الفصل الرابع عشر

مرت الأيام … ولم يبدُ لصاحبي المخرج أثر … ولم يبقَ غير يومين على رحيل الباخرة التي كنت قد حجزت فيها مكاني … فلم أقلق ولم أهتم … فما كان شيء يستطيع أن يحول بيني وبين الخلاص من جحيم الصيف في القاهرة … وقلت في نفسي: سأحمل معي قصته وأكتب له من أوروبا، ولعلي أبعث إليه بجزء من الحوار ليطمئن قلبه … وسافرت في اليوم التالي إلى الإسكندرية … ثم أبحرت … ثم بلغت «لوسرين» حيث حضرت الكونسير الأولى للموسيقى «توسكانبني»، وهنا نسيت كل النسيان مصر وشئون مصر … ولم أذكر سيناريو … ولا سينما … ولا مخرجًا ولا حوارًا … ونسيت حتى أن أكتب إليه لأخبره برحيلي ومكاني، بل نسيت حتى حماري «الفيلسوف» وأحواله وأطواره ومرآته وتعاليمه وما جرى له وما يجري له … وتركت سويسرا إلى فرنسا … وتنقلت في جبال السافوا العليا وغمرت نفسي في راحة مطلقة … وذهني في ركود تام، فلم أفتح صحيفة ولم أقرأ كتابًا … ولم أحرر خطابًا … ولم أحمل قلمًا ولا ورقًا … وإنما حملت في يدٍ عصا الجبل ذات الطرف الحديدي وفي الأخرى عصا السمك وعلبة الطُّعم أطوف بها على البحيرات الصغيرة أحاول عبثًا اصطياد سمكة من تلك الأسماك التي تحت أنفي وتسخر من طُعْمي.

وأقفلت راجعًا إلى مصر قبيل شهر سبتمبر … فوجدت في انتظاري خطابين مسجلين من محامي الشركة يشيران إلى العقد وأمر تنفيذه، وإلى التبعة التي نتجت عن التأخير … فأفقت في الحال من أحلام الصيف … وتذكرت كل شيء … فأخرجت كراسة السيناريو من الحقائب … ووطنت العزم على العمل … فقد بعثت الرحلة في نفسي النشاط … فأقبلت على مطالعة القصة وأنا أقول لنفسي: «فلأصنع شيئًا على الأقل ثم اتصل بالمخرج ليرى أني لم أنسه طول الوقت، ولكن المطالعة ما كانت تزيدني إلا اقتناعًا بأن هذا العمل مستحيل … فأشخاص القصة بعيدون عن مشاعري كل البعد … فأنا لا أراهم … ولا أعرفهم … إنهم غرباء عني …»

كيف يُطلَب إليَّ أن أضع في أفواههم كلامًا، كما يضع طبيب الأسنان «أطقمًا» ذهبية في أفواه الناس؟ … فطرحت الأوراق يائسًا … ونهضت أكتب إلى المخرج كي يقابلني … وأنا أصيح في الحجرة: ينبغي أن أُفهِم هذا الرجل أخيرًا أني لا أصنع كلامًا لأشخاص … وإنما أصنع أشخاصًا يتكلمون!

•••

كان جو العالم السياسي في ذلك الحين قد اكفهرَّ اكفهرارًا ينذر بالويل … فقد طغت شهوة الاستعباد في نفوس شعوب تسمي أنفسها «راقية»، فنبذت تعاليم أولئك الذين عرفوا أنفسهم فكشفوا للإنسانية عما في نفسها من جمال وصفاء، وسلمت أمورها لأولئك الذين جهلوا أنهم جهلاء فأيقظوا فيها غرائز الجشع والظلم والدماء.

وما كاد المخرج يعلم وجودي في القاهرة، وكانت قد بدأت مجزرة الوحوش البشرية فجاءني يقول: لقد أوقفت الحرب بالضرورة أعمال هذا الشريط، وسنرحل بعد أيام … وأرجو المعذرة للخطابات المسجلة فإن سفرك وانقطاع أخبارك اضطرنا إلى هذا الإجراء لندرأ عنا أمام الشركة مسئولية التأخير … فقلت له: والعقد الذي بيننا؟

فأجاب: قائم بالطبع لحين استئناف العمل.

– متى؟

– بعد الحرب.

– لقد كنت أفكر في طلب إلغاء هذا العقد.

– لماذا؟ … لا تيأس بهذه السرعة … الوقت أمامك الآن متسع للتفكير الطويل والعمل البطيء وسنخطرك بالطبع عند الاحتياج إليك.

وسُوِّيَ أمري مع هذه الشركة على هذا الوجه وحُلَّ الموقف مؤقتًا على الأقل، هذا الحل غير المنتظر … واطمأن قلبي كل الاطمئنان … فقلت لصاحبي المخرج: هلم معي إلى مطعم الفندق … إني أدعوك للعشاء.

فقال لي وهو يهبط معي بالمصعد إلى قاعة الطعام في الطابق الأسفل: أرجو ألا يكون عشاء الوداع.

– أرجو ذلك.

وجلسنا إلى المائدة فبادرني قائلًا: عندي لك خبر محزن.

فالتفت إليه قلقًا: ماذا؟

فأجاب في صوت الأسف: صديقك «الفيلسوف».

فقاطعته: مات؟

– يوم إبحارك.

وا أسفاه! … لقد كنت نسيته … إني ناكث للعهد … وتصورت منظره ورزانته وصيامه … وقلت: لقد كان جميلًا زاهدًا حكيمًا!

فقال المخرج: لا تحزن، سأبعث إليك بصورته التي التقطناها له.

فقلت كالمخاطب لنفسي: صورته! … نعم أذكر يوم التقطتم له هذه الصورة.

ثم تخيلته يوم وضع رأسه في كفي … كأنه يفكر … لو أنه كان يفكر مثلنا برأسه … ذلك الجهاز المحدود التفكير … آه، لقد استطاع هذا الفيلسوف الصغير أن يبلغ قمة «الصفاء» … تلك القمة التي طمع «جوته» في أن يبلغها يومًا … لقد استطاع هذا الصديق الراحل أن يرى الحياة والموت من ثقب واحد … وأن يرى الكائنات المتحركة والجامدة من عين واحدة … وأن يخترق الكون كله بجسمه الصغير النحيل في يومين ويمضي، وأن يتوهم أنه زعيم خطير أو مفكر بصير … إن هذا الشيء الحقير الذي سميناه جحشنا هو في نظر «الحقيقة العليا» مخلوق يثير الاحترام في حين أن كثيرًا ممن سميناهم زعماء وعظماء فركبوه، ولم يبصروا الغرور وهو يركب رءوسهم … هم في نظر «الحقيقة العليا» مخلوقات تثير السخرية! … نعم كنت أشعر دائمًا شعورًا غامضًا أن حبي لهذا الجحش هو حب مقترن بشيء آخر غير العطف والإشفاق … إنه التقدير والتبجيل … أحمد الله أنه مات قبل أن يكبر فيُركب … إني كنت أخجل من ذلك ولا ريب … لأني كنت أسمع في كل خطوة من خطواته المتزنة همسات تتصاعد من أعماق نفسه التي في عمق المحيط: «أيها الزمان»، أيها الزمان! … متى تُنصف أيها الزمان فأَركب … فأنا جاهل بسيط أما صاحبي فجاهل مركَّب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤