المقدمة

يقول وهمٌ شائع على نطاقٍ واسع إن الكتب جماداتٌ هادئة خاملة ليس لها تأثيرٌ، إنها خاصة بالأماكن الحبيسة والهدوء النظري للأديرة والجامعات وغيرها من أماكن الهروب من العالم المادي الشرير. وتبعًا لهذه الفكرة الغريبة الخطأ، تزخر الكتب بالنظريات غير العملية، وأهميتها تافهة لرجل الأعمال ذي الرأس الصلب.

حظي متوحش الغابة بفهمٍ أكثر واقعية وهو ينحني أمام الصفحة المطبوعة، لقوتها الخارقة على نقل الرسائل. وتتراكم الأدلة فوق الأدلة، طوال التاريخ، على أن الكتب بريئةٌ وعديمة الضرر وغير تافهة؛ فهي غالبًا ما تكون عظيمة الحركة وافرة الحيوية قادرة على تغيير مجرى الأحداث تغييرًا كليًّا — للخير أحيانًا وللشر أحيانًا أخرى.

لدى دكتاتوري كل عصر نظرةٌ داخلية حكيمة إلى القوة الهائلة للكتب. فكلما وأَيْنَما أرادت حكوماتُ الطغاة وذوي السلطان إيقاف المعارضات وقتل الآراء اتجه تفكيرها، دون استثناء تقريبًا، إلى إتلاف كتب الآراء المضادة، وفي أغلب الأحيان، إلى إهلاك مؤلفيها. غير أنه، على نقيض ذلك، التفت هؤلاء الطغاة إلى صالحهم، ففرضوا سيطرتهم على أولئك الناس، وعلى كتب بعينها، مثل كتاب هتلر «نضالي» وكتاب «رأس المال Das Capital» لكارل ماركس Karl Marx والكتابات الضخمة التي كتبها لينين Lenin وستالين Stalin. وما من أحد يُدرك، خيرًا من الطاغية نفسه، ضخامة القوة الناسفة الكامنة في الكتب.
وفي بعض المناسبات، تطبق هذه الفكرة في الأمم الديمقراطية، مثال ذلك، الإحساس المنتشر واسعًا بالصدمة وعدم التصديق بين أفراد الشعب الأمريكي وأصدقائهم في الخارج منذ بضع سنوات خلَتْ بأن إدارة حكومة الولايات المتحدة شغلت في مكتبات الاستعلامات بالخارج، في برنامج ضخم للرقابة على الكتب، وفي عدة أماكن أخرى بإحراق فعليٍّ للكتب. فكان رد الفعل عنيفًا لدرجة أن الرئيس أيزنهاور Eisenhower نفسه تدخل في الأمر محاولًا تبرئة سُمعة الحكومة الأمريكية، فألقى خطابه المشهور «لا تنضم إلى حارقي الكتب». رأى الناس بغريزتهم، في كل مكان، أن الكتب ضروريةٌ وأساسية للثقافة والحضارة الحديثتين، كما كانت في القرون الماضية.

الغرض من هذا المؤلَّف هو توضيح القوة العاتية للكتب، عن طريق مناقشة أمثلةٍ معينة. فأولًا يجب التركيز على أنه ليس في نيتنا تقديم قائمة «بأحسن الكتب» أو «أعظم الكتب»، فإن عمل مثل هذه القوائم هوايةٌ محبوبة لتمضية الوقت لنقاد الأدب والمؤلفين والناشرين ورجال التعليم وأمناء المكتبات، الذين تنحصر توصياتهم في العلوم الأدبية. أما الهدف منه فهو اكتشاف الكتب التي كان لها أعظم أثر عميق على التاريخ والاقتصاد والثقافة والمدنية والفكر العلمي منذ عصر النهضة، تقريبًا، إلى منتصف القرن العشرين.

المشكلة في مثل هذا الأمر، هي بالطبع في الاختيار؛ تأتي إلى الذاكرة تلقائيًّا حفنةٌ من العناوين، فيتنوع الاختيار منها تنوعًا كبيرًا، ويُحذف معظمها عند استعمال العدد الواقع في الصف الأول؛ إذ لا بد أن يكون هذا الكتاب ذا وقعٍ عظيم مستمر على الفكر والعمل البشريين، ليس لأمةٍ واحدةٍ فحسب، وإنما لأعظم جزءٍ من العالم. وعندما يتعرَّض المرء لهذا الاختبار القاسي، يأخذ في حذف عنوانٍ بعد آخر.

لأسبابٍ عمليةٍ تقرر عرفيًّا حصر النقاش في كتب العلوم والمواد الاجتماعية، وحذف تلك المجالات الواسعة كالدين والفلسفة والأدب. وقد يحدث أن يكون تأثير الروائع الدينية والأدبية أقوى بكثير من تأثير بقية الأنواع مجتمعة، ولكن كيف يتسنَّى للمرء أن يعرف تأثير كتاب مثل ترجمة الملك جيمس James للتوراة؟ إن استخدام أي هدفٍ على مستوى غير موضوعيٍّ لا يتفق ومثل هذا المؤلف العجيب، أو أدب شكسبير Shakespeare وملتون Milton الذي يخلق عقبات كَأْدَاء، فوقعها على المجتمع شامل تمامًا؛ على اللغة والأدب والفلسفة وطرق التفكير والأخلاق، وكل وجهٍ من وجوه الحياة، لتكون بالغة الاتساع.
رغم هذا، هب أننا نضمن كتابنا: الدين والفلسفة قديمهما وحديثهما، إذن لصار لدينا عددٌ ضخم من الكتب: التوراة (ترجمة الملك جيمس ودواي Douay) والتلمود والقرآن والبوذية المقدسة والكتابات الهندوكية، وكونفشيوس Cofucius والفلاسفة الإغريق والقديس أوغسطين St. Augustine والقديس ثوماس أكوينوس St. Thomas Aquinus ومارتين لوثر Martin Luther وعمانوئيل كانت Immanuel Kant وكثير جدًّا غير هذه الكتب. وإذا نظرنا إلى الكتب من ناحية تأثيرها وجدنا هناك مؤلفين أمريكيين هما: «العلم والصحة» تأليف ماري بيكر إدي Mary Baker Eddy وكتاب «المورمون Mormno» لجوزيف سميث Joseph Smith.١
وربما كان الأصعب من هذا هو اختيار أعظم ما في التراث الأدبي؛ الخيال والدراما والشعر والنثر، الذي حرك مشاعر العالم وإيحاءه. تخطر على البال مباشرة مثل هذه الأسماء لكتاب الإغريق والرومان الكلاسيكيين، ودانتي Dante وتشوسر Chaucer ورابليه Rabelais وسيرفانت Cervantes وموليير Molière وشكسبير Shakespeare وميلتون Milton وجوتيه Goethe وهين Heine ودستوفسكي Dostoevsky، وعشرات غير هؤلاء ممن ربما كانوا أقل مرتبة.
ومن الكتب ذات التأثير البالغ، كتب الرحلات، التي وسَّعت أفق الإنسان منذ عصر ماركو بولو Marko Polo وعملت على رحابة عالمه. فتح رحالة العصور الوسطى المنقطع النظير، ماركو بولو، في القرن الثالث عشر بلاد الشرق التي لم تكن أوروبا تعرف عنها شيئًا، وترك سجلًّا مثيرًا من مغامراته واكتشافاته. كذلك خطاب كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus لسنة ١٤٩٣م الذي يصف فيه أولى رحلاته إلى أمريكا والذي تُرجم في الحال إلى عدة لغاتٍ مختلفة، وطُبع في شتَّى دول أوروبا. وبطبيعة الحال خلق إثارة ومتعة بالغتَيْن. وتلا هذين بفترةٍ قصيرةٍ أمريجو فيسيوتشي Amerigo Vespucci التي أوجبت تساؤلًا أكثر، وطبعت في سنة ١٥٠٧ بمعرفة مارتين والسيمونر Martin Waldseemüller في مؤلَّفه Cosmographiae Introductis «مقدمة أنظمة الكون». فأدَّى هذا المؤلف إلى تسمية الدنيا الجديدة باسم «أمريكا». وكان القرن الذي تلا ذلك أشهر حقبة للرحلات والاكتشافات في التاريخ المسجل، رأت فيضًا من أدب الرحلات المطبوع جمع معظمه ريتشارد هاكلويت Richard Hakluyt في أواخر القرن السادس عشر في مؤلَّفه الشهير Principal Navigations, Traffics and Discoveries of the English Nation.
كما جمع بعضه صموئيل بوركاس Samuel Purchas في مؤلَّفه Pilgrims.
وفي مجال الترحال، يجب ألَّا نغفل الكتب الخيالية البحتة، مثل كتاب «حول العالم في ثمانين يومًا» تأليف جول فيرن Jules Verne (١٨٧٢م)، ذلك الكتاب الذي أثار المخيلة بما لم يثرها مثله أي كتاب غير خياليٍّ. وحديثًا جدًّا (١٩٤٣م) ألف وندل ويلكي Wendell Willkie كتاب «عالم واحد» فأسهم كثيرًا في منح مواطنيه نظرة خارجية دولية، ولعب دورًا في فكرة تنظيم «الأمم المتحدة».
من الممتع أن نلاحظ ونقارن بين المحاولات السابقة لحصر أسماء الكتب التي لها أعظم تأثير. وقد أعدَّ إدوارد ويكس Edward Weeks وجوهين ديوي Johen Dewey وتشارلز أ. بيرد Charles A. Beard في عام ١٩٣٥م لمجلة الناشرين Publisher’s Weekly. فاختار كلٌّ من هؤلاء ٢٥ كتابًا صدرت منذ عام ١٨٨٥م كان لها في رأيه أعظم تأثير. تضم القائمة الأخيرة المختارة من هذه خمسين عنوانًا، كان أربعة منها فقط («رأس المال» لماركس، و«نظرة إلى الوراء» تأليف بيلاني Bellany، و«الغصن الذهبي» تأليف فريزر Frazer، و«تدهور الغرب» تأليف سبنجلر Spengel) اختيرَت بالإجماع، بينما نال ٢٩ عنوانًا صوتًا واحدًا فحسب. ومن بين الكتب التي نناقشها في هذا المؤلف للمدة التي اختاروها، ماكندر Mackinder، لم يذكره كلٌّ من ويكس وديوي وبيرد، بينما لم يختر كتاب هتلر سوى بيرد، وكتاب ماركس وحده هو الذي اختاره الجميع. ولا شك في أنه في فترة عشرين سنة، تقوم هيئة ممتازة من الحكام بإحداث تغييرات كبيرة، إذا استطاعت، اليوم أن تراجع، ما سبق أن اختارته.
بعد ذلك ببضع سنين (١٩٣٩م) قام مالكولم كاولي Malcolm Cowley وبرنارد سميث Bernard Smith بمحاولة تشبه هذه، لاختيار الكتب التي غيرت عقولنا، وبمعاونة فئة مختارة من رجال التعليم والمؤرخين والنقاد والمحاضرين ورجال الإعلان الأمريكيين، جاء ١٢ عنوانًا في رأس القائمة على أنها، في حكم هذه الفئة، أهمها في تشكيل العقل الأمريكي المعاصر، ولكنهم أوصوا ﺑ ١٣٤ كتابًا أخرى، فكان الاختيار النهائي:
  • فرويد: «تفسير الأحلام».

  • آدمز: «تعليم هنري آدمز».

  • تيرنر: «الطليعة في التاريخ الأمريكي».

  • «سمنر Sumner»: «طرق الشعب Folkways».
  • فبلين Veblen: «مشروع العمل».
  • ديوي Dewey: «دراسة في النظرية المنطقية».
  • بواس Boas: «عقل الرجل البدائي».
  • بيرد: «التفسير الاقتصادي للدستور».

  • ريتشاردز: «مبادئ النقد الأدبي».

  • بارنجتون Parrington: «التيارات الرئيسية في الفكر الأمريكي».
  • لينين Lenin: «الدولة والثورة».
  • سبنجلر: «تدهور الغرب».

ومن هذه الاثني عشر كتابًا رأى ويكس وديوي وبيرد اختيار مؤلفات فرويد وآدم وتيرنر وسبنجلر.

وقام الكاتب الإنجليزي هوراس شيب Horace Shipp بمحاولة أخرى لاختيار أعظم الكتب تأثيرًا ليستعملها في كتابه «كتب حركت العالم» (١٩٤٥م) دون تحديد للزمان أو المكان أو الموضوعات. فاستقر رأي شيب على اختيار عشرة كتب هي:
  • التوراة.

  • أفلاطون Plato: «الجمهورية».
  • القديس أوجستين: «مدينة الله».

  • «القرآن».

  • دانتي: «الكوميديا الإلهية».

  • «مسرحيات شكسبير».

  • بنيان Bunyan: «تقدم الحج».
  • ميلتون: «عضوية محكمة جنايات أثينا».

  • داروين: «أصل الأجناس».

  • ماركس: «رأس المال».

وبالنسبة للتحديد المفروض في دراستنا هذه نحذف كل هذه الكتب ما عدا الثلاثة الأخيرة من هذه العشرة، وفعلًا، لم يضم مؤلفنا غير الكتابين الأخيرين.

يتضح مما سبق أنه من الصعب جدًّا الإجماع على كتاب بعينه. والاختيار أمرٌ شخصيٌّ إلى درجة كبيرة وموضوعي جدًّا. والاتفاق التام على معظم الكتب المختارة غير محتمل، ومع ذلك نأمل في أن نكون قد وفَّينا كل كتاب حقَّه من الدراسة والتمحيص الدقيقَيْن. وكذلك فعلنا في مؤلفيها. ويجدر بنا أن نذكر بعض المؤلفات التي درست بعناية ودقة، ثم حذفت لسبب ما أو غيره.

فمثلًا يوجد بين الكتب الكلاسيكية للعلوم كتاب «مصنع جسم الإنسان De Corporis Humani Fabrica» (١٥٤٣م) للمؤلف أندرياس فياليوس Andreas Vesalius، جدير بمكان في تاريخ الطب، على قدم المساواة مع مؤلف هارفي De Motu Cordis وتقف مؤلفات ليبنز Leibniz في الرياضيات والطبيعة في صف واحد مع «مبادئ الرياضيات Principia Mathematica» لإسحاق نيوتن. وفي العلوم الاجتماعية: كتاب «الطليعة في التاريخ الأمريكي» تأليف فردريك جاكسون ترنر Frederick Jackson Turner وهو مؤلفٌ لامع مستحدث يحظى في العالم بأهمية أقل في مجاله، من «المحور الجغرافي للتاريخ» تأليف ماكندر Mackinder وكان كتاب «الشيوعي البين» تأليف ماركس وإنجلز Marx and Engels قوةً محركةً للتغير الاجتماعي لمدةٍ تزيد على القرن، ولكنه أقل نضجًا وأقل عناية في مستنداته، وربما كان أقل نفوذًا في تلك المدة الطويلة من كتاب «رأس المال» لماركس. ويفضِّل بعض النقاد كتاب «جماعة الوالدين Walden»٢ تأليف ثورو Thoreau على كتاب «العصيان المدني» ومع ذلك؛ فالأول أقل قوة في تأثيره. ومن الكتب المؤثرة الأخرى: «حياة واشنطون» (١٨٠٠م) تأليف بارسون ماسون لوك ويمس Parson Mason Locke Weems الذي ظل مدة ستة أجيال يساعد في توجيه الفكر والتراث الأمريكيَّيْن (ولا سيما في حالة أبراهام لنكولن Abraham Lincoln) وكتاب «سنتان أمام الصاري» (١٨٤٠م) تأليف ريتشارد هنري دانا، وهو منظومٌ شعرًا فعل الكثير في تحسين أحوال البحَّارة الأمريكيين في البحر، وكتاب «الأدغال» (١٩٠٦م) تأليف أبتون سنكلير Upton Sinclair الذي كشف أمورًا مؤسفةً في بورصة العقود بمدينة شيكاغو Chicago وأدى إلى إحداث إصلاح جذري. بيد أن هذه الكتب الثلاثة الأخيرة حكم عليها بأن نطاق تأثيرها محدود فلا يصحُّ أن تشملها دراستنا.
أشار علينا البعض، وربما كان ذلك عن سوء قصد رغم أن الكتب ذات أهمية تستحق الدرس، أشاروا علينا بأن نُضمِّن مؤلَّفنا «كتاب الطهو لمدرسة الطهو بمدينة بوسطون Boston» تأليف فاني فارمر Fanni Farmer وكتاب «الإتيكيت» تأليف إميلي بوست Emily Post، وكتاب «السلوك الجنسي لكلٍّ من الذكر والأنثى من البشر» تأليف الدكتور ألفريد كنسي Alfred Kinsey.

من بين الستة عشر كتابًا التي تضمها القائمة النهائية ستة مؤلَّفات تدخل في باب العلوم إبَّان المدة من ١٥٤٣ إلى ١٩١٥م، وعشرة كتب في المواد الاجتماعية في المدة من ١٥٢٣–١٩٢٧م. ولا شكَّ في أن هذا التصنيف عن غير قصدٍ إذ كان الوقع الاجتماعي للمؤلفات العلمية تامًّا وعميقًا كالمؤلفات المذكورة في كتب المواد الاجتماعية نفسها. وكتاب «كابينة العم توم» لمسز ستو، رغم صورته الخيالية، جدير في كل ناحية بأن يكون حجةً اجتماعية.

عندما يستعرض المرء هذه الستة عشر كتابًا، المحملة بالحركة، يطرأ على بالنا دائمًا هذا السؤال: هل عملت العصور الكتاب أم أن العكس صحيح؟ أي هل كان كتاب معين ذا نفوذ بسبب أن الزمن كان مستعدًّا له؟ هل يمكن أن تكون لهذا الكتاب نفس الأهمية في عصر آخر، أو هل يمكن أن يكتب في أي تاريخ آخر؟ وإنه ليتعذَّر الهروب من استنتاج أن الأزمنة أنتجت الكتاب، في كل ناحيةٍ تقريبًا إلا أنه ما كان بالإمكان أن يؤلف هذا الكتاب في أي عصرٍ تاريخي آخر أو أنه إذا ظهر فما كان ليحظى بمثل هذا الاهتمام.

بين أيدينا كثيرٌ من الأمثلة؛ فقد وضع ماكيافيلي Machiavelli كتاب «الأمير» لتحرير وطنه الحبيب إيطاليا من الاعتداء الأجنبي. كانت إنجلترا على استعدادٍ لتوسيع اقتصادها التجاري والصناعي إلى أقصى حدودٍ تستطيعها، عندما كان آدم سميث يؤلف كتاب «ثروات الأمم». كما أن كتاب «الإدراك العام» لمؤلِّفه ثوماس بين، قد أشعل نار الثورة الأمريكية التي كانت ناضجةً للانفجار في أي وقت. كذلك فعل كتاب «كابينة العم توم» تأليف هاريت بيتشر ستو للحرب الأهلية. ولولا الأحوال القاسية السائدة في الصناعة الأوروبية ولا سيما نظام المصانع الإنجليزية في منتصف القرن التاسع عشر، لنقصت ذخيرة كارل ماركس لتأليف كتابه «رأس المال».
أوحى كتاب «أثر القوة البحرية على التاريخ» تأليف أمير البحر ماهان Mahan بتكوين تجانس بحري بين القوى العالمية بعد عام ١٨٩٠م. غير أن ضغط مغامرة التوسع والاستعمار، كان موجودًا من قبل. ولولا الفوضى التي سادت ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لبقي هتلر مبيض بيوت نمساوي غير معروف.

ومن ناحية أخرى، وكما هي الحال في الكبسولات البطيئة المفعول، هناك كتب لم تحدث تأثيرها الكامل إلا بعد سنوات من نشرها. فمثلًا كان آدم سميث وكارل ماركس في عداد الأموات عندما أدرك العالم أهمية كتابيهما. ومضى نصف قرنٍ على موت ثورو عندما طبق المهاتما غاندي في الهند وجنوب أفريقيا، مذهبه الداعي إلى العصيان المدني. ولولا قيام المدرسة الألمانية لسياسة التوسع الجغرافي، ما لقيَت نظريات ماكندر التي صاغها قبل ذلك بعشرات السنين، ما لقيَت الاهتمام الذي تستحقه. وهذه أسماء بعض رُوَّاد المفكرين الذين عرفوا الفشل في أوائل مؤلَّفاتهم، وقيام تلك المؤلَّفات باستجداء القراء.

يتردد في القطاع الخلفي من الذهن سؤال عندما يتأمل المرء قائمة الكتب المختارة، ألا وهو: كيف يمكن قياس التأثير؟ وكما سبق أن قلنا، كان الهدف هو اختيار الكتب التي يمكن الحكم على آثارها بمصطلحات النتائج الثابتة أو الأفعال. أي إنها يجب أن تكون قد مارست علاقة مباشرة بتيارات أحداث معينة. وكثيرًا ما حاول كتابٌ ما إيجاد حل لبعض المشاكل في مجال محدد في فترة معينة. ولما كانت أمثال هذه الكتب تتناول أمورًا زمنية وموضوعية، فإنها تميل إلى أن يجري عليها القدم بسرعة أكثر مما يجري على الكتب الدينية أو كتب الفلسفة أو الأدب.

والمقياس القريب الصحيح لمدى التأثير هو قوة العاطفة المعاصرة الميَّالة إلى تلك الكتب أو المعارضة لها. فإذا أثار كتابٌ ما معارضة عنيفة وشعورًا مماثلًا من التأييد لوجهة نظره، فالاحتمالات أنه قد أثر تأثيرًا عميقًا على تفكير الناس. كما أن الرقابة الرسمية والجهود الأخرى المناوئة، إيجابية في مفعولها. والنظرة الداخلية إلى مثل هذه الانفعالات تمدنا بها بعض المصادر مثل الصحف المعاصرة ونشرات الأدب الجدلي ومذكرات المؤرخين والدراسات البيوجرافية. والاختبار القاسي هو ما إذا كانت النظريات أو البرامج أو الأفكار والمدافعون عنها، تحظى بالقبول نهائيًّا أو لا تحظى به، وهل تعبر الحدود الدولية وتترجم إلى اللغات الأخرى وتعمل على خلق التلاميذ والأنصار والمحاكين والمنافسين، وتندمج تدريجيًّا في حياة الناس والأمم وفي أفكارهم.

من مظاهر الشهرة الغريبة تكوين صفات ومصادر صناعية من الأعلام لوصف فكرة معينة أو نموذج معين أو رأي بعينه وهكذا تضاف هذه الكلمات والمصطلحات إلى مجموعة الألفاظ اليومية، مثل: الماكيافيلية Machiavillian والكوبرنيكية Copernician، والمالثوزية Malthusian والنينوتونية Newtonian، والفرويدية Freudian، والداروينية Darwinian، والماركسية Marxism، والهتلرية Hitlerism، ليدل كلٌّ منها على مجموعةٍ معينةٍ من الأفكار ويقرِّر شهرة بعض الفضائح في نموذجه الأصلي، وهذا يتوقَّف على وجهة النظر.

وبالنظر إلى الصعوبة القصوى في إمكان قراءة معظم عناوين قائمة الاختيار يمكن السؤال عن هذا الأمر بطريقة معقولة منطقية: كيف يمكن لهذه المؤلَّفات أن تُحدث تأثيرًا على أي فردٍ عدا عددًا محدودًا من الأخصائيين؟ وبالطبع، يستطيع نفرٌ قليل من العوام أن يفهم ويتابع بسهولةٍ أصول النصوص اللاتينية لمؤلف كوبرنيكوس أو هارفي أو نيوتن، أو نظريات أينشتين بأية لغة. بينما لا أحد غير العالم الاجتماعي المدرب، يستطيع أن يستوعب تمامًا البراهين الملتوية، في أغلب الأحوال، لمؤلفات آدم سميث أو مالثوس أو ماركس. أما علم الأحياء فيقوى فهم مؤلف لهافي أو داروين أو فرويد. ونجيب على ذلك السؤال بقولنا إن سواد الناس يحصلون على أفكارٍ سبق هضمها بواسطة عملية تمحيص عن طريق وسيلة ما مثل الثقافة الشعبية في صورة كتبٍ أو مجلات أو صحف أو دروس مدرسية أو محاضرات عامة، وحديثًا عن طريق الراديو والتليفزيون والسينما. ولولا الإدراك العام ما لقيَ أي كتاب من الستة عشر كتابًا المختارة إقبالًا في عصره أكثر من «كابينة العم توم» و«نضالي». وبناءً على ذلك نتج تأثيرها من تفسير الخبراء. وكثيرًا ما يحدث التطبيق العملي في الحياة اليومية دون معرفةٍ واعيةٍ من الناس عمومًا، مثال ذلك، اكتشافات نيوتن الميكانيكية، أو نظريات أينشتين، فيما يختصُّ بتفتيت الذرة والطاقة الذرية.

عندما يستعرض المرء الستة عشر كتابًا بحسب ترتيبها التاريخي، يدهش لاستمرار العلوم والمعارف — حلقة الاتصال التي تربطها معًا. حقيقةً، لقد عبر من هذا هتشنز Hutchins بقوله: يوجد هنا تقدم «المحادثة العظمى». وقد أخذ كوبرنيكوس الإيحاء من قدامى فلاسفة الإغريق، ونيوتن بدوره، «وقف على أكتاف العمالقة» — كوبرنيكوس وجاليليو Galileo وكبلر Kepler وغيرهم. وبدونهم ما كان لأينشتين أن يوجد إطلاقًا. أما داروين فقد أعلن في صراحةٍ أنه مدينٌ إلى عددٍ كبيرٍ من علماء الأحياء والجغرافيا والجيولوجيا، بنى على مؤلَّفاتهم نظريته عن أصل الأجناس هذا، وإن استخدام معمل التجارب في العلوم، على نقيض البرهنة الفلسفية البحتة، يمكن أن يُقال إنه بدأ بكوبرنيكوس، ومارسه جميع عظماء من جاءوا بعده، ومنهم هارفي ونيوتن وداروين وفرويد.
إن الولع بالحرية، الذي هو طبيعةٌ لازمَت الإنسان طول حياته، ليتمثَّل في الاحتمالات المثيرة لكلٍّ من ماكيافيلي وآدم سميث وبين وثورو وستو. ونسج كارل ماركس بشدةٍ على منوال علماء الاقتصاد الإنجليز الكلاسيكيين، وخصوصًا آدم سميث ومالثوس وريكاردو Ricardo وحاول تكوين مؤلفه على غرار مؤلف داروين. وكان مؤلف ماهان الذي عنوانه «أثر القوة البحرية على التاريخ»، في الأصل، مؤلفًا ثانويًّا اتخذ مصادره مما كتبه قدامى المؤرخين البحريين والحربيين والعموميين.

وعلى الرغم من أن ماكندر، ومن بعده ساسة التوسع الجغرافي، لم يوافقوا على استنتاجات ماهان، فإنهم وجدوا أفكاره مثيرةً ومؤثرة. وقد اقتبس هتلر في كتابه «نضالي» كثيرًا من ماكيافيلي وداروين وماركس وماهان وماكندر وفرويد، سواءٌ كان هذا الاقتباس بوعي منه أو عن غير قصدٍ.

يمكن إضافة بعض تعليقات معينة على الكتب المختارة وعلى مؤلفيها. هل تحاشى هؤلاء الميول الطبيعية القاضية بأن يؤثر كلٌّ منهم وطنه أو لغته، مثلًا؟ من المحتمل أن يكون الجواب بالنفي. تضمُّ القائمة أربعة أمريكيين هم: بين وثورو وستو وماهان، وستة بريطانيين هم: هارفي ونيوتن وسميث ومالثوس وداروين وماكندر. كما أن هناك ثلاثةً من الألمانيين هم: ماركس وأينشتين وهتلر، وواحدًا إيطاليًّا هو ماكيافيلي وآخر بولنديًّا هو كوبرنيكوس وثالثًا نمساويًّا هو فرويد. ومن بين المؤلِّفين الستة الأوروبيين (من القارة نفسها غير البريطانيين) ثلاثة يهود. وإذا كان واضع هذه القائمة أحد الصينيين أو الفرنسيين أو الروس، فلا شك في حدوث تحيز ما في اتجاهاتٍ أخرى.

هناك نقطة أخرى جديرة بالنقد، وهي تعريف الكتاب: ما هو الكتاب؟ وهل يمكن الحكم عليه بحجمه وحده؟ هذه فكرة خيالية، ومع ذلك فلو راعينا الدقة في التعريف فإن «الإدراك العام» لبين و«العصيان المدني» لثورو و«المحور الجغرافي للتاريخ» لماكندر والحقيقة الأصلية لنظرية أينشتين الخاصة عن النسبية، ليسَت أكثرَ من نشرات. والواقع أن الثلاثة الكتب الأخيرة، ظهرَت أول ما ظهرَت كمقالاتٍ دورية. فيا له من تناقضٍ بين هذه وبين المجلدات الضخمة، أمثال «مبادئ الرياضيات» و«ثروة الأمم» والطبعات الأخيرة من كتب مالثوس عن السكان، ورأس المال، ونضالي. وقد ذكر أن فولتير Voltaire قال إنه ما حدث قط أن ألهبت الكتب الكبيرة حماس أمة. «إن الكتب الصغيرة دائمًا، المحشوة بالعواطف والتي تتأجج حماسًا هي التي تقوم بالعمل.» وفعلًا، تنطبق هذه العبارة على بين وثورو ولا تنطبق على ماكندر ولا أينشتين. والواقع أن الحجم ليس بذي بالٍ لأجل هذه القائمة الحالية.
والزمن الذي يقضيه المؤلف في تأليف الكتاب أمر جدير بالاعتبار. ومن الجلي أن كوبرنيكوس قد ضرب الرقم القياسي في هذا المضمار إذ استغرق أكثر من ثلاثين عامًا في تأليف كتابه De Revolutionibus ولو أنه لم يشغل نفسه باستمرار في تأليفه. ومن منا يودُّ أن يقول إن الرسالات الكوبرنيكية مؤلفات أكثر عمقًا من «مبادئ الرياضيات لنيوتن»، التي أتمها في مدة ١٨ شهرًا؟ وبمصادفة غريبة استغرق تأليف كلٍّ من «ثروة الأمم» لآدم سميث، و«أصل الأجناس» لداروين، و«رأس المال» لماركس سبعة عشر عامًا. ومن ناحيةٍ أخرى، خرج كتاب «الأمير» لماكيافيلي في ستة شهور، و«الإدراك العام» لبين في حوالي ثلاثة أو أربعة أشهر.

يمكننا أن نعزو الاختلاف السابق بين مدد التأليف إلى عدة عوامل؛ فاختلاف شخصية كل مؤلف عن شخصية الآخر مسئولة عن بعض هذه الاختلافات. وقد رفض بعض علماء الطبيعة أمثال كوبرنيكوس ونيوتن وهارفي وداروين الإسراع في طباعة مؤلَّفاتهم حتى يتحققوا تمامًا من صحة اكتشافاتهم واختبارها اختبارًا قاسيًا. وحتى بعد أدق الاختبارات القاسية ترددوا في نشرها خوفًا من المجادلات والرقابة القوية لزملائهم العلماء، ومقتهم عرضها على الجماهير، أو ما شابه ذلك من الأسباب. وقد تضمنت مقالات سميث وماركس الاقتصادية ضياع الوقت وتجميع كميات كبيرة من المعلومات، والمراجعة الضخمة، ومن جهة أخرى كان لدى المؤلفين المتهوِّرين، أمثال ماكيافيلي ومالثوس الشاب وبين ولمورو رسالات عاجلة يجب إصدارها دون تأخير.

الغالبية العظمى من الستة عشر مؤلفًا المختارين معروف عنهم أن كلًّا منهم وضع كتابًا واحدًا فحسب. وباستثناء قلة قليلة، ترتكز شهرة الباقين على عنوانٍ واحد مع إهمال ما عداه. كتب هارفي ونيوتن وسميث مالثوس وماركس وستو وماهان وأينشتين كتبًا أخرى — وفي بعض الأحوال، كان بعضهم كثير التصانيف، ولكن من يمكنه أن يذكر أسماءها سوى قلة من الأخصائيين؟ أما بين وثورو وداروين وفرويد فيستثنون من هذه القاعدة لأن أقلامهم الخصبة أنتجت كتبًا أخرى اشتهرت بطريقةٍ ما كما اشتهرت هنا في قائمتنا.

قد تستطيع بعض المذكرات البيوجرافية إبداء مظاهر أخرى لأخلاق المؤلفين وشخصياتهم. فهل للمركز الزواجي مثلًا أثرٌ هامٌّ في خلق مؤلف رائع يَبُذُّ كل ما عداه؟

كان كوبرنيكوس راهبًا، كما لم يتزوج كلٌّ من نيوتن وسميث وثورو وهتلر. وتزوج كلٌّ من هارفي وماهان وماكندر وبين ولكنهم لم ينجبوا أطفالًا. وباء زواج بين مرتين بكارثة في كل مرة. وكان لمالثوس ثلاثة أولاد، كما كان لأينشتين طفلان. تزوج مالثوس مرة واحدة وأينشتين مرتين. ولم يكن كلٌّ من ماكيافيلي وداروين وستو وماركس وفرويد أزواجًا مخلصين فحسب، بل وأنجبوا أسرات كبيرة. بيد أن المرء يتردد أخيرًا في استخلاص أية حقائق من هذه الأمور.

قد يظن البعض أن السن وبلوغ الرشد ضروريان لمؤلف كتاب عظيم. وما صلة هذين الأمرين، حقًّا، بالستة عشر مؤلفًا المختارين؟ عندما خرجت الطبعة الأولى لكلٍّ من هؤلاء، من المطبعة، كان أكبرهم سنًّا هو كوبرنيكوس؛ إذ كان في السبعين، وأصغرهم أينشتين الذي كان في حوالي السادسة والعشرين. وكان مالثوس وثورو في أوليات الثلاثينيات. أما بين وهتلر فكانا في أواخر الثلاثينيات. كانت فترة السنوات العشر ما بين ٤٤–٥٤ هي أخصب فترات العمر إنتاجًا؛ إذ كان في هذه المرحلة كلٌّ من المؤلفين، ماكيافيلي وفرويد ونيوتن وماركس وماهان وداروين وهارفي وسميث (في ترتيب تصاعدي أي من الأصغر إلى الأكبر). وكان كلٌّ من ستو وماكندر في أوائل الأربعينيات.

وخلاصة هذا، هناك خصائص معينة يشترك فيها معظم المؤلفين، تبدو واضحةً. وباستثناء علماء الطبيعة الذين تضمهم القائمة. والذين يكون التعليق أقل مناسبة لهم. فالكتب التي تضمها القائمة، كتبها أشخاص غير تابعين للكنيسة، وأشخاص متطرفون ومتعصبون لدينهم، وثوريون ومثيرون للاضطرابات. وغالبًا ما تكون كتب هؤلاء رديئة التأليف تعوزها المسحة الأدبية. ونعود فنكرر قولنا بأن سرَّ نجاحهم هو أن الزمن كان ملائمًا وعلى استعدادٍ لهم. حملت كتبهم رسالات، كانت في أغلب الأحوال كثيرة العاطفية، يتوسَّلون فيها إلى ملايين البشر. وفي بعض الأحيان كان النفوذ للخير، كما كان أحيانًا أخرى للشر. ومن الجلي أن الكتب يمكن أن تكون قوى لكل من الخير والشر. وعلى أية حال، ليس الغرض هنا قياس القيم الأخلاقية؛ بل لتوضيح أن الكتب أدوات أو أسلحة حركية وقوية.

١  المورمون مذهب نشأ في ولاية أوتاه بالولايات المتحدة الأمريكية، ينادي بتعدُّد الزوجات.
٢  جماعة مسيحية شديدة التمسُّك بتعاليم الإنجيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤