الفصل الثاني عشر

وجاء العصر أخيرًا … فنبهت صاحبي إلى ساعة عودتي … وذكرته بالموعد الذي يقتضي وجودي في القاهرة ذلك المساء … فأمر في الحال الخدم فأعدوا السيارة … وأسرعت إلى حقيبتي الصغيرة فدفعتها إلى من حملها … وودعت الجميع وقلت على سبيل المجاملة إني عائد إليهم في أقرب فرصة تسنح … وأوصى المخرج مساعده أن يقودني إلى فندقي … وأخبرني أنه سيحضر القاهرة هو الآخر بعد يومين أو ثلاثة، وسيزورني، وأوصاني أن أضع همي الآن كله في مسألة الحوار … ورجا أن أصنع الآن شيئًا، وقد رأيت هذه البقعة من الريف والمواقع التي ستُجرى فيها القصة … وأكد القول إني أنا الآن وحدي الذي يحول دون البدء في عملية الإخراج … فكل شيء جاهز؛ فالسيناريو موضوع، والمواقع معروفة … والوجوه موجودة، والممثلون حاضرون، وألوف الأشرطة الخام قد أرسلتها الشركة، وهي تحت أمر المخرج في مخازن كوداك … كل شيء قد تم إلا الحوار … فطمأنته في كلمتين … وصافحني مصافحة شديدة وتركني أصعد إلى السيارة، وانطلقت فتنفست الصعداء.

•••

بلغت الفندق في أول المساء وقد أنهكني التعب وأجهدني سهر تلك الليلة الملعونة … فصعدت من فوري إلى حجرتي فخلعت ملابسي المعفرة بالتراب الآهلة بالبراغيث، ودخلت الحمام … ولبثت في الماء الدافئ ساعة ثم خرجت منه إلى فراشي، فنمت نومًا عميقًا لم أتنبه منه إلا في صباح اليوم التالي.

ومضت حياتي بعد ذلك على وتيرتها المعتادة … فنسيت ما كان من أمر هذه القصة وما يكون … وتناهبتني المشاغل المختلفة … ومرت الأيام فما راعني إلا صاحبي المخرج يستأذن عليَّ عصر ذات يوم … فلما ضمَّنَا المجلس … بادرني قائلًا في صيحة فرح: لقد وجدنا «أمينة» رائعة!

فقطبت جبيني: أمينة؟

– بطلة القصة.

– آه!

– انظر.

وأخرج من جيبه صورة فوتوغرافية لفتاة ريفية باهرة الجمال حقًّا، فتأملتها مليًّا وقلت له: أين عثرت عليها؟

– لا أخفي عنك … الحقيقة لست أنا الذي عثر عليها … لقد بحثنا عبثًا في القرية التي نحن فيها والقرى المجاورة عن وجه صالح فالتجأنا آخر الأمر إلى شيخ العرب «…» المتعهد المعروف لشركات أوروبا وأمريكا، وهو يقيم على مقربة من الأهرام … وقد اعتاد توريد الوجوه والخيول والإبل وأفراد الكمبارس، لجميع الأفلام التي تصوَّر مصر والشرق، والبدو والصحراء … ولقد جئتك اليوم بالذات … أدعوك إلى خيمة الشيخ غدًا حيث يعرض علينا فرسان البدو ألعابًا … ويقدِّم إلينا كثيرًا من الفتيان والفتيات لنختار من بينهم بقية الأشخاص المطلوبة … ينبغي إذن أن تكون موجودًا معنا لهذا الغرض من الصباح الباكر.

فتمثل لي شبح الجهد الذي أضناني يوم ذهبت إلى الريف، فصحت: هذا مستحيل.

وأبديت أعذارًا شتى وتذرعت بحجج كثيرة … فما وسع الرجل إلا أن أطرق أسفًا ثم قال: لا أقل من أن تحضر إذن وليمة العشاء.

– أي عشاء؟

فأخبرني أن المتولي الأمور المالية والإدارية لهذه الشركة قد أعد خيمة بجوار الأهرام … ودعا إلى العشاء مساء الغد بعض أفراد الجاليات الأوروبية المتصلين بشئون الفن …

فقلت له: ولا هذه أيضًا … فأنا لست رجل مجتمعات، ولا فائدة تُرجى لكم مني ذلك المساء … فدعني وشأني … فأصر … وقال: إنها نزهة لن تستغرق أكثر من ساعتين … وأنه سيبعث إليَّ السيارة تحملني من الفندق قبيل الثامنة … ثم نهض مستأذنًا في الانصراف قائلًا: إلى الغد.

وذهب، فسرَّني منه أنه لم يذكر شيئًا عن الحوار … فقلت في نفسي إن تلطفه بي ينبغي أن يقابَل مني بمثله، ووطنت العزم على أن أخصص عصر اليوم التالي لدراسة قصته … وجاء الغد … فابتُليت بما صرفني كالمعتاد عن هذا الأمر، إلى أن دخل المساء، فمكثت في حجرتي وخلوت إلى نفسي وقد فرغت من ارتداء ثيابي … ورأيت الفرصة سانحة فأخرجت أوراق السيناريو … وتحاملت على نفسي، وجعلت أطالع والحر يُسيل عرقي من جبيني … والمعاني — إذا كانت هناك معانٍ — تذوب قبيل أن تبلغ ذهني … فما أنقذني مما أنا فيه غير التليفون ينبئني أن السيارة بباب الفندق في انتظاري … فأعدت السيناريو إلى مكانه، ونزلت توًّا، فركبت وانطلقت … إلى أن وقفت بي السيارة أمام خيمة قد ضُربت في صحراء الأهرام … فهبطت واتجهت إليها، فرأيتها تعج بالمدعوين والمدعوات، وقد تبين لي أني أعرف أكثرهم من قبل … وكانوا قد نصبوا المائدة خارج المضرب … ووضعوا المقاعد الطويلة على الرمال … فاضطجع عليها من أراد الاضطجاع، ودنا من المائدة من رغب في الطعام والشراب، وعلا المرح والضحك وطابت الأحاديث وحلا السمر، وجعل المخرج يعلن في كل مناسبة أني واضع الحوار، كأنما يريد أن يضعني موضع الحرج … أو يبتغي مأربًا لم أتبينه … على أي الحالين فقد ألَّب الكثير من الحاضرين عليَّ وجعلهم يقولون في شيء من الرضا والاغتباط والتأييد: لقد جذبتك الآن السينما!

فلم أدرِ بماذا أجيب؟ … فهمهمت بكلام غير مسموع ثم انسللت من بين الجميع وانطرحت فوق مقعد طويل أتأمل الصحراء الممتدة أمامي كأنها البحر، وأرى ضوء القمر يلاعب رمالها المتموجة فيخيل إليَّ أنها الأمواج … وأغمضت عيني لأخادع نفسي فأتصور أني مستلقٍ على مقعدي فوق ظهر الباخرة إلى أوروبا الجميلة … وشعرت بصوت شخص إلى جواري على مقعد طويلٍ خالٍ … فالتفتُّ … فإذا سيدة من المدعوات تريد أن تحادثني … ولم تُضع وقتًا فقالت: إنك تحب الوحدة.

فقلت دون أن أتحرك وكأني أخاطب نفسي: إنها كُتبت عليَّ.

– إني أراك تهرب من الجميع.

– قبل أن يهربوا مني.

ولزمتُ الصمت، فلم تدرِ كيف نمضي في الحديث فنظرتْ إلى السماء وقالت.

– إن القمر جميل.

– هذا صحيح.

ولم أقل أكثر من ذلك، فسكتت السيدة قليلًا ثم قالت: لقد قرأت أحد كتبك، فألفيته فياضًا بروح الدعابة والفكاهة والحديث الطلي … فتصوَّرتك كذلك في الحياة والحقيقة!

– آسف أني خيبت ظنك.

– كلا … لم يخب ظني … إنما أنت كالقمر تضيء عن بُعد … فبادرت أتم عبارتها: فإذا دنوت منه وجدته جسمًا معتمًا.

فأسرعت تقول في صوت المعتذر: عفوًا! … لم أرد الذهاب في التشبيه إلى هذا الحد.

– ينبغي ذلك حتى يكون للمقارنة صدقها وبراعتها، وتلك مع ذلك هي الحقيقة في واقع الأمر.

– إنك تغلو في الحكم على نفسك.

– لا.

– إني أراك الآن مثلًا قد بدأت تُخرج حديثًا شيقًا.

– لأنك عرفت كيف تَخِزين موضعًا من المواضع التي يعنيني الكلام فيها … إني مثل الثعبان الكسول؛ في أيام الشتاء يظل ملتفًّا حول نفسه وقد برد دمه وتجمد … فلا توقظه إلا وخزة تُخرج من فمه السم … هنالك مواضيع إذا وخزني فيها واخز لا بد أن أفرز كلامًا … ثم أعود بعدها إلى صمتي ووحدتي والتفافي حول نفسي.

– وما هو هذا الموضوع الذي وخزتك فيه الآن؟

– نفسي … أتريدين أن أبرز لك صورة من نفسي كما أراها؟ … إني بناء قائم على ماءٍ جارٍ … وصرحٌ مشيد فوق رمال … لا شيء عندي قابل للبقاء أو صالح للاستمرار … إني لا أقدس شيئًا ولا أحترم أحدًا ولا أنظر بعين الجد إلا إلى أمر واحد: الفكر … هذا النور اللامع في قمة هرم ذي أركان أربعة: الجمال والخير والحق والحرية … هذا الهرم هو وحده الشيء الثابت في وجودي … إني كما ترين لست رجل مجتمع … فأنا لست بارع الحديث ولا حاضر الذهن، ولا ظريف المجلس، ولا أصلح للكلام في الناس … إذا حضرت وليمة فلا ينبغي أن ينتظر مني الحاضرون أكثر مما ينتظرون من طيف يصغي ويلاحظ إذا شاء وقتما يشاء دون أن تسلَّط عليه أنوار تكشف عن وجوده … لقد اختلف في أمري من قديم كل من عرفني، وما زالوا يختلفون … فأنا عند البعض بسيط ساذج … وعند الآخرين ماهر ماكر … قال لي ذات مرة أحد الملاحظين لأمري: «عجبًا لك! … إنك تجهل الأشياء التي لا ينبغي أن يجهلها أحد، وتعرف الأشياء التي لا يعرفها أحد! …» وقالت لي صاحبة نزل أقمت فيه أيامًا: «اسمح لي أن أستوضحك أمرًا: أحاول عبثًا أن أستقر على رأي فيك، إنه ليبدو عليك أحيانًا أنك لا تعرف ما تريد … بل يبدو عليك — وأرجو أن تغفر لي هذا التعبير — أنك قليل الفطنة، بسيط التفكير، ولكنك أحيانًا أخرى تبدو فوق مستوى من رأيناهم جميعًا ها هنا إدراكًا وتيقظًا وتفكيرًا … أنت ولا شك لغز من الألغاز! …» في كل مكان أسمع من يقول عني ذلك … من أجل هذا فقدت حياتي ذلك الوضوح الذي تقام عليه الحياة الثابتة … ولقد تأثرت بهذا الغموض في تكوين شخصيتي، فجعلت أطيل البحث في ذلك أنا أيضًا … فجنحت إلى التأمل الطويل منذ الصغر … وتقدمت بي الحياة … فكنت في كل طور من أطوارها أستوثق من أن الطبيعة قد ترددت هي الأخرى في أمر تسليحي بهبات واضحة قاطعة … لقد كان شأني دائمًا شأن «جحش» عثرنا عليه ثم أطلقنا عليه اسم «الفيلسوف» خرج إلى الحياة منذ يومين فانصرف عن «زجاجة اللبن» إلى مرآة الخزائن يتأمل نفسه! … أنا كذلك انصرفت منذ عهود الصبا عن مباهج الحياة التي تغري الشبان والفتيان إلى تلك المرآة التي أرى فيها نفسى … على أنه تأمل، هو أبعد ما يكون عن تأمل «نرسيس» لنفسه في مياه الغدران … لم يكن تأمل الزهو والافتتان … بل تأمل الباحث الحيران … إني من أشد الناس تنقيبًا في أنحاء نفسي … لأني أعتقد أن الطبيعة لم تسخُ عليَّ … فلم تمنحني لمعانًا ولا بريقًا … إني جسم معتم أضيء كما تقولين بما ينعكس على أديم نفسي من أفكار … ولا شيء غير ذلك … أما في الحقيقة فأنا أرض قحلاء جرداء كلها صخور وأحجار، لا يمكن أن يأنس إليها آدميون … هل سمعت بأحد يعيش في المجتمع بلا أصدقاء … أنا أعيش منفردًا بلا أصدقاء، لا أرى أحدًا إلا لمامًا، للتحدث قليلًا في شئون الأدب أو الفكر أو الفن … أناس من أهل مهنتي … تقضي الضرورة أن ألقاهم … أما أكثر أيامي فأنا بعيد عن المجتمع، لا أسأل عن أحد ولا يسأل أحد عني … لأني لا أملك صفة من تلك الصفات التي تجذب الناس إليَّ أو تغريهم بصحبتي … فإذا أنفقت الوقت بحثًا وتنقيبًا في أرجاء نفسي الموحشة المقفرة فإنما يدفعني إلى ذلك الأمل في أن أستكشف في بعض شعابها معدنًا نفيسًا له شيء من البريق … وسكت … ولم تجرؤ السيدة على الكلام … فقد بدا عليها بعض التأثر … وأرادت أن تقول شيئًا … وإذا أحد المدعوين يقبل عليها فيشاغلها بالحديث … وأطبقت أنا عيني واستسلمت لتخيلاتي … وتعاون الليل الجميل مع النسيم اللطيف فحملا النوم إلى جفوني فما شعرت بشيء حولي … إلا وقع غطاء خفيف من الصوف قد ألقته على جسمي يد رفيقة … ثم همسات تصل إلى وعيي بين ساعة وأخرى كلما خفَّت إغفاءتي لسبب من الأسباب … وكان يخيل إليَّ أحيانًا أني أسمع بعض الحاضرين يقول: أهو نائم؟

فيقول صوت عذب لإحدى السيدات: كنت أريد أن ألقي عليه سؤالًا.

فيجيبها صوت آخر: لا توقظيه … إن نومه عميق.

فتقول: عجبًا له … كنا نحب أن يتحدث إلينا … ولكنه قضى السهرة … غير ساهر.

فأجابها صوت أعرفه: إنه كذلك في أكثر الاجتماعات التي شاهدته فيها: حاضر وغائب … ومعنا وليس معنا.

ثم انصرفوا إلى شأنهم وضحكهم ومرحهم، إلى أن ذهب أكثر الليل وحانت ساعة الأوبة … ووجدوا ألا مناص من إيقاظي … فأيقظوني، وأعدوا مكاني من السيارة، فودَّعتهم وأنا نصف يقظان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤