الفصل الأول

عرفته في يومٍ من أيام الصيف الماضي … في قلب القاهرة … وفي شارعٍ من أفخم شوارعها … كنت أسير في ذلك الصباح إلى حانوت حلاقي … وكان الهواء حارًّا ممزوجًا بنسيمٍ لطيف … وكان صدري منشرحًا؛ فقد صادفت وجهًا مليحًا، لغادةٍ شقراءَ هبطت معي بكلبها في مصعد الفندق الذي أتَّخذه منزلًا، مشيت وأنا أكاد أصفِّر بفمي وأترنَّم … وأشرفت على حانوت الحلاق … وإذا أنا أراه … أرى ذلك الذي كُتب لي أن يكون صديقي … رأيته يخطِر على الإفريز كأنه غزال، وفي عنقه الجميل رباط أحمر، وإلى جانبه صاحبه: رجل قروي من أجلاف الفلاحين … ووقف المارة ينظرون إليه ويحدقون، وبجمال منظره ورشاقة خطاه يعجبون … لقد كان صغير الحجم كأنه دُمية … أبيض كأنه قُدَّ من رخام، بديع التكوين كأنه من صنع فنان … وكان يمشي مطرقًا في إذعان، كأنما يقول لصاحبه: اذهب بي إلى حيث شئت فكل ما في الأرض لا يستحق من رأسي عناء الالتفات.

ذلك هو «الجحش» الصغير الذي استرعى أنظار الناس في ذلك الشارع الكبير … ومنظر جحش في مثل هذا الحي كافٍ وحده لإلقاء العجب في النفوس … ولكن هذا الجحش كان ولا ريب جميلًا في الجحوش … فقد كانت عيون المارة تشع بالإعجاب قبل العجب … ووقفت به سيدات إنجليزيات داخلات محل «جروبي» فما تمالكن أنفسهن من إظهار الحب له … فلو أنه شيء يُحمل لما ترددن في اقتنائه وحمله كما تُقتنى الحليُّ وتُحمل … وكان صاحبه يريد بيعه فيما خيل إليَّ … فلقد سمعته يقول لمن أحاط به من مارة وباعة صحف وغلمان.

– بخمسين «قرش»!

وكانت قدماي على الرغم مني تسيران بي مع الجمع المحيط بالجحش … وكانت عيناي على الرغم مني لا تنحرفان عن النظر إلى هذا المخلوق الصغير الجميل وإذا بفمي على الرغم مني ينطلق صائحًا: بتلاتين «قرش»!

فالتفت الجمع كله نحوي … ودار لغَط وارتفع كلام، وإذا بي أرى رجلًا قد انبرى من بين الجمع: هو بائع صحف يعرفني ويبيعني صحفه، قد تطوع للعمل باسمي، فجذب الجحش من يد صاحبه الفلاح الحريص؛ وصاح في وجهه: سيدنا البك أمر، أمره يمشي على رقبتنا!

فأطبق الفلاح يده على عنق الجحش وصاح: تلاتين قرش! … هو فرخة رومي!

– عيب يا جدع انت ترد على البك الكلام!

– والله ما افرَّط فيه باقل من اربع برايز!

وحمي الشدُّ والجذب بين الرجلين … حتى كاد ينخلع في أيديهما عنق الجحش المسكين … وانتهى الأمر بانتصار سمساري المتطوع … فقد صارت في يده البضاعة قسرًا … فالتفت إليَّ قائلًا: هات يا بك التلاتين «قرش»!

فتردد البائع وتراخى ولكنه أراد مع ذلك أن يحتجَّ قليلًا فأغلق الرجل فمه بقبضته وصاح: اسكت الَّا «اخرشمك»! … هات يا سيدنا البك الفلوس واستلم الجحش، مبارك عليك! … بيعة حلال بنت حلال! … وتقدم نحوي ساحبًا الحمار ليسلمني قياده الأحمر المتدلي من عنقه … هنا ذهبت السَّكرة وجاءت الفكرة … لقد تمت الصفقة من حيث لا أرجو في حقيقة الأمر ولا أنتظر … فقد جرى كل شيء وأنا في شبه غيبوبة؛ فالثمن الذي حددته بثلاثين قرشًا إنما خرج من فمي دون تفكير أو تدبير … رقمٌ لُفظ على سبيل المداعبة … فإذا الهزل يصبح جدًّا … ودخل الآن الجحش في ملكي وحيازتي … فما عساي أصنعُ به الآن وأنا داخل حانوت الحلاق … وأين أضعه ولا منزل لي غير حجرةٍ وحمام في فندق معروف؟

وفوق هذا فجيبي كان خلوًا وقتئذٍ من مبلغ الثلاثين قرشًا.

فلم أكن أحمل ذلك الصباح غير ورقة مالية كان في عزمي استبدالها بنقود صغيرة فأردت الرجوع في الصفقة … فتعذَّر عليَّ الأمر … ولاحقني البائع والسمسار بالحمار.

فقلت منزعجًا مرتبكًا وأنا أشير إلى حانوت الحلاق.

– لكن … أنا داخل أحلق.

فأجاب بائع الصحف من الفور!

– تفضل حضرتك احلق في أمان الله … وانا أقعد لك «بلا قافية» بالجحش على الباب في انتظارك!

فقلت متململًا حائرًا: وحتى المبلغ.

فعاجلني الرجل قائلًا: أنا أفك لحضرتك حالًا من عند الدخاخني … وسد الرجلان في وجهي المسالك، ولم يشفع لي عندهما قول ولا حجة … ولم يفد اعتذار … ولزمني الحمار … فأذعنت … وأشرت إليهما فتبعاني به إلى حانوت الحلاق … ودخلت … فقلت للحلاق أن يؤدي عني الثمن من صندوقه … فأدَّاه … وانصرف الفلاح ووقف بائع الصحف على باب الحانوت بالجحش … يطرد المتجمعين حوله من المارة والغلمان وأهل الفضول … وأنا جالس أفكر في الأمر وما أنا صانع بعد ذلك بهذا الحمل، والحلاق يلطخ ذقني بالصابون ويتغزل في جمال الجحش ويثني على رزانته، ويتحدث عما يلزم له من الغذاء والخدمة … ويتنبأ بما ينتظره من مستقبل باهر يوم يغدو كالفرس الأشهب … وبقية «زبائن الحانوت ينظرون إليَّ وإلى كل هذا ويكتمون ضحكهم ويخفون في رءوسهم ما خالجهم في أمري من ظنون، إلى أن فرغت من الحلاقة فنهضت ودفعت الورقة المالية إلى صاحب الحانوت فأخذ ما له عندي … وخرجت فاستقبلني بائع الصحف … وقدم إليَّ زمام الجحش وهو يقول: اطلقه حضرتك يجري في الجنينة!

فقلت كالمخاطب نفسي: لو كانت الجنينة موجودة لهانت المسألة.

فقال الرجل: اطلقه على السطح والا في «الحوش» مع من غير مؤاخذة الخرفان.

فقلت وقد تخيَّلت مسكني في الفندق: وإن كنا نطلقه في الحمام.

فقال الرجل فاغرًا فاه: الحمام؟!

فلم أردَّ على اعتراضه واستغرابه وقلت له آمرًا: اسبقني به على لوكاندة «…»

•••

نعم، لقد فكرت في الأمر فوجدتُ أن هذا الجحش الجميل ليس أهون قدرًا ولا أقل ظرفًا من ذلك الكلب الذي رأيته اليوم في صحبة الفتاة الشقراء … فما الضرر في أن يصحبني اليوم فأُنزله ضيفًا عليَّ يقاسمني حجرتي حتى العصر، لقد كنت أُزمع السفر عصر ذلك اليوم بالذات إلى ريف قريب في مهمة غريبة، يأتي بيانها عما قليل … فليبقَ معي إذن إلى أن أذهب به إلى الحقول فأطلقه يرتع فيها ويمرح … على أن ما شغل بالي هو أمر طعامه اليوم … لقد كان الحلاق يتحدث فيما تحدث عن غذائه أنه لن يطعم غير اللبن؛ فهو رضيع فيما يرى، ابن يوم أو يومين، وقد انتُزع من ثدي أمه انتزاعًا ليباع في شوارع القاهرة … ولعل ذلك لعسرٍ وقع فيه صاحبه … فالفلاح إذا جاع باع كل ما يمكن أن يباع … من يدري، لعل هذا الرضيع اليتيم هو آخر حلقة في سلسلة شقاء طويل … ولم أسترسل في التأمل … فقد تجمَّع حولنا الناس من جديد … فأشرت إلى بائع الصحف أن يسرع بالجحش أمامي وأنا أتبعه عن كثب، فجذبه من رباطه الأحمر … فمشى المسكين مشيته الرزينة في إطراقه وإذعانه، دون أن يُعنى بتبدُّل الصاحب وتغير المصير … وجعلت أتأمله من بعيد في مشيته … إنها تشبه مشيتي أحيانًا … إذ يخيل إليَّ في لحظات كأن رأسي قد ارتفع عن لجة الوجود المنظور إلى فضاء الوجود غير المنظور.

فأمرُّ بالحياة مذعنًا … لا أحفل بمن معي ولا بمعرفة وجهتي.

نعم، إن مشيتي كمشيته أحيانًا، ونظراتي أحيانًا كنظراته الجامدة المشرفة على عالمٍ ساكنٍ صافٍ مجهول، قد أُغلقت دون الآدميين أبوابه السبعة المختومة بسبعة أختام.

اللهم اغفر لي هذا الغرور، إذ أرفع نفسي إلى مقام التشبه بهذا الكائن العجيب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤