في بحر من الهدوء
طوال الليل أمام التلفزيون لِنتابع الحدث العظيم. إلى هذه الدرجة من الجنون كُنَّا ذات يوم. أول سفينة فضاء تدور حول القمر. في شقة كاترين الضيقة احتفلْنَا بالحدث، وضعْنَا الجهاز أمام السرير، وأخذْنَا نحتسي النبيذ الأحمر ونستمع — بعد أن استلقَيْنا على السرير — إلى شرح المذيع التلفزيوني عن مراحل الهبوط وأخطاره. لم يكن الأمر لعب عيال، كما يتراءى لنا اليوم، فهم لم يهبطوا على القمر؛ لأن الوقت قد حان في عام ١٩٦٩؛ كلَّا، إنها أعظم مغامَرة عبْر كل العصور، هكذا تم تقديم الحدث المصحوب بآلاف الأخطار، كل شيء من الممكن أن يتعطَّل، ونحن نتابع على الهواء. تم إخراج الحدث كأنه مباراة رياضية هائلة، لذلك وجدْنَا أنفسنا نتفرَّج ونخاف ونأمل، رغم النابالم ورءوس الفيتناميين المقطوعة. كانت المسألة مسألة حياة أو موت، فقد يتوقَّف جهاز حساس أو يُصاب جهاز التكييف بالعطب، قد يهبط الضغط، أو تنفصل التوصيلات، التقنية لن تكون أبدًا كاملة، وحتى رائد الفضاء قد يُخطئ. وسواء نبَع شعورنا من الانبهار بالحدث أو من الرغبة في الخوف، فقد تابعْنَا الحدث وكلنا قلَق.
انبعث من الشاشة توتُّر إيروتيكي، هكذا سأقول اليوم، ونحن نتابع علنًا فضَّ بكارة قمَرِنا الحبيب. إشعال صاروخ الهبوط، كبْح السرعة، وتوجيه السفينة «إيجل»، البحث عن مكان صالح للهبوط؛ لأن المكان المخطَّط كثير المرتفَعات والمنخفَضات، مُخاطَرة التلامُس الأول مع سطح القمر، أخطار استقرار السفينة على سطحه، إذا انغرزَتِ السفينة في أرضه أو هبطتْ هبوطًا مائلًا، فلن يستطيع الرواد استخدام السفينة في الصعود مرة أخرى أبدًا، أو إذا كان الأكسجين أقل من اللازم. ثم يهبطون بأمان كبير على التراب البكر وسط بحر الهدوء. لا يثير عجبي أن كلًّا منَّا كان منجذبًا تجاه الآخَر في تلك الليلة. ما حدث في الأعلى كان يسير ببطء شديد، انتظار طويل، تأجيل، استراحات. وحتى في الصباح الباكر عندما كان كلا الأمريكِيَّين يقفزان فوق رمال القمر، كانت الرغبة ما زالت منتصرة على الشعور بالتعب.
بعد أن نِمْنا طوال الضحى، قرَّرْنا ألا نعمل، وأن نخصص هذا اليوم الصيفي الدافئ لأنفسنا ولرجال القمر الذين توَجَّب عليهم أن يلتحقوا في المساء بالمركبة الرئيسة، ويبدءُوا رحلة العودة إلى الأرض.
اقترحت كاترين أن ننطلق إلى شمال المدينة ونزور آل هومبولت. رحلة غير مألوفة، انطلقْنَا بالسيارة إلى تيجل، مارِّين بالمطار الفرنسي، ثم سِرْنا على طول مرْسَى البواخر، واشترَينا كيلو من الخوخ، ثم مَشيْنا مشيًا وئيدًا إلى أن وصلْنَا قصر هومبولت. تذكرة الدخول بعشرة قروش. وسرعان ما وجدْنا أنفسنا راقدِين في الركن الخلفي من عشب المُتنزَّه وقد استولى علينا التعب من جديد، فاسترحْنَا هناك من الإجهاد الذي أصابَنا مع الهبوط على القمر.
في تلك الأسابيع كانت كاترين تُعدُّ نفسها إعدادًا دقيقًا لرحلتها. كنت مشغولًا بالسيطرة على سيل المعلومات عن جروسكورت، والقيام في الوقت نفسه بدوري كطالب مجتهد، لم أكن أريد أن أعرف كثيرًا عن المكسيك. كل شيء كان واضحًا، كل شيء على ما يرام، وإذا غَضضْنَا النظر عن لقاءاتنا الليلية سار كلٌّ منا طريقه. انتابتْنِي آنذاك مشاعِر مُقلِقة، غير أني لم أكن قد تعلَّمْت كيف أصغي لمشاعري العميقة. كل ما لاحظته هو أن شيئًا ما يفصلنا، لم أجِد كلمات مُعبِّرة، ولا شُجاعة لأن أتحدَّث عن ذلك، وكأن الخوف من أزمة كبيرة شلني.
جعلتنا هذه الليلة — وبفضل جاذبية القمر والأمريكان الأبطال المُتقافزِين — عاشقَيْن من جديد. في الوقت نفسه كانت ليلة وَدَاع، ولهذا أتحدَّث عنها في اعترافي. بعد عدة أيام كان على كاترين أن تسافر إلى منطقة فرانكن لزيارة والديها، ثم تسافر منتصف أغسطس بالطائرة من فرانكفورت إلى مكسيكو ستي.
شرعَتْ كاترين تحكي عن هومبولت، وعن رحلاته الاستكشافية التي استغرقَت سنوات عبْر أمريكا اللاتينية والمكسيك، وكيف أخضع كل شيء للبحث والفحص والتمحيص، الأحجار والنباتات والجبال والبحيرات، ثم قام بوصف ذلك باللغة الفرنسية. كانت مبهورة بذلك، هذا ما تريد محاولته بالكاميرا، على نحو أكثر تواضعًا: استكشاف بلد. وأنا بهرني أنها حضَّرَت نفسها للسفر بكل هذه الدقة، أنها كانت تتحدث بلغة مثقفة، بينما أنا الجاهل لم أكن أعرف من قام بالرحلة في ربوع أمريكا: هل هو ألكسندر أم فيلهلم هومبولت؟ لكن كاترين شرَحتْ لي الأمر. كنا — مُنهكين من الليلة ومن حرارة عصر ذلك اليوم، ومعنا كيلو من الخوخ — نشعر بالسعادة.
في غمرة تلك السعادة بدأتُ أحسدها على حُرِّيتها، على تصميمها الوديع على أن تُخاطِر ببداية جديدة وغَزْو عالم جديد. ربما كان الصاعدون إلى القمر هم المُذنِبين، على كل حال فقد تَلبَّستْني — وأنا راقد على عشب ضفاف بحيرة تيجل — حالة من الشوق المُبهَم حثتني على مغادرة الدرب المعهود وأن أخطو أرضًا مجهولة. ولأول مرة استيقظَتْ في أعماقي رغبةٌ في اصطحاب كاترين إلى المكسيك، ربما بدافع التقليد ليس إلا. كان الأوان قد فات؛ إذ إنها رتَّبتْ كل شيء مع أستريد، ولم يكن من السهل الحصول على تأشيرة دخول وتذكرة طيران بمثل هذه السرعة، إضافة إلى ذلك لم أكن سأتحمل بسهولة تأجيل مشروعي، كما أني — وهذا يأتي في المقام الأول — كنتُ مفلسًا. الأفضل ألا أقول شيئًا وإلا فلن أجني سوى غضبها.
مع توهج هذا الشوق شعرت مرة أخرى بموجات الشك العميق التي اجتاحتني. أحسستُ أن خطط قتل «ر» أصبحَت متقادمة، ضيِّقة الأفق ورجعية، وهي بالفعل كانت كذلك. الثأر من نازي متقاعِد، ليس لذلك أي علاقة بجسارة كاترين، أو نيل أرمسترونج. إعادة الاعتبار إلى ضحايا النازية وضحايا القضاء في الخمسينيَّات، هذا شيء حسن وجميل، ولكنه أمر ألماني جدًّا، أمر جامد، صورة بالأبيض والأسود. مرة أخرى شعرت ببروز الفكرة التي أصبحَت حُكمًا قاسيًا كنتُ أستخدمه ضد نفسي في لحظات الضعف: إنك لا تفعل ذلك إلا لرغبتك في أن تكون أفضل أخلاقيًّا من الآخَرِين! ولأنك تريد أيضًا أن تحقق مكسبًا أخلاقيًّا!
لم أتحدث بكلمة واحدة عن كل ذلك. كل ما نويتُه هو أن أُنهي كتاب جروسكورت بأسرع مما خططت؛ أي قبل عودة كاترين نهاية سبتمبر. في الوقت نفسه كنت أخشى الانتهاء من هذا العمل؛ إذ إن ذلك يعني بداية الجد، أي الإقدام على الفعل الذي كلَّفتُ نفسي به. كنتُ أعاني — في الغالب لدقائق فحسب — من الخوف الشهير، الخوف من شجاعة الذات. أو من الارتباك في حالة نجاح استراتيجيتي المزدوجة، والتوحيد بين القول والفعل، أن أصبح بطلًا أو شهيدًا، أن أُرغَم على القيام بدور عام، على منصات الجامعات والأكاديميات، أمام الكاميرات والميكروفونات، أن أصبح نجمًا مناهضًا للنازية في السجن، أن يحدث ذلك في هذا الوقت تحديدًا، بينما كانت كاترين ورُوَّاد الفضاء يغرونني بالبحث عن الرحابة والاتساع.
في طريق العودة مَررْنا بمقبرة عائلة هومبولت، فقرأنا الأسماء: فون هومبولت، فون بيلو، فون هاينتس. قلت لكاترين: يا له من انحدار!
فردت قائلة: ومن يعلم كيف سينحدر أحفادنا.
ملاحَظة تصيب بالحيرة، لم تكن تتناسب مع الفترة ولا مع طريقة تفكيري. هل كانت تفكر في أن تنجب مني أطفالًا؟
هذه النقطة بَقيَت أيضًا وراء غلالة من الصمت. مَضيْنَا إلى السيارة حتى لا تفوتنا بقية المشاهد على سطح القمر. نحو السابعة كان من المفروض أن تبدأ مركبة الهبوط رحلتها والالتحام بسفينة الفضاء. هل سينجح النسر (إيجل) في الإقلاع من القمر؟ وهل سيهبطون بسلام على الأرض؟
على بُعد ٤٠٠ ألف كيلومتر من الغبار تواصَلتْ مأساة الموت والحياة والتقنية. أما مأساتنا فلم ندرك كُنهَها، ولا حتى على بُعْد مليمترات.
بعد أسبوع، في محطة قطارات «برلين تسو»، ومن خلف نافذة القطار السريع رأيتُ كاترين للمرة الأخيرة. ولأول مرة، هكذا أتوهَّم اليوم، رأيتُ دموعًا على خديها.