا تراجع خطوة إلى الوراء وانحنى لفالانتين انحناءةً كبيرة.

قال فالانتين بوضوح فصيح: «لا تنحنِ لي، يا صديقي، فلينحنِ كلانا لأُستاذنا.»

ورفع كلاهما للحظةٍ قبَّعتَيهما للقَسِّ الصغير الحجم القادم من إسكس في الوقت الذي كان فيه يجول بعينيه نصف المغمضتين بحثًا عن مظلَّته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤