الفصل الثالث

القديس حامي المشاريع الحرة: آدم سميث١

ثروة الأمم

بعد أن مضى شهران على إسهام كتاب «الإدراك العام» في إعلان الاستقلال والأحداث المعاصرة الأخرى للثورة الأمريكية، ظهر في لندن كتابٌ قُدِّر له أن يُحدث ردَّ فعلٍ عميق في مجال آخر من مجالات النشاط البشري. وعلى نقيض كُتيب بين الملهب للمشاعر، كانت رسالة آدم سميث الطويلة، ذات المجلدَيْن بعنوان «تساؤل عن طبيعة وأسباب ثروة الأمم»، قنبلة زمنية، جذبت قليلًا من الانتباه في أول الأمر، والواقع أن هذا المؤلف لم ينجح في إحداث الأثر المرجو كاملًا، إلا في القرن التالي لموت مؤلفه بعد الثورة الأمريكية، وكانت الثورة الفرنسية في طور التدبير، وتقدم الانقلاب الصناعي بسرعةٍ مدفوعًا إلى الأمام باكتشاف قوة البخار. وقد وصف أحد المعلِّقين الحقبة الماضية بأنها «العصور المظلمة للعصر الحديث.» وفي إنجلترا، كان كل مظهرٍ من مظاهر الحياة الاقتصادية تحت المراقبة الدقيقة للحكومة. جمدت الأسعار، وحددت الأجور وساعات العمل، وعُدِّل الإنتاج، وسيطرت الدولة تمامًا على التجارة الخارجية من واردات وصادرات، وتكاد الحرب تكون موجودةً باستمرار. فتتطلب السياسة القومية جيشًا وبحرية قويين، وشعبًا ضخمًا، والاستيلاء على المستعمرات في جميع بقاع الأرض، وإضعاف الدول المنافسة مثل فرنسا بالطرق الطيبة أو الشريرة. ولقي كل اقتراحٍ لتوزيع الثروة بالعدل، معارضة عنيفة من الطبقات الحاكمة. واقتصر التعليم على القلة المحبوة، وكانت القوانين الجنائية بالغة القسوة والحقوق السياسية للجمهور موجودة نظريًّا أكثر منها عمليًّا.

وكما كانت الحال لعدة أجيال، ما زالت تملك الأريستوقراطية القائمة قابضة على زمام الحكومة. غير أنه قامَت طبقةٌ جديدة قوية من التجار والصناع، تُطالب بامتيازات خاصة لأنفسها، فحصلت عليها. كانت الصادرات في نظر هذه الفئة نعمًا، والواردات كوارث، ويجب ألَّا يُسمح للأموال بمغادرة الدولة. يجب الاحتفاظ دائمًا بميزان تجاري مرموق، يجب أن تكون أجور العمل منخفضة، وساعاته طويلة، ويجب حماية الصناعات الوطنية بتعريفة جمركية عالية. ومن الضروري امتلاك أسطولٍ تجاري قوي، وفرض كل إجراء من شأنه أن يُساعد التجار تلقائيًّا، وذلك لفائدة الأمة ككل. وتحت ضغط الأصوات القوية أصدر البرلمان قرارًا بتحويل جميع هذه المقترحات إلى قوانين.

بعد ذلك جاء آدم سميث معتزمًا نسف ما اعتبره آراء خطأ وضارة. ويمكن اعتبار حياة رجولة سميث حتى هذه المرحلة إعدادًا للعمل الضخم الذي وطد نفسه للقيام به. كان مواطنًا اسكتلنديًّا التحق في الرابعة عشرة من عمره (سنة ١٧٣٧م) بجامعة جلاسجو حيث وقع تحت نفوذ أستاذه العظيم فرنسيس هتشسون Francis Hutcheson الذي كثيرًا ما كان يكرِّر مذهبه «السعادة العظمى للعدد الأعظم»، حتى صار ذلك المذهب فلسفة سميث الدائمة. وبعد ذلك ذهب إلى جامعة أكسفورد حيث بقي ست سنوات كرَّس معظم وقته فيها لقراءة الأدب على مدًى واسع. ولما عاد إلى اسكتلندا، أخذ يُلقي المحاضرات في إدنبره Edinburgh حتى سنة ١٧٥١م عندما عُيِّن أولًا أستاذًا لكرسي علم المنطق ثم الميتافيزيقا ثم أخيرًا الفلسفة الأخلاقية في جامعة جلاسجو. ظل مدة اثنتي عشرة سنة يعمل محاضرًا موهوبًا ذائع الصيت، وزادت شهرته عندما نشر كتابه «نظرية العواطف الأخلاقية» الذي لقي رواجًا عظيمًا، وهو مؤلف اعتبره معاصروه أفضل من «ثروة الأمم». وإذ أغرته المكافآت المالية السخية، استقال من منصبه كأستاذ، ليصاحب أحد الشبان النبلاء كرفيق ومدرس، في رحلة إلى أوروبا تستغرق ثلاث سنوات. وهناك تعرف على روَّاد الاقتصاد والفلاسفة والمفكرين السياسيين لذلك العصر، ولا سيما في فرنسا.

وفي سنة ١٧٥٩م، تضمنت مذكرات سميث فكرة «ثروة الأمم»، ولكن العمل فيه سار ببطء إلى أن أتى ثمرته. فاستغرق سنوات من التأمُّل والدراسة والقراءة والملاحظات المبدئية والتحدُّث إلى أناسٍ من مختلف المشارب في الحياة، ومراجعات لا تنتهي، قبل أن يُعدَّ هذا المؤلف للطبع. وقبل نشر هذا الكتاب، قضى سميث معظم ثلاث سنوات في لندن حيث ناقش كتابه هذا مع بنيامين فرانكلين مندوب المستعمرات الأمريكي. ولم يخرج ذلك الكتاب من المطبعة إلا في التاسع من مارس سنة ١٧٧٦م. ومنذ ذلك التاريخ طُبع منه عدة طبعات، وتُرجم إلى معظم اللغات الحية في العالم.

كان كتاب «ثروة الأمم» دائرة معارف أكثر منه مجرد رسالة في الاقتصاد. وأطلق عليه أحد النقاد اسم «تاريخ ونقد جميع الحضارات الأوروبية.» بدأ سميث بمناقشة موضوع تقسيم العمل، ثم عرج على نشأة النقود وفائدتها، وأسعار السلع، وأجور العمل، وأرباح التجارة، وإيجار الأرض، وقيمة الفضة، والفرق بين العمل المنتج وغير المنتج. بعد ذلك شرح التقدم الاقتصادي في أوروبا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وقام بتحليلات واسعة لنقد السياسات التجارية والاستعمارية للأمم الأوروبية، ودخل الملك، ومختلف طرق الدفاع عن العدل، وإقامته في المجتمعات البدائية، ونشأة ونمو الجيوش القائمة في أوروبا، وتاريخ التعليم في العصور الوسطى، ونقد للجامعات في عصره، وتاريخ القوة الدنيوية للكنيسة، وتضخم الديون الشعبية، وفي النهاية اختبار لمبادئ نظام الضرائب وأنظمة الدخل العام.

قد تكون القضية العامة التي بنى عليها سميث كتابه «ثروة الأمم» من وَضْع نيقولو ماكيافيلي Niccolo Machiavelli ونصها: كل بشرٍ تُحركه أولًا وقبل كل شيء، مصالحه الشخصية. وليست الرغبة في الثروة إلا أحد المظاهر هذه. وتقف دوافع الأنانية وراء جميع أنشطة البشرية. وزيادة على هذا، فبدلًا من أن يجد سميث أن هذا المظهر في سلوك الإنسان ممنوع وغير مرغوب فيه، اعتقد أن أنانية الفرد تؤدي إلى صالح المجتمع. قال إن خير طريقة لرفاهية الأمة، هي السماح لكل إنسان بأن «يبذل جهدًا منتظمًا ومستمرًّا بدون انقطاعٍ لتحسين حالته … لا نتوقع الحصول على غذائنا من إنسانية الجزار أو صانع البيرة أو الخباز، بل من نظرتهم إلى صالحهم. إننا نخاطب أنفسنا، ليس عن حبهم لخير البشر، وإنما عن حبهم لأنفسهم، ولا نتحدث إليهم قط عن حاجاتنا وإنما عن منفعتهم. وبسبب أمثال هذه الفقرات، تحدث راسكين Ruskin عن سميث على أنه الرجل الاسكتلندي ذو نصف التربية ونصف الذكاء، الذي علم التجديف الصريح، «إنك ستبغض الرب إلهك، وتلعن ناموسه، وتحسد جارك على خيراته».

قال سميث: «إن الصناعة الحديثة تغدو ممكنةً بتقسيم العمل، وتكديس رأس المال، وكلٌّ من هذين مفسر بالصالح الشخصي أو «النظام الطبيعي»، كما وصفه فلاسفة القرن الثامن عشر. ودون وعي، تقود «يد إلهية» الإنسان كي يُسهم في خير الكل بالعمل من أجل نفسه ومن أجل ربحه. ومن الطبيعي أن يتبع ذلك أنه يجب أن يكون هناك أقل قدر ممكن من تدخل الحكومة في النظام الاقتصادي — فخير حكومة، كما قال توم بين في مناسبة أخرى، هي الحكومة التي تحكم بأقل ما يمكن من الحكم.»

تناول سميث صناعة الدبابيس، كتفسير بياني لشرح مزايا تقسيم العمل: «فالصانع الذي لم يتعلَّم هذه الصناعة … ولا يعرف طريقة استعمال الآلات المستخدمة فيها … فربما أنه قلَّما يستطيع بأكبر جهدٍ أن يصنع دبوسًا واحدًا في اليوم، وبالتأكيد لا يستطيع إطلاقًا أن يصنع عشرين دبوسًا.» وبتقسيم عملية الصنع «إلى ثماني عشرة عملية متفرقة، تقوم بها جميعًا في بعض المصانع، عدة أيادٍ متفرقة … رأيت مصنعًا صغيرًا من هذا النوع حيث يعمل عشرة رجال فحسب … يصنعون فيما بينهم ثمانية وأربعين ألف دبوس في اليوم.» كان هذا «نتيجة للتقسيم الصحيح لعملياتهم الصعبة وتجميعها.»

وأردف سميث يقول إن نشأة تقسيم العمل كانت عند الشعوب البدائية:

فمثلًا يوجد بين أفراد قبيلةٍ من الصيادين أو الرعاة، شخص معين يقوم بصناعة القسي والسهام بحذقٍ ومهارةٍ أكثر من أي شخصٍ غيره في تلك القبيلة. فغالبًا ما يُقايض هذا الشخص على القسي والسهام بالماشية أو بلحوم الصيد مع زملائه. فيجد أنه بهذه الطريقة يحصل على ماشيةٍ ولحوم صيد أكثر مما لو أنه ذهب بنفسه إلى الحقل ليصيدها. وعلى هذا، فمن نظرته إلى صالحه، صارَت صناعة القسي والسهام عمله الرئيسي.

ويتفوَّق شخص آخر في صناعة هياكل وأغطية أكواخهم الصغيرة أو بيوتهم المتنقلة …

وبنفس هذه الطريقة يصير شخص ثالث حدادًا أو نحاسًا، ويغدو شخص رابع دباغ جلود … وهكذا؛ إذ يتأكَّد كل فردٍ من قدرته على مبادلة كل ما يزيد عن حاجته مما يصنعه بنفسه، بما يزيد عن حاجة رجلٍ آخر مما صنعه هذا الأخير، كلما سنحَت له الفرصة، فإن هذا يشجِّع كل إنسانٍ على أن يقصر جهده على عمل واحد بعينه، وينمِّي في نفسه كل حذقٍ وبراعةٍ وموهبةٍ يملكها لإتقان ذلك النوع المعين من العمل الذي ارتضاه لنفسه.

ينتقل سميث بعد ذلك إلى موضوع النقود وأسعار السلع، فيذكر مبدأ يهاجمه علماء الاقتصاد الأصليون على أنه خطأ، ولكنه أقرَّ في حقبات تالية على أنه صرخة وثرثرة المفكرين الاشتراكيين، فيقول سميث: «العمل وحده لا تتغير قيمته أبدًا، وهو وحده المستوى الحقيقي والأخير، الذي به تقدر وتقارن جميع السلع، في جميع الأزمنة والأمكنة. إنها ثمنه الحقيقي، أما النقود فثمنه الاسمي فقط.»

لم يكن سميث أكثر صراحة في أي موضعٍ آخر من كتاب «ثروة الأمم»، وأحيانًا ليس أكثر سخطًا، منه في تعليقاته على عدم المساواة في المساومة بين أصحاب العمل والعمال، وفي معارضته لفكرة المتاجرة القائلة بأن الأجور المنخفضة تُجبر العمال على أن يعملوا أكثر، وبذا يزيدون في رخاء إنجلترا. فيبدي ملاحظته على النقطة الأولى قائلًا: «يرغب العمال في الحصول على أكثر ما يمكن، ويرغب السادة في إعطاء أقل ما يمكن. فوطد العمال العزم على الاتحاد ليرفعوا أجور العمل، واتحد أصحاب العمل ليخفضوها.»

ويستطرد قائلًا:

إذن، فليس من الصعب التنبؤ بمن من هذين الطرفين سيكون له الفوز، في جميع الظروف العادية، في هذا النزاع، فيجبر الآخر على التسليم بشروطه. ولما كان أصحاب العمل أقل عددًا، فيمكنهم الاتحاد بسهولة أكثر، فضلًا عن أن القانون دائمًا إلى جانب السلطات، أو على الأقل، لا يحرم اتحاداتهم بينما هو يحرم اتحاد العمال. ليس لدينا قراراتٌ برلمانية ضد الاتحاد لخفض أجور العمل، ولكن هناك قرارات كثيرة ضد الاتحاد لرفعها. وفي جميع أمثال هذه النزاعات، بوسع أصحاب العمل الصمود مدة أطول بكثير؛ فصاحب الأرض أو المزارع أو صاحب المصنع أو التاجر، يمكنهم، حتى ولو لم يجدوا واحدًا أن يصمدوا، عمومًا، لمدة سنة أو سنتين بما ادخروه من قبل من مكاسبهم، بينما لا يستطيع كثير من العمال الصمود أكثر من أسبوع، ويستطيع قليلون الصمود مدة شهر وقلَّما تجد من بوسعه أن يصمد بدون عمل مدة سنة. ومع الوقت الطويل، قد يصبح العامل ضروريًّا لصاحب العمل ضرورة صاحب العمل للعامل، ولكن هذه الضرورة ليست هكذا مباشرة.

يبدو عطف سميث الواضح على العمال الفقراء في مثل هذه الفقرات:

«يتكون الجزء الأعظم في كل مجتمع سياسي من الخدم والعمال والصناع على اختلاف أنواعهم، ولكن ما يعمل على تحسين ظروف هذا الجزء الأعظم لا يمكن اعتباره، بحال ما، متعبًا للمجموع. فما من مجتمع بوسعه أن يعيش سعيدًا في رخاء، طالما كان هذا الجزء الأعظم من أعضائه فقيرًا بائسًا. هذا مؤكد. وعلاوة على ذلك، فإنه من العدل أن يحظى أولئك الذين يغذون ويكسون ويسكنون جموع الشعب كلها، بنصيب من إنتاج عملهم، فيتمتعون بالغذاء. الغذاء والمسكن الملائمين … وهذان مكافأة حرة على العمل … تزيد في نشاط سواد الشعب. وأجور العمل تشجع النشاط، الذي هو كأيَّة صفةٍ بشريةٍ أخرى، يتحسَّن بنسبة ما يناله من تشجيعٍ … وإننا لنجد العمال أكثر نشاطًا واجتهادًا وسرعة حيث الأجور عالية، منهم حيث الأجور منخفضة.»

ثم يقول:

«يشكو تجارنا وأصحاب مصانعنا مُر الشكوى من الأثر السيئ الذي تحدثه الأجور العالية في ارتفاع الأسعار؛ وبالتالي قلة مبيعات منتجاتهم محليًّا وفي الخارج، ولا يقولون شيئًا عن الأرباح العالية. إنهم صامتون عن الآثار الوبيلة لأرباحهم. إنهم يشكون فقط من أرباح غيرهم.»

تنبَّأ سميث بنظريات مالثوس قبل نشر كتاب «مبادئ السكان» باثنتَيْن وعشرين سنة.

«تتكاثر كل فصيلةٍ من الحيوانات طبيعيًّا بالنسبة إلى وسيلتها في الحياة، ولا يمكن لأي فصيلة أن تتكاثر بما يزيد على تلك الوسيلة. أما في المجتمع المتحضر، فنجد بين الطبقات الدنيا فقط من الناس، أن قلة مقومات الحياة هي التي تحدُّ من تكاثر الأجناس البشرية، ولا يمكنها أن تفعل ذلك بأية طريقةٍ غير إبادة الجزء الأعظم من الأطفال الذين يولدون نتيجة للزواج المثمر.»

وبالنظر إلى أرباح العمل في العصور الحديثة، من الصعب تصديق كل تلك الممنوعات والقيود الإقطاعية التي سادت في القرن الذي عاش فيه آدم سميث. لم يكن تحريم أية صورة من صور التنظيم العمالي سوى أحد القيود الصارمة المفروضة على العمال. كما كانت قوانين التلمذة الصناعية، وقانون الإقامة أشد وأنكى من القيد السابق.

يرجع تاريخ قانون التلمذة الصناعية إلى عصر الملكة إليزابيث. وكما يصفه سميث، ينصُّ على «أنه محظور على أي شخص أن يمارس في المستقبل أية حرفة أو مهنة أو أي عمل غامض، في إنجلترا، في ذلك الوقت، إلا إذا كان قد سبق له أن تتلمذ في ذلك العمل لمدة سبع سنوات على الأقل.» وفي أثناء هذه السنوات السبع، كان صاحب العمل يمد التلميذ بالقوت الضروري فحسب. وبطبيعة الحال، انتهز أصحاب العمل المعدومو الضمير هذا القانون كي يستغلوا عمَّالهم ليأخذوا الكثير ويعطوا القليل، بينما كان الصنَّاع المتتلمذون أشبه بالعبيد. ولكي يشهر سميث بهذه الطريقة، قرر أنه لا حاجة إطلاقًا لمدة التلمذة الطويلة هذه؛ لأنه بالإمكان استيعاب معظم الحرف في بضعة أسابيع. ثم إن قوانين التلمذة الصناعية كانت تدخلًا تعسفيًّا في حقوق العامل يمنعه من إبرام عقد عمله، ومن اختيار عمله ومن الانتقال من عمل قليل الأجر إلى عمل آخر أكثر أجرًا.

وبالمثل، كان قانون الإقامة ظالمًا أيضًا: «أجرؤ على القول بأنه قلَّما يوجد رجلٌ فقير في الأربعين من عمره، في إنجلترا، لم يشعر في أي وقتٍ من حياته بأنه مغبون غبنًا أي غبن بسبب قانون الإقامة هذا.» وكما حدث في قانون التلمذة الصناعية، صدر ذلك القانون في العصر الإليزابيثي أيضًا. كان الغرض الأساسي منه إقرار النظام في توزيع إعانات الفقر. كانت كل أبروشية مسئولة عن الاهتمام بأعضائها الفقراء. ولمنع زيادة عدد الفقراء في المجتمع، لم يسمح للفقراء الجدد بالإقامة هناك إلا إذا كان لهم معين يكفل معيشتهم. وبتطبيق هذا القانون على العمال، كان الأثر العملي لهذا القانون خلق طبقة من المسجونين مؤبدًا في مسقط رأسهم، واضعًا عقبات كَأْداء في طريق العامل الراغب في الانتقال من منطقة إلى أخرى. كان هناك مثل أيضًا، في تقدير آدم سميث، لعدم المساواة في تدخل الحكومة في حقوق الإنسان وفي الناموس الطبيعي للنظام الاقتصادي.

حاول سميث التمييز بين العمل المنتج والعمل غير المنتج بقوله:

«لن تفتقر الأمم العظمى بالتبذير العام وسوء السلوك، ولو أنها قد تفتقر بهما أحيانًا، فكل الدخل القومي أو معظمه، في معظم الدول، يُستخدم في الاحتفاظ بالأيدي غير المنتجة. هكذا الشعوب التي تحتفظ ببلاطٍ فخمٍ كبير العدد، وبمؤسسة إكليريكية كبيرة، وأساطيل عظيمة وجيوش ضخمة، تلك التي، في زمن السلم، لا تُنتج شيئًا بعوض ما ينفق على الاحتفاظ بها، حتى ولو كانت الحرب قائمة. فمثل أولئك الناس، الذين لا ينتجون شيئًا، يعيشون بما يُنتجه عمل أناس آخرين. وإذا ضوعفوا إلى عددٍ غير ضروري، فإنهم في سنةٍ معينة يستهلكون جزءًا عظيمًا من هذا الإنتاج غير تاركين ما يكفي للاحتفاظ بالعمال المنتجين.»

ولسوء الحظ، أن المستعمرات الأمريكية لم تُلق بالًا كذلك إلى النصائح السليمة عن عمل العبيد.

«أعتقد أن تجارب جميع العصور وكافة الأمم، تُبرهن على أن العمل الذي يقوم به العبيد، رغم أنه يبدو أنه لا يكلِّفهم سوى نفقات الاحتفاظ بأولئك العبيد، فهو في النهاية أغلى عمل. فالشخص الذي لا يمكنه اكتساب أية ممتلكات لا يمكنه الحصول على أية منافع إلا أن يأكل أكثر ما يستطيع، ويعمل أقل ما يمكن. فأيُّ عملٍ يقوم به أكثر مما يكفي لشراء ما يلزم لحياته، لا يمكن اعتصارُه منه لا بالعنف ليس غير، لا بمحض إرادته واختياره.»

بعد ذلك انتقل سميث من قضايا العمل إلى الدفاع عن إصلاح قضايا الأرض. وهنا أيضًا يرى أن اللوائح الحكومية غير الحكيمة، والقوانين غير الملائمة، تقف في طريق التقدم؛ فمعظم الأراضي البريطانية في القرن الثامن عشر، كانت خاضعة للوصاية. بوسع مالك الأرض أن يصدر قواعد لتقسيم أرضه وبيعها، يلتزم بها ورثته لعدة قرونٍ بعد موته. ومن العادات القديمة الأخرى، حق الابن الأكبر في جميع الميراث عن والدَيْه. وهذه عادةٌ إقطاعية تمنع تفتيت الملكيات الكبيرة. فبهذا القانون يكون الابن الأكبر هو الوارث الوحيد. وقد علق سميث على هذا بقوله: «لا شيء يمكن أن يضر بصالح أية أسرةٍ كبيرة، إلا ذلك الحق، الذي لكي يغني فردًا واحدًا منها، يسوق بقية الأولاد إلى فقرٍ يؤدي بهم إلى مد أيديهم للسؤال.» وعلى هذا، حثَّ بإلحاحٍ على حرية الاتِّجار في الأراضي بإلغاء قوانين التوصية وقانون حق الابن الأكبر في الميراث، وغير هذه من قيود نقل ملكية الأراضي بالهبة أو بالوصية أو بالبيع.

تتناول فقرة شهيرة من كتاب «ثروة الأمم»، المستعمرات، ويؤكد مصدر حجة، أن هذه «لا تزال أفضل ملخص لسياسة المستعمرات، كُتب حتى ذلك الوقت.» وتنقسم مناقشة هذه القضية إلى ثلاثة أقسام: (١) «دوافع إقامة مستعمراتٍ جديدة»، استعرض فيها المشروعات الاستعمارية لكلٍّ من اليونان وروما وفينيسيا والبرتغال وإسبانيا. (٢) «أسباب رخاء المستعمرات الجديدة»، نذكر تلك العوامل، مثل الأراضي الواسعة والرخيصة، والأجور العالية، ونمو السكان السريع، وإلمام المستعمرين بالزراعة والفنون الأخرى (ويقارن بين السياسات الاستعمارية المستنيرة لإنجلترا، وبين السياسات الاستعمارية الضيقة والمقيدة لكلٍّ من البرتغال وإسبانيا). (٣) «عن الميزات التي حصلت عليها أوروبا من اكتشاف أمريكا، ومن طريق الوصول إلى جزر الهند الشرقية عن طريق رأس الرجاء الصالح»، وهذان اكتشافان يقول عنهما سميث: «إنهما أعظم وأهمُّ اكتشافَيْن سجَّلهما تاريخ البشرية.»

هاجم سميث القيود الموضوعة على المستعمرات لاحتكار تجارتها فقال إنها اعتداء على «الحقوق الطبيعية» لتلك المستعمرات، كان النظام التجاري في المستعمرات سخيفًا وباهظ النفقات، شأنه شأن النظام المستعمل في الدولة المستعمرة نفسها. كذلك كان هناك استنزافٌ ماليٌّ للقوة المستعمرة؛ لأن المستعمرات لن ترضى بمحض اختيارها، أن تفرضَ على نفسها ضرائب تكفي نفقات الدفاع عن نفسها.

استطاع سميث أن ينظر إلى المستعمرات الأمريكية المتمردة بموضوعية أكثر من نظرة معظم مواطنيه. اعتقد أن الحل المناسب لهذه القضية هو تمثيل تلك المستعمرات الأمريكية في البرلمان البريطاني — الاتحاد بدلًا من الانفصال، بتمثيل مبني على الدخول الضريبية. وإذا انتهى الأمر، كما يمكن أن ينتهي، بأن يزيد الأمريكيون في الضريبة البريطانية، فإنه من الممكن نقل تلك الأموال عبر الأطلنطي «إلى جزء الإمبراطورية الذي أسهم أكثر من غيره في الدفاع العام وتأييد الكل.» قد يكون هذا ردًّا على تأكيد توم بين بأنه من السخافة الاعتقاد أن بوسع جزيرة أن تستعمر قارة استعمارًا دائمًا. إذ عندئذٍ يجب أن تنعكس الأوضاع.

أكد سميث على ضرورة استقلال المستعمرات الأمريكية إذا لم يكن تسوية الخلافات سلميًّا بينها وبين إنجلترا، ولو أنه اعترف بالواقع، فقال: «إن الاقتراح بأن تتنازل بريطانيا العظمى عن كل سلطة لها على مستعمراتها، وتتركها تنتخب حكامها وتشرع قوانينها، وتصنع السلم أو تعلن الحرب كما يتراءى لها الأصلح لنفسها، يعني اقتراح نظام لم يحدث قط من قبل، ولن تتخذه أية أمة في العالم … فما أصعب ما يصير حكمها، وما أقل الدخل الذي تدفعه بالنسبة إلى النفقات التي أنفقت عليها!»

يتجلَّى رأي سميث النير وبصيرته الثاقبة في هذه الفقرة التي يتنبأ فيها بمستقبل أمريكا:

«لقد تحوَّل أهالي المستعمرات الأمريكية، من بائعين وتجار وقضاة إلى سياسيين ومشرعين، استخدموا في تكوين صورة جديدة من الحكومة الإمبراطورية واسعة، معللين أنفسهم بأنها ستصير أعظم وأقوى إمبراطورية شهدها العالم، ومن المتوقع أن يحدث هذا.»

إن أشهر قِسم، وهو بيت القصيد، في كتاب «ثروة الأمم»، هو الجزء الرابع وعنوانه «عن أنظمة الاقتصاد السياسي». تناول فيه سميث نظامين مختلفين؛ نظام التجارة ونظام الزراعة، وشغل موضوع التجارة مكانًا يبلغ ثماني مرات ما شغله الكلام عن الزراعة. فتناول مبادئ «حرية العمل» التي اقترنت باسمه منذ ذلك الوقت. وقد انتهت المناقشة الخاصة بكلٍّ من العمل والأراضي والسلع والنقود والأسعار والزراعة والماشية والضرائب إلى نقطةٍ واحدةٍ هي حرية التجارة داخليًّا وخارجيًّا. لن تحصل الأمة على التقدم الكامل والرخاء إلا عن طريق التجارة غير المقيدة، في الداخل وفي الخارج … ناشد سميث الأمم إلغاء الرسوم الجمركية والتبرعات والتحريم من النظام التجاري، والاحتكارات التجارية للشركات المتعهدة. فكل هذه القيود تعوق النمو الطبيعي للصناعة والتجارة وحرية وصول السلع إلى المستهلكين. كما تترك المبدأ الزائف، مبدأ «التوازن التجاري» الذي يحبذه التجار. ليست النقود سوى أداةٍ «وليس هناك مقياسٌ يمكننا بواسطته معرفة على أي جانبٍ يقع ما يُسمَّى بالتوازن التجاري بين دولتَيْن أو أي منهما تصدر بأكبر قيمة … ليست الثروة في النقود ولا في الذهب ولا في الفضة، وإنما فيما تشتريه النقود ويستحق الشراء فعلًا.»

وتقسيم العمل ضروري ومنطقي بين الأمم كما هو بين الأفراد.

«الميزات الطبيعية لدولةٍ على أخرى في إنتاج سلعٍ بعينها، عظيمة في بعض الأحيان، لدرجة أن العالم كلَّه يُعلن أنه من العبث منافستها في تلك السلع. فبواسطة الأقبية الزجاجية والأحواض والحوائط الدافئة يمكن إنتاج أنواع من العنب بالغة الجودة في اسكتلندا. وكذلك يمكن صنع نبيذ جيد جدًّا منها بنفقات تبلغ ثلاثين ضعفًا، على الأقل، لما يمكن جلبه من الدول الأجنبية ويكون مماثلًا له في الجودة. فهل يكون من المعقول إصدار قانون يحرم استيراد جميع الأنبذة الأجنبية لمجرد تشجيع صنع النوعَيْن المعروفَيْن بالكلاريت Claret والبرجندي Burgundy في اسكتلندا؟»

لخَّص سميث الميزات الاقتصادية للتجارة الحرة في هذه الحقائق:

«شعار كل رب أسرة حازم ألَّا يُحاول أن يصنع في منزله ما يكلفه صنعه أكثر مما يدفع في شرائه … وما هو حزم في مسلك كل أسرة قلَّما يكون غباء في مملكة عظمى. فإذا كان بوسع دولة أجنبية أن تورد لنا سلعة بأرخص مما يكلفنا صنعها بأنفسنا، فمن الخير أن نشتريها منها نظير نوعٍ ما من منتجات صناعتنا، مستخدمة بطريقة تحقق لنا بعض الميزات.»

أكد سميث المنافع المتبادلة من التجارة الأجنبية بقوله:

«إذا تمَّت تجارة أجنبية بين أي مكانين، حصل كلٌّ منهما على فائدتَيْن واضحتَيْن. تأخذ تلك التجارة فائض إنتاج أرضٍ وعمل كل منهما الذي ليس له طلب فيهما، وتجلب بدلًا منه شيئًا له طلب … وبهذا التبادل لا يعوق ضيق السوق المحلية تقسيم العمل في أي فرع بعينه من الفنون أو الصناعة أن يسير إلى أعلى درجات الكمال. وإذا ما فتحت دولة ما سوقًا أوسع لأي جزء من إنتاج عملها يفيض عن الاستهلاك المحلي فيها، فإنها تشجع بذلك قوتها الإنتاجية وتحسنها وتزيد في إنتاجها السنوي إلى أقصى حد، وبذا تزيد في الدخل الحقيقي والثروة الحقيقية للمجتمع.»

يتضح أن سميث كان عقيديًّا محضًا في تأكيده على حرية التجارة مع بعض استثناءات أو تحديدات معينة رغب في إبدائها لتطبيق هذا المبدأ، فأشار في بضع حالات بقوله: «ومن المفيد عمومًا إلقاء بعض الأعباء على الصناعة الأجنبية لتشجيع الصناعة المحلية. وأول تلك الأعباء هو عندما يلزم نوع معين من الصناعة للدفاع عن الدولة حتى ولو لم يكن تحقيق ذلك لأسبابٍ اقتصاديةٍ محضة؛ لأن «الدفاع أهم بكثيرٍ من الرخاء».» ولما كان سميث يعيش في دولةٍ محاربة، فقد سلَّم بأن الأمم الغنية التي من المفيد لنا أن نتبادل معها التجارة في وقت السلم تغدو أعداء أشد خطرًا في وقت الحرب من الدول الفقيرة. كما وافق على أن إصدار تعريفةٍ جمركيةٍ وقائيةٍ على «الصناعات الناشئة» يُساعدها على النمو بسرعةٍ أكثر، ربما إلى درجةٍ تسمح بإمكان الدفاع عنها اقتصاديًّا. وزيادة على ذلك، أوصى سميث بأن كل تخفيضٍ في التعريفة الجمركية يجب أن يتم «ببطء وتدريجيًّا وبعد تحذيرٍ طويلٍ جدًّا.» وذلك لحماية الاستثمارات النباتية في الصناعة غير القادرة على الصمود أمام المنافسة الأجنبية، ولتزويد العمال بمهلة يبحثون فيها عن أعمال جديدة. كانت هذه اعترافات واقعية لمجادلات خصوم التجارة الحرة.

إذا رفعت الحكومة أيديها عن الأعمال والصناعة والزراعة ومعظم الأنشطة اليومية للأمة، كما قال سميث، فما الذي يعتبره وظائف مناسبة للحكومة؟ سيكون نطاق المسئولية ضيقًا؛ فالوظيفة الأساسية للحكومة تقتصر على صدِّ الهجوم الأجنبي وإقامة العدل، وكذلك يرغب سميث في أن تقوم الحكومة «بتشييد وصيانة أنواع معينة من الأشغال العامة، وبعض المؤسسات العامة، التي لا يمكن إطلاقًا أن تكون لصالح أي فرد أو لصالح عدد بسيط من الأفراد تشدُّها وتصونها؛ لأن الفائدة لأي فرد أو لعدد بسيط من الأفراد، لا يمكن أن تعوض نفقاتها، ولو أنها كثيرًا ما تفيد المجتمع الكبير بأكثر من نفقاتها.» وقد ذكر سميث في القائمة البسيطة التي حدَّدها لوظائف الحكومة؛ صيانة الطرق الرئيسية وإضاءة شوارع المدن، وإمداد الأهالي بالماء. وهكذا رأى آدم سميث عذرًا بسيطًا لبقاء ما أطلق عليه «الحيوان المراوغ المكَّار الذي يحمل اسمًا مبتذلًا نُسميه: السياسي.» خارج المحافظة على الأمن الخارجي والنظام الداخلي.

كان سميث في أحد استثناءاته سابقًا كثيرًا لعصره — إسهام الحكومة في تعليم الشعب، ويعلِّق في تدعيم حجته بخصوص التعليم الشعبي، بقوله:

«الرجل الذي لا ينتفع الانتفاع المناسب بالمواهب العقلية للإنسان، يستحق الازدراء، إن أمكن، أكثر من ازدرائنا للجبان، ويبدو مشوهًا في عضو رئيسي من أعضاء أخلاق الطبيعة البشرية. ورغم أن الحكومة لا تجني فائدةً من تعليم الطبقات الدنيا من الشعب، فمما يستحق اهتمامها ألَّا يكونوا غير متعلمين تمامًا. ومع ذلك، فلا تجني الحكومة فائدةً كبيرة من تعليمهم. فكلما كانوا متعلمين، كانوا أقل عرضة للانسياق في تيار الخزعبلات والخرافات التي تسبب أفظع حالات الإخلال بالنظام بين الأمم الجاهلة. وزيادة على ذلك، فإن الشعب المتعلم الذكي أكثر احتشامًا ونظامًا من الشعب الجاهل الغبي. يشعر كل فردٍ منهم بأنه محترمٌ وبأنه جديرٌ باحترام رؤسائه الشرعيين. وعلى ذلك، يكون أكثر استعدادًا لأن يحترم أولئك الرؤساء … وفي الدول الحرة، حيث يتوقف أمن الحكومة كثيرًا جدًّا على الحكم الذي يكونه الشعب على مسلك هذه الحكومة؛ ولهذا يكون من المهم جدًّا ألا يكون الشعب ميَّالًا إلى الحكم عليها بتهورٍ أو بتعصُّب.»

إن تقدير آدم سميث وكتابه غير المتحيز وغير المحابي، معقد، حتى بعد مرور حوالي مائتي عام. فمثلًا هناك نظرة باكل Buckle في كتابه «تاريخ المدنية» إذ يقول: «ربما كان كتاب ثروة الأمم … أهم كتاب وضع، سواء اعتبرنا ما يضمه من كمية الفكر الأصلي، أو نفوذه العملي.» ويقول ماكس ليرنر Max Lerner، ولو أنه كان أقل ميلًا إلى سميث: «ربما فعل كتاب ثروة الأمم مثل ما فعله أي كتاب حديث في تشكيل منظر الحياة كله كما نعيشها اليوم.» أبدى ليرنر ملاحظته ببصيرة، فقال: «من قرءوا ذلك الكتاب هم الذين أرادوا الإفادة من نظرته إلى العالم — الطبقة الثائرة من رجال الأعمال ولجانهم التنفيذية السياسية في برلمانات العالم، ولجانهم التنفيذية الذهنية في الأكاديميات. وعن طريق هؤلاء استطاعت تلك الطبقة أن يكون لها نفوذ ضخم على سكان العالم الآخرين، رغم أنهم عمومًا، لم يكونوا معروفين لهم، وعن طريقهم أيضًا كان لهم نفوذ عظيم على الآراء الاقتصادية والسياسية القومية.»
أيَّد حكم هذين الحجتين، العالم الاقتصادي الإنجليزي الشهير ج. أ. ر. ماريوت J. A. R. Marriott الذي أبدى ملاحظته قائلًا: «ربما لا يوجد أي مؤلفٍ في اللغة كان له، في عصره، مثل ذلك الأثر العميق على كلٍّ من الفكر العلمي الاقتصادي وعلى العمل الإداري، على حدٍّ سواء. وهناك أسباب قوية في أنه لا يزال له هذا الأثر.» وأضاف عالم اقتصادي آخر هو و. ر. سكوت W. R. Scott: «كان سميث، من الناحية الذهنية، أستاذًا في رؤية الحياة الاقتصادية باستمرار وككل.»

ومن ناحية أخرى، وجد كثير من المفكرين الأحرار المتطرفين، أنه من الصعب عليهم أن يغتفروا لسميث تماديه في مبدأ «حرية العمل» الذي مارسه رجال الأعمال ورجال الصناعة الذين اعتبروا مؤلف سميث إنجيلهم. هذا، وأن المذاهب التي دافع عنها لحماية العامل والمزارع والمستهلك والمجتمع عمومًا قد حرَّفها أناسٌ عديمو المبدأ مغرضون، إلى قذف دنيء لا ضابط له من أجل نفوسهم، تحت سمع الحكومة وبصرها دون أن تتدخَّل.

كذلك هناك الجدل القديم عن أيهما أسبق، أهو الكتكوت أم البيضة. هل كان لمبادئ سميث أن تتبع في نمو التجارة والصناعة لو أنه لم يكتب كلمة واحدة، أو هل كان لكتابه «ثروة الأمم» أن يحدث تلك التغيرات الواسعة التي تلت نشره، مقدمًا فلسفة وخطة للحركة الجديدة؟ ربما كانت الحقيقة في موضعٍ ما بمنتصف الطريق.

وإنَّا لنعترف بأن آدم سميث اختار العصر الصحيح لميلاده فوقف في منتصف الطريق بين حقبتَيْن تاريخيتَيْن. نادى بالحرية الاقتصادية الجديدة فأصغى إليه عالم متقبل، وأفاد من مبادئه للحصول على تحوُّلٍ اقتصادي عظيم. وفي أثناء الانقلاب الصناعي، أدرك رجال الأعمال البريطانيون سلامة مذاهب سميث، فنبذوا القيود والامتيازات التجارية. وفي القرن التاسع عشر أبرزت هذه المذاهب بريطانيا إلى العالم كأغنى أمة. وقلَّما كانت آراء سميث أقل تأثيرًا على كبرى الدول التجارية الأخرى. وقليلون هم الذين يُنكرون أن آدم سميث يستحقُّ بجدارةٍ لقب «أبو علم الاقتصاد الحديث».

١  Adam Smith.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤