الفصل الخامس عشر

العالم النفساني للاواعي: سيجموند فرويد١

تفسير الأحلام

اتفق على أن علم النفس يختلف عن سائر فروع المعارف الأخرى في أنه أكثرها غموضًا وأعظم لغز بينها، وأقل جميع العلوم قابليةٌ للبرهان العلمي. ففي طبيعة الأشياء، لا مفر من الزوغان وعدم قبول التكهن؛ لأن العالم النفساني يتناول أعظم الظواهر الطبيعية غموضًا. فأية نظرية في الكيمياء أو في علم الفيزياء، يمكن تحقيقها أو البرهنة على صحتها بخلاف صحة أية نظرية في علم النفس. ومن هنا نشأت عاصفة الجدل بين سيجموند فرويد والمحللين النفسانيين لمدةٍ تزيد على الستين عامًا.

وسواء قبلت نظريات فرويد البرهنة أو لم تقبلها، فقد كان لها تأثيرٌ منقطع النظير على الفكر الحديث. وحتى أينشتين نفسه لم يمس تصورات معاصريه أو يتدخل في حياتهم مثلما فعل فرويد. صاغ فرويد أفكارًا ومصطلحاتٍ في محيط المناطق المجهولة من العقل، صارت جزءًا من حياتنا اليومية. لقد أحسَّ بآثار تعاليمه كل مجال من المعارف — الأدب والفن والدين وعلم الأجناس البشرية والتعليم والقانون وعلم الاجتماع وعلم الإجرام والتاريخ، وتاريخ حياة الأفراد وغير ذلك من دراسات المجتمع والفرد.

رغم كل ذلك، هناك بعض الحلاوة والضوء في هذه التعاليم. وقد أبدى أحد النقاد غير الأوفياء ملاحظته قائلًا:

«عندما انتشرت نظريات فرويد، ظهر أمام الرجل العامي كأعظم مفسد للسرور في تاريخ الفكر البشري، يحوِّل مزاح الإنسان ومرحه إلى كبتٍ محزن غريب، ويجد العداوة في جذور الحب والضغينة في قلب الرقة، والزنا بالأقارب في المحبة البنوية، والإجرام في السخاء وكراهية الأب المكبوتة، كطبيعةٍ بشرية عادية موروثة.»

ومع هذا، فبسبب فرويد، تختلف فكرة الناس اليوم عن أنفسهم. يعتقدون أن أفكار فرويد مثل تأثير عدم اكتمال الإدراك على الوعي، والأساس الجنسي لاضطراب وظائف الأعصاب، ووجود الغريزة الجنسية لدى الأطفال وأهميتها، ووظيفة الأحلام، وعقدة أوديب، والكبت والمقاومة وقراءة الأفكار، يعتقدون أن هذه الأفكار أمور عادية. ثم إن عيوب الإنسان كفلتات اللسان ونسيان الأسماء وعدم القدرة على تذكر الروابط الاجتماعية، تتخذ أهمية جديدة عند النظر إليها من وجهة نظر فرويد. ومن الصعب الآن إدراك مقدار التعصب الذي كان على فرويد أن يتغلَّب عليه عند نشر نظرياته؛ إذ كان ذلك أشد بكثيرٍ مما لاقاه كوبرنيكوس وداروين.

عندما وُلد فرويد في فرايبرج Freiberg إحدى مدن مورافيا Moravia. لم يكن كتاب «أصل الأجناس» قد ظهر بعد. كان ذلك في سنة ١٨٥٦م. وكان أسلاف فرويد مثل أسلاف كارل ماركس، حاخامات، بيد أن فرويد على عكس كارل ماركس، قال: «بقيت يهوديًّا.» انتقل فرويد وهو في الرابعة من عمره مع أسرته، إلى فيينا حيث قضى كل صباه. وتبعًا لأهم كاتب لتاريخ حياته إرنست جونز Ernest Jones يدين لوالده تاجر الصوف، «بارتيابه الحكيم في تقلبات الحياة غير المؤكد، وعادته في ذكر مبدأ أخلاقيٍّ برواية قصة يهودية، وعدم اعتقاده في أمور الدين.» وعاشت والدة فرويد حتى بلغت الخامسة والتسعين من عمرها، شخصية جمة النشاط وافرة الحيوية، وكان سيجموند هو مولودها البكر وابنها المحبب. وبعد ذلك كتب يقول: «إن الإنسان المتمتع بالحظوة غير المتنازع فيها لدى أمه، يحس طول حياته بمشاعر القاهر، وهي الثقة بالنجاح الذي يحث غالبًا على النجاح الحقيقي.»
أولع فرويد في أول حياته بنظريات داروين لأنه أحس بأنها «توحي بآمالٍ في تقدم خارق لمفهومنا عن العالم.» وإذ رغب في أن يكون طبيبًا، التحق بجامعة فيينا ليدرس الطب، ونال البكالوريوس في سنة ١٨٨١م. وإذ عُيِّن طبيب امتياز مقيمًا في المستشفى العام، استمر في دراسة علم الأعصاب وتشريح المخ. وبعد بضع سنوات، حدث التغير في حظه الذي انتهى برسوخ شهرته العالمية. صحبه زميل جائل إلى باريس ليعمل تحت إمرة جان شاركو Jean Charcot، الذي كان وقتئذٍ أستاذًا فرنسيًّا واسع الشهرة في علم الأمراض وأخصائيًّا في الأعصاب فحظي بالاتصال المباشر بأعمال شاركو في الهستيريا وعلاجه لها بالتنويم الإيحائي، ومما أعجب فرويد برهنة شاركو على «صحة الظواهر الهستيرية، وكثرة حدوثها للرجال، وإحداث الشلل الهستيري وانقباض العضلات الهستيري بالتنويم الإيحائي.» ومشابهتها في مظهرها عمومًا بنوبات الهستيريا الحقيقية.

غير أنه لما رجع فرويد إلى فيينا، لم يستطع إقناع زملائه الأطباء بأي أساس علميٍّ لعلاج الاضطرابات العصبية بطرق التنويم المغناطيسي، والأدهى من ذلك أنه عُوقب على آرائه المتطرفة باستبعاده من معمل تشريح المخ. ومنذ ذلك الوقت صار شخصيةً منعزلة وانسحب من الحياة الأكاديمية، وانقطع عن حضور اجتماعات جمعيات العلماء. وأثناء ممارسته الخاصة للطب، استمر عدة سنوات يجري التجارب بالتنويم المغناطيسي، ولكنه هجر تدريجيًّا إذ لم يخضع لتجاربه غير القليل من الناس، ولأن التنويم المغناطيسي نفسه ينتج أحيانًا آثارًا مفجعة على الشخصية التي ينوِّمها. فاستعاض عن ذلك بتطوير الطرق المعروفة باسم «المشاركة الحرة» التي صارت منذ ذلك الوقت مهنة التحليل النفسي الأصلي.

لا جدال في أن فرويد هو مؤسس طب الأمراض العقلية الحديث. فقبل عصره كان طب الأمراض العقلية يتناول أغراض الجنون، مثل انشقاق الأنف ومرض العقل الجنوني الهبوطي، الذي يحتاج إلى العزل في مستشفى الأمراض العقلية. بدأ فرويد عمله الإكلينيكي بعلاج حالات الكبت والتنازع العصبي. وسرعان ما استنتج أن مثل هذه التنازعات ليست قاصرة على مرضى الأعصاب، بل تصيب أيضًا سليمي العقول. وعلاوة على ذلك، ليست الاضطرابات العصبية أمراضًا بالمعنى الصحيح، بل حالات نفسية للعقل. وكانت المشكلة الكبرى هي كيفية علاج هذه الاضطرابات العقلية الواسعة الانتشار. وبناءً على ملاحظاته وتجاربه وممارسته علاج كثيرٍ من مرضى فيينا، بنى أسس التحليل النفسي في أواخر ذلك القرن.

كان فرويد من أعظم كتاب العلوم الكثيري التصانيف في عصرنا. فلا يمكن أن نجد مجموعة الأفكار الجديدة والآراء السيكولوجية التي خرجت من قلمه، في أي كتاب فرد أو صحيفة واحدة. ومن المحتمل أنه كان ينظر إلى أول مؤلف له، وهو المؤلف العظيم «تفسير الأحلام»، الذي صدر في سنة ١٩٠٠م كأكثر مؤلفٍ حبيب إلى نفسه، ويضم جميع الملاحظات والآراء الأساسية تقريبًا. وفي أحد مؤلفاته الأولى بعنوان «دراسات في الهستيريا» الذي نُشر في سنة ١٨٩٥م، ذكر اعتقاده بأن الاضطرابات الجنسية هي «العامل الأساسي وأهم أسباب الاضطرابات العصبية والاضطرابات العصبية النفسية.» وهي أحد أحجار الزاوية في نظرية التحليل النفسي. وفي السنوات القليلة التالية كتب فرويد آراءه في المقاومة وانتقال الأفكار ومشاكل الجنس في عهد الطفولة، والعلاقات بين الذكريات البغيضة والأوهام، وميكانيكية الدفاع والكبت.

يبين ملخص موجز للنظريات الأساسية، شيئًا من تعقيد التحليل النفسي. فأولًا، ليست كلمة الأمراض العقلية وكلمة الأمراض العقلية النفسية مترادفتين. يمكن اعتبار الأمراض العقلية النفسية فرعًا من الأمراض العقلية وتطبق عمومًا على أشد حالات اضطرابات الشخصية صعوبة. ثم يمكن تعريف التحليل النفسي بأنه فنٌّ علاجي لمداواة الاضطرابات العصبية والنفسية. وتبعًا لتقرير حديث، يوجد مجرد ثلاثمائة أخصائي في التحليل النفسي من بين أربعة آلاف طبيب نفساني في الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يعجب العلاج الفردي فرويد إلا نادرًا، واعتبر حالات سوء التكوين النفسي في الأفراد، كأعراض الخلل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للعالم المعاصر. كان غرضه مهاجمة المرض جذريًّا.

يتفق معظم النقاد على أن حق فرويد في الشهرة الدائرة يعتمد على اكتشافه وارتياده للعقل غير الواعي. فقارن عقل الإنسان بجبل جليد ثمانية أتساعه مغمورة تحت السطح فقال إن معظم العقل مختفٍ داخل اللاواعي. وتوجد تحت السطح دوافع ومشاعر وأغراض، لا يخفيها المرء عن غيره فحسب، بل وعن نفسه أيضًا. ويقول علم النفس الفرويدي إن العقل اللاواعي هو المسيطر، بينما النشاط الواعي مختصر إلى مركز تابع، وإذ توصَّلنا إلى فهم الأعماق الكبيرة وغير المعروفة للعقل اللاواعي، عرفنا الطبيعة الداخلية للإنسان. فقال فرويد إن معظم تفكيرنا لا واع، ولا يصير واعيًا إلا صدفة. والعقل اللاواعي هو مصدر الاضطرابات العصبية لأن الفرد يحاول أن يزيح ذكرياته البغيضة ورغباته الباطلة إلى تلك المنطقة، ولكنه لا ينجح إلا في حفظها للمتاعب المستقبلة.

قسَّم فرويد النشاط الذهني للفرد على أنه يحدث على ثلاثة مستويات أطلق عليها: Id٢ الأيد، والذات ego والذات السامية superego. والأيد ذات أهمية أولى. ويقول فرويد إن «منطقة عمل الأيد هي الجزء المظلم غير الممكن الوصول إليه من شخصيتنا. والقليل الذي عرفناه عنها، عرفناه عن طريق دراسة الأحلام وتكوين أعراض الاضطرابات العصبية.» والأيد هي مركز الغرائز والانفعالات البدائية، وتمتد إلى الوراء، إلى الماضي الحيواني، وهي حيوانية وجنسية في طبيعتها. إنها غير واعية. ويستطرد فرويد فيقول: «تحتوي الأيد على كل شيء موروث وكل ما هو موجود عند الميلاد وكل ما هو ثابت في تكوين الشخص.» الأيد عمياء متهورة وكل غرضها هو تحقيق رغباتها وملذاتها دون تقدير للعواقب. وبنفس ألفاظ ثوماس مان Thomas Mann «لا تعرف أية قيم ولا خيرًا ولا شرًّا ولا أخلاقًا.»

الطفل الحديث الولادة نموذج الأيد. وبالتدريج تنمو الذات من الأيد أثناء نمو الطفل، وبدلًا من أن تكون الذات منقادةً تمامًا بمبدأ اللذة، يحكمها مبدأ الحقيقة. تعي الذات العالم حولها مدركة وجوب كبح ميول الأيد الجامحة منعًا لخرق قوانين المجتمع وكما قال فرويد، إن الذات هي الوسيط «بين مطالب الأيد الطائشة وتحريم العالم الخارجي.» وعلى هذا تعمل الذات بمثابة رقيبٍ على دوافع الأيد وتلائمها تبعًا للمواقف الحقيقية مدركة أن تحاشي العقاب أو حتى صيانة النفس، قد تعتمد على مثل هذا الكبت. وقد ينتج عن الصراع بين الذات والأيد اضطرابات عصبية تؤثر على شخصية الفرد.

وأخيرًا، هناك العنصر الثالث للعملية الذهنية، وهو الذات السامية superego، التي يمكن التوسع في تعريفها بالوعي. وكتب أ. أ. بربيل A. A. Brill، وهو أعظم أنصار فرويد في أمريكا، كتب يقول:

«الذات السامية أرقى تطور ذهنيٍّ يمكن أن يصل إليه الإنسان، وتتألف من رواسب جميع المحرمات وجميع القواعد الشخصية التي يطبعها الوالدان في الطفل والبدائل الأبوية. ويتوقف الإحساس بالوعي كلية على نمو الذات السامية.»

وتشبه الذات السامية الأيد في كونها غير واعية، وكلتاهما في صراعٍ دائم بينما تعمل الذات حكمًا بينهما. وتكمن المثل الأخلاقية وقواعد السلوك في الذات السامية.

عندما تكون الأيد والذات السامية في انسجامٍ معقول، يكون الفرد طيب المزاج سعيدًا. أما إذا صرحت الذات للأيد بخرق القوانين، أحدثت الذات السامية قلقًا وإحساسًا بالإثم وغيرهما من مظاهر الوعي …

هناك عامل آخر قريب الشبه من الأيد. أوجده فرويد، وهو نظريته عن الشهوة الجامحة Iibido، فيقول إن جميع انفعالات الأيد مشحونة بصورة من «النشاط النفسي» اصطلح على تسميته libido، أي الشهوة الجامحة «جوهر مذهب التحليل النفسي.» ويعتبر جميع ما يتعلمه المرء من ثقافةٍ وفنٍّ وقانون ودين وغير ذلك من تطورات للشهوة الجامحة. وبينما يشار إلى هذه الشهوة بأنها نشاطٌ جنسيٌّ، فالواقع أن كلمة «جنسي» تستعمل في معنى واسع جدًّا. فتتضمن في حالة الأطفال الحديثي الولادة أعمالًا منها مص الإبهام والرضاعة بالبزازة والتبرز. وفي السنين اللاحقة، قد تنتقل الشهوة إلى شخص آخر عن طريق الزواج، وتتخذ صورة انحراف جنسيٍّ، أو يعبر عنها بخلق فنيٍّ أو أدبي أو موسيقي — وهذه عملية تعرف باسم «الإحلال». والغريزة الجنسية في رأي فرويد، هي أعظم مصدر للعمل الخلاق.

يقرر فرويد في أعظم نظريات التحليل النفسي جدلًا؛ أنه تحت تأثير الشهوة الجنسية، تنمو في الطفل إحساسات جنسية نحو والديه مبتدئًا بأولى اللذات الجنسية المشتقة من التغذية بثدي أمه، فتكون لدى الطفل صلة حب لأمه، وعندما تتقدَّم به السن، ولكن في سن مبكرة، تنمو لدى الطفل الذكر انفعالات جنسية قوية نحو أمه، بينما يمقت أباه ويخافه كمنافسٍ له. أما الطفلة الأنثى فقد تبتعد عن صلتها القريبة بأمها وتقع في حب أبيها وتصير الأم موضع كراهيتها ومنافسة لها. وبتطبيق هذه النظرية على الطفل الذكر، يطلق عليها اسم «عقدة أوديب» التي أخذت اسمها من الشخصية الأسطورية الإغريقية القديمة «أوديب» الذي قتل أباه وتزوج أمه. وقال فرويد إن عقدة «أوديب» موروثة عن أسلافنا البدائيين الذين قتلوا آباءهم في ثورات الغيرة. وعندما يصل الشخص الطبيعي إلى طور البلوغ تنمو فيه الدوافع الأوديبية. أما الأفراد الضعاف فقد لا ينجحون إطلاقًا في قطع الصلة بالأبوين، وبذا ينقادون إلى سلسلةٍ من الاضطرابات النفسية.

الواقع أن فرويد قرَّر يقول: «إن الاضطرابات النفسية، بدون استثناءٍ، اضطرابات للوظيفة الجنسية.» وزيادة على هذا، فلا يمكن إلقاء اللوم على الاضطرابات العصبية فيما يختص بالزيجات الفاشلة أو شئون الحب غير الناجح لدى البالغين. بيد أنه يمكن أن نعزو كل هذه إلى العقد الجنسية للطفولة المبكرة. وبتطبيق نظريته على مجال علم الأجناس البشرية، استنتج فرويد في كتابه «الشعارات والمنبوذين Totem a Taboo» أن الطبيعة والأساطير الدينية للإنسان البدائي نتيجة لعقد الأب والأم. وكان يعتقد أن الدين مجرد تعبير عن عقدة الأب. وبعد تحاليل مفصلة لمئات الحالات التي جاءته للعلاج، رفع الغريزة الجنسية والرغبات الجنسية إلى دورٍ بالغ الشأن في تكوين الشخصية، كما جعلهما السبب الرئيسي في الاضطرابات العصبية. وهذا حكم رفضه بعض مشاهير أخصائيي التحليل النفسي، كما سنبين فيما بعد.

ولما أجبر المجتمع الفرد على أن يوقف الكثير من رغباته الملحة، فإنه يطوي نفسه على كثيرٍ من الكبت بطريقةٍ غير واعية. وإذا استخدمنا مصطلح فرويد: ينجح وعي المرء في منع «قوى اللاوعي المظلمة» التي كتبت ومنعت من الظهور مرةً ثانية. ورغم هذا فإن الأشخاص المصابين بالاضطرابات العصبية، قد يعانون فترات من الاضطرابات العاطفية بسبب مثل هذه الرقابة. فيقول فرويد: إن من وظيفة العلاج بالتحليل النفسي أن يكتشف حالات الكبت ويحلَّ محلها حالات الحكم الصحيح التي قد ينتج عنها إمَّا القبول وإما نبذ ما سبق رفضه. وبسبب الطبيعة المؤلمة للمادة المكبوتة فقد جرت العادة أن يحاول المريض منع اكتشاف كبته. ويطلق فرويد على هذه المجهودات «مقاومات» ويهدف الطبيب إلى التغلُّب عليها.

نعرف الآن تلك الطريقة التي ابتكرها فرويد لتناوُل حالات الكبت والمقاومات، تُعرف باسم «التسلسل الحر للأفكار» — سيل من حديث العقل الواعي بواسطة مريضٍ راقدٍ على سرير أخصائي التحليل النفسي في حجرة خافتة الضوء. يشجع المريض على أن يقول كل ما يدور في رأسه بينما يتوقَّف عن إعطاء أي اتجاهٍ واعٍ لأفكاره. ويقرر فرويد أن طريقة التسلسل الحر للأفكار هي الطريقة الفعَّالة الوحيدة لعلاج اضطراب الأعصاب، وقد حققت ما كان ينتظر منها، وهو إظهار المادة المكبوتة إلى الصورة الواعية، تلك المادة التي احتجزتها المقاومات، وقد وصف بريل طريقة فرويد مع المرضى بقوله: «حثهم على أن يظهروا كل انعكاس واعٍ ويستسلموا إلى التركيز الهادئ ويتتبعوا أحداثهم الذهنية التلقائية، ويفضوا إليه بكل شيء. وبهذه الطريقة حصل أخيرًا على تلك الأفكار المتسلسلة في حرية، والتي تقود إلى أصل الأعراض.» وهذه المادة المنسية التي يستخرجها المريض من العقل غير الواعي بعد مدة ربما تصل إلى شهور من علاج التحليل النفسي، تمثل عادة شيئًا مؤلمًا مقيتًا ومخيفًا وذميمًا من الماضي، وهي مواد يمقت المريض أن يتذكرها بوعيٍ.

لا بد، في مثل هذه العملية، أن تُحدث تلك الذكريات الهائمة كمية من المعلومات غير الملائمة والعديمة النفع. إذن، يتوقَّف كل شيء على مقدرة الطبيب على تحليل مادتِه نفسيًّا، تلك المادة التي، كما أشار مختلف النقاد، يمكن تفسيرها بعددٍ لا نهائيٍّ من الطرق. وعلى ذلك يكون ذكاء ومهارة أخصائي التحليل النفسي على جانب كبير من الأهمية الأساسية.

ومن خلال معالجة فرويد لمرضاه بالتحليل النفسي اكتشف ما أطلق عليه اسم «عامل ذي أهمية لا يحلم بها.» وهو علاقة عاطفية شديدة بين المريض والطبيب المحلل وهذا يسمَّى «قراءة الأفكار أو انتقال الأفكار».

لا يقنع المريض بالنظر إلى الطبيب المحلل النفساني في ضوء الحقيقة كمساعدٍ وناصح … بل على العكس يرى المريض في طبيبه النفساني إعادة شخص على شيء من الأهمية في طفولته أو ماضيه. ويعني بهذه الإعادة «إعادة التجميع» — ونتيجة لهذا ينقل إليه مشاعر وانفعالات تنطبق بلا شكٍّ على هذا النموذج.

«يمكن أن تتفاوت قراءة الأفكار بين نهايتين إحداهما محبة عاطفية ذات صفة جنسية كاملة، والأخرى تعبير منفلت الزمام من التحدي والكراهية المريرتين.» وفي هذا الموقف يكون الطبيب النفساني المحلل «كقاعدة، في موضع أحد والدي المريض، أبيه أو أمه.» ويعتبر فرويد حقيقة قراءة الأفكار «خير أداةٍ للعلاج النفسي» — بيد أن تناولها يظل أصعب وأهم جزء في فن التجميل. ويقرر فرويد أن المشكلة «تحل بإقناع المريض بأنه يستعيد ممارسة علاقات عاطفية نشأت في طفولته المبكرة.»

ومن الطرق المثمرة الأخرى، التي ابتكرها فرويد للوصول إلى الصراعات والعواطف الداخلية، تحليل الأحلام، الذي كان فرويد أول من توصَّل إليه فقبل عصره اعتبرت الأحلام بدون معنى أو هدف. كان كتابه «تفسير الأحلام» أول محاولة لدراسة عملية جديدة لهذه الظاهرة. وقد أبدى فرويد ملاحظته بعد نشر ذلك الكتاب بإحدى وثلاثين سنة، «بأنه يتضمَّن، حتى بعد حكمي في هذا اليوم الحاضر، أعظم الاكتشافات التي ساعده الحظ في إيجادها، وأكثرها قيمة.» وتبعًا لفرويد: «يحق لنا أن نؤكد أن الحلم هو الإنجاز المستمر لرغبة مكتوبةٍ.» يمثل كل حلم دراما في العالم الداخلي «فالأحلام دائمًا نتيجة صراع.» وقال فرويد: و«الحلم هو حارس النوم.» ووظيفته مساعدة النوم، لا إزعاجه فيطلق سراح التوترات الناتجة عن رغباتٍ لا يمكن تحقيقها.

عالم الأحلام، حسب رأي فرويد، واقع تحت سيطرة العقل غير الواعي بالوحدة الوراثية (الأيد). والأحلام هامة لأخصائي التحليل النفسي؛ لأنها تقوده إلى العقل غير الواعي للمريض. وتكمن في العقل اللاواعي جميع الرغبات البدائية والرغبات العاطفية المكبوتة من الحياة الواعية بواسطة الذات والذات السامية. والرغبات البهيمية موجودةٌ دائمًا تحت السطح، وتدفع نفسها إلى الظهور في الأحلام، وحتى في النوم، تقف كل من الذات والذات السامية، في موقف الحراسة كرقيبتين. لهذا السبب كانت معاني الأحلام غير واضحةٍ دائمًا، وإنما يكون التعبير عنها في صورة رموز تحتاج إلى خبير يفسرها. وكرموز لا يمكن أخذها حرفيًّا إلا بالطبع في الأحلام البسيطة للأطفال. ويحتوي كتاب «تفسير الأحلام» عدة أمثلة حللها فرويد تحليلًا نفسيًّا.

ومن الأعمال التعبيرية للعقل اللاواعي، أخطاء التهجمي وزلات اللسان، وحيل شاردي الذهن. ويقول فرويد «بنفس الطريقة ينتفع أخصائي التحليل النفسي من تفسير الأحلام، كما ينتفع من الزلات البسيطة الكثيرة والأخطاء التي يقوم بها الناس — التي يطلق عليها اسم أفعال عارضة.» في سنة ١٩٠٤م، فحص فرويد ذلك الموضوع في كتابه «العلاج النفسي للحياة اليومية». يقرر في ذلك المؤلَّف، و«ليست هذه الظواهر وليدة الصدفة … فلها معنى ويمكن تفسيرها. ويقنع المرء بأن يستخلص منها وجود انفعالات ونوايا مكبوتة.» فنسيان المرء لاسمٍ ما: معناه أنه يكره الشخص المسمى بذلك الاسم. وعندما يفوت القطار شخصًا بسبب التباس في جدول المواعيد، فقد يدل ذلك على أنه لا يرغب في ركوبه. والزوج الذي يفقد مفتاح بيته أو ينساه، قد يكون غير سعيدٍ في بيته ولا يرغب في العودة إليه. يمكن لدراسة مثل هذه الهفوات أن تقود أخصائي التحليل النفسي إلى متاهات العقل اللاواعي.

يمكن الحصول على نفس المنطلق من النكات التي سمَّاها فرويد «خير صمام أمن أنتجه الإنسان العصري.» إذ من خلالها نتحرَّر مؤقتًا من حالات الكبت التي يريدنا المجتمع المؤدب أن نخفيها.

ربما كان بسبب إحساسٍ محذر سابق، أو تخلص من الأوهام متزايد، أو منتهى التشاؤم، أن صار فرويد في أواخر أيام حياته مشغولًا «بغريزة الموت». انتهى به الأمر إلى اعتبار هذه الفكرة على قدم المساواة في الأهمية مع «الغريزة الجنسية» فقرر فرويد أن هناك غريزة موت تسوق جميع المواد الحية إلى العودة إلى الحالة غير العضوية التي جاءت منها. وتبعًا لهذا الرأي تتجاذب المرء باستمرار قوتان؛ قوة الحث على الحياة وهي الغريزة الجنسية، وقوة مضادة أخرى هي الحث على الهلاك أو الإبادة، وهي غريزة الموت. وبطبيعة الحال، تتغلب في النهاية غريزة الموت. وهذه الغريزة هي المسئولة عن الحرب وعن أنواع السادية كالتعصب ضد الأجناس والطبقات والمتعة الشديدة في المحاكمات الإجرامية ومصارعة الثيران، والإعدام بدون محاكمة.

وبالاختصار، كل ما سبق ذكره هو النقط الرئيسية في نظرية فرويد. وقد انقسم علماء النفس اليوم إلى معسكرين أو ثلاثة معسكرات متعارضة، يؤيد البعض فرويد، ويعارضه بعض آخر. وحتى تلاميذه، عَدَّلوا قبولهم المطلق لنظرياته في الخمسين سنة الماضية، وها هو ألفريد أدلر Alfred Adler، أحد أتباعه المبكرين، ينشقُّ عن المعسكر الفرويدي لاعتقاده أن فرويد أكد الغرائز الجنسية أكثر من اللازم. وكمذهب بديل، أخذ أدلر يعلم أن رغبة كل إنسان في إثبات تفوقه هي الينبوع الأساسي في السلوك البشري. وقد أنشأ فكرة «مركب النقص» الذي يضطر الفرد إلى النضال لإبراز نفسه في نشاط ما. ومن مشاهير المنشقين الآخرين: كارل جونج Karl Jung أحد مواطني مدينة زيوريخ، الذي حاول أيضًا أن يُقلل من دور الجنس، قسَّم جونج البشرية إلى نوعين نفسانيين؛ أحدهما مقلوب من الداخل إلى الخارج، والثاني مقلوب من الظاهر إلى الباطن، ولو أنه أدرك أن كل فرد خليط من النوعين وعلى نقيض فرويد، أكد جونج عوامل الوراثة في تكوين الشخصية. وعلى العموم، فإن نقَّاد فرويد يخالفونه في بعض النقاط، مثل إصراره على الأهمية الأولى للاضطرابات النفسية في عهد الطفولة، واتهامه الناس بأن تتحكم فيهم الغرائز البدائية الصارمة، وعلى تصعيده الشهوة الجنسية إلى مركز رئيسي في تكوين الشخصية. كذلك يخالفه البعض في اعتقاده أن التسلسل الحر للأفكار طريقة لا تخطئ لارتياد العقل الباطن، مبرزين، بنوع خاص، صعوبة تفسير المعلومات الناتجة عن هذه الطريقة.

ومع ذلك، فكما لاحظ أحد علماء النفس:

«لم تقلل التغيرات ولا التطورات التي حدثت في خلال ستين عامًا، بحال ما، من مركز فرويد أو نفوذه. لقد فتح مملكة العقل الباطن، وأبان كيف أنه يساعد في جعلنا على ما نحن عليه، وكيف نصل إلى ذلك. وكان لا بد لكثير من آرائه واستنتاجاته من أن يعدلها من يأتي بعده في ضوء المزيد من التجارب. ويمكنك أن تقول إن خلفه كانوا يكتبون «عهدًا جديدًا» في طب الأمراض العقلية، ولكن سيجموند فرويد كتب «العهد القديم» وسيظلُّ عمله أساسًا في ذلك المجال.»

إنَّا ندين لفرويد بالكثير من نظرتنا الحديثة إلى الجنون. وهناك ميل متزايد إلى تقرير أن «مرضى الاضطرابات العقلية مثلنا، بل وأكثر من كونهم مثلنا.» وقد أكد ألكسندر رايد مارتين Alexander Reid Martin، أنه: «سواء أعلن أو لم يعلن، فإن جميع مستشفيات الأمراض العقلية والأمراض النفسية. تستخدم عناصر علم النفس الفرويدي ونظرياته الأساسية. وما كان يعتبر من قبل عالمًا غير معروف ومخيفًا وغامضًا وعديم الهدف وبلا معنى، أصبح عن طريق فرويد عالمًا نيرًا وزاخرًا بالمعاني وجذابًا وممتعًا ومعترفًا به، ليس في الطب فحسب، بل وفي جميع العلوم الاجتماعية.»
لوحظ أثر الفكر الفرويدي على الأدب والفن بنفس القدر. ففي عالم الخيال والشعر والدراما وغيرها من الصور الأدبية الأخرى، ازدهرت آراء فرويد في السنوات الحديثة. وقد أبدى برنار دي فوتو Bernard de Voto رأيه بقوله: «ما من عالم طبيعي آخر كان له على الأدب مثل ذلك الأثر القوي والواسع الانتشار.» فلم يكن أثره أقل عمقًا على التصوير والنحت وعالم الفن عمومًا.
من الصعب إحصاء ما أسهمت به عبقرية فرويد في معارفنا من نظريات وآراء متعددة النواحي، وذلك بسبب اتساع مجالاته المتعبة الشاقة وطبيعة اكتشافاته المتعددة الاتجاهات. وقد قام الكاتب الإنجليزي روبرت هاملتون Robert Hamilton بمحاولة، فاستنتج ما يأتي:

«وضع فرويد علم النفس في الخريطة. كان عالمًا مكتشفًا عظيمًا، ويُعزى الكثير من نجاحه إلى طرافته وأسلوبه الأدبي. ورغم كون طريقته لا تعتمد على شيء ملموسٍ، فما من طريقة خارج الأدب البحت كانت أكثر إمتاعًا وطرافة وذات أسلوب جذاب. لقد جعل العالم يفكر نفسيًّا — وهذه ضرورةٌ أساسية لعصرنا، وأجبر الناس على أن يسألوا أنفسهم أسئلةً حيوية لصالحهم البشري. فمن قضايا علم النفس الأكاديمي العقيم للقرن التاسع عشر، أنتج النظريات المضادة في التحليل النفسي بسلبياتها المظلمة.»

تناول أحد مشاهير الطب النفسي الأمريكيين، وهو فريدريك ورثام Frederic Wertham، من وجهة نظر أخرى، فكتب يقول:

«يجب على المرء أن يوضح أنه زيادة على الكثير من الحقائق الإكلينيكية الجديدة عن المرضى الذين لاحظهم فرويد، فإنه أحدث ثلاثة تغييرات في التمهيد لدراسة الشخصية والعلاج العقلي. أولها الكلام عن العمليات السيكولوجية جميعًا، والتفكير فيها بمنطق العلوم الطبيعية. لم يكن هذا ممكنًا إلا عندما قدم فرويد الفكرة الواقعية عن العقل الباطن والطرق العملية لفحصه. وثانيها تقديمه لبعد جديد للعلاج السيكولوجي: الطفولة، قبل فرويد مارسوا طب الأمراض العقلية كما لو كان كل مريض هو آدم — الذي لم يكن طفلًا قط. وثالثها هو افتتاح الفهم النوعي للغريزة الجنسية. كان الاكتشاف الجديد هنا، هو أنه ليس للأطفال حياة جنسية وإنما للغريزة الجنسية طفولة.»

أصدر أ. أو. تانسلي A. O. Tansley حكمًا مماثلًا آخر، في تقرير عن موت شخص أُعدَّ للجمعية الملكية بلندن:

«تغدو الطبيعة الثورية لاستنتاجات فرويد عندما نتذكر أنه كان يفحص مجالًا لم يرتده أحدٌ قبله إطلاقًا، وهو منطقه من العقل البشري لم ينفذ إليها أحد من قبل، واعتبرت مظاهرها الواضحة غير قابلةٍ للتفسير، أو أنها انحرافات فاسدة، أو تجاهلها العلماء لأنها تقع تحت أقوى المحرمات البشرية. ولم يدرك مجرد وجود هذا المجال — فاضطر فرويد إلى فرض حقيقة وجود منطقة لا واعية بالعقل، ثم محاولة ارتيادها بالتفكك الواضح في سلسلة الأحداث العقلية الواعية.»

وأخيرًا قررت وينفريد أوفر هولستر Winfred Overholster أنه: «هناك سبب قويٌّ للاعتقاد بأنه بعد مائة عام منذ الآن، سيعتبر فرويد في مصاف كوبرنيكوس ونيوتن، كأحد الرجال الذين فتحوا أفقًا جديدًا من آفاق الفكر. فمن المؤكد أنه في عصرنا هذا، لم يُلقِ أحدٌ ضوءًا على أعماق عقل الإنسان، كما فعل فرويد.»

قضى فرويد آخر شهور حياته في المنفى. فبعد احتلال النازي للنمسا، اضطر إلى مغادرة فيينا في سنة ١٩٣٨م، فمنحته إنجلترا حق اللجوء، ولكن سرطان الفم تسبب في موته في سبتمبر ١٩٣٩م، بعد ذلك بأكثر قليلًا من سنة.

١  Sigmund Frued.
٢  Id لفظ مختصر من كلمة Idioplasm وهي الوحدة الوراثية أو البلازما الوراثية أو أداة الوراثة في النواة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤