الفصل الأول

حقل الألغام الاجتماعي

فاجأتْني ابنتي تشارلوت بإجابةٍ عن سؤالٍ منذ سنتين. كنا آنذاك في نهاية عطلة الصيف، وهي فرصةٌ مناسبة لتقييم الأمور قبل بداية السنة الدراسية الجديدة. كانت تُجيب حينئذ، مع شقيقاتها، على استطلاعٍ سنويٍّ يتناول جوانبَ مُعينة من حياتهن لاستكشافِ ما طرأ عليها من تغيرات من سنةٍ إلى أخرى؛ إذ كان يتضمَّن أسئلةً مثل: مَن صديقاتها؟ ما الموسيقى التي تُحبها؟ ما النصيحة التي كانت ستُسديها إلى نفسها وهي في سنٍّ أصغر قبل بداية المرحلة الثانوية؟ كانت إجابات معظم هذه الأسئلة تبدو مألوفة، ما عدا إجابة واحدة. ففي إجابتها عن سؤال «ما أكثر قدرةٍ خارقة تريدين امتلاكها؟» بدلًا من أن تختار الطيران أو قراءة العقول أو قوة هِرَقل، قالت إنها تُفضِّل امتلاكَ القدرة على التخلُّص من المواقف المحرجة.

كثيرًا ما تساءلتُ عن القوة الخفية الكامنة في كلمة «مُحرِج». فهي تُلقي بظلالها دون وعي على عددٍ هائل من المواقف التي نُصادفها، في نفس الوقت الذي نُقلل فيه من أهميتها. وحتى أولئك الذين يشعرون بارتياح أكبر في المواقف الاجتماعية يظَلُّون مُنشغلين بخطرِ التعرض للإحراج؛ لأنَّ الإحراج يحدث بين الناس. فلا تستطيع أن تعتمد اعتمادًا تامًّا على مهاراتك الاجتماعية المصقولة لتجنُّب الشعور بالحرج إذا لم يُشاركك الآخرون فيما تفعله. هل تُحيي زميلًا وَدودًا بمصافحة، بقُبلة (أو اثنتين، أو ثلاث؟) بعناق؟ هل تعرضُ ترك مقعدك في القطار لامرأةٍ إذا اعتقدتَ أنها من المرجَّح (ولكن دون تأكيد) أن تكون حُبلى، أو شخصٍ ربما يشعر بآثار الشيخوخة والتعب؟ لا يعتمد الأمرُ على حُكمك فقط. فالتفاعل السلس الذي نُحبه يحدث بين الأشخاص، وليس في نطاق تحكم أيِّ فرد. ولمثل هذا السبب، أشار إرفينج جوفمان في كتابه «طقوس التفاعل» إلى أنه «يبدو أنه لا يوجد لقاء اجتماعي إلَّا ويُمكن أن يصبح مُحرِجًا لواحدٍ أو أكثر من المشاركين فيه، ما يؤدي إلى ما يُسمَّى أحيانًا بالحادث أو النغمة النشاز.»1

الألم الاجتماعي

يبدو غريبًا الاعتقادُ بأنَّ التغلب على هَمٍّ تافهٍ كهذا يتطلَّب قدرةً خارقة. فعبارة «أوه، لقد كان هذا مُحرِجًا قليلًا» لا يبدو في ظاهرها أنها تُثير الخوف والقلق على الإطلاق. وهنا تحضرني الرقصة السخيفة التي أؤدِّيها وأنا أقترب من أحد الأبواب مع مجموعة من الزملاء عندما أدعوهم على الغداء. ما الذي ينبغي أن أفعله؟ هل أنتظر في الخلف ريثما يمر الآخرون جميعُهم، حتى وإن كان ذلك يعني حدوثَ اضطرابٍ مع أي شخصٍ آخر في المجموعة تكون قد راودَته الفكرة نفسُها، أم أسرِعُ إلى الأمام لأُبقيَ الباب مفتوحًا لهم، محاولًا في الوقت نفسِه أن أضمن تجنُّب إظهار أيِّ تفضُّل أو تمييز جنسي في عصر اندثار المروءة الذي نعيش فيه. ما الضرر الذي قد يحدث إذا أسيء فهمنا؟

ليس ضررًا كبيرًا، باستثناء شعوري بأنني قد أتعرض لأحكامٍ سيئة بدرجة بسيطة أو بطريقة خفيَّة. تقوم فكرةُ هذا الكتاب على فرضية أننا جميعًا نهتمُّ بذلك كثيرًا، حتى وإن كنا نستطيع إبعادَ تلك الفكرة المُحرِجة عن أذهاننا معظم الوقت. وتُوجَد أمثلةٌ صارخة تتجلَّى فيها قابليتنا للتأثر بالأحكام سآتي على ذِكرها لاحقًا. لكنَّ ما يجعل للإحراج تأثيرًا قويًّا بالتحديد أنَّه يكشف عن هذه النزعة في مواقفَ يومية عادية أتفه. ويُعلِّق الناقدُ الأدبي جيمس وود، في سياقٍ مختلف تمامًا، على مدى السهولة التي يستطيع بها بعضُ الكُتَّاب إدخالَ شخصيات رواياتهم «في موضعها السليم ضمن الأحداث» بعبارةٍ واحدة حاذقة. ويستخدم مثالًا مفيدًا وذا صلةٍ من إحدى قصص جي دو موباسان، قائلًا: «كان رجلًا مهذَّبًا بسالفتَين حَمراوَين دائمًا ما يمر أولًا عبر أي مدخل.»2 ويكشف ذلك عن أنَّ هذا الوصف يُبيِّن لنا الكثير جدًّا بأقلِّ جهد. فالكاتب يدعونا إلى إصدار حكم سريع لكنه شامل تمامًا على هذه الشخصية. فهو «يُدخله ضمن الأحداث» باستخدام دزينة أو نحوِ ذلك من الكلمات، ويكشف لنا نحن القرَّاء عن مدى براعتنا الخفية في تلوينِ شخصيةٍ ما، ببراعة تُضاهي أي كاتب ساخر. فنحن نعرف ما الانطباعاتُ التي سيُكوِّنها الناس عنَّا إذا كشفنا عن أنفسنا بلا انتباه. ولا عجب أن أستمرَّ في هذه اللجلجة الصعبة بين تقديم خطواتي أو تأخيرها في حينِ أنه من الأسهل، على العديد من المستويات في الحياة، أن أمرَّ عبر الباب وحسب.
لذا فالإحراج ليس شيئًا تافهًا كما يبدو. بل يُخفي بين طياته ثقلًا مزعجًا جدًّا. فعندما تسمع أنَّ شخصًا ما «سقط على نحوٍ أخرق»، ينتابك جفولٌ طفيف استعدادًا لسماع الضرر الذي حدث. في المواقف الاجتماعية، يُعد الإحراج علامةَ تحذير على أنَّ الوضع يسير في اتجاه خاطئ، وأنَّ شخصًا ما يتعرض للفشل عادة. أي إنه يدقُّ جرس إنذار. إذا كنتَ معرَّضًا للوقوع في مواقف محرجة، فأنت مُهدَّد بالحكم عليك بأنك شخصٌ مُرتبك اجتماعيًّا عمومًا، ما يجعلك بالتبعية مُهددًا بالنَّبْذ والعزلة. وبصفتنا حيواناتٍ اجتماعية، نعلم أنَّ مثل هذا النبذ يخلق أشكالًا من الألم الاجتماعي الحاد، شبيهةً إلى حدٍّ كبير بالألم الجسدي.3 بل إنَّ هذا الألم أسوأُ من الألم الجسدي من بعض الجوانب. فعلى عكس اللامبالاة بالألم الجسدي المُعبَّر عنها في عبارة «العِصيُّ والحجارة قد تكسر عظامي، لكن الكلمات لن تُؤذيَني أبدًا»، كم عدد المرات التي يميل فيها الناسُ إلى استحضار ذكريات الألم الجسدي أولًا، عندما يُطلب منهم تذكُّر أشدِّ التجارب إيلامًا في حياتهم؟

إن حقل الألغام الاجتماعي ممتلئٌ بالمخاطر التي قد تُثير في النفس ألمًا اجتماعيًّا. من السهل التركيزُ على القوانين والقواعد الرسمية عند توضيح سلوكيات الناس وما يُسمح لهم بفعله في بيئاتٍ ومواقف مختلفة. لكن الالتزام بالقوانين والحظر ليسا هما ما يَبدآن في تقييد سلوكنا وتوجيهِه في معظم الأوقات. فثمة عواملُ تُشكل سلوكنا أكثر أساسيةً منهما، وتأتي من المعايير الضِّمنية التي تحكم ثقافتنا، وتُفرَض من خلال الحكم الاجتماعي. ويُعَد متصيِّدو «تويتر» والشائعات المستوحاة من منصَّات التواصل الاجتماعي نُسخًا مُكبَّرة من هذه الظاهرة، لكننا في الحياة اليومية، خارجَ غرفة الصدى الرقمية، نكون متيقِّظين لخطر إساءة الفهم وتعريض أنفسنا لنظرة انتقادية.

من الممكن أن نتخيل عالمًا نتحرَّر فيه من الأحكام، وهو ما سأستكشفه في الفصل الرابع، ولكن يجدُر بنا أن نتذكر القوةَ الصامتة للجماهير التي قد لا تكشف عن نفسها كلَّ يوم لكنها تشاهدنا وتؤثر فيما نستطيع ولا نستطيع أن نفعله. يحكي الصحفي أوليفر بيركمان في كتابه «الترياق» عن ممارسةٍ قرَّر أن يتبعَها ذات مرةٍ لمواجهة خوفه من الإحراج. كان قبل ذلك يقرأ عن الرِّواقيين وقدرتهم التي كثيرًا ما كانوا يتفاخَرون بها على عدم المبالاة بأحكام الآخرين. لذا، وسعيًا منه إلى بلوغ هذا المستوى من التحكم في الذات، قرَّر أن يُعلن، وهو على متن قطار أنفاقٍ مزدحم، اسمَ كل محطة عند الوصول إليها بأعلى صوته. وأشار إلى أنَّ خوفه يتعارض تمامًا مع المنطق بالتأكيد:

في كل الأحوال، لا أعرف أي أحدٍ في العربة معرفة شخصية؛ لذا ليس لديَّ شيءٌ أخسره من أن يظنُّوني مجنونًا. وفوق ذلك، أعرف من تجرِبة شخصية سابقة في مترو الأنفاق أنَّ الأشخاص الآخرين عندما يبدَءون التحدُّثَ جهرًا إلى أنفسهم، أتجاهلهم، كما يتجاهلهم الآخَرون جميعًا أيضًا؛ لذا فمِن شِبه المؤكد أنَّ هذا أسوأ شيء سيحدث لي. وهؤلاء الأشخاص الآخرون الذين يتحدثون جهرًا غالبًا ما يتفوَّهون بهُراء ليس له معنًى، في حينِ أنني سأعلن أسماء المحطات. وبذلك يُمكنكم القولُ إنني أؤدِّي خدمة عامة.

ولماذا إذن — بينما يبدأ القطار في التباطؤ، تباطؤًا يكاد يكون غيرَ ملحوظ في البداية، وهو يقترب من محطة تشانسري لين — أشعر كأنَّني أريد التقيؤ؟4
كلنا لدينا (بدرجاتٍ متفاوتة) ما يُطلِق عليه أستاذُ علم النفس مارك ليري «مقياس الاجتماعية»،5 الذي يُقيِّم مدى قَبولنا الاجتماعي باستمرار. ولهذا السبب يرتبط تقديرنا لذاتنا ارتباطًا وثيقًا بحفاظنا على قيمة اجتماعية عالية، ويُعدُّ الإحراج علامةً على أنَّ هذه القيمة في انخفاض.

ثمة أنواعٌ مختلفة من الإحراج. ولعلَّ ارتكاب الخطأ المُحرِج المتمثِّل في ارتداء ثياب غير مناسبة هو المثال القياسي للخطأ الاجتماعي. فهو ما زال باقيًا معنا بالرغم من تركيزنا المعاصر على عدم التقيُّد بالرسميات. في الواقع، لقد أصبح من الأصعب علينا اختيارُ ما نرتديه كلما صِرنا أكثرَ تحررًا من الرسميات. فالأعراس القليلة الماضية التي حضرتها لم يكن فيها إلزامٌ للحاضرين بارتداء ثياب رسمية. وكأطفال المدارس في اليوم المخصص لارتداء ملابس أخرى غير الزي الرسمي، آل المطافُ بالضيوف إلى التفكير بحيرةٍ أكبر من حيرتهم العادية في الثياب التي ينبغي ألَّا يرتدوها. ففي الأيام التي سبقَت كل عُرس من هذه الأعراس، كثرت المحادثاتُ الجانبية التآمُرية بينما كان المدعوُّون يتواصل بعضُهم مع بعضٍ سلفًا للوصول إلى بعض التناسق المريح بينهم.

ولعل الفكرة الأكثر إزعاجًا هي فكرة أن غياب معاييرَ واضحةٍ ومتناسقة للقواعد والسلوك في مثلِ هذه الحالات يمكن أن يجعل شعورَ العزلة والنَّبذ الذي قد يُراود البعض أكثرَ حِدَّة. فأولئك الذين لديهم دِرايةٌ بالقواعد يمكنهم التعبيرُ عن أنفسهم بحرية دون تفكير في ظل المساواة غير المنظمة التي تجمع بينهم، بينما أولئك الذين لا يُشكلون جزءًا من «النخبة» لديهم آلياتٌ أو خطوط إرشادية لمساعدتهم على المشاركة بنجاح، لكنها أقلُّ مما كانت ستتوافر لديهم لو كانت «القواعد» أوضح.

لكن الحرج لا يأتي بالضرورة من زلةٍ حمقاء أو خطأٍ غبي. بل يمكن أن يأتيَ ببساطة من تحول المرء فجأةً ليُصبح محط انتباه الجميع. تخيَّل أنك تتحدث إلى شخصٍ ما في مناسبةٍ اجتماعية وتدرك تدريجيًّا أنَّ الجميع قد صمت وأنك كنت تتواصل مع عدة أشخاص دون قصدٍ. أي إنه ليس ضروريًّا أن تقول أي شيءٍ مثيرٍ للجدل أو أحمقَ لتشعر بالحرج. فعندما تكون محطَّ أنظار الآخرين وأنت غير جاهز لذلك، يُمكن أن يؤدي هذا الانفضاح اللاإرادي في حدِّ ذاته إلى الشعور بالإحراج، فنبدو عُراةً كآدم وحواء حين بدَت لهما سوآتهما؛ وحينئذٍ نريد أن ننكمش على أنفسنا لنتوارى عن الأنظار، دون ملجأٍ نلوذ إليه. وكالأطفال الذين يُغطون وجوههم، نودُّ أن نتوارى ونظلَّ في الوقت نفسِه قادرين على الرؤية، باختلاس النظر من بين أصابعنا. فالأشخاص الذين يتجنَّبون التقاء العيون لديهم نزعة مؤلمة إلى محاولة التخفِّي على مرأًى من الجميع، وبذلك يُظهرون للجمهور أنهم مكشوفون بلا حولٍ ولا قوة.

كذلك يمكن أن يكون الوضعُ محرجًا عند مجرد ظهور الشخص الخطأ في موقفٍ اجتماعي ما، مُجبرًا إيَّاك على التصرف بطرق لا تُناسِب الموقف إطلاقًا. وكما عبَّر عالم الاجتماع ويليام كولي عن ذلك قائلًا:
نحن نخجل من أن نبدوَ مُراوغين في وجود رجل مستقيم، أو جبناء في وجود رجل شجاع، أو أفظاظًا في عينَي رجل مهذب، وما إلى ذلك. فدائمًا ما نتخيل أحكامَ عقول الآخرين علينا، بل ونُشاركهم إيَّاها في أثناء هذا التخيُّل. فالرجل قد يتباهى أمام شخصٍ ما بتصرُّف معين — وليكن صفقةً فاسدة في التجارة مثلًا — بينما يخجل من الاعتراف به لشخصٍ آخر.6
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الحيوان ذا النزعة الاجتماعية الفائقة الذي يكمن فينا ويُمثِّلنا؛ منسجمٌ جدًّا مع «أحكام عقول الآخرين» لدرجة أننا ابتكَرنا مجموعةً من المشاعر والانفعالات الاجتماعية لإرشادنا، وجزءٌ من هذا الإرشاد، شأنها شأن الألم الجسدي، يؤدي وظيفتَه من خلال إنشاء مشاعر النفور من الألم الاجتماعي. فبينما يُمكن ملاحظة بعض الانفعالات — مثل الحزن أو الخوف أو الفرح أو المفاجأة أو الاشمئزاز — عند الأطفال الصغار، تَظهَر المشاعر الاجتماعية؛ كالشعور بالذنب أو الإحراج أو الخجل أو الحسد أو الكبرياء، بعد ذلك بكثير.7 وعندما ندخل العالم الاجتماعي، مُتلمِّسين طريقنا عبر التوقُّعات والأحكام، تساعدنا هذه الانفعالاتُ الاجتماعية على إرشادنا في طريقنا عبر المواقف والعلاقات دون أن نفقد ماء وجوهنا.
وقد أشار أنصار نظرية التطور المهتمُّون بكيفية تطور المشاعر الاجتماعية إلى أنَّ الاحمرار خجلًا علامةٌ مهمة على إدراك المرء الخطأَ المحرج الذي ارتكبه للتو واعترافِه به، لا سيما أنَّ هذا الاحمرار يحدث لا إراديًّا. وهذه الإشارات الشعورية تساعد المرءَ ليظهر بمظهر الشخص الجدير بالثقة في المجموعات الاجتماعية التي يكون من المهم جدًّا فيها معرفة مَن يمكن الاعتمادُ عليه. وبذلك فمفاد تخمينهم أنَّ المشاعر الاجتماعية، مهما كانت غيرَ مريحة، قد تطوَّرت من أجل الإشارة إلى مدى الجدارة بالثقة؛ وهو ما يُعْزى على وجه الخصوص إلى كونها مؤلمةً ويصعب السيطرة عليها. بل إنها تُعَد بمنزلة ضماناتٍ لصِدقنا وتشير إلى أننا لسنا مجردَ متلاعبين أو نستخدم الكلام الرخيص المعسول وسيلةً لغرضٍ معين. وإذا لم نُدرك لحظات إحراجنا ونصلحها، فإننا بذلك نُجازف بفقدان ماء وجهنا فقدانًا قد يستمر مدةً أطول. وقد وصف جوفمان الإحراج، على سبيل المثال، وصفًا وجيهًا بأنَّه شكلٌ من أشكال الاعتذار أو الاسترضاء، مُعتبرًا أنَّ الشخص المُحرَج «يُظهر أنه، على الأقل، منزعج من هذه الحقيقة، وأنه قد يثبت جدارته في وقت آخر.»8 وإذا لم يحظَ الوجه المَطروح الذي تُقدمه، وأصبحتَ وثيقَ الارتباط به، بمكانةٍ عالية في أحكام الآخرين، فهذا يجلب العار. ومقاييس اجتماعيتنا كالهوائيِّ تَتَتبَّع هذا الخطر باستمرار، مع العلم أنَّ فقدان ماء الوجه يُمكن أن يُصيب صاحبه بالعجز.

أظن أنَّ إرفينج جوفمان كان سيستمتع بالمسلسل التلفزيوني الكوميدي الرائع «أبراج فولتي» (فولتي تاورز). فبينما كنتُ أقرأ كتابه، ظللتُ أتصور متاعبَ بازل فولتي التي واجهَها بسبب مقياس اجتماعيته المعطَّل دائمًا. وسأضرب هنا مثالًا بالحلقة المعنوَنة باسم «ليلة الذوَّاقة». يُقرر بازل الارتقاءَ بنوعية زبائنه في فندق «فولتي تاورز» بتنظيم ليلة الذوَّاقة المشئومة لتقديم طاهيه الجديد والتباهي به. وفي تلك الليلة (التي كان قد روَّج لها في مجلة «هورس آند هاوند» الراقيةِ دائمًا، مُشددًا في الدعاية الترويجية على «عدم استقبال أيٍّ من الرَّعاع») تَفسد ادَّعاءاتُه المتغطرسة باستمرار؛ إذ يخفق بازل باستمرارٍ في إظهار الصورة الكيِّسة اللبقة التي يشعر بأنَّ ضيوفه الراقين اللامعين يتوقَّعونها عنه. ففي أحد المشاهد قبل العشاء المشئوم، نُشاهده وهو عاجزٌ عن تقديم زوجَين عظيمَين من ضيوفه، هما السيد توايتشن وزوجته، لزوجَين عظيمَين آخرَين، هما الكولونيل هول وزوجته. فنظرًا إلى عدم معرفة بازل النُّطق الصحيح لكلمة «توايتشن»، حاسبًا إيَّاها «تويتشن»، يواجه مشكلةً لأنَّ الكولونيل هول لدَيه رعشةٌ ملحوظة جدًّا ومُشتِّتة للانتباه، فشتَّتتَ انتباه بازل في اللحظة الحاسمة (فكلمة «تويتش» في الإنجليزية تعني «رعشة»). (اكتفيتُ بوضع اسم القائل قبل تعليقات بازل فقط في هذا المشهد، بدلًا من أن أضعَه أيضًا قبل تعليقات تويتشن وزوجته وهول وزوجته؛ وذلك لتسهيل القراءة.)

بازل : هل لي أن أعرض عليكما فاتحًا بسيطًا للشهية ريثما تُقرِّران العشاء الذي تريدانه؟
هذا لُطف بالغٌ منك.

ماذا تريدين يا لوت؟

عصير طماطم من فضلك.
بازل : وأنت يا سيد تويتشن؟
أريد عصير طماطم، شكرًا لك.
بازل : آه، جيد! أوه، الكولونيل. الكولونيل هول والسيدة هول، هل لي أن أقدم لكما [هنا يرتعش الكولونيل هول] السيد … وزوجته …
هل التقيتما من قبل؟

لا، لا، لم نلتقِ.
بازل : هل التقيتما أنتما بهما من قبل؟ لا. أوه، حسنًا. إذن ماذا تريدان أن تشربا؟
ماذا؟
بازل : أن تشربا.
لم أسمع الاسم.
بازل : أوه، لم تسمعيه. يا للحظ البائس.
هل أنت بخير؟
بازل : أنا بخير، شكرًا لك. وأنت؟
لا، لم أقصد ذلك، ما زلنا لم نعرف الاسم.
بازل : أوه، فولتي، بازل فولتي.
لا، لا، بل اسمهما!
بازل : أوه، اسمهما! آسف جدًّا! ظننتك تقصد اسمك! إنه لطيف ودافئ، أليس كذلك؟ أحتاج إلى شرابٍ أيضًا. إذن، هل أُحضر كوبًا آخر من النبيذ؟
حسنًا، ألن تُعرِّف أحدنا بالآخر؟
بازل : ألم أعرِّفكما بالفعل؟ لا! أوه. هذا هو السيد … وزوجته.
ماذا؟
بازل : أوه، السيد والسيدة. [هنا يسقط أرضًا على ظهره]. آسف، لقد فقدتُ وعيي. حسنًا، أشعر بتحسُّن الآن. سأحضر كل عصائر الطماطم التي طلبتموها.

ولتعميق الشعور بالخجل وكوميديا الإحراج، لم يفعل محاورو بازل (باستثناء بولي الرهيبة) شيئًا لمساعدته في الخروج من ورطاته المحرجة في تلك المحادثات. فنحن نعتمد في الحياة الواقعية اعتمادًا كبيرًا على الآخرين ليُجنِّبونا الإحراج، ونعتبرهم بلا قلب إذا سمحوا بتعرُّض شخصٍ ما لإحراجٍ شديد.

يتضمن أحدُ المشاهد الأخرى موقفًا يشعر فيه بازل بالذعر الشديد لدرجة أنه ينسى اسمه شخصيًّا، وتُضطر زوجته سيبيل إلى تذكيره به. وعلى حد قول جوفمان، «الشعور بعدم وجود دعمٍ ضد أحكام الآخرين عليه قد يُفاجئه ويُربكه ويعيق قدرته على التفاعل مؤقتًا. ومن ثم فإن سلوكه وطريقة تصرفه قد يتداعيان وينهاران ويتدهوران. وقد يُصاب بالحرج والغمِّ الممزوجين بشيءٍ من الإهانة؛ وقد يشعر بالخزي والخجل.»

ومن ثَمَّ، يجب أن تسير تعاملاتنا العامة بسلاسةٍ إذا كان للتفاعل الاجتماعي أن ينجح. وإلَّا فستحدث مجموعةٌ من الأخطاء المضحكة، أو ما هو أسوأ من ذلك. ونحن نصف أولئك الذين لا يخشَون مثل هذا الحرج الاجتماعي، مثل شخصية بورات التي جسَّدها الممثل ساشا بارون كوهين، بأنهم «عديمو الحياء».

وكالعديد من أمثلة المواقف المحرجة المضحكة، فإن ما يجعل أخطاء بازل أشدَّ إثارةً للحزن والشفقة أنَّ الإهانات التي يتعرض لها نابعةٌ من إيمانه بدونِيته. وهذا موضوع سيتكرَّر ظهورُه على مدار هذا الكتاب. فغالبًا ما يرتبط الألم الاجتماعي بافتقارٍ للقوة الاجتماعية أو القدرة على إحداث تأثير اجتماعي. وتزداد العملية تطرفًا أكثرَ بكثير إذا كان التصرُّف الذي يُحتمل أن يُحرِج صاحبه صادرًا من شخصٍ ذي نفوذ أو هيبة. ولهذا السبب يضحك الجميع على نِكات رؤسائهم المبتذَلة. والآن يُصيبني الجفول عندما أتخيل مدى التملُّق الذي أصبحتُ أُبديه تجاه الضبَّاط العابسين، مهما كانت أسئلتهم سخيفة، عندما أمرُّ عبر قسم شئون الهجرة لدخول الولايات المتحدة.

إن الشعور بالحرج والإحساسَ بالخجل لهما تأثيرٌ غير مُتناسب بالنظر إلى آثارهما الفعلية. لكن الآثار تتلاشى. فالمواقف المحرجة، إذا لم يتكرَّر حدوثها أكثرَ ممَّا ينبغي، هي في نهاية المطاف مجردُ أشياءَ نستطيع إعادة سردها والضحك عليها لاحقًا. فكثيرًا ما نُعيد سرد التجربة لنُضحِك الآخرين على حساب أنفسنا، لكننا نتحكم في السرد تحكمًا لم تَشهده اللحظة المحرجة الأصلية قَط.

الشعور بالعار والشعور بالذنب

من بين المشاعر الاجتماعية المختلفة التي تتحكَّم في سلوكنا، يُعتبر الشعور بالذنب والعار هما الشعورَين اللذَين يمكن تمييزهما باعتبارهما أقوى الاستجابات للأحكام الاجتماعية. فهما يحملان ثقلًا أكبر بكثير من الإحراج. إنَّ الإحراج الناجم عن السير مرتديًا قميصًا يحمل بعض بُقع الطعام قد يجعلك تحمرُّ خجلًا، لكنه لا يستدعي إصدارَ حكم أخلاقي عليك. أمَّا حين يكون المرء عُرضةً لحكم أخلاقي، فيمكن أن يُسفر ذلك عن شعورٍ بالعار والذنب. وفي حين أننا قد نضحك على الحوادث المحرجة، فالشعور بالعار والذنب ليس شيئًا مُضحكًا على الإطلاق.

ثمة اختلافٌ بين الشعور بالعار والشعور بالذنب، مع أننا أحيانًا ما نستخدم المصطلحَين بالتبادل فيما بينهما لتوصيل معنى الاتهام، كما هو الحال في جملة «يجب أن تشعر بالعار والخجل من نفسك لأنك فعلتَ ذلك». ولكن إذا أمعنتَ النظر أكثر، تستطيع رؤية الاختلافات. فالعار يرتبط أكثر بفقدان ماء الوجه عمومًا؛ حيث تكون وصمةٌ ما، لا تستطيع التحكُّمَ فيها، ظاهرةً أمام أعين الآخرين. فيقودنا ذلك إلى التصرُّف بالاختباء ومحاولة الفرار من أعين الناظرين والاختفاء. وحينئذٍ نقول «أرَدتُ أن تنشقَّ الأرض وتبتلعَني.»

وتصف الكاتبة والباحثة برينيه براون الشعورَ بالعار بأنَّه الخوف من الانفصال، في خُطبتها المُعَنوَنة باسم «الإنصات إلى العار» ضمن سلسلة خُطَب مؤتمرات مؤسسة «تيد توكس». فتقولُ إنه يجعل المرءَ يتساءل «هل توجد فِيَّ مشكلةٌ ما ستجعلني لا أستحقُّ الاتصال بالآخرين إذا عرَفها الناس أو رأَوها؟»9 وتعتقد أنَّ هذا هَمٌّ يَشغل الناسَ كلَّهم. وتشير إلى أنَّ أولئك الذين لا يتحدثون عن هذا الشعور غالبًا ما ينتهي بهم المطاف إلى التعرُّض له أكثر. فعندما نرفض تقبُّل هشاشتِنا وقابليتنا للتعرض لمثلِ هذا الشعور ونُشيِّد جدرانًا حصينة لحماية ذواتنا، يمكن أن ينتهيَ بنا المطاف، في مفارقة عجيبة، إلى أن نصبح أشدَّ هشاشةً وأكثر عُرضة له. ففكرةُ «لستُ كذا بما يكفي» تُزعجنا كلنا تقريبًا في موقفٍ أو آخَر؛ إذ ترمز كلمة «كذا» إلى عدة صفات: جميلًا، طويلًا، ذكيًّا، متعلمًا، جادًّا، ظريفًا، مبدعًا، متحضرًّا، شجاعًا، مهذبًا، مرتاح البال … إلى آخِر قائمةٍ لا حصر لها. فمن أجل الاتصال بالآخرين، يجب أن تكون مرئيًّا، لكنَّ الشعور بالعار يُخيم بظلاله على تلك الحاجة إلى أن يراك الآخرون؛ لأنك عندما تكون مرئيًّا، فهذا يعني أنَّ وصمتك مرئية، وتُسلِّط عليك أضواءً كاشفة ذاتَ سطوعٍ مؤلم تؤدي إلى أن يراك الآخَرون غيرَ مؤهل، أو غيرَ مناسب أو مجرد شخصٍ قبيح فقط. والألم الناتج عن ظهورنا بهذا المظهر هو ما يخلق لدينا الرغبة الملحَّة في التواري عن الأنظار أو في أن تنشق الأرض وتبتلعنا.

على النقيض من ذلك، لا يمكن تجنبُ الشعور بالذنب عن طريق الاختباء أو التواري. فصوت ضميرك الداخلي ونقدك لذاتك يُحدِّثانك بأنك بصددِ الفشل في الارتقاء إلى المستوى الذي كان عليك بلوغُه. فبينما يُلقي شعور العار باللوم على الشخص كلِّه، فإنَّ الشعور بالذنب لدى الشخص المذنب يُركز على خطيئته فقط، وبذلك يُتيح مزيدًا من الخيارات لإصلاح المشكلة. إنه يعني الاستقلاليةَ والقدرة على اختيار الأفعال؛ لأنَّك إذا اخترتَ التجاوز بطريقةٍ معينة، وتعرَّضت لحُكم مُنصف جراء قيامك بذلك، فهذا يعني أن بإمكانك أن تختار مجددًا أن تفعل شيئًا حيال ذلك. أمَّا الشعور بالعار، فيبدو أشبهَ بُحكمٍ شامل على كل جوانب شخصيتك بسبب شيءٍ لديك سيطرةٌ أقلُّ عليه، وبالتبعية لا تستطيع إصلاحه.

أحيانًا ما نشعر بالعار بسبب أشياءَ لا ذنب لنا فيها وينتابنا إحساسٌ بالخزي بالرغم من حُسن نوايانا. وهذه المشاعر تختلف عن الشعور الخالص بالذنب، حيث نُضبَط في حالةٍ من الخطأ المتعمَّد. وهذه الوصمات تتحكَّم في إحساسنا بأنفسنا. تخيَّل مدى الحرَج الذي يُمكن أن يشعر به بعضُ الأشخاص بسبب جانبٍ ما من مظهرهم الجسدي لا يستطيعون إخفاءه. «إنها مشاعرُ مرتبطةٌ بقيمة الذات أو الشخصية. ولكن عندما نفكِّر مَليًّا فيما يُشعرنا بالعار والإذلال، لا نغضب من أنفسنا؛ بل يثير «قبحُنا» اشمئزازًا في نفوسنا.»10

وترى جون برايس تانجني وروندا إل ديرينج، المتخصِّصتان في علم النفس، في كتابهما «العار والذنب»، أنَّ شعور العار ينتابُ الذاتَ كلَّها وهي تحت وطأةِ هجومٍ ما، ولا يكتفي بإثارة تشكيكٍ في قيمة الذات والحاجة إلى الاختباء، لكنَّ العاقبة الأشدَّ إزعاجًا أنه قد يؤدي إلى انعدامٍ للتعاطف ومَيلٍ إلى الغضب. فالشعور بالذنب يجعلك تقول لنفسك «لقد فعلت شيئًا سيِّئًا»؛ أمَّا الشعور بالعار فيجعلك تقول «أنا شخصٌ سيئ»؛ لذا يدفعك الأول إلى انتقاد نفسك والتكفير عن خطَئك. إنه يخلق الحاجةَ إلى الإصلاح لتخفيف حدة الضرر الناتج، وذلك بالتركيز على الضحية.

وبذلك فالشعور بالذنب، من منظورٍ ما، أكثرُ قابليةً للتكيُّف معه وأنفعُ أخلاقيًّا بكثير؛ لأنَّه يُثير في النفس الحاجةَ إلى الإصلاح، ويتطلب بعضَ التعاطف لمعرفة كيفية تحقيق ذلك. ويُمكن التفكير في ذلك بتأمُّل المشاعر المعاكِسة المحتملة لهذه المشاعر الاجتماعية السلبية. فترى تانجني وديرينج أن مضادَّ الشعور بالذنب هو الفخر، بينما مُضاد الشعور بالعار هو الغرور. ولمثلِ هذه الأسباب، غالبًا ما يُنظر إلى الشعور بالذنب في الفلسفة الأخلاقية على أنه شكلٌ أنضج وأكثرُ تقدُّميةً من التفكير الأخلاقي. فهو أقلُّ اعتمادًا على المعايير المعمَّمة، وناتج أكثر من الوعي بالضرر الذي يلحَق بالآخرين. فإذا كان الشعور بالذنب يجعلك أكثرَ تركيزًا على ضحايا أخطائك، فإن توجهك نحو فعل شيءٍ لإصلاح ذلك يزداد. أمَّا الشعور بالعار، فيُسلِّط تركيزك على إخفاق نفسك، وبالتبعية يُقلل وعيك بالآخرين.

تخيَّلْ جُنديًّا عائدًا من حربٍ ارتكب فيها أفعالًا شنيعة. في هذه الحالة تكون إمكانية المصالحة أكبرَ إذا شعر بالذنب، وليس بالعار، تجاه سلوكه. فإذا شعر شعورًا بحتًا بالعار، قد يتوارى عن الأنظار على أملِ دفن هذه الذكريات وعدم التحدث عنها أبدًا. وعلى النقيض من ذلك، قد يسعى الشخص الذي يشعر بالذنب إلى التعويض، والانفتاح على الحقيقة والمصالحة؛ ولعلَّنا قد نرغب في أن نساعد فردًا، أو بالأحرى أمَّة كاملة، على تجاوُز هيمنة الشعور بالعار والانتقال إلى الشعور بالذنب (حتى وإن كان شعورًا جماعيًّا بالذنب) إذ ربما يؤدي هذا بدوره إلى التكفير، وحتى الغفران. ففي السنوات العشرين الماضية، شهدنا الظاهرةَ الجديدة نسبيًّا المتمثلةَ في الاعتذار القومي، الذي يعترفُ فيه قادةٌ معاصرون بالشعور الجماعي بالذنب بسبب بعض جرائم الماضي، ويعتذرون عنها، سعيًا منهم إلى تعويض المتضررين.

ولهذا يتَّفق الكثيرون مع رأي فرويد القائل بأننا لا يُمكن أن يكون لدينا حضارةٌ دون الشعور بالذنب. فالصراع بين الأنا والأنا العُليا يُمكِّننا من ضبط النفس والمعاملة بالمثل، وهما عنصران في غاية الأهمية لإقامة مجتمعٍ سليم. لكن الشعور بالذنب يمكن أيضًا أن يكون له آثار مُدمِّرة، إذا تم التمادي فيه. فيمكن أن يتخطى كلَّ الحدود ويؤدِّيَ إلى عواقبَ وخيمة. فنظرًا إلى عدم وجود نموذج لقياس المقدار الصحيح الذي ينبغي ألَّا نتجاوزَه من الشعور بالذنب، يمكن أن نُبالغ فيه. وعندما يحدث هذا، تنشأ لدينا نزعةٌ إلى تجاوز الانتقاد الذاتي؛ ممَّا قد يُسفر عن معاقبة الذات، مؤديًا في النهاية إلى ظهور شكل من أشكال المازوخية. فحينئذ يعلو صوت النقد الذاتي في رأسك إلى أن يُصمَّ أذنَيك. وبدلًا من أن يُمكِّنك من إعادة الأمور إلى نِصابها، يصيبك بالشلل ويتحول تدريجيًّا إلى شعورٍ بالعار. وفي هذا الصدد، يصف آدم فيليبس الأنا العُليا المُعاقِبةَ كشخص، إذا قابلتَه، سيجعلك تقول في قرارة نفسك: «يا له من مُتنمر قاسٍ مُمل مُكرر سريع الحكم على الآخَرين إلى حدٍّ بشع. لا بد أنَّ هذا الشخص قد واجه مشكلةً حقيقية في الحياة لينتهيَ به المطاف إلى هذه الحال.» و«ستكون مُحقًّا في ذلك»، حسبما أضاف فيليبس.11
وصحيحٌ أنَّ الشعور بالذنب والشعور بالعار مختلفان من الناحية المفاهيمية، لكننا غالبًا ما نشعر بهما معًا. تخيَّلْ أنَّ أحدهم قد ضبَطك وأنت تأخذ قطعةً إضافية من الكعك، ولنقُل إنها الأخيرةُ مثلًا، من دون إذن، ظنًّا منك أن لا أحد يراك. حينئذٍ يُمكن أن يكون الشعورُ الذي ينتابك مزيجًا من ظلال الذنب والعار. فأحكام الآخرين عليك قد تجعلك تشعر بالذنب لأنك ظلمتَهم وحرَمتهم من نصيبهم، لكنها أيضًا قد تجعلك تشعر بالعار لأنك أظهرتَ عجزك عن التحكُّم في نفسك؛ أي تُصيبك بندَم الشراهة. والأحكام التي تؤدي إلى شعورنا بالذنب بسبب شيءٍ كان لدينا قدرةٌ أكبرُ على التحكم فيه، والشعور بالعار بسبب شيء لم نستطع التحكم فيه جيدًا، لها الأهمية نفسُها في النهاية. وأقسى الأحكام تجمع بين الاثنين. فالرجل ذو السالفتين الحمراوين الذي دائمًا ما كان يمرُّ عبر أي مدخل أولًا يتعرض لأحكام سلبية مُتسرِّعة جراءَ أفعاله ومظهره؛ سواءٌ أكانت لديه قدرةٌ كبيرة على التحكم فيهما أم لا.12

ويشير أحد الأبحاث إلى أنَّ المجتمعات الغربية الأحدثَ يمكن وصفها بأنها ثقافات الشعور بالذنب في حينِ أن المجتمعات الأقدم، أو الأكثر جماعية، من الأفضل أن توصَف بثقافات الشعور بالعار. ويعود أصلُ هذا التفكير إلى روث بنديكت، التي قارن كتابها «الأقحوان والسيف»، الصادر في عام ١٩٤٦، بين الأمريكيِّين واصفًا إياهم بأنهم أصحابُ ثقافة شعور بالذنب مسيحية، واليابانيين الذين ضُرِب بهم المثلُ باعتبارهم ثقافةَ شعورٍ بالعار. ولا يحمل هذا إلا إقناعًا سطحيًّا، ومن المرجح أنه يكشف المزيد عن المصطلحات المقبولة في البيئات التي تُشدد على ما هو فردي أكثرَ مما هو جماعي. بالتأكيد يُوجَد تشديدٌ قوي على «الكرامة» والعار بالارتباط في المجتمعات الجماعية (حتى إلى مرحلة دفع الناس إلى ارتكاب ما يُسمَّى ﺑ «جرائم الشرف») ولكن لا تُوجَد ثقافات أو أشخاص ليسوا عُرضة للعار، حتى لو كان ذلك مُعبَّرًا عنه بصراحةٍ أقل. وفي الواقع، ربما يكون تقليدٌ ليبرالي غربي يُركِّز على فوائد الشفافية قد أسهَم، بطريقةٍ ما، في زيادة الظروف التي يشعر فيها الناس بالعار من أنفسهم. وتُعَد قوانينُ حرية المعلومات من أهم الأدوات لإفشاء أمورنا الخاصة بصورةٍ مزعجة. وفي العصر الرقمي، أدركنا أنَّ خصوصياتنا لم تكن على الملأ بهذه الدرجة من قبل، ممَّا يجعل الناس عرضةً للانفضاح أمام الآخرين بطرقٍ أكثر بكثير، وهو ما ذُكِر بوصفٍ مؤلم في كتاب جون رونسون «إذن، فقد وُصِمت بالعار علانية». ويمكن النظر إلى هذا التحول الرقمي باعتباره نقلةً من ثقافة الشعور الذنب، التي كان الناس يركزون فيها على التمييز بين الصواب والخطأ، إلى ثقافة الشعور بالعار حيث يتمثَّل الفارقُ الأساسي فيما إذا كنتَ مشمولًا ومقبولًا في أيِّ تجمُّع مهم جدًّا لك على منصات التواصل الاجتماعي، أم مُستبعدًا ومنبوذًا منه.

والمشاعر الاجتماعية، سواءٌ الإحراج الناتج عن المواقف المُخجلة وصولًا إلى الشعور بالذنب والعار، تُجدي نفعًا في ضبط سلوكنا الاجتماعي. فهي تُتيح مُحفِّزات ومُنفِّرات، كالألم الجسدي أو الاشمئزاز، وبذلك تُساعدنا على تجنب ألم العُزلة وتساعد في الحفاظ على الانطباع بأننا جديرون بالثقة. ولتجنُّب تلك العقوبات بنجاح، نحتاج إلى ما هو أكثرُ من النوايا الحسنة. فنحن بحاجةٍ أيضًا إلى مهارة.

منذ سنواتٍ عديدة، كنت أقود سيارتي من بوسطن إلى مين في نيو هامبشاير، متطلعًا بكل سعادة إلى الإقامة مع مُحرر إحدى المجلات في مزرعته، وإذا بإحدى سيارات الشرطة تُطلق صفارة الإنذار. أوقفَني الشرطي على جانب الطريق وأخذ يصيح في وجهي بعضَ الوقت بسبب تجاوزي السرعةَ المقرَّرة. قلتُ له إنني كنت معتادًا الطرق السريعة البريطانية، التي تبلغ السرعةُ القصوى فيها ٧٠ ميلًا في الساعة، وأدركتُ في هذه اللحظة أنَّ السرعة القصوى على هذا الطريق السريع الأمريكي تبلغ ٥٥ ميلًا في الساعة. لكنه لم يكن مهتمًّا بهذا الشرح وطلب الاطِّلاعَ على رخصة القيادة الخاصة بي. كان معي واحدة من تلك الرخص الورقية الخضراء القديمة مطويةً في محفظة بلاستيكية. وكنتُ قد نسيت أيضًا أنَّ أحدهم قد نصحني قبل سنوات عديدة بالاحتفاظ بعشَرة جنيهات إسترلينية في تلك المحفظة المطوية «تحسبًا للطوارئ» ونسيانها. فربما أحتاج يومًا ما إلى بنزين ولا يكون معي نقودٌ سائلة، وحينئذٍ سأكون ممتنًّا لهذه النصيحة المتبصِّرة. حسنًا، عندما بدأ شرطيُّ المرور في فضِّ طيات رخصتي، أدركتُ بعد فوات الأوان ما سيحدث، وتمنيت ألا تظهر ورقةُ الجنيهات العشرة بطريقةٍ ما. ولكن في غضون ثوانٍ، خرجَت ورقة الجنيهات الإسترلينية العشرة من الطيَّات بإصرارٍ فجَّ، فنظر إليَّ، مُضيِّقًا عينيه، وقال بهدوء: «هل تحاول رِشوتي يا بني؟» ويبدو أنَّه، بطريقةٍ ما، قد أدرك ذرةً من الصدق في وابل كلمات الإنكار المتلعثمة التي أطلقتُها، خاصةً عندما قلتُ إنني كنت سأستخدم الدولارات لو كنتُ أحاول رشوته فعلًا.

لكني أظن أنَّه صدَّقني لسببٍ آخر. فقد أعطيته انطباعًا بأنني أشعر بالعار، أو الحرج على الأقل، وليس بالذنب. كما أنَّ هذه النوعية من الأشياء لا تتم إطلاقًا بالطريقة الخرقاء المُحرِجة التي أعطيتُه الورقةَ بها، ولا تلك العلانية الصارخة. إن السبب الرئيس الذي جعل هذا الموقفَ مؤلمًا للغاية أنَّ النقود أبرزَت نفسها بوضوح فج. أمَّا إذا كنتَ تريد رشوة شخصٍ ما، أو تجاوز أي موقفٍ محرج في المحادثات، فمن الأفضل أن تكون أكثرَ مواراةً ودهاءً من ذلك، وأن تتعلم كيفية التمويه على الأمر بطريقةٍ مناسبة. فإيماءتي الفجة كانت ستبدو فظَّة للغاية، لو كانت مقصودة.

لو كنتُ قد أُدِنتُ بمحاولة رشوة الضابط، لا أعرف ما إذا كان سيعتقلني أم سيتركني بعدما أقدِّم له اعترافًا واعتذارًا مناسبَين. لكني في كِلتا الحالتين كنت سأكون في وضع يسمح لي بالاعتذار أو دفع غرامة والتكفير عن خطئي.

ولإبقاء مؤشر مقياس اجتماعيتك عند مستوًى عالٍ وتجنُّب الألم الاجتماعي، تحتاج إلى مهارة. فكلما أردنا أن نقول شيئًا يشير إلى أنَّ دوافعك (أو دوافعي) مُراوِغة أو أنَّ قدرتك (أو قدرتي) محدودة، نَستخدِم كلامًا غير مباشر لتجنب الإحراج. ومن المعروف منذ قديم الأزل أنَّ الرشوة تطعن في دَوافعك أو دوافعي؛ ولذا لا أقول «هل تسمح لي بالإفلات من مخالفة تجاوُز السرعة، إذا أعطيتك بعض المال؟» بل أقول «بالتأكيد نستطيع تسوية ذلك بطريقةٍ أخرى.» وابنك المشاكس العدواني تصفه بأنه جريءٌ ومتحمِّس، فيما تُفضِّل التكتُّم على بُخلك. فبدون أن نُغلِّف كلامَنا بحجابٍ يواري شيئًا من صراحته، قد يبدو عددٌ هائل من الناس مثل شخصية بورات التي جسَّدها ساشا بارون كوهين، الذي سأل مرةً إحدى الضيفات المدعوَّات معه إلى العشاء «متى أستطيع ممارسة الجنس معك؟» فنادرًا ما نتحدث بصراحة في المواقف الحساسة أو المراوغة؛ ولذا نميل إلى المواراة والتمويه بدلًا من ذلك.

التمويه

أذهبُ إلى صالة الألعاب الرياضية كلَّ أسبوع حاملًا معي قميصَين قصيرَي الأكمام. وبعدما أتعرَّق طَوال خمسٍ وأربعين دقيقةً على جهاز التمرينات المتعددة، يحين وقتُ استبدال القميص قبل البدء في تدريبات حمل الأثقال. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ صالة الألعاب الرياضية المحلية التي أرتادها جزءٌ من مجمع رياضي كامل؛ ما يعني أنني أمشي بجوار المسبَح الداخلي الكبير للوصول إلى غرف تبديل الملابس. وقد كنتُ معتادًا الذَّهاب إلى غرف تبديل الملابس، لكني في الآونة الأخيرة بدأتُ أبدِّل القميص بجوار المسبح بدلًا من الذهاب إلى الغرف والعودة. وما يخطر ببالي كلَّ مرة أفعل فيها ذلك أنَّ هذه تجربة متذبذبة بين الصواب والخطأ. فهي لا تبدو صحيحة بأتمِّ معنى الكلمة. فيبدو واضحًا أنَّ تبديل القميص في غرف تبديل الملابس سيكون فعلًا صائبًا لا غبار عليه، ومن الواضح كذلك أنَّ خلع قميصي في صالة الألعاب الرياضية نفسِها سيكون تصرُّفًا غير مقبول. ولكن يُوجَد حيِّزٌ غامض بجوار المسبح. فمن جانب، لا تُوجَد مشكلةٌ في أن أخلع قميصي بجوار المسبح لأنَّه لا أحدَ من الرجال الموجودين فيه أو بجواره يرتدي ثيابًا عُلوية. ومن جانب آخر، يبدو واضحًا أنني شخصٌ يرتدي ملابسَ صالة الألعاب الرياضية ولستُ سبَّاحًا، كما أنَّ فعل تبديل القميص بجوار المسبح في حد ذاته فاضحٌ بعضَ الشيء؛ ما يجعلني بطريقةٍ ما راغبًا في الانتهاء منه بسرعة وخِلسة. إنه لا يزعجني بالتأكيد بما يكفي لدفعي إلى قطع المسافة كلِّها إلى غُرف تبديل الملابس، لكنه يجعلني أفعله في عُجالة. وحتى لو كان مقبولًا وصائبًا أن أبدِّل القمصان بجوار المسبح، فما كان ليُصبح كذلك لو كنتُ امرأة، أليس كذلك؟

دائمًا ما نتخذ قرارات باستمرار بشأن ارتداء الملابس أو التجرد منها، بالمعنيَين الحرفيِّ والمجازي. من الممكن أن نتجاهل هذه الحقيقة معظم الوقت، كالسمكة التي لا تلاحظ الماء المُعلَّقة فيه. لكنَّ هذا لا يعني أننا نستطيع التصرف وكأنَّه لا أحد يراقبنا، حتى وإن كانت هذه الفكرة مزعجة إلى حدٍّ ما في بعض الأحيان. والحالات المتذبذبة بين الصواب والخطأ، مثل لحظة تبديل قميصي، هي تلك التي تساعد في الكشف عن الضغوط غير المرئية التي تُشكِّل سلوكنا في هذا العالم، والانطباعات التي نحتاج إلى إدارتها والتحكم فيها.

ويُعَد أفطنَ المراقبين المهتمين بهذا الشأن وأكثرَهم دقةً هو عالم الاجتماع إرفينج جوفمان الذي يعتبر «الدنيا في الحقيقة عُرسًا». وقد فرَّق جوفمان بين خشبات المسرح الأمامية والكواليس الخلفية لوصف الذات الدراماتورجية وصفًا شديد الدقة. وحدد الإشارات الدقيقة ومساعيَ الإدارة التفصيلية للانطباعات التي ننغمس فيها لنُظهِر ذاتنا بمظهرٍ أقلَّ وصمًا. على سبيل المثال، ما يحدث حين يبدو أنَّ امرأةً ما، في مكانٍ عام، تتفقَّد الوقت في ساعتها مِرارًا أكثر من اللازم وهي تنتظر صديقةً متأخِّرة. إن الأمر هنا لا يقتصر على التحقُّق من الوقت؛ بل يتضمَّن كذلك أثرًا طفيفًا لرغبتها في أن تجعل الآخرين يعرفون أنها تنتظر. أي إننا يجب أن نفهم الرموز غير المرئية إذا أردنا أن نمحوَ أُميتنا الثقافية ونتجنَّب ارتكاب الأخطاء المحرجة. فنحن نرتدي ملابسنا في مكان بعيد عن أنظار العامة، ونفعل ذلك مُدركين ما يلزم لنظهر بشكلٍ مناسب قبل مواجهة العالم.

من السهل هنا أن نتصور أنَّ هذا يعني أننا نرتدي أقنعةً أمام أنظار العامة لنُواريَ ذواتنا الحقيقية المختبئة تحتها. لكنَّ جوفمان حرَص على الإشارة إلى أن ذواتنا الموجودة خلف الكواليس؛ أي تلك التصرفات التي نُبديها حين لا يكون هناك جمهور، ليست أصدقَ أو أكثرَ أصالةً من ذواتنا التي تظهر أمام الجمهور. والنزعة إلى فصل هاتَين الذاتين إلى «قِناع» و«وجهٍ حقيقي» قائمةٌ على فكرة غير دقيقة؛ مفادها أنَّه يمكن الكشف عن نسخة حقيقية أصلًا. بل بالعكس، إذ يرى جوفمان أنَّ أقنعتنا عميقة. فهي غالبًا ما تُمثِّل الشخصَ الذي نريد أن نَكُونه حقًّا وتُشكِّل سلوكنا ونحن نسعى جاهدين إلى الارتقاء إلى مستوى تلك السمعة.

وسواءٌ أكنَّا مَستورين بالملابس أو مجرَّدين منها، نختار باستمرارٍ ما نكشفه أو نُخفيه في المواقف الاجتماعية. وما ينطبق على ذواتنا الجسدية ينطبق بالقدر نفسِه على أشكال الكلام التي نستخدمها. صحيحٌ أننا أحيانًا ما نعتبر اللغةَ نافذةً شفافة للتواصل، لكننا في الحقيقة نتصرف بدهاءٍ أشدَّ من ذلك، وعادةً ما يكون ذلك عن طريق التواصل بطرق ماكرة وغير مباشرة تعتمد على قراءةِ ما بين السطور. فمواراة كلامنا مهمَّة كمواراة سوءات أجسادنا.

ويُقدِّم المتخصص في علم النفس ستيفن بينكر استكشافًا مبهرًا يوضِّح فيه السبب الذي يدفعنا إلى استخدام الكلام غير المباشر، والطريقة التي نفعل بها ذلك.13 فيبدأ بطرح أُحْجية عن محادثاتٍ غير مثيرة للجدل. لماذا نتحايل ونتبع حيلًا غير صريحة في الحديث في مواقف واضحة تمامًا، في حين أنَّ اتباع نهج مباشر سيوفر الوقتَ على الجميع حسبما يبدو؟ فما أغربَ أن يقول شخصٌ ما «إذا استطعت أن تُمرِّر لي طبق صلصة الأفوكادو، فسيكون ذلك رائعًا»، بدلًا من أن يكتفيَ بقول «مرِّر لي طبق صلصة الأفوكادو». لا شك أنَّ التأدُّب في الحديث يجعلنا مُطالَبين بترقيق حتى الطلبات المباشرة بكلماتٍ مثل «من فضلك»، أو «شكرًا» للتعبير عن العرفان. لكنَّ ذلك التأدُّب لا يمكن أن يُفسِّر مثل هذه الأمثلة. وهنا يقترح بينكر وجودَ شيء أعمق، وهذا الشيء يعتمد على الحقيقة التي مفادها أنَّ العلاقات الإنسانية هي مزيجٌ من التعاون والصراع بدرجاتٍ متفاوتة، وأن الكلام غير المباشر مطلوبٌ للتعامل مع هذه الحقيقة.

ولتوضيح فكرته بالتفصيل؛ يُركز على المواقف الحساسة التي يسودها الكلامُ غيرُ المباشر، مثل محاولات الإغراء الجنسي (يكفي هنا أن أذكر عبارة «تفضَّلي بزيارة منزلي لرؤية نقوشه») والتهديدات («لديك بيت جميل، من العار أن يُصيبه مكروه») والرشوة بالطبع، («آسف لأنني تجاوزتُ السرعة المقرَّرة يا سيادة الضابط، ربما نستطيع تسوية ذلك بطريقةٍ ما»).

وتتكوَّن نظريته من ثلاثة أجزاء متداخلةٍ متشابكة، كلٌّ منها كاشف. يعتمد الجزء الأول على نظرية الألعاب لشرح السبب الذي يُمكن أن يجعل «الإنكار المعقول» قيِّمًا جدًّا في ظروفٍ معينة. فيما يضع الثاني قائمةً مُفصَّلة «بأنواع العلاقات» التي يمكن أن تنشأ بيننا وبين الآخرين (كأن يُصبح المدير صديقًا، ويصبح الصديق شريكًا في العمل، وما إلى ذلك)، ويُحدِّد ما يتعيَّن علينا فعلُه للانتقال بسلاسةٍ بين التوقعات المنتظَرة منَّا بموجب هذه العلاقات دون حَرَج. أمَّا الجزء الأخير، فيُركِّز على أهمية تجنب «المعرفة العامة» في المواقف الحساسة. عن جمع الأجزاء الثلاثة معًا، نتوصل إلى فهم عميق وحقيقي لمدى احتياجنا إلى مهارة الكلام غير المباشر وسبب احتياجنا إليه، ونفهم كذلك السببَ الذي يجعل مشاهدة المسلسلات الكوميدية مثل «أبراج فولتي» (فولتي تاورز) أو «المكتب» (ذا أوفيس) مثيرةً جدًّا للحزن والشفقة.

توجد ثلاثة دوافع لاستخدام الكلام غير المباشر.
  • (١)

    الإنكار المعقول: كان الاقتصادي توماس شيلينج أولَ من أدرك أهمية استخدام الدبلوماسية عندما لا تستطيع أن تكون مُتيقنًا من القِيَم التي يتبنَّاها مُحاورك. أي إنَّك إذا لم تكن متيقنًا من الانطباعات التي سيأخذها الشخصُ الآخر عن احتياجاتك أو رغباتك أو دوافعك، فعليك أن تخطوَ بحذر. ويطبق بينكر هذه الرؤيةَ ليُفصِّل الخيارات التي ستكون متاحةً لشخصٍ مثلي وشرطي المرور ذاك الذي أوقفَني في بوسطن. لذا فلنتخيَّل أنني كنتُ أريد رشوته حقًّا. إذا كنتُ سأستخدم الكلام المباشر، على غرار «إذا أعطيتك نقودًا، فهل ستسمح لي بالإفلات من المخالفة؟» فبذلك سأُجبره على واحدٍ من خيارين لا ثالث لهما. إذا كان الشرطي غير شريف، فستنجح فكرة الرشوة وسأفلت من العقوبة؛ أمَّا إذا كان شريفًا، فستفشل حيلة الرشوة وسيقبض عليَّ.

    ولكن إذا استخدمتُ كلامًا غيرَ مباشر، فسيُتاح المزيد من الخيارات بفضل الإنكار المعقول. بمعنى أنَّ الشرطي الشريف قد يفهم ما أُلمح إليه، لكنه لن يكون متيقنًا تمامًا إلى الحد الذي يُمكِّنه من إثبات صحة ذلك أمام القضاء؛ وذلك بسبب اختبار الشكِّ المعقول. لذا فعندما لا أكون متيقنًا ممَّا إذا كان الشرطي شريفًا أم لا (إذا كانوا جميعًا غيرَ شرفاء، فسأكون صريحًا صراحةً فجَّة، وأُبرم الصفقة، وإذا كانوا كلهم شرفاء، فلن أجرِّب ذلك حتى)، فمن الحكمة أن أتحلى بالدبلوماسية وأرجو حدوثَ الأفضل. وفي أسوأ الأحوال، سيُرفَض عرضُك بشيءٍ من التوبيخ، وتدفع الغرامة.

    هذا المنطق يُنشئ الحاجةَ إلى الإنكار المعقول الجدير بالتصديق في ظلِّ الظروف السليمة من عدم اليقين واختلاف وجهات النظر الشخصية.

  • (٢)

    أنواع العلاقات: ينشأ الكلام غير المباشر أيضًا من محاولة الموازنة بين أنواعٍ مختلفة من العلاقات. فعندما تُفكر في مثالِ طلب طبق صلصة الأفوكادو المثير للسخرية، تجد أنه محاولةٌ من قائل العبارة ألَّا يبدوَ آمرًا لأحد أصدقائه ومتسلطًا عليه، وهاتان طريقتان مختلفتان تمامًا لتواصل كلٍّ منهما مع الآخَر. وهنا يستعين بينكر بأبحاث عالم الأنثروبولوجيا آلان فيسك ليُفصِّل أنواع العلاقات الرئيسية التي تتكرر في حياتنا، وتجلب معها توقعاتٍ مُعينة بشأن المصالح والتوقعات المشتركة.

    يُطلِق فيسك على النوع الأول من العلاقات «العلاقات التبادلية». وهذا هو النوع الذي يُمكن وصفُه بعبارة «ما لي فهو لك»، ويَشيع وجوده بين الأقرباء والمعارف. وهذا هو السبب الذي يجعل المرء قادرًا على أخذ الطعام من طبق شريكه (في بعض الأحيان!) دون استئذان، بطريقةٍ لا يستطيع اتباعَها مع شخصٍ غريب. وسيحاول المُقنِعون بمختلِف أنواعهم استحضارَ هذه العلاقة المتبادَلة باللمس الجسدي، أو استخدام اللغة الشائعة بين أفراد الأسرة الواحدة، على غِرار «مرحبًا يا أخي، هلا تُعطيني بعض الفكَّة؟» لحثِّنا على المشاركة معهم.

    النوع الثاني من العلاقات هو علاقات المعاملة بالمثل. ويرتبط منطقُ هذا النوع ارتباطًا أكبر بالتبادل العادل من ارتباطه بالمنفعة المتبادَلة. ومضمونه أنَّك إذا ساعدتني فسأساعدك. فعندما تُقسِّم الفطيرة إلى أجزاء متساوية أو تردُّ شيئًا ما بشيءٍ آخر له القيمةُ نفسُها، فأنت تتعامل واضعًا هذا النوعَ من العلاقات في حسبانك. فالمؤسسات الخيرية ومندوبو المبيعات غالبًا ما يُعطوننا شيئًا ما «مجانًا» ليُثيروا لدَينا الإحساسَ بأننا، من باب الإنصاف، ينبغي أن نُقدم شيئًا ما في المقابل.

    يُعرَف النوع الثالث من العلاقات في هذا النموذج باسم «الترتيب السلطوي»، وهو يسمح بفرض الإرادة الصريحة، كأن يقول أحدُهم للآخر مثلًا «افعل ما أقوله»، وما إلى ذلك.14 وغالبًا ما يكون اختبارًا للنفوذ والأقدمية وما يحدث عندما تقول «لا تستفزَّني». تخيَّل أيَّ منظمة ذات تسلسلٍ هرمي يكون فيها هذا النوع من العلاقات في أوضح حالاته. في هذه الحالة، يوجد فرقٌ واضح في النفوذ بين الأشخاص والتوقعات المطلوبة (التي تُفرض بموجب عقود في بعض الأحيان) بحُكم المناصب التي يَشغلونها.

    وجميعنا لدينا علاقات من هذين النوعَين مع الآخَرين، ولدينا إحساسٌ بديهي بماهية النوع القائم بالفعل منهما في أيِّ وقت. وتكمن قيمة الكلام غير المباشر في الكيفية التي يُساعدك بها عندما يتعيَّن عليك التنقلُ عَبر حدود هذه العلاقات. ويُمكننا أن نرى الصعوبة في الانتقال بسلاسةٍ من علاقات المنفعة المتبادَلة إلى علاقات المعاملة بالمثل، عندما يشترك صديقان مُقربان معًا في معاملةٍ تِجارية لا تُحقق النجاح المنشود، على سبيل المثال. وأحيانًا ما يحتاج زملاء العمل الذين يعامل بعضُهم بعضًا بكلِّ ودٍّ إلى إظهار علاقات السُّلطة التي قد تكون موجودةً لدى أحدهم مع الآخر، وهذا يتطلب مهارةً دبلوماسية من كِلا الطرفين؛ لأنهما ينتقلان بذلك بين هذين النوعين من العلاقات. وسوف أستعرض موضوع الكلام الدبلوماسي في سياق بيئة العمل بمزيد من التفاصيل بعد قليل.

  • (٣)

    المعرفة العامة: من الدوافع الأخرى إلى استخدام الكلام غير المباشر الحاجةُ إلى تجنُّب المعرفة العامة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا مفهومٌ تخصصي في المنطق، ويختلف عن مجرد المعرفة المشتركة. فالمعرفة المشتركة هي أن أكون على علمٍ بشيءٍ ما، وأنت تعرف شيئًا ما، لكني لا أستطيع التيقُّن من أنك تعرف أنني أعرف. وما يحدث تاليًا، عندما أصبحُ على علمٍ بأنك تعرف أنني أعرف … وهُلم جرًّا، يُعَد بمثابة تَكشُّفٍ متكرر للمعرفة العامة. والمثال المفضَّل لدى بينكر على ذلك قصةُ ثياب الإمبراطور الجديدة. فبينما يدخل الإمبراطور القاعةَ المكتظَّة بلا ثياب، يستطيع كل فردٍ على حدةٍ أن يرى أنه لا يرتدي أي شيء. بمعنى أنني أستطيع أن أرى ذلك وأنت تستطيع أن تراه، لكني لا أستطيع التيقن من أنك تستطيع رؤيةَ ما أراه. في هذه المرحلة، يكون لدينا مجرد معرفة مشتركة. ويظل الوضع كذلك إلى أن يَصيح الطفل الصغير قائلًا: «إنه عارٍ!». حينئذٍ تؤدي قوةُ تلك الإشارة العلنية إلى إطلاق التفاعل التسلسلي للمعرفة العامة. فالآن لا يقتصر الأمر على أنني أعرف أنه عارٍ وأنت تعرف أنه عارٍ، لكني صرتُ أعرف أنك تعرف أنه عارٍ، وأنت صرتَ تعرف أنني أعرف أنك تعرف … إلخ، إلخ.

    وهذا هو السبب الذي يدفع الحكام الدكتاتوريِّين في كثير جدًّا من الأحيان إلى اتباع سياسة فرِّقْ تَسُد. فالمعرفة العامة تحمل بين طياتها قوةً جماعية كبيرة وربما ثورية. ولكن ما علاقة هذا بحاجتنا إلى الكلام غير المباشر في المواقف الحساسة؟ حسنًا، إنها الاحتياجُ إلى الإنكار المعقول مرةً أخرى. ففي نُسخنا من الكلام غير المباشر، نستطيع أن نُخفِيَ ما حدث بحجابٍ سري ونظل أصدقاءَ حتى لو رُفِضَت تلميحاتنا رفضًا جافًّا؛ حتى لو كان هذا الحجاب شفافًا جدًّا. وسنصل إلى حالة المعرفة المتبادلة حتمًا إذا نُزِع هذا الحجاب. وهنا يستعين بينكر بمشهدٍ من فيلم «حين التقى هاري سالي» (وين هاري مِت سالي) لتوضيح المقصود بنزع الحجاب بالأمثلة.

    فبعد الرحلة الطويلة التي خاضها هاري وسالي معًا بالسيارة، كانا يتناولان العشاء (وكانت سالي تطلب وجبتها على نحوٍ يوحي بأنها شخص صعب الإرضاء يتطلَّب عنايةً خاصة من النادل). فقال هاري فجأة:

هاري : أنتِ امرأة جذَّابة.
سالي : شكرًا لك.
هاري : لم تقل أماندا قَط إنكِ جذابة إلى هذه الدرجة.
سالي : حسنًا، ربما لا تراني جذابة.
هاري : لا أظن أنَّ هذه مسألةٌ قد تختلف فيها الآراء؛ فأنتِ جذابة بالفعل.
سالي : أماندا صديقتي.
هاري : وما المشكلة في ذلك؟
سالي : إنك تُواعدها.
هاري : وما المشكلة في ذلك؟
سالي : المشكلة أنك تدعوني إلى ممارسة الجنس معك!
هاري : كلا لم أفعل. ماذا؟
هاري : ألا يُمكن أن يقول رجلٌ لامرأة إنها جذابة دون أن يكون ذلك دعوةً إلى ممارسة الجنس معه؟
حسنًا، حسنًا، دعينا نفترض جدلًا أنَّ هذه كانت دعوةً إلى ممارسة الجنس معي. ماذا تريدين أن أفعل حِيالها؟ أن أسحبها، أليس كذلك؟ حسنًا، إنني أسحبها.
سالي : لا يُمكنك أن تسحبها.
هاري : لم لا؟
سالي : لأنها خرجَت بالفعل.
هاري : أوه يا إلهي، ماذا يُفترض أن نفعل، نستدعي الشرطة؟ لقد خرجَت بالفعل.

بمجرد أن تخرج الكلمة من أفواهنا، لا نستطيع سحبها، ومن ثَم يمكن للكلام غير المباشر أن يَكبح الإحراجَ الذي يؤدي إلى الخجل أو الخزي أو السخرية. بالطبع عندما نستخدم هذا الأسلوبَ نفعل ذلك بمرونةٍ ودهاء أكبر، ونكون أقلَّ درايةً به، ممَّا يوحي به كل هذا.

كثيرًا ما أفكر في هذه الحاجة إلى المناورات الذكية في بيئة العمل. فقد اضطُرِرتُ مؤخرًا إلى مَلء بعض الاستبيانات الشاملة عن «فاعلية الإدارة» لدى العديد من زملائي. وأدهشني مدى تشديد الوثيقة على إخفاء الهُوية. فقد كُتِب فيها «ستبقى إجاباتك محاطةً بسرية تامة؛ لن يُرفَق اسمك بالإجابات التي ستُدلي بها.» وكما توحي هذه العبارة المُطمئنة، فالكلام المكشوف الصريح في بيئة العمل مسألةٌ محفوفة بالمخاطر.

لماذا؟ إن تسيير أمورنا في الحياة والتعامل معها يقتضي أن نفعل المستحيل. فنحن بحاجةٍ إلى الموازنة بين أولوياتٍ واحتياجات ورغبات متضاربة، سواءٌ لدينا أو لدى الآخَرين. بعض هذه الدوافع ينطوي على مُداهنة والبعض الآخر ليس كذلك. فالجانب الكسول الأنانيُّ الضعيف الإرادة السريعُ الزوال من ذَواتنا يتصارع مع الجانب الملائكي الأفضل. نحن نتمزَّق بين رغباتٍ متناقضة سواءٌ كانت متعلقةً بالمكانة أو المال أو الجنس أو الهروب من الواقع أو الحب والعاطفة؛ نريد أن نكون مُنصِفين وشاعرين بالرضا والإشباع، نريد أن نتماهى داخل مجموعاتٍ ونُصبح جزءًا منها وأن نبرز متفرِّدين بذواتنا، نريد الاحتفال مع الأصدقاء وقضاءَ الوقت مع الأطفال، نريد أن نحيا حياةً سهلة وأن نؤدِّيَ نصيبنا من العمل الواقع على عاتقنا. وهكذا يجب أن نُسوِّيَ رغباتنا المتناقضةَ ونُوفِّق بينها في ذاتٍ تبدو متماسكة، على الرغم من أنَّ الرغبات المتناقضة تجعل هذا الأمر مستحيلًا.

الحقيقة المحرجة أنَّ احتياجاتك واحتياجاتي ليست متقاربةً بالقدر الذي ندَّعيه. ولذا نسعى، بحثًا عن المصداقية، إلى أن نجعل قصصنا تبدو أكثرَ استقامةً من ماهيَّتنا الحقيقية. تخيَّل كلَّ هذا في بيئة العمل، حيث مُنحنى المخاطر مرتفعٌ بشدة والدوافع مختلطة للغاية. وعادةً ما يتجلَّى تذكيرٌ بالحسابات الصامتة التي يتوجَّب علينا إجراؤها في الشعور السخيف الذي يُراودك عندما تضغط بسرعةٍ أكبرَ من اللازم على زرِّ إرسال بريد إلكتروني شائك يحتاج إلى عنايةٍ شديدة. هل أرسلت نسخةً منه بالخطأ إلى العميل الذي كنت تشتكي منه إلى أقرب أصدقائك؟ إن العمل يُفاقم حدة التوتر؛ لأنَّ العلاقات فيه محكومة بالسلطة والمال، ومن ثَمَّ يكون للسمعة عواقبُ حقيقية. ففقدان المصداقية في العمل قد يعني فقدانَ وظيفتك. لذا فبيئة العمل مليئةٌ بعمليات المواراة والتمويه.

وعندما يُصبح للسلطة والمال تأثيرٌ أكبر، تزداد المخاطر ويُصبح التكتُّم والمواراة أكثرَ إغراءً أو أشدَّ ضرورة. فالرؤساء التنفيذيون للشركات العامة يواجهون توتُّراتٍ وضغوطًا عليهم إدارتُها. فالدعاية التي يُروَّج لها بنبرةٍ نبيلة ورفيعة — كقول «الناس هم موردُنا الأول» — عادةً ما تُخفي حقيقةَ أنَّ المهمة الأساسية هي تحقيق ربح لمساهمين مجهولي الهُويَّة (عادةً ما يتمثلون في المستثمرين الماليِّين الذين يستطيعون إيقافَ المشروع في لحظة)، وغالبًا ما تُثير السخرية التي تستحقُّها. غير أنَّ هذه التناقضات حتميةٌ إلى حدٍّ ما؛ فكما قال أحدُهم مرةً: لا يُمكن لمهمةٍ أن تنجح دون ربح. فحتى المنظَّمات غير الحكومية تحتاج إلى التوصُّل إلى كيفيةٍ تُحقِّق بها أهدافها مع القدرة على سداد نفقات التشغيل ودفع رواتبِ موظَّفيها. وكثيرًا ما شعرت بالأسف لوكلاء العقارات والساسة ومندوبي المبيعات اللحوحِين الذين يتعرضون لتلك الضحكة المكتومة التي تَنِم عن دراية أصحابها بحالتهم؛ وذلك لمجرد أنهم يحاولون التعامل مع المصالح المتضاربة علنًا. فاحتياجهم إلى الإقناع واضحٌ وضوحًا مؤلمًا. ويمكن للآخرين (أي الأطباء والناشرين والأكاديميِّين) أن يكونوا أكثرَ تحفظًا وتكتُّمًا، ولكن إياك والافتراضاتِ القانعةَ التي تعميك عن الواقع. فلا يمكن لأي شخصٍ لدَيه منتجٌ أو خدمة يُقدمها، أو سمعة يريد التحكُّم في الانطباعات المأخوذة عنها، أن يتدبَّر أمره بنجاح دون التفافٍ وتحايُل من نوع أو آخر.

لا شك أننا نتحدَّث بشفافية مُعظمَ الوقت. فعندما يسألك شخصٌ ما عن مكان المراحيض، أو عن الوقت، عادةً ما لا تستخدم المهارات الرقيقة السلسة التي تُحاول بها أن تتحكم في انطباعاته. بل تُجيب عن السؤال فحسب. ولكن حين تكون المخاطر عالية، عندئذٍ فقط لا تكون الحقيقة البسيطة خيارًا بسيطًا. بل يصبح لدينا اختيارات متعددة لنختارَ من بينِها. فعندما يسألك رئيسُك عن شعورك، قد لا تختار الحديثَ عن الدُّوَار الرهيب الذي أصابك من شرب الكحول وجعَلك عاجزًا عن الرؤية بوضوح، أو ربما تفعل ذلك. ولكن في كِلتا الحالتين، من المستبعَد أن تُجيب بعفويةٍ غير واعية كما كنتَ ستُجيب الصديقَ الذي جعلك تشرب في الليلة السابقة. فالسياق هو كلُّ شيء. وهذا هو السبب الذي جعل الاستبيانَ الشامل يُشدد على ضمان إخفاء هُويتي. وكأنه يُطمئنك قائلًا: «لا تقلق من عواقب قول الحقيقة «هذه» المرة، قُلها كما تراها فحسب.»

لكن حتى هذا الستار أو المجهولية لا يضمنان الشفافية. فهل كنتُ صريحًا كما أظن عندما كنتُ أملأ نموذج الاستبيان؟ أليس من المحتمل أن أكون قد بالَغتُ في وضع درجاتٍ عالية أو منخفضة لأسباب غير واعية، لكنها تخدم مصلحتي الخاصة؟ لا أظن أنني فعلتُ ذلك، لكن هذا لا يعني أنني لم أفعله. هذا لأننا نحظى بآلياتِ خداع الذات التي تُخفي عنَّا الحقائقَ المزعجة. فالكذب المتعمَّد صعبٌ على معظم الناس ويمكن اكتشافه بسهولة كبيرة؛ لذا فأنجح الكاذبين يُقنعون أنفسهم بأنهم صادقون بالفعل. ففي ظلِّ حاجتنا إلى صورةٍ تُرضينا عن ذاتنا، نستهين بالتمويه الصامت الذي يكثر وجودُه في حياتنا بعدما نُصبح بالغين؛ إذ لا يستطيع الدماغُ المخدوع أن يرى أنه يخدعُ نفسه. وفي هذا الصدد، يكشف أحدُ الأبحاث عن أنَّ الأطباء يظنون أنَّ ٨٤ بالمائة من زملائهم سيتأثَّرون بالعروض الترويجية المجانية من شركات الأدوية، بينما يقول ١٦ بالمائة فقط إنهم سيتأثرون بالمثل.15 ويبدو أنَّ المكتئبين فقط هم مَن يتَّسمون بالواقعية في تصوراتهم عن ذواتهم، بدلًا من الانشغال بالمبالغة في التقدير والتحايُل كأيِّ شخصٍ آخر.16 وتتضح هذه «الواقعية الاكتئابية» في دراساتٍ طُلِب من الأشخاص المشاركين فيها تصنيفُ أنفسهم وَفْق معاييرَ مختلفة ثم مقارنة ذلك التصنيف بالتصنيف الذي سيحكم به الآخَرون عليهم وفقًا للمعايير نفسِها. اتضح أن معظمنا لدَيه «انحياز وردي إلى التفاؤل»؛ ما يساعدنا على تخيُّلِ أننا أفضلُ من المتوسط في العديد من المهارات، من قيادة السيارات إلى تربية الأبناء.

على أي حال، فالقصص الظاهرية التي نسردها لنُخفيَ الحقيقة ليست أمرًا سيئًا على الدوام. صحيحٌ أننا لدينا مصالحُ نخدمها وسمعةٌ نحميها، لكنَّ هذه الدوافع ليست خبيثةً دائمًا؛ فهي تُغطي طيفًا واسعًا من الأهداف من الأنانية إلى النبيلة. بالطبع تُوجَد عملياتُ خداع استغلالية، كتوجيه اتهامٍ كاذبٍ إلى شخصٍ ما، أو نَسْب الفضل إلى نفسك في عملٍ أدَّاه زميلٌ آخر. ولكن تُوجَد أشكال أخفُّ ضررًا من الخداع أيضًا: كالتظاهر بأن مهمةً ما قد استغرقَت منك وقتًا طويلًا في حينِ أنها لم تكن كذلك، أو أنها كانت سهلةً جدًّا في حين أنك سهرتَ عليها طَوال الليل، أو القهقهة من أعماق قلبك على خفةِ ظل رئيسك السخيف. صحيحٌ أنَّ هذه التصرفات تفتقر إلى الصدق، لكنها ليست شديدةَ الضرر (إلا إذا كنتَ قد حمَّلت العميل تكلفةَ تلك الساعات الإضافية التخيلية). ويُوجَد الكثير من التظاهرات الخادعة العادية أو المقبولة التي لا تُسبب ضررًا معينًا، كالأخلاق الحميدة والتأدب. فنحن نتظاهر باهتمامنا بهوايات أحد الزملاء — فنقول له مثلًا: «إذن متى يبدأ موسم رياضة القرص الطائر بالضبط؟» — أو نتظاهر بالسعادة عند فتح هديةٍ غير مناسبة؛ فنقول مثلًا: «يا إلهي، هذا لطفٌ بالغ منك! ما كان ينبغي أن تتكبَّد هذا العناء حقًّا». فهناك كذب «أبيض» حسَن النية، وعادةً ما يلجأ إليه المرءُ بدافع الولاء أو التواضُع، بل ويُوجَد حتى كذبٌ بطولي؛ كأن يتحمَّل المرءُ اللومَ بدلًا من شخصٍ آخر يعرف أنه سيلقى عقابًا ظالمًا.

وبالمثل، فالمبالغة في التحدُّث بوضوح أو صراحة قد تكون تصرفًا غبيًّا أو قد تُسفِر عن عواقبَ غير مقصودة. إذ ارتكب جيرالد راتنر، الذي يملك شركةَ مجوهرات في سوق السلع الرخيصة ذات الجودة المنخفضة، زلةً دبلوماسية عندما وصف المِصفَق الذي يبلغ سعره ٤٩٩ جنيهًا إسترلينيًّا بأنه «رديء جدًّا» وزاد الطينَ بلةً عندما وصَف زوجَين من الأقراط بأنه «أرخص من شطيرة قريدس من «إم آند إس» لكنَّ عمره قصير على الأرجح»، وكاد هذا أن يدمِّر شركته. ومن ذا الذي سيُثني على زميلٍ لوصفه أشخاصًا معيَّنين بأنهم قبيحون أو أغبياء؛ لمجرد أنه تصادف أنه يرى ذلك صحيحًا؟ فكما قال تينيسي ويليامز مرةً: «كل القساةِ سَليطي اللسان يفتخرون بأنفسهم لكونهم نموذجًا مثاليًّا للصراحة.» عندما أُصدِر حكمًا يُبيِّن ما إذا كنتُ أراك جديرًا بالثقة أم لا، فهذا ليس تقييمًا بسيطًا لما إذا كنتَ تقول الصدق طَوال الوقت أم لا. بل يرتبط ارتباطًا أكبرَ بما إذا كان ما تختار قوله مدفوعًا بنوايا حسَنة أم لا. فبدلًا من أن تكون مخلصًا للحقائق المجردة، أعوِّل عليك في أن تأخذ في الحُسبان على الأقل الحاجةَ إلى أن تكون مخلصًا لي، أو لآمالي أو تطلعاتي أو تصوري عن ذاتي.

وكما رأينا، فأنت بحاجةٍ إلى المهارة لتوصيل هذا بالطريقة الصحيحة، وهو ما يَعني في الغالب أن توصله بطريقةٍ غير مباشرة. فعندما تُقيِّم شخصًا ما، تستطيع التحدثَ عن «نقاط القوة» بوضوح تام، أما نقاط الضعف فمن الأفضل، لأولئك الذين يشمئزُّون من هذه الكلمة، أن توصف بأنها «نقاطٌ تحتاج إلى تطوير». فيمكنك نثر الكلام الإيجابي في كل مكان بطريقة عفوية، وسيتقبَّلها الجميع بتوقٍ بالغ دون انتقاد. فعباراتٌ مثل «أنت شخص رائع جدًّا»، و«كان ذلك رائعًا»، وما على شاكلتها من المشاعر الحلوة كالسُّكر تؤخَذ دون انتقاد، في حين أنَّ من الأفضل أن يكون النقد محددًا جدًّا (بفصلِ الخطأ عن المخطئ) إذا أردنا له أن يُسمَع فضلًا عن أن يُقبَل. وأحد أسباب ذلك أنَّ النقد السلبي له تأثيرٌ أكبر بكثير من الإشادة، ومن المرجَّح أن يولِّد ردودًا دفاعية رافضة.

غير أنَّ مستوى المهارة الذي نستطيع أن نُلبِّي به الحاجة إلى التلميحات غير المباشرة يتباينُ بشدة بدءًا من نوعية المتحدثين المتهورين أمثال جيرالد راتنر من طرف، وصولًا إلى نوعية المهام اليومية الماهرة التي يؤدِّيها الصحفيون والساسةُ على الطرف الآخر. وتجدر الإشارة هنا إلى مقالِ رأيٍ كتبَه جوناثان فريدلاند كاتبُ العمود في صحيفة «ذا جارديان» الذي قيَّم الميزانية التي وضَعها جورج أوسبورن لعام ٢٠١٥، ورُوِّج لها كثيرًا واصفًا إياها بأنها ميزانيةٌ «تتَّسم بمكرٍ سياسي»؛ إذ يوضِّح هذا المقالُ بعضًا من تلك الحِيَل المراوغة البارعة على مستوياتٍ مختلفة. يُراقب فريدلاند أوسبورن وهو يُحاول تنفيذ حيلةٍ صعبة. فعندما أعلن أوسبورن وضع حدٍّ أدنى قومي للأجور (مع إيقاف الإعانات عن العمالة الفقيرة)، كان يُواصِل العملَ على مشروع «السياسة المحافِظة المتعاطفة» الذي بدأ بجهود ديفيد كاميرون لإزالة التأثير الضارِّ لوصمة «الحزب البغيض» التي لحقَت بهم. وكما يقول فريدلاند:

لم يكن الفقراء هم مَن كان يتودد إليهم. لقد أراد أصواتَ أولئك المهتمين بالفقراء، أو بمعنى أدقَّ أولئك الذين لا يحبون أن يظنوا أنهم من النوع الذي لا يهتم.

في هذا التقييم الدقيق، نرى هنا أنَّ فريدلاند يحكم على حكم أوسبورن على تفضيلات الناخبين. وينقسم حكم فريدلاند إلى قسمَين. فمن ناحية، يُظهر أوسبورن مهارةً سياسية، بينما يكشف من ناحية أخرى عن دوافع مفعمة بالتشكيك في نوايا الآخرين. فيرى فريدلاند أنَّ حكمه بخصوص مَن ينبغي مساعدته لم يكن قائمًا على الاحتياج بقدر ما كان قائمًا على القيمة السياسية.

ويُقرر فريدلاند قائلًا: «الشخصُ المُشكك في نوايا الآخرين هنا هو أوسبورن نفسُه. فهو يُصدر حكمًا بشأن حدود التعاطف الذي يحمله غالبيةُ الناخبين تجاه الفقراء الأقلِّ حظًّا.» ويخلص أيضًا إلى أنَّ حِسبة أوسبورن صحيحةٌ في الأساس. وأنَّ «حزب العمال يجب أن يشاهد ويتعلم».

يُعتبَر هذا تقييمًا حاذقًا يُخفي افتراضاتِه المثيرةَ للجدل داخل نبرة عقلانية مُقنِعة. إن فريدلاند يطرح الحقيقةَ التي يُفترض أنها واضحة، ومفادها أنَّ «التصويت ليس عملًا خيريًّا، بل قائمٌ على المصلحة الذاتية» بلا مبالاة تنمُّ على ضجرٍ من العالَم وما فيه، ويشير إلى أنَّ ساسة حزب العمال المُعارِض بحاجةٍ إلى فَهم هذه النقطة إذا أرادوا أن يُنافسوا حزب المحافظين. لكنَّ هذا الادِّعاء ليس محلَّ توافقِ معظم الناس، وربما يُمكن معارضته بادِّعاءٍ مضادٍّ وجيه. فيُفرِّق خبراء العلوم السياسية بين الناخبين الذين يُصوتون لأسباب نفعية، وبين من يصوتون لأسباب تعبيرية.17 ويتفق النوع الأول مع افتراض فريدلاند أنَّ الناس يُصوتون بدافع المصلحة الذاتية، بينما تتعلق دوافع النوع الثاني بالتعبير عن هوية الناخبين وقيمهم. ويُبيِّن صعودُ حزب العمال تحت قيادة جيرمي كوربن على أساسٍ من التعاطف بدلًا من المصلحة الذاتية أنَّ افتراض فريدلاند ليس حتميًّا. لكنَّ فريدلاند متيقِّظ. فهو، على سبيل المثال، يُقيِّد ادِّعاءاته (ونفسَه بالتبَعيَّة) بردودٍ تحمل اعتراضاتٍ محتملة، وبمعرفة بما سيتوقَّعه قراءُ صحيفة «ذا جارديان» من صحفي العمود المتعاطف معهم فكريًّا. لذا فبينما يذهب إلى أنَّ الناخبين يصوِّتون بدافعٍ من المصلحة الذاتية، يُقيِّد هذا الادعاءَ بقوله «حتى لو كانت هذه المصلحة الذاتية تتضمن نوعية المجتمع الذي تريد أن تعيش فيه». وهذا بدوره يُعيد تعريف مفهوم المصلحة الذاتية ويجعله فضفاضًا بحيث يصبح غيرَ قابل للاعتراض عليه وقابلًا للتوسع ليشمل كلَّ السكان الذين لهم حقُّ التصويت من أي طيف سياسي (من جلاسجو إلى تكساس، ومن أثينا إلى برلين).

انظر كيف يحكم فريدلاند ببراعةٍ على أوسبورن، وكيف يفعل ذلك بطريقةٍ من شأنها صدُّ أي حكم مُحتمَل قد يَصدر منه. بالطبع ينبغي لأي مُعلِّق محترف أن يستطيع فِعلَ ذلك. ولكن من الواضح تمامًا أنَّ الرؤى الانتقادية المُحرِجة التي يُقدمها الشخصُ الحاكم عن المحكوم عليهم نادرًا ما تكون موجَّهةً إلى نفسه بالدرجة نفسِها. وهذا ينطبق بالطبع على الطريقة التي أحكم بها على فريدلاند.

فنحن نُقيِّم دوافعَ الآخرين ومهاراتهم دون عناء تقريبًا، وغالبًا ما نفعل ذلك خارج إطار الوعي. لكننا لا نُطبق هذا الاختبارَ على أنفسنا بالجودة نفسِها. ولعلَّ اللعنة الإنجيلية، التي أُمِرنا فيها بأن نُخرج الخشبةَ من أعيننا أولًا، وحينئذٍ نُبصر جيدًا لنُخرج القذى من عيون إخواننا، تُعَد تذكرة قيِّمة بأننا لا نُطبق معاييرَ التدقيق نفسَها على أنفسنا دائمًا. لذا فعندما أقرأ مقالَ فريدلاند، لا أفكر مليًّا في مشاعر الرضا الصامت التي أستمدُّها من رؤية ما يرمي إليه، شاعرًا في الوقت نفسِه بمُطلق الحرية في أن أُقيِّم تقييمه لأوسبورن. ولا أفكر بوضوح مبالَغ فيما إذا كانت النقطةُ الفعلية التي يطرحها عن أنَّ الناخبين يحتاجون إلى تخديرِ ضمائرهم قبل السعي وراء مصلحتهم الذاتية تنطبق عليَّ أم لا. مَن هؤلاء الناخبون الذين تلاعبَ بهم أوسبورن تلاعبًا مفعَمًا بالسخرية منهم والتشكيكِ في دوافعهم باستخدام وسائله للتورية والتمويه على أيِّ حال؟ من السهل عليَّ تخيلُ الآخرين الذين ينطبق عليهم هذا، ولكن هل أنا مُستعد لتخيُّل أنه ربما ينطبق علي؟

إن مهمة إدارة الانطباعات مهمةٌ دقيقة ومعقدة، وغالبًا ما نُنفذها دون وعي، لا سيما أولئك المحظوظين بما يكفي ليكونوا على درايةٍ جيدة بقواعدِ ثقافةٍ مُعينة أو معاييرها. لكنَّ هذه الدراية، وبالتبعية الخيارات المتاحة لإدارة الانطباعات، ليست موزَّعةً بالتساوي.

تكوين انطباع

وُلِد والدي ونشأ في الأردن، والتحق بمدرسة «كلية بغداد» الثانوية في العراق. وعندما صار قريبًا من بلوغ مرحلة التعليم العالي، نصحه والده بالذَّهاب إلى إنجلترا للحصول على مؤهل المستويات المتقدمة والحصول على شهادة من هناك. وعملًا بتلك النصيحة، استقل طائرةً من عَمَّان إلى لندن في صيف عام ١٩٥٧. وتُعَد انطباعاته الأولى كاشفة. فعندما هبط في مطار هيثرو ونظر إلى المدرج والمباني المتشبِّعة بالمياه، انبهر حين رأى كلَّ شيء مغسولًا تمامًا. ففي كل الأحوال، كان تَشبُّع شوارع عمان بالمياه يعني أنَّ الناس كانوا يرشُّون كمياتٍ كبيرةً من الماء عليها للتخلُّص من الغبار. لذا لم يخطر بباله أنَّ السماء كانت تُمطر في أواخر أغسطس.

حين وصل إلى ووترلو على متن حافلة من المطار ومعه حقيبتان، سأل عن الطريق إلى بيكاديللي ليجدَ مسكنه المستأجر، فقيل له أن يذهب إلى «شمال النهر». لذا أمسك حقيبتَيه وانطلق مشيًا على الأقدام، مُتخيلًا أن هناك نهرًا ينبغي أن يعبره. وبعدما تعرَّق من المشي مسافةً طويلة دون أن يبلغ وجهته، أدرك أنه على أرضٍ غير مألوفة حقًّا. في صباح اليوم التالي، احتاج إلى الذهاب إلى نوروود للتسجيل في كليته، وسأل عن كيفية الوصول إلى هناك. فنُصِح بأن يستقلَّ القطار، الأمر الذي أثار حيرته بشدة؛ لأنَّ والده كان قد أكَّد له أنَّ الكلية في لندن. وفي عمَّان، لا يستقلُّ المرء القطار إلَّا إذا كان ذاهبًا إلى مدينة أخرى.

من المؤكد أنَّ تجربته هذه تُعبر عن الكثيرين ممن اضطُرُّوا إلى محاولة الوصول إلى وجهةٍ مُعينة في أرض جديدة عليهم. وتتضمَّن رواية «لندنيون في عُزلة» القصيرةُ التي ألَّفها سام سيلفون مشهدًا يصف هجرة الرجال الكاريبيين إلى لندن في الخمسينيَّات:
يقول موسى: «تعالَ لتلحقَ بحافلة»، ويأخذ جالاهاد إلى طابور انتظار الحافلة. وعند وصول الحافلة، يحاول جالاهاد اقتحامَ الطابور عنوةً أمام الآخرين المنتظرين من قبله، مع أنَّ موسى يحاول منعه، ويقول قاطعُ التذاكر: «على رِسلك، لا يمكنك اقتحامُ الطابور هكذا يا فتى.» فاضطُر جالاهاد إلى الوقوف في مكانه، ومشاهدة كلِّ مَن كانوا ينتظرون قبله وهم يركبون الحافلة، ونظرَت سيدة عجوزٌ إليه شزرًا، وقالت فتاةٌ لرجل كان معها: «سيتوجب عليهم أن يتعلموا الارتقاء بسلوكهم.»18

تحيَّر والدي كذلك عندما رأى الالتزامَ بالطوابير، ولا شك أنَّه أثار «نظرات الشزر» الصامتةَ تلك في عيون الكثيرين. فيُعلق على الكيفية التي يصطفُّ بها الإنجليزُ بنظام على أملِ الحصول على تذكرة لدخول السينما. وإذا كان الطابور طويلًا جدًّا، كان الشخص الذي يفشل في نَيل تذكرة يكتفي بالعودة إلى المنزل محبطًا. أمَّا في عمان، فقد كانت ليلة الجمعة في دُور السينما أكثرَ فوضوية، حيث «عادةً ما كنت أفقد بضعة أزرار من قميصي» أثناء التدافُع على التذاكر، على حد قوله.

ورغم أنَّ ظاهرة الاصطفاف في طوابير لا تزال محتفظةً برونقها، فإنه يبدو أننا لم نَعُد نلتزم التزامًا تامًّا بالطوابير عند ركوب الحافلات. فهناك مجاملات بسيطة تُحدِّد مَن ينبغي أن تدعَه يركب الحافلة قبلك لتجنُّب «نظرات الشزر» الاستنكاريةِ الصامتة، لكنَّ الأمر لم يَعُد متوقفًا على مَن وصل إلى محطة الحافلة أولًا. فالمعايير الثقافية تتجدَّد رغم كلِّ شيء. ويتطلب تحويلُ هذه الافتراضات غيرِ المعلنة المألوفة إلى مشهدٍ مرئي قابل للتفسير عينًا أنثروبولوجية. وهذا بالضبط ما فعلتْه كيت فوكس في كتابها «مراقبة الإنجليز». إذ تتَّسم كيت بما يكفي من قوة الملاحظة لتُبيِّن أنَّه حتى محاولات عدم الالتزام بالطابور، التي تبدو فوضويةً وتشهد تدافعًا لشراء مشروبٍ في حانةٍ مثلًا عن طريق الالتصاق بنَضَدِ الحانة، تحمل بين طيَّاتها عالمًا من شفراتٍ ورموز سارية غير مرئية تُسمِّيها «قاعدة التمثيل الإيمائي الصامت». في هذا «الطابور غير المرئي» ترى كيت آدابًا سلوكية صارمة لازمة للتعامُل مع الإدراك المتبادل (أي التواصل البصري غير المسموع مع الشخص الموجود خلف نَضد الحانة) الذي يجعلك تحصل على مشروب.

من المقبول أن يُعلِم المرءُ النادلَ بأنَّه ينتظر أن يُقدِّم له شرابًا بحمل بعض النقود أو كأسٍ فارغة في يده. فتسمح لنا قاعدة التمثيل الصامت بإمالة الكأس الفارغة، أو ربما تدويرها ببطءٍ في حركةٍ دائرية … والآداب السلوكية هنا دقيقةٌ إلى حدٍّ مخيف: فيُسمح مثلًا بأن يضع المرء كوعه على نَضد الحانة إما بالمال، أو أن يحمل كأسًا فارغة في يدٍ مرفوعة، لكنه يجبُ ألا يرفع ذراعه كلَّها ويلوح بالأوراق النقدية أو الكأس [ويستلزم] إظهار نظرةٍ مُترقِّبة متطلعة، بل وحتى متلهفة بعض الشيء.

ويجب ألَّا تُبالغ في إظهار اللامبالاة:

فأولئك الذين ينتظرون أن يُقدَّم لهم شرابٌ يجب أن يظلوا متيقِّظين وأن يُبْقوا أعينهم على النادل وراء نَضد الحانة طوال الوقت. وحالما تلتقي الأعين، يعرف النادل أنك تنتظر شرابًا إذا رفعتَ حاجبَيك بسرعة، على أن يُصاحَب هذا في بعض الأحيان بتحريك الذقن إلى الأعلى فجأة، وابتسامة مُتطلِّعة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الإنجليز يؤدُّون هذا التمثيلَ الإيمائيَّ الصامت بالفطرة، دون أن يكونوا مُدركين أنهم يتَّبعون بذلك آدابًا سلوكية صارمة، ولا يتساءلون أبدًا عن تلك العوائق والعقبات الاستثنائية (المتمثِّلة في عدم التحدث، وعدم التلويح، وعدم إصدار ضوضاء، والتيقظ المستمر للإشارات المستترة غير الملفوظة) التي تفرضها القاعدة.19

ربما يفسر هذا قلة تردُّدي على الحانات.

ومن المؤكد أنَّ هذا التعقيد يُثبط مَن يفتقرون إلى الخبرة بهذه الآداب. فتذكر كيت فوكس أنَّ عائلة إيطالية قعدوا إلى طاولتهم بعضَ الوقت ثم نهضوا وغادروا الحانة، مُفترضين أنْ لا أحد سيُقدم لهم شيئًا.

وخلال استكشافها قاعدةَ التمثيل الإيمائي بهذا التدقيق، قدَّمَت لنا كيت فوكس مثالًا لما يُسميه علماء الأنثروبولوجيا «التوصيف العميق». وكان من صاغ هذا المصطلحَ هو الفيلسوف جيلبرت رايل، الذي وصف الفرقَ بين رعشة العين (التي تُعَد مجرد اختلاجة جسدية للجفن) والغمزةِ التي تكون مُفعَمة بمعنًى ودلالةٍ معيَّنَين. فالتوصيف السطحي يتناول مجرد وصفٍ جسدي لما حدث، أمَّا التوصيف العميق فيُدرك أنَّ الغمزة تُحدث تأثيرًا أكبرَ من ذلك بكثير، وتُعَد محاولة لقراءة مضمون الرسائل الصامتة التي تحويها (سواءٌ أكانت سخريةً أم تلميحًا أم محاولة للإضحاك؟).

نحن بحاجةٍ إلى قراءة ثقافتنا بشيءٍ من الإمعان لنصبح قادرين على فهم التوصيفات العميقة المشبَعة بالمعاني التي تُقدمها الحياة الاجتماعية كلَّ يوم. ويُكتسَب الجزء الأكبر من هذه المهارة عن طريق آلاف التفاعلات التي تتم بمرور الوقت؛ ما يُعمِّق الإحساسَ بالمكان والانتماء. نحن بحاجةٍ إلى قراءة الأشخاص والثقافات التي يعيشون فيها قراءةً سليمة إذا أردنا أن نجدَ موطئَ قدمٍ لنا ونحفظ ماءَ وجهنا، في ظل معرفتنا بأننا مُعرَّضون دائمًا لإبداء تصرفاتٍ شاذة عن المألوف، وارتكاب أخطاء محرجة وما يقابل ذلك من أحكامٍ نابعة من عدم اتباع القواعد، أو على الأقل عدم معرفتها.20 لذا فأيُّ حُكم قد نتعرض له يكون وثيقَ الارتباط بسياقٍ معيِّن عبر قدرٍ لا حصرَ له من الرموز الخفية والقواعد غير المكتوبة التي تُطبِق على واقعنا الاجتماعي كشبكة الصيد. فنحن كاللص المتسلل الذي يحاول شق طريقه بصعوبة عبر غرفة مليئة بأشعة الليزر لتجنُّب إطلاق الإنذار؛ لذا علينا أن نُصبح ماهرين في تجنب الأخطاء.
غير أنَّ هذا الإنذار كثيرًا جدًّا ما يُطلَق في صمت، أو بطريقة مشفرة تجعله واضحًا لكلِّ من يشاهدون الموقف، دون أن يكون واضحًا بالضرورة لضحية هذا التقييم الصعب. فأحيانًا ما لا نلاحظ «نظرة الشزر» في عيون الناس. ومن الأفضل هنا أن نستمع إلى الفيزيائي ريتشارد فاينمان وهو يتعلم صوتَ الأحكام القاسية تدريجيًّا بعد انتقاله من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المتخصصة في الدراسات الهندسية إلى كلية الدراسات العليا في برينستون حيث كان من المتوقع مزيدٌ من التفاخر والتعالي.

دخلتُ من الباب، وكانت هناك بعض السيدات، وبعضُ الفتيات أيضًا. كان كل شيء يكتسي بطابَعٍ رسميٍّ جدًّا، وبينما كنتُ أفكِّر أين أجلس وهل ينبغي أن أجلس بجانب هذه الفتاة، أم لا، وكيف ينبغي أن أتصرف، سمعتُ صوتًا خلفي.

كان هذا هو صوت الآنسة آيزنهارت وهي تصبُّ الشاي قائلة: «هل تريد شايَك بالقشدة أم الليمون يا سيد فاينمان؟»

فقلتُ لها: «أريده بكليهما»، وأنا ما زلتُ أبحث عن مكانٍ أجلس فيه، وفجأةً سمعتُها تقول: «هي-هي-هي-هي. من المؤكد أنك تمزح يا سيد فاينمان.»

أمزح؟ حقًّا؟ ما الذي قُلتُه للتو بحق السماء؟ ثم أدركتُ فعلتي. كانت تلك تجرِبتي الأولى مع مسألة الشاي تلك.

ولاحقًا، بعدما أمضيتُ وقتًا أطول في برينستون، فهمت معنى جُملة «هي-هي-هي-هي». بل إنني في الحقيقة قد أدركتُ معناها في موقف الشاي الأول هذا بينما كنتُ أغادر. كان معناها «أنك ترتكب خطأً اجتماعيًّا». لأنه في المرة التالية التي سمعتُ فيها الضحكة نفسَها من الآنسة آيزنهارت، كان شخصٌ ما يُقبِّل يدها وهو يغادر.21
من المفترض أنَّ فاينمان كان سيُبلي بلاءً أحسنَ بكثير في مثل هذه المواقف اليوم. فقد أصبحَت الثقافة الغربية أقلَّ التزامًا بالرسميات وأكثرَ استيعابًا للمعايير المختلفة. وبالطبع صار العالم تحت سيطرة العباقرة العارفين بخبايا التكنولوجيا الذين يعترفون بأنهم «مهووسون» بالتكنولوجيا، في أعقاب النجاح الهائل الذي حقَّقتْه شركات التكنولوجيا الكبيرة. لذا كان عالم الفيزياء سيَلقى الآن تمجيدًا أكبرَ ممَّا كان يلقاه في عصر «الثقافتَين»، الذي طرحه سي بي سنو في محاضرته الشهيرة، وشهد إنزال العلماء إلى المرتبة الثانية في سُلم تصنيف المواطنين لصالح التخصصات الأكثر أدبية.22 والآن وقد صارت الهندسة الاستعارة الفكرية الأكثر هيمنةً في عصرنا، فقد أصبحنا أكثرَ عُرضة لارتكاب أخطاء محرجة في المواقف الاجتماعية، وسماع تلك «الضحكة الفظة» لأننا بالغنا في تنميق تصرفاتنا أو الالتزام بالرسميات أو الإتيان بأفعالٍ عفا عليها الزمن. وصحيحٌ أنَّ فاينمان قد يتفق مع كلامي، لكن هذا لن يكون مثالًا على أننا أصبحنا نعيش في عالم خالٍ من الأحكام؛ فما زالت هناك شبكة معقَّدة من المعاني والأحكام علينا أن نشقَّ طريقنا خلالها. فقد كانت تكملة كتابه «من المؤكد أنك تمزح يا سيد فاينمان» كتابًا آخر بعُنوان «لماذا تهتم بآراء الآخرين؟» وقد وُلِد هذا العُنوان من رحم محادثةٍ بينه وبين زوجته آرلين، وكان تذكرةً لها بألَّا تُبالغ في التأثر بآراء الآخرين. لكنه بدلًا من أن يحذف جمهورها الذي يحكم عليها، اكتفى بأنْ أَحلَّ محله جمهورًا آخَر، وكان هو هذا الجمهورَ الجديد. وبذلك صارت تحتاج إلى الاهتمام برأيه في اهتمامها بآراء الآخرين. أي لا مفر. لا توجد نسخةٌ من الثقافة ليست مكتظةً بالقوانين والقواعد المتناثرة في كل مكان، وهذا يُمكن أن يُبقِيَنا في حالةٍ من عدم الاتزان والقلق إزاء إمكانية التأقلم والشعور بالانتماء.

لماذا يجعلنا بازل فولتي نشعر بالحرج الشديد له؟ ولماذا نصف المُسلسل بأنه مُضحك «ضحكًا مؤلمًا»؟ لأننا نرى، من خلال تصرفات فولتي الخرقاء، كيف ستكون الحياة لو كنا أقلَّ مهارةً في إدارة انطباعات الغير والتحكُّم فيها. فالإحراج الذي نشعر به ليس متعلقًا بازدواجية المعايير وخداع النفس؛ فتلك التناقضات موجودة لدينا كلنا. بل متعلقٌ بأنَّ هذه التناقضات تصبح بارزةً فيراها الجميع. فبدون المهارة الدرامية اللازمة للحفاظ على واجهة مصقولة مُقنِعة، يرتكب بازل جريمةَ «الكشف» عن طرائقه الخفية التي تُحرِّكها دوافعُ أشدُّ فجاجةً وافتقارًا إلى الصَّقْل. فعندما تمشي بين الناس ناسيًا إغلاقَ سحَّاب بنطالك، لا يكون ذلك محرجًا بسبب ماهية ما «تكشف» عنه، بل لأنك فشلتَ في «إخفائه». وهذا ينطبق علينا جميعًا؛ إذ يُتوقَّع منَّا أن نُخفي غسيلنا القذر ودوافعنا المختلطة (على أمل أن نُجيد القيام بذلك لدرجة الاعتقاد بأنَّنا جميعًا ليس لدينا شيء نخفيه).

فلماذا يُعَد البعض «لبقًا وحسَن التصرف» فيما يُعَد البعض الآخر «عديم اللباقة والكِياسة»، لماذا يُعَد البعض «جذابًا ولديه حضورٌ ممتاز» فيما يُعد البعض الآخر «أخرق»؟ اختر الوصفَ الذي يُناسبك. فثمة فيضٌ لا ينتهي من مِثل هذه النوعية من التقييمات البسيطة التي يُصدرها بعضُنا على البعض الآخر. والمهم أنَّ الناس يعتبرون أنَّ الشخص «اللبق حسَن التصرف» يبدو قادرًا على النجاح دون محاولة، والفشل دون اكتراث. أمَّا الأهم، كما يُصر فاينمان، فهو أنَّ الأشخاص اللبقين لا يبدو أنهم يكترثون بآراء الآخرين؛ إذ يبدون غيرَ مُبالين بالخطر وبالعواقب. ومن المفهوم أنَّ هذا مُثير للإعجاب، ويُعَد وهمًا رائعًا لاستحضاره في أذهان الآخرين؛ لأننا نحكم على الناس على نحوٍ سيئ لإبدائهم رغبةً أوضح ممَّا ينبغي في استجداء حُكم إيجابي.23
ومن المثير للاهتمام أنَّ الكيفية التي يُدير بها الأشخاصُ ذَوو التقدير الذاتي المتدنِّي انطباعاتِ الآخرين عنهم مختلفةٌ عن الكيفية التي يُدير بها الأشخاص ذوو التقدير الذاتي العالي لأنفسهم تلك الانطباعات. صحيحٌ أنَّ كليهما يسعى إلى تسليط أضواء الإشادة والمديح عليه، لكنَّ النوع الأخير يسعى إلى مزيدٍ من التألق والظهور، في حين ينشغل النوع الأول بتجنُّب إعطاء انطباعاتٍ سيئة. وفي هذا الصدد، يرى عالم النفس روي باومايستر أنَّ تَدنِّيَ تقدير الذات حالةٌ ذهنية «قائمة على حماية الذات من الفشل والإحراج والنبذ والإهانة، في حين أنَّ التقدير العالي للذات يستلزم … توجُّهًا قائمًا على تعزيز مقام المرء وسُمعته بأنه شخص كفء».24 فإذا كنا أكثر انشغالًا بإخفاء عيوبنا من الاهتمام بإظهار مَحاسننا المنمَّقة، فمن الأرجح أن نُصبح أكثر رِضًا عن أنفسنا على المدى الأبعد.25 وعلى عكس بعض النصائح التشجيعية التي نُصادفها في كتب المال والأعمال ومساعدة الذات، فإذا اعترفنا بالأشياء الكثيرة المشترَكة بيننا وبين الآخرين الساعين إلى إدارة الانطباعات، ربما نستفيد من الكفِّ عن المبالَغة في تقدير ذواتنا.
وينبغي ألَّا ننخدع عندما نرى أهدأ الفتيات وأقدرَهن على التصرف في المواقف الاجتماعية وهي تبدو أنها تفعل ذلك بلا أي مجهودٍ منها؛ لأنها عندئذٍ تكون كأيِّ بجعةٍ تنساب بسلاسةٍ على سطح الماء في حينِ أنَّها تُحرِّك قدمَيها بقوةٍ ومشقَّة تحت الماء، حتى وإن كان ذلك غيرَ مرئي. وعلى الرغم من أنَّ كل بجعة كانت (ولا تزال في بعض الأحيان) بطةً صغيرة قبيحة يومًا ما، فإنَّ خداع الذات والوصول إلى مستوًى صحيٍّ على مقياس الاجتماعية يُمكن أن يُساعدا في إخفاء هذه الحقيقة الجليَّة. وصحيحٌ أنَّ أوسكار وايلد يقول في تعليقٍ طريف وبارع إنَّ الحقيقة نادرًا ما تكون خالصة، ولا تكون بسيطة أبدًا، لكننا نُفضِّل الدعاية المتشامخة عن أنفسِنا، نُفضِّل أن يكون كلٌّ منا أشبهَ بنموذج مصغَّر لرئيس تنفيذي يروِّج لمدى حُسن نواياه وكفاءته في الواقع، وأن نغضَّ الطرْف عن المجهود الذي نبذله في الكواليس.26
لذا فأنا مُغرم بعبارة دبليو إتش أودين التي قال فيها «الصدق أسلوبٌ ومهارة»، وهي ملحوظة مُقلقة بقدرِ ما بها من فطنةٍ واستبصار. ولكن عندما نُفكِّر في أنَّ المصداقية تعتمد على المهارة بقدرٍ أكبر ممَّا نريد الاعتراف به، فهذا يجعلنا نشعر بالغثَيان بعضَ الشيء. فالتركيز على الحفاظ على حُسن مظهرنا والتظاهر بأن كل شيءٍ على ما يُرام يُمكن أن يجعلَنا نبدو كأننا نحط من قدرِ أمانتنا، ونُبالغ في الاهتمام بآراء الآخرين، وأحيانًا ما تكون آراؤهم مبنيةً على معاييرَ سطحية للغاية.27

وهذا الشعور بالغثيان النابع من حاجتنا إلى ترك انطباع جيدٍ لدى الآخرين يدفعنا إلى التساؤل عمَّا إن كان من الممكن أصلًا أن يكون المرءُ صادقًا بلا تصنُّع، لا سيما وأنَّ أحكامنا التي نُصدرها على أنفسنا قد تكون غيرَ دقيقة تمامًا. فعندما يحتاج صدقُنا إلى أسلوبٍ مُعينٍ ومهارة لكي يحظى بتقدير الآخرين، يمكن أن ننجرف بسهولةٍ إلى الشعور بأننا غيرُ صادقين بالرغم من حُسن نوايانا. نحن لا نريد أن نندرج ضمن ما يُطلِق عليه آدم سميث «فنون التصنع الزائف للترويج للذات». ولا نريد أيضًا الانجرافَ إلى حالةٍ من الإيمان الخاطئ، مثل النادل الذي وصفَه سارتر بأنه مُبالِغ في «التشبُّه بالنُّدُل» بتعمُّد إبراز مجهوداته في خدمة الآخرين للفتِ انتباههم، إذ وصفه بأن «حركته كانت سريعة وموجَّهة إلى الأمام، وكانت أدقَّ بقليل مما ينبغي، وأسرعَ بقليل مما ينبغي». وقد كان الإيمان الخاطئ هو المفهومَ الذي استخدمه سارتر وسيمون دي بوفوار لوصف حرمانٍ غير حقيقي نُضطرُّ فيه إلى اختيار حرمان أنفسنا من الحرية أثناء الرضوخ للقُوى الاجتماعية. فالنادل يتخلَّى عن حريته باختيار التركيز على إبراز أداء مهامِّ دوره للفتِ الأنظار. وتُحدِّد دي بوفوار أشكالًا متنوعة من الإيمان الخاطئ، مع ما يُصاحب ذلك من حرمانٍ من الحرية كنتيجةٍ له، مثل المرأة النرجسية التي تتخلى عن تلك الحرية مقابل إبراز نفسها كامرأةٍ مرغوبة، والمتصوف الذي يرضخ لإلهٍ ما، والمرأة العاشقة التي تطمس هُويتَها داخل ثنايا هُوية حبيبها، والرجل الجاد الذي يُقحم نفسه في قضيةٍ لا تخصه. وقد كان سارتر ودي بوفوار كلاهما يؤمنان بأنَّ الإنسان محكوم عليه بالحرية. ويرَيان أننا مهما حجبنا هذا عن أعيننا بقيمٍ زائفة نابعة من تبنِّي مثل هذه الأدوار، فلا نستطيع إلغاء قدرتنا الأساسية على الاختيار.

وسواءٌ أكان الفلاسفة الوجوديون، في نهاية المطاف، مُبالغين في التعنُّت في إصرارهم على أننا نملك خيار حرية التصرف دائمًا أم لا، فإنهم يُعطوننا وقفةً مع النفس للتفكير مليًّا بتشخيصهم للكيفية التي يُمكن أن نُغرِق بها أنفسَنا في دورٍ معين، والخواء الذي ينجم عن عيش حياةٍ مليئة بالتصنُّع الزائف. وهذا يتسق مع شعور الغثيان الذي وصفتُه. غير أنني أرى أن هناك تِرياقَين لعلاج الشعور بالخواء الذي يمكن أن يأتيَ من التفكير في مدى تأثرنا بأحكام الآخرين. يكمن الأول في أنَّ ثمة حدًّا يُقيِّد مدى قدرتنا على إدارة الانطباعات عن وعي. وهذا يعني أننا قد لا نكون في حالةٍ من التصنُّع الخادع على الدوام؛ لأننا نعرف مدى صعوبةِ خداع الناس. وقد استنتج الخبيرُ الاقتصادي روبرت فرانك، في كتابه الجميل، «عواطف في نطاق المعقول»، الذي يستكشف دور المشاعر الاستراتيجي، أنَّ الطريقة الأسلم لتبدوَ جيدًا هي أن تكون جيدًا في الحقيقة. ويشير إلى أن تطوُّرنا لم يقتصر على تطوُّر قدرتنا على إدارة الانطباعات، بل كذلك قدرتنا على اكتشاف المتلاعبين، وبذلك يكون من الصعب مواصلةُ التمثيل الزائف بأداءٍ مُقنع. فالناس سيكشفون خداعك. وفي ضوء ذلك، يُمكن القول إنَّ مشاعرنا قد تطورَت وأصبحت بمنزلة ضماناتٍ للصدق؛ خصوصًا لأنَّ من الصعب تزييفَها. لذا يرى أننا ينبغي أن نُطوِّر خصائصَ وصفاتٍ مصحوبة بالمشاعر الصحيحة إذا أردنا حقًّا أن نُقنع الآخرين من الأساس. ويتأمَّل السبب الذي يجعله يدفع إكرامياتٍ عند مغادرته المطاعمَ في أماكن يعرف أنَّه لن يعود إليها أبدًا، مع أنه لا يُمكن أن يكون آمِلًا بذلك في تحسين سُمعته. فيَخلُص إلى أنَّ الأمر يبدو كأنه يتدرب دون وعي على أن يكون الشخص الذي يريد أن يكونَه، كما لو كان يطوِّر عضلةً أخلاقية لئلا يفشل في الاختبارات في المستقبل رغم ما يتعرض له من إغراءات. تجدر الملاحظة هنا أنَّ فرانك ما زال يعترف بأنَّ تكوين تصوُّرٍ عنك بأنك بارع في التصنُّع أمر بالِغ الأهمية للتطور كي تصبح حيوانًا اجتماعيًّا، لكنه يعترف بأنَّ أفضل الأساليب وأكثرها فاعلية بمرور الوقت غالبًا ما يكون اكتسابَ الصفات نفسِها التي تريد أن يجدها الآخرون فيك.

ثمة حلٌّ آخرُ لمعضلة الشعور بالغثيان يكمن في إدراك أننا جميعًا في القارب نفسِه. وهذا لا يعني أن نعتبر الحالة البشرية خبيثةً عند السعي إلى ترك الانطباعات الجيدة، بل يعني أن هذا تعبيرٌ عن هشاشتنا جميعًا. فنحن نُدرك فيما بيننا أنَّه لا أحدَ سيطَّلع على خبايا ذواتنا الحقيقية، وكأنَّ التفكير في شيء كهذا ممكنٌ أصلًا بأيِّ طريقةٍ لها معنًى. فكلنا محكومٌ علينا بتصوراتٍ وانطباعات مُتحيزة وغير دقيقة بدرجةٍ ما تؤخذ عنَّا ويجب أن نتعلم كيفيةَ إدارتها.

ثمة شيءٌ من التواضع في إدراك أننا جميعًا في القارب نفسه حين يتعلق الأمر بمحاولة ترك انطباع مُعين. ولكن رغم كل التحذيرات من تبنِّي المرء ذلك الاعتقادَ المتغطرس بأنه بمعزلٍ عن هذا النزاع، دَعونا لا نُبالغ في التواضع أيضًا. فتقديرنا العالي لذواتنا يُفيدنا في كثير من الأحيان، وبينما قد نحتفي بالحاجة إلى التواضع أيضًا، يجب أن نأخذ حذرنا من الانجراف إلى شكلٍ من أشكال الإيمان الخاطئ المعروف اليوم بالتباهي المُقنَّع بتواضعٍ مُصطنَع. وقد فهم سي إس لويس زُبدة نصيحة روبرت فرانك المذكورة أعلاه بقوله إنَّ التواضُع لا يأتي من «تقليل تقديرك لذاتك، بل من تقليل التفكير في ذاتك.»

إن الحيوان الاجتماعي مصنوعٌ من عوارضَ خشبية معوجَّة، ومقسومٌ باحتياجات ومخاوفَ متضاربة. وهذا ليس أمرًا سيئًا جدًّا. فقد سألتُ صديقةً مؤخرًا عمَّا إذا كانت هي أيضًا تشعر ﺑ «متلازمة المحتال» في بعض الأحيان. فقالت: «بالطبع، الكل يشعر بها؛ ولهذا فهي مُسمَّاةٌ بمصطلح.» وعلى سبيل تطوير هذه الفكرة، فإذا أدرك المرءُ أننا كلنا مصابون بالقدر نفسِه من الهشاشة في سعيِنا إلى تكوين الانطباعات الجيدة ودرجة معقولة من تقدير الذات، وأننا أكثرُ اعتمادًا على الآخرين ممَّا نريد، نستطيع تحقيق مستوًى أعمقَ من الاستقامة، مستوًى يُدرك ضعفَ إنسانيتنا المشتركة وهشاشتها، وربما نرى هذا دافعًا إلى أن يَرفق بعضُنا ببعضٍ أكثر، وبأنفسنا في سعيِنا إلى تلقِّي أحكامٍ جيدة.

من المستحيل أن نكون حيواناتٍ اجتماعيةً دون إدارة الانطباعات، وفي أثناء القيام بذلك نتتبع التأثير الذي يُحدِثُه بعضُنا في بعضٍ. ولكننا نستطيع أن نعيش باستقامةٍ أيضًا رغم هذه الحقيقة. ويبدو أنَّنا عندما نَعرِض نسخةً ما من أنفسنا، يكون دافعُنا إلى حدٍّ كبير هو تجنُّب الإيمان الخاطئ وإدارة الانطباعات بطريقةٍ تتوافق مع ما نعتقد أنه موجود في أنفسنا حقًّا؛ تماشيًا مع ما يُسميه علماء النفس مفهومنا عن ذواتنا. صحيحٌ أننا بحاجةٍ إلى شيءٍ من الأداء التمثيلي، ولكن ليس ضروريًّا أن نُضلل الآخرين. وفي هذه الحالة يُعَد الأسلوب البارع شرطًا ضروريًّا لنقل نسخةٍ صادقة بدرجةٍ معقولة من ذواتنا؛ لأنَّ الحقيقة الصادقة لن تنتصرَ على العقبات بمفردها في حقل ألغام اجتماعي. وإذا كانت هذه الحقيقة، التي يُدركها الآخرون عنك، متينةً بما يكفي لتظلَّ صامدة بمرور الوقت وعَبر جماهيرَ مختلفة، فستُصبح سُمعتَك، سواءٌ أكانت طيبةً أم سيئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤