الفصل السادس

استأنفَ العجوزُ قصَّتَه قائلًا: «أمضيتُ ثلاثة أسابيع في عذابٍ لا ينتهي هناك في مُخيَّم الشوفير. وبعد ذلك، ضجرًا مِنِّي أو ممَّا كان يعتبِره تأثيري السَّيئ على فِستا، أخبرَني أنه بينما كان يتجوَّل في العام الماضي بين تلال كونترا كوستا مُتجهًا إلى مَضيق كاركينيز، أبصرَ عبر المَضيق دُخانًا. كان هذا معناه أنه يُوجَد بشرٌ آخرون، وأنه قد أخفى عنِّي تلك المعلومة التي لا تُقدر بثمنٍ على مدى ثلاثة أسابيع. غادرتُ على الفور مع كلبيَّ وحصاني، وسافرتُ عبر تلال كونترا كوستا مُتجهًا إلى المضيق. لم أرَ أي دخانٍ على الجانب الآخر، لكنني حين وصلتُ إلى بورت كوستا، وجدتُ بارجةً فولاذية استطعتُ أن أحمل عليها حيواناتي، ووجدتُ قطعةً قديمة من القماش جعلتُها شراعًا لي، وساقَني نسيمٌ جنوبيٌّ عبر المضيق وصولًا إلى أطلال فاليهو في الشمال. هنا، على حدود المدينة، وجدتُ آثارًا تدلُّ على مُخيَّم أقام فيه بشرٌ منذ وقتٍ قريب.

figure
«وجدت آثارًا تدلُّ على مُخيَّم أقام فيه بشرٌ منذ وقتٍ قريب.»

عثرتُ على العديد من أصداف المحار، مما فسَّر لي السببَ في مجيء هؤلاء البشر إلى شُطآن الخليج. كانت هذه هي قبيلة سانتا روزا، وقد تتبعتُ مسارَها على طول طريق السكة الحديدية القديمة، عابرًا المُستنقعات الملحِيَّة إلى وادي سونوما. هنا، عند مصنع الطوب القديم في جلِن إلين، عثرتُ على المُخيَّم. كان جميع الموجودين فيه ثمانية عشر فردًا، منهم رجلان عجوزان؛ أحدُهما جونز الذي كان يعمل في أحد المصارف، والآخر هاريسون الذي كان مُرتِهنًا مُتقاعدًا، وقد تزوَّج مُشرفة مستشفى الأمراض العقلية في نابا. من بين جميع الأشخاص الآخرين في مدينة نابا وفي المدن والقرى الأخرى التي كانت تقع بهذا الوادي الغني المُزدحم بالسكان، كانت هي الوحيدة التي نجَتْ. وبالإضافة لهم، كان يُوجَد ثلاثة شُبَّان، كارديف وهيل اللذان كانا مُزارِعَين، ووينرايت الذي كان عامِلًا باليومية. وجدوا جميعًا زوجاتٍ لهم. هيل المزارع الأُمِّي الفظ، تزوَّج إيزادور، أروع النساء — بعد فِستا — اللائي نجَونَ من الطاعون. لقد كانت واحدةً من أشهر المُطربات في العالَم، وقد أدركَها الطاعون وهي في سان فرانسيسكو. لقد كانت تتحدَّث معي لساعاتٍ تُخبرني فيها عن مُغامراتها إلى أن أنقذَها هيل أخيرًا في مَحميَّة غابة مندوسينو، وبعدَها لم يتبقَّ لها شيءٌ سوى أن تُصبح زوجته. غير أنَّ هيل كان رجلًا صالحًا؛ فقد كان لدَيه حسٌّ قوي بالعدالة وتأدية الحقوق على الرغم من أُمِّيتِه. وقد كانت أسعدَ حالًا من فِستا التي كانت تُعاني أيَّما معاناة مع الشوفير.

زوجتا كارديف ووينرايت، كانتا من النساء العاديَّات، ألِفَتا العملَ الشاقَّ ببنيةٍ قوية: كان ذلك هو النوع المُلائم للحياة البرية الجديدة التي اضُطرَّتا إلى عَيشها. وإضافةً إلى هؤلاء، كان هناك اثنان من البالغين البُلهاء يُقيمان بدارٍ لضِعاف الذهن في إل-دريدج، وخمسة أو ستة من الأطفال والرُّضَّع وُلدوا بعد تشكيل قبيلة سانتا روزا. وكانت هناك بيرثا أيضًا. كانت امرأةً صالحة يا هير-ليب بالرغم من ازدراء أبيك لها. وقد اتخذتُها زوجةً لي. إنها أم أبيك يا إدوين، وأبيك أنت أيضًا يا هو-هو. وقد كانت ابنتُها فيرا، هي من تزوَّجَت أباك ساندو يا هير-ليب، والذي كان الابنَ الأكبر لفِستا فان ووردن والشوفير.

وهكذا أصبحتُ الفردَ التاسع عشر في قبيلة سانتا روزا، ولم يُضَف بعدي من الغرباء سوى اثنَين آخرين. أحدُهما كان منجرسون، الذي كان سليلًا للأقطاب، والذي تجوَّل وحيدًا في براري شمال كاليفورنيا لمدة ثماني سنواتٍ قبل أن ينضمَّ إلينا. كان هو مَن انتظر اثنَي عشر عامًا كي يتزوَّج ابنتي ماري. وأما الآخر، فقد كان جونسون الذي أسَّس قبيلة يوتا. كان ذلك اسمَ المكان الذي جاء منه، يوتا، ذلك البلد الذي يقع بعيدًا جدًّا عن هنا على الجهة الأخرى من الصحارى الكبرى باتِّجاه الشرق. لم يصِل جونسون إلى كاليفورنيا إلا بعد سبعةٍ وعشرين عامًا. لقد أخبرَنا أنه لم ينجُ من إقليم يوتا بأكمله سوى ثلاثة أشخاص، هو ورجُلان آخران. عاشَ هؤلاء الرجال الثلاثة معًا على مدى عدة سنوات، وكانوا يصطادون معًا إلى أن يئسوا أخيرًا وخشوا أن ينتهي الجنس البشري تمامًا على الكوكب بمَوتِهم؛ فتوجَّهوا إلى الغرب على أمَلِ أن يجدوا نساءً قد نجونَ في كاليفورنيا. لقد عبر جونسون الصحارى الكبرى وحدَه، بينما مات فيها رفيقاه. كان يبلغ من العمر ستةً وأربعين عامًا حين انضمَّ إلينا، وقد تزوَّج الابنةَ الرابعة لإيزادور وهيل، وتزوَّج ابنُه الأكبر عمَّتَك يا هير-ليب، والتي كانت الابنة الثالثة لفِستا والشوفير. لقد كان جونسون رجلًا قويًّا، وله إرادتُه المُستقلة؛ ولهذا، فقد انفصلَ عن قبيلة سانتا روزا، وكوَّن قبيلة يوتا في سان هوزاي. إنها قبيلةٌ صغيرة ليس فيها سوى تسعة أفراد، لكن بالرغم من موته؛ فبسبب ما كان له من تأثيرٍ وبسبب قوة نسلِه، سوف تُصبح تلك القبيلة قبيلةً قوية وستؤدي دورًا مهمًّا في إعادة بناء الحضارة على الكوكب.

ثمة قبيلتان أُخرَيان فقط نعرفهما: قبيلة لوس أنجيليتوس وقبيلة كارميليتوس. لقد بدأت الثانية برجلٍ وامرأة. كان الرجل من نسل المكسيكيين القُدامى ويُدعى لوبيز، وقد كان شديد السُّمرة. كان يرعى البقر في المراعي التي تقع خلف كارميل، وكانت زوجتُه خادمةً في فندق ديل مونتي الرائع. مرَّت سبعُ سنواتٍ قبل أن نتواصَل مع قبيلة لوس أنجيليتوس. إنهم يعيشون في بلدةٍ جيدة في الجنوب، لكنها دافئة للغاية. إنَّ تقديري لعدد سكان العالم في الوقت الحالي يتراوح بين ثلاثمائة وخمسين فردًا وأربعمائة فرد. هذا إن لم يكن هناك قبائل أخرى صغيرة مُتناثرة في أماكن أخرى من العالم. إذا كانت مثل هذه القبائل موجودة، فنحن لم نعرف عنهم شيئًا؛ فمنذ أن عبر جونسون الصحراء من بلده يوتا، لم تأتِنا أي كلمة أو إشارة من الشرق أو أيِّ مكانٍ آخر. إنَّ العالم العظيم الذي عرفتُه في صباي وشبابي قد اندثر. لم يعُد موجودًا. إنني آخِرُ رجل عاشَ في زمن الطاعون ويعرفُ عجائبَ هذا الزمن البعيد. نحن الذين أحكمْنا سيطرتَنا على الكوكب أرضِه وبحرِه وسمائه، وكُنَّا نملك زمامَ كلِّ شيءٍ، أصبحنا نعيش الآن حياة الهمجية البدائية على سواحل مياه كاليفورنيا.

غير أنَّ عدَدَنا يزداد بسرعة؛ فأختُك يا هير-ليب، لدَيها أربعةُ أطفال بالفعل. إننا نزداد بسرعة ونتهيَّأ للنهوض من كبْوَتِنا كي نصنَعَ حضارةً جديدة. بمرور الوقت، سيُجبرنا النموُّ السكاني على الانتشار عبر مناطق أوسع، وبعد مئات الأجيال من الآن، يُمكننا أن نتوقَّع من أحفادنا أن يبدءوا في عبور جبال سييرا، وأن يتقدَّموا ببطءٍ عبر القارة الكبيرة جيلًا بعد جيل، إلى أن يصلوا إلى استعمار الشرق، في زحفٍ جديدٍ للآرية حول العالم.

غير أنَّ ذلك سيحدُث ببطءٍ، أجل، ببطءٍ شديدٍ؛ إذ أمامنا مشوارٌ طويل للصعود من جديدٍ فلقد وقعْنا بلا حولٍ منَّا أو قوة إلى قاعٍ سحيق. كم تمنَّيتُ لو أنَّ فيزيائيًّا واحدًا أو كيميائيًّا واحدًا نجا! غير أنَّ ذلك لم يحدُث، ونَسينا كلَّ شيء. لقد بدأ الشوفير الاشتغالَ بمهنة الحدادة. لقد صنع الكُور الذي نَستخدِمه حتى يومِنا هذا، لكنه كان رجلًا كسولًا، وحين ماتَ أخذ معه كلَّ ما يعرفه عن المعادن والآلات. ما الذي كنتُ سأعرفه أنا عن مثل هذه الأشياء؟ لقد كنتُ أستاذًا كلاسيكيًّا، ولم أكن عالِم كيمياء. وأما الرجال الآخرون الذين نجَوا، فلم يكونوا مُتعلِّمين. لم يُنجِز الشوفير سوى شيئين فقط: صناعة خمْر قوي، وزراعة التَّبغ. لقد قتل فِستا في إحدى مرَّات سُكره. إنني أُومِنُ تمامًا أنه قتلها في إحدى نوبات العربدة التي كانت تنتابه عند السُّكر، بالرغم من أنه كان يؤكِّد دومًا أنها سقطتْ في البحيرة وغرقت.

ودعوني يا أحفادي أُحذركم من المُعالجين الرُّوحيين. إنهم يُسمُّون أنفسهم «أطباء»، مُشوِّهين بذلك ما قد كان من قبلُ مهنةً نبيلة، لكنهم في الحقيقة رجالٌ أشرار للغاية، وهم يُروجون للخُرافة والظلام. إنهم مُخادعون كاذِبون، غير أنَّنا قد صِرنا في مكانةٍ وضيعة ومُنحطة فأصبحنا نُصدِّق أكاذيبهم. هم أيضًا سيزدادون عددًا بينما نزداد نحن، وسوف يسعَون إلى أن يحكمونا. غير أنهم كاذبون ودجَّالون. انظروا إلى كروس-آيز الشاب وهو يتقلَّد دورَ الطبيب، فيبيع التعاويذ للتغلُّب على المرض ولجلب الصيد الجيد، ويُقايض الوعود بحلول طقسٍ حسنٍ مُقابل اللحوم وجلود الحيوانات، ويُرسِل عصا الموت، ويفعل ألفًا من المُوبقات. غير أني أقولُ لكم إنه يكذِب حين يقول إنه يستطيع أن يفعل هذه الأشياء. أنا البروفيسور سميث، البروفيسور جيمس هوارد سميث، أقولُ إنه يكذِب. وقد واجهتُه شخصيًّا بذلك. لماذا لم يرسل لي عصا الموت؟ لأنه يعرف أنَّ ذلك لن يُجدي معي نفعًا. أما أنت يا هير-ليب، فأنت غارقٌ للغاية في الخُرافة السَّوداء، حتى إنك إن استيقظتَ ذات ليلةٍ ووجدتَ عصا الموت بجانبك، فسوف تموتُ حتمًا. وسوف تموتُ لا لأي ميزةٍ في تلك العصا، وإنما لأنك همَجيٌّ، وعقلك مُعتِم ومُظلم كعقول الهمَج.

لا بدَّ من القضاء على الأطباء واكتشاف كلِّ ما قد ضاعَ من جديد. ولهذا فإنني أجتهد في أن أُعيد عليكم بعضَ الأشياء التي يجِب عليكم أن تتذكَّروها وتنقلوها لأبنائكم من بعدكم. يجب أن تُخبروهم أنه عند تسخين المياه باستخدام النار، ينتُج عنها شيءٌ رائع يُسمَّى البخار، وهو أقوى من عشرة آلاف رجل، ويمكن أن يؤدِّي عمل الإنسان بدلًا منه. ويوجَد الكثيرُ من الأشياء المُفيدة للغاية كذلك؛ ففي وَميض البرق أيضًا، يكمُن خادِم قويٌّ للإنسان كان ذات يوم عبدًا، وسوف يصير عبدًا له من جديدٍ ذات يومٍ من الأيام.

figure
«في ذلك الكهفِ الجافِّ احتفظتُ بالعديدِ من الكُتب.»

وثمَّة أمرٌ آخر مختلف بعض الشيء، وهو الحروف الأبجدية. إنها ما يُمكِّنني من معرفة معنى العلامات الدقيقة، بينما أنتم أيُّها الصبية لا تعرفون سوى الكتابة البدائية بالصُّوَر. في ذلك الكهفِ الجافِّ الذي يقع في تيليجراف هيل، حيث ترَونَني أذهبُ كثيرًا حين تذهب القبيلة إلى الأسفل بجوار البحر، احتفظتُ بالعديدِ من الكُتب. في هذه الكتب حِكمةٌ عظيمة. ومعها أيضًا قد وضعتُ دليلًا للأبجدية، حتى يتمكَّن من يعرفون الكتابة بالصُّوَر أن يفهموا الكتابة المطبوعة أيضًا. سوف يقرأ البشرُ ثانيةً في يومٍ من الأيام، وإذا لم تقع لكَهْفي حادثةٌ، فسوف يعرفون أنَّ البروفيسور جيمس هوارد سميث قد عاشَ ذات يومٍ وحفظ لهم معرفةَ القدماء.

ثمَّة أداةٌ أخرى صغيرة سيكتشِفها البشرُ حتمًا من جديد، وهي البارود. إنَّها تُمكِّننا من إصابة الهدف بدقةٍ ومن مسافاتٍ بعيدة. يُصنع البارود من أشياء مُعيَّنة موجودة في الأرض تُخلَط معًا بكمياتٍ مناسبة. أما عن ماهية هذه الأشياء، فإما أنَّني قد نسيتُها أو أنَّني لم أعرفها قط. غير أنني أتمنَّى لو كنتُ أعرفها. حينها كنتُ سأذهب إلى كروس-آيز وأقتُله وأُخلِّص الأرضَ من الخُرافة …»

تحدَّث هو-هو بنبرةٍ مُؤكِّدة: «عندما أُصبح رجلًا سأذهبُ إلى كروس-آيز وأعطيه جميعَ ما أستطيع أن أحصل عليه من الماعز والجلود واللحم؛ كي يُعلِّمني أن أكون طبيبًا. وحين أتعلم منه، سأجعلُ الجميعَ طوعًا لي. من المؤكد أنهم سيُصبحون رهنَ إشارتي.»

هزَّ العجوزُ رأسَه بوقارٍ وغمغم:

«كم هو غريبٌ أن أسمع بقايا الحديث الآري المُعقَّد وآثاره تنسابُ من شفتَي هَمجيٍّ صغيرٍ قذِرٍ يرتدي جلود الحيوانات. لقد انقلبَ العالَمُ رأسًا على عقِب، ولم يزل على هذه الحال منذ ظهور الطاعون.»

تحدَّث هير-ليب مُتفاخرًا إلى هو-هو الذي يطمح أن يكون طبيبًا: «لن تجعلني طوعَ أمرك، وإذا دفعتُ لك مقابل إرسال عصا الموت ولم تُجدِ نفعًا، فسوف أحطمُ رأسَك، أتفهمُني يا هو-هو، أتفهم؟»

تحدَّث إدوين بهدوء: «سوف أجعلُ الجَدَّ يتذكَّر مادة البارود هذا، وعندها سأجعلكم جميعًا تعمَلون لأجلي. أنت يا هير-ليب، سوف تخُوضُ المعارك من أجلي وتُحضِر لي اللحمَ. وأنت يا هو-هو سوف تُرسِل عصا الموت نيابةً عنِّي وتُخيف الجميع. وإذا أمسكتُ بهير-ليب وهو يحاول أن يُحطِّم رأسك فسوف أعاقبه بذلك البارود نفسه. إنَّ الجَدَّ ليس بأحمقَ كما تظنَّان، وسوف أستمعُ له، وسوف أصبح زعيمًا عليكم جميعًا ذات يوم.»

هزَّ العجوزُ رأسه بحُزنٍ وقال:

«سوف يأتي البارودُ. لا شيءَ يمكن أن يحول دون مجيئه. إنَّها القصةُ القديمة نفسها تتكرَّر مرةً تلوَ الأخرى. سوف يزيدُ عدد البشر، وسوف يتقاتلون، وبهذه الطريقة وحدَها، بالنار والدم، ستنشأ حضارةٌ جديدة في يومٍ بعيد. وماذا ستكون جدوى كلِّ هذا؟ مثلما تلاشَتْ الحضارةُ القديمة، سوف تتلاشى الحضارةُ الجديدة أيضًا. كلٌّ شيء يتلاشى. وحدَها القوةُ الكونية تبقى هي والمادة، دائمًا في تغيُّرٍ مُستمر، ودائمًا في حالةٍ من الفِعل وردِّ الفِعل لتحقيق الأنواع الأبدية: الكاهن والجندي والملك. من أفواه الأطفال الصغار، تخرج حِكمةُ كل العصور. البعضُ سيُحارب، والبعضُ سيحكُم، والبعضُ سيُصلي، أما الآخرون جميعًا فسوف يَكدُّون ويُعانون أشدَّ المعاناة، بينما يُشيَّد على جُثثهم الدامية، المرة تلوَ الأخرى وبدون نهاية، الجمالُ المُذهل والعجائبُ الفائقة للدولة المُتحضِّرة. ما كان الأمرُ سيختلف لو أنني دمَّرتُ هذه الكتبَ المُخزَّنة في الكهف، فسواءٌ أبَقيت أم اندثرت، فسوف يُكتشَف جميعُ ما ورد فيها من حقائق قديمة، وسوف تُعاش أكاذيبُها وتورَّث. ما جدوى …؟»

قفز هير-ليب على قدمَيه بسرعة، وهو يلقي نظرةً سريعة على الماعز التي تأكل في المرعى وشمس ما بعد الظهيرة.

تمتم إلى إدوين: «ويحي! إنَّ العجوز يزداد إطنابًا كلَّ يوم. لنذهب إلى المُخيَّم.»

بينما ذهب الاثنان الآخران لجمْع الماعز وقيادتها إلى الطريق الذي يمرُّ عبر الغابة، بمساعدة الكلاب، رافقَ إدوين العجوزَ وقادَه في الاتجاه نفسه. وحين وصلا إلى شريط السكة الحديدية القديم، توقَّف إدوين فجأةً ونظر إلى الخلف. واصلَ السَّير كلٌّ من هير-ليب وهو-هو والكلاب والماعز. كان إدوين ينظر إلى قطيعٍ صغير من الخيول البرية كانت قد نزلت على الرمال الخشنة. كان هناك عشرون منها على الأقل، من الأمهار والأحصنة الحولية، والإناث البالغة، يقودُها فحْل جميل قد وقفَ في الزَّبَد على حافة الشاطئ بعُنُق مقوَّسة وعينَين جامِحتَين لامعتَين يستنشق الهواء المالِح القادم من البحر.

تساءَل الجَدُّ: «ماذا هناك؟»

وجاءته الإجابة: «خيول. إنَّها المرة الأولى التي أراها على الشاطئ. إنَّ أعدادَ أُسْدِ الجبال تزيد وتزيد، وتدفعها إلى الأسفل.»

ألقت الشمس المُنخفضة من الأعلى حيث الأفق الذي تمُور فيه السُّحب، أشعةً حمراء من الضوء على شكل مروحة. وبالقُرب، في تلك المساحة البيضاء المُقفِرة من المياه التي يُحيط بها الشاطئ، راحت سباع البحر ترفع صوتَها بأغنيتها البدائية القديمة، بينما تجرُّ نفسَها من البحر إلى الصخور السوداء، وراحت تتشاجر وتتحاب.

حثَّ إدوين الجَدَّ على مواصلة السير قائلًا: «هيا أيُّها الجَدُّ.»

استدار العجوزُ والصبيُّ، ذلكما الهمجِيَّان اللذان يرتديان ثيابًا من جلود الحيوانات، وأكملا مسيرهما على الطريق القديم المؤدِّي إلى الغابة، في أعقابِ الماعز.

figure
(النهاية)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤