الفصل الرابع

الرحلة … من قرطاج إلى قرن الجنوب

  • (١)

    يشي هذا النص — على قِصَره — بمعلومات ثمينة قياسًا بالمعرفة الجغرافية والأنثروبولوجية التي كانت سائدة في زمنه. فلا شك مطلقًا في أن هذه الرحلة كانت الأولى التي دونت وقائعها على هذا النحو بين رحلات سادة المتوسط آنذاك، من فينيقيين ورومان وإغريق. لقد أراد القرطاجيون تحقيق أهداف عدة من وراء إرسال أسطولهم إلى الأراضي المجهولة آنذاك تتمثل في:

  • (٢)

    تعويض خسارتهم في هميرا، وإخفاقهم في السيطرة على هذه المدينة التجارية المهمة. وقد كانت رحلة حنون بعد ٥٥ سنة من خسارة المعركة، مع استمرار التنافس والنزاع الحذر مع الإغريق، وقبل ١٦ سنة من اقتحام القرطاجيين المدينة وتدميرها تمامًا، ثم بناء مدينة جديدة بالقرب منها، ربما في عهد حنون نفسه.

  • (٣)

    البحث عن مستوطنات جديدة بعيدة عن المتوسط، ساحة الصراع الدائمة. ومجمل تاريخ الفينيقيين في البحر المتوسط هو تاريخ بحث عن أراض نائية غير متنازع عليها وتأسيس مدن تجارية فيها.

  • (٤)

    تأمين طريق بحري إلى مصادر الذهب وغيره من المعادن في أفريقيا، عوضًا عن السفر عبر الصحراء الكبرى. ويرجح بعض الباحثين أنهم وصلوا إلى النيجر وانتقلوا منها إلى تاروغا التي عرفت أفران الحديد بين القرنين الخامس والثالث ق.م. (نحو ألف كيلومتر جنوبًا على هضبة بوش في نيجيريا).

  • (٥)

    الوصول بحرًا إلى نهاية سلسلة جبال الأطلس على المحيط الأطلسي، الأمر الذي يعني تسريع رحلاتهم إلى مصدر الذهب.

  • (٦)

    الإعداد لنقل مسارات الإبحار إلى المحيط واكتشاف جزره وبلدانه. (ثمة شواهد عديدة على وصولهم إلى جزر المحيط وبعض سواحل أمريكا الجنوبية).

  • (٧)
    هذه الأسباب دفعت القرطاجيين إلى اختيار حنون على رأس حملة بحرية لاستكشاف ساحل أفريقيا الغربي واستطلاعه واستيطانه، وكان حنون خال ملامفُس ملك قرطاج المقرب منه، في رواية النسخة التي ترجمها سيمونيدس، كما ذكرنا. ولا يفصل هذه الرحلة زمن طويل عن سابقتها حيث يُروى أن ملك مصر الفارسي عاقب «ابن شقيقه ساتَسبِس Sataspes (حوالي العام ٤٧٠ق.م.) بالدوران حول ليبيا (أفريقيا)، ويقال إنه تجاوز أعمدة هرقل وواصل الإبحار جنوبًا بمحاذاة الشاطئ حتى وصل إلى بلد يسكنه قوم قصار القامة يكتسون سعف النخيل ويسكنون القرى، وربما كان هؤلاء من شعب البيغمي». وهنا يتساءل كي-زيربو: «هل قابلهم ساتسبس فعلًا؟ أم أنه نسج رواية حول موضوع كان معروفًا بشكل غامض في تلك الفترة؟»١ لا أحد يعلم، إلا أنه بعد ٤٥ سنة من هذه الرحلة المجهولة النتائج انطلقت رحلة حنون.

تصف الرحلة كيف تتبع القرطاجيون امتداد الساحل الأفريقي الغربي، وكانوا ثلاثين ألف قرطاجي وقرطاجية على ستين سفينة من ذوات الخمسين مجدافًا، محملة بالمؤن والضروريات. وقد يبدو الرقم ٣٠٫٠٠٠ مبالغًا فيه، سمةَ المخطوطات والنصوص التاريخية القديمة، وبتدقيق عدد السفن وبحارتها وجنودها وتجارها ومجدفيها وغيرهم — إذ إن من بينهم أطفالًا أيضًا، كما سنرى — نجد أن كل سفينة حملت ٥٠٠ مهاجر على اختلاف الأعمال الموكلين بها، وكان منهم ٣٠٠٠ أو أكثر من المجدفين، وأتصور أن عددًا من المهاجرين كان من النساء، فهذه الرحلة لم تكن استطلاعيةً تنتهي عند محطاتها لتعود إلى قرطاج بملاحيها وركاب سفنها، بقدر ما كانت رحلة استيطانية توخت إعمار سواحل أفريقيا الغربية بسكان قرطاجيين، كما يبدو من هذا النص. إلا أن المبالغة — مع ذلك — قد تكون متعمدة لسبب ما.

وبعد تقديم سريع يصف مضمون المخطوط، يتحول الإخبار إلى صيغة المتكلم، والمخطوط في مجمله من قبيل اليوميات التي يدونها قباطنة السفن، وقد قرئت وقائع الرحلة بوصف المتكلم بصيغة الجمع هو حنون نفسه الذي يخبرنا أنه أبحر جنوبًا باتجاه الشاطئ الغربي بعد المرور بأعمدة هرقل، المعروفة جيدًا لدى الفينيقيين.

ومن هنا تبدأ روايته بمغادرة أسطوله البحرَ المتوسط واجتيازه الأعمدة، وبعد إبحار يومين جنوبًا يؤسس القرطاجيون أولى المدن: «وقد أسميناها ثمياتريون Thymiaterion»، ويختلف الحرف الأخير بين الميم والنون من نسخة إلى أخرى، وقد أشار كوري٢ إلى أننا قد «نكتفي بملاحظة أن ثيمياتريوم أولى المستوطنات التي أسسها حنون في موقع قريب جدًّا، ربما هي تمامًا نفس المدينة التجارية موگادور Mogador»، معتمدًا في ذلك على أنها أولى المدن التي تم تأسيسها بعد أن غادر الأسطول أعمدة هرقل، وموگادور هو الاسم القديم لمدينة الصويرة الحالية على ساحل المحيط، لكننا إذا افترضنا أن القرطاجيين قد اتجهوا مباشرة من جبل طارق إلى السواحل الأفريقية فإن ذلك يعني أن ثمياتريون ليست سوى مدينة تمارة المغربية التي أخذ اسمها صيغة محلية وحافظ في الوقت نفسه على أصل تسميتها، ما لم تكن تماريس التي تقع جنوبها. وهكذا بالنسبة إلى المدينة الثانية سُلُويس التي تقع أيضًا على الساحل المغربي، ويقول عنها كوري:٣ «إن نتوء سُلُويس Soloeis يتوافق مع رأس بوجادور Cape Bojador المقابل تقريبًا للكناري.»٤
وهنا ملاحظة يجدر بنا ذكرها، وهي أن النسخ تختلف بعد ذلك في اسم المدينة التالية، ففي بعضها (كالتي ترجمها سيمونيدس) هي «كريكون» Karikon، وفي بعضها الآخر (كما في ترجمة كوري) هي «كريكونتخوس» Caricontichos، والصواب بالطبع هو كريكون، لأن الاسم الثاني جمع خطًّا بين مدينتين هما مدينة كريكون Caricon هذه ومدينة تِخوس Tichos. ويرى كوري (شذرات: xxiii) أن: «كريكون Caricon وتخوس Tichos (في الأصل المنشور Caricontichos) وغيته Gytte، وأكرا (أو عكرا) Acra، ومليته Melitta، وأرَمْبِس Arambys تقع بين رأس بوجادور Cape Bojador ووادي الذهب Rio d’Ouro الذي يُفترض أن يكون لِكْسُسْ Lixus». ولا مجال بالطبع لجعل العرائش (شمال المغرب) تتوافق مع نهر لِكْسُسْ، بالرغم من أنها معروفة بهذا الاسم، أي «ليكسوس»، ذلك أن الرحلة تجعل بين هذا النهر وبين ثمياتريون خمس مدن بالإضافة إلى موقع آخر أقام عليه حنون معبدًا لبوسيدون، كما أن الاسم السائد للمدينة هو ليكش القريب من ليكسوس، وقد تأسست عام ١١١٠ق.م. يضيف كوري: «إن قِرْنة Cerne تقع بالقرب من جزيرة أرگوين Arguin جنوب الرأس الأبيض Cape Blanco»، وهو احتمال على قدر كبير من الدقة، إلا أن الاحتمال الأكثر دقة هو أن تكون قرنة هي هرنة Herne التي تقع شمال أرگوين، ولكن هرنة وأرگوين يقعان على أطراف الصحراء حيث تنعدم إمكانية التبادل التجاري والمقايضة، وحيث لا مصدر للماء ولا أرض صالحة للزراعة، ما لم يكن الوضع آنذاك غير ما هو معروف بيئيًّا الآن. يضيف كوري: إن «نهر كريتس Chretes ربما يكون سان جون St. John». ويكون «النهر الكبير المشار إليه بعد ذلك هو نهر السنغال»، أما «رأس بالماس Cape Palmas ورأس النقاط الثلاث Cape Three Points فمن المرجح أنهما يتوافقان مع القرن الغربي والقرن الجنوبي»، كما يسميهما نص الرحلة، و«تتوافق جزيرة ما في خليج بنين Benin مع جزيرة الغوريلا». ويقول (شذرات: xxiii) إن هناك من يفترض أن القرن الغربي هو الرأس الأخضر Cape Verd، وأن القرن الجنوبي هو رأس بالماس Cape Palmas، وفي هذه الحالة تكون سيراليون Sierra Leone هي عربة الآلهة Ochema Theon أو The Chariot of the Gods، بينما يشير وصف المكتهفين Troglodytae إلى الانتقال من المغاربة أو الموريين Moresco إلى العرق الزنجي Negro race. أي بعد الساحل الصحراوي الذي يمتد على المحيط من نهاية سلسلة الأطلس وينتهي بالرأس الأبيض (انظر الخريطة).
يرى كي-زيربو «أن بعض من قبلوا هذه الرواية بحرفيتها انبرى تفسير جميع تفصيلاتها، فتعرفوا مثلًا على السنغال الحالي في نهر بامبوتوم، وعلى جبال كاكوليما في غينيا، أو على بركان الكاميرون، في الجبال المذكورة في النص».٥ و«جبل عربة الآلهة هو بلا شك الجبل المقابل (يعني باتجاه الجنوب) لسلسلة جبال الأطلس».٦ «وقد اكتُشفت في لِكْسُس (العرائش) وشيلا (سلا الحالية، وبالقرب منها قلعة شالا في الرباط) وجزيرة موگادور التي ربما كانت هي نفسها جزيرة قِرنة التي يتكلم عنها الكتاب الأقدمون قطع نقدية وفخاريات فينيقية، مما يدل على وجود تبادل تجاري مهم مع البربر أو بقايا الزنوج الذين كانوا يعيشون على ساحل البحر». لكن الكثير من الباحثين «يعتقدون أن أولئك الملاحين الأوائل لم يتمكنوا من التغلب على التيارات البحرية البالغة العنف وعلى الرياح التي تهب طيلة العام من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي في المنطقة الواقعة بين الرأس الأبيض والرأس الأخضر، ولم يتمكنوا بالتالي من تجاوز رأس جوبي، ويعتقد البعض أنه حتى فيما لو تمكنت حملة حنون من الوصول إلى خليج غينيا فإنه ما كان بمقدورها أن تعود إلى قواعدها في المتوسط عبر طريق المغرب». ويضع كي-زيربو قراءه بعد ذلك أمام تساؤل لا إجابة عنه، أو هو ربما امتداد للحيرة التي تتركها محاولة تحديد جغرافيا الرحلة: «ألا يكون الجزء الذي يعقب الحديث عن إقامة المستعمرات على الساحل المغربي من هذه الرواية مجرد تلاعب أو نوعًا من التخريفات الجزئية؟ لغز حقيقي حقًّا!»٧
إن الأسماء التي أطلقها حنون على المدن الجديدة تتوافق مع أسماء المدن الفينيقية التي انتشرت من شرق المتوسط إلى إيبيريا، فمدينة قرنة Cerne أو Kerne يتكرر اسمها بأكثر من صيغة، كما في قورينا،٨ وأكرا (أو عكرا) Akra, Acra التي تعني الحد أو النهاية، وتعني الرأس بالاصطلاح الجغرافي، تتوافق مع أكثر من موقع بهذا الاسم، منها إبون أكرا Ippon Acra، وهي مستوطنة أو محطة تجارية تقع غرب طرابلس (رأس بن جواد الحالية)، وهبو أكرا في تونس (بنزرت)، وهو يذكرنا أيضًا باسم أكرا الغانية الحالية. كما إن اسم مليتة قد أطلقه الفينيقيون على الكثير من المدن الساحلية، كما في تونس وليبيا، ويعود اسم مالطا الحالية إلى مليتة الفينيقية، بل إننا نجد هذا الاسم في كل مكان وصل إليه الفينيقيون، مثلما في جزيرة إريترية مقابلة لمدينة عدوليس الساحلية جنوب البحر الأحمر، وهو يذكرنا برحلة الفينيقيين للطواف حول ليبيا (أفريقيا) في عهد الملك المصري نخاو بن بسَماتيك، أما كَريكون فنجد اسمها في كركوان بالقرب من رأس بون في تونس، واسم كريتس يتفق مع كرت أو قرت الفينيقي.
ونجد في نسخة سيمونيدس بعد ذكر تأسيس المدن (من كريكون إلى أرمبس)، وهو ما لا تذكره نسخة كوري: «فيها (أي في هذه المدن) أقمنا أربعة معابد. معبد لآمون Ammon في غيته، وأمونيا Ammonia (مزار مقدس ومعبد لآمون) في أكرا، ومعبد لخريسور Chrysor في مليتة، ومعبد لأثينا Athene ومعبد لبوليبول Polyboule في أرامبيس.»
ويرِد في نهاية النسختين كيف أن القرطاجيين وجدوا جزيرة مكتظة بكائنات وُصفت بالبربرية والتوحش، وكان الشعر يغطي أجسامهم، ولم يجدوا وسيلة للتخاطب معهم، فحاولوا صيد بعضهم، وقد نجحوا في أسر ثلاث من إناثهم، ولكنهن كن متوحشات وعدوانيات فأقدم البحارة على قتلهن، وحُملت جلودهن المُشعَرة إلى قرطاج. إن النص يطلق على هذه الكائنات كلمة Gorillae، أي: غوريلات. وهي الكلمة التي أطلقها الأوروبيون بدءًا من القرن التاسع عشر على هذا الجنس من القردة، وساد لديهم بعد رؤيتها للمرة الأولى القول بأنها «شعب الكائنات» التي اكتشفها حنون. وقد افترض كوري أن رجال الغوريلا، وهي كلمة لا ترد في أي من اللغات، ولم تكن معروفة قبل رحلة حنون، قد يكونون من الأفارقة البدائيين بقدر ما يمكن الافتراض أن الفينيقيين إنما كانوا يعنون فعلًا القردة التي عرفت بعد ذلك بهذا الاسم. ويرى كي-زيربو «أنهم — ولابد — كانوا من شعب البيغميه، أو بالأحرى من قردة الشمبانزي»،٩ معلقًا على هامش ذلك أن «الغوريلا لا وجود لها في غرب أفريقيا»!
أخيرًا … ربما ارتاد حنون ورفاقه ألفين وستمائة ميل في هذه الرحلة، وقد تكون السفن الليبوفينيقية وصلت إلى ساحل السنغال، أو سيراليون، أو ربما زاروا غامبيا، أو غابون. وإن وصف البركان الذي يرِد في نص الرحلة قد يكون وصفًا لبركان جبل كاكوليما Kakulima في غينيا، أو لبركان آخر في جبال الكاميرون. ولا نعرف كيف سجل الفينيقيون وصولهم إلى خط الاستواء جنوبًا، كما لا نعرف على وجه الدقة ما إذا كان استيطان الفينيقيين هذه المحطات قد استمر فأسسوا مدنًا أخرى غاب عنا تاريخها ومسار أحداثها، أو أنه انتهى بإخلاء قرطاج من أولئك الثلاثين ألف مهاجر، كما أننا لا نعلم عدد الذين عادوا إلى قرطاج بعد ذلك، هل كانوا من المهاجرين، أم هم ملاحو السفن وقباطنتها ورئيس الرحلة فقط؟ لكننا نعرف من ناحية أخرى أن الفينيقيين لم يكونوا ليتركوا أخبار كشوفاتهم تلك عرضةً للسطو من قِبل الآخرين، الرومان على الأخص، وقد كان التنافس بينهم على أشُده بما يمكِّنهم من توسيع حدود الإمبراطورية وكسب المزيد من مناطق النفوذ واستغلال المصادر الزراعية لتنمية صادراتهم من الحبوب والكروم، والمصادر المنجمية لاستخلاص الذهب والفضة والنحاس والقصدير والحديد، لهذا السبب لا يبدو التوفيق — بدقةٍ بالغة — بين أسماء المدن الليبية الفينيقية الجديدة في جغرافيا الرواية وبين المواقع التاريخية أو القائمة الآن في الجغرافيا الواقعية أمرًا ممكنًا بشكلٍ نهائي. إن ما يجب القبول به — بشكلٍ عام — هو أن هذه الرحلة تُخفي حقًّا أكثر مما تُظهر فعلًا.
figure
ساحل غرب أفريقيا (نقلًا عن خريطة الكونغرس عام ١٨٥٨م)
figure
الصفحة الأولى من ترجمة كوري لرحلة حنون
figure
بردية متحف ماير البريطاني التي اعتمدها كونستانتينوس سيمونيدس
١  تاريخ: ١٤٠.
٢  شذرات: xxii.
٣  شذرات: xxiii.
٤  ملاحظة: أول وصول مدون إلى جزر الخالدات (الكناري) كان على يد بحارة قادش حوالي ٨٠ق.م. كما زارها الملك جوبا الثاني حوالي ٢٥ق.م، ونعتقد أن القرطاجيين قد وصلوا إليها قبل ذلك بزمن طويل، بعد اجتيازهم جبل طارق، ربما مع رحلة حنون جنوبًا، ورحلة ميلكو شمالًا، وربما قبل ذلك، وقد عثر في هذه الجزر على لُقى فينيقية ما زال بعضها — حتى الآن — في متحف لاس بالماس، ولكننا نفتقد أي نص تاريخي يشير إلى الزيارات الفينيقية. وقد أكد الباحثون وجود صلة قوية بين اللغة الأمازيغية ولغة السكان الأصليين المعروفين باسم الغوانش (أو أشناش Achnach بلسانهم) الذين تعرضوا لحملات إبادة عرقية على يد الإسبان مع بداية تطهير إيبيريا من وجود العرب المسلمين. وفي معتقد الغوانش الشعبي فإنهم يرددون ما يعرفونه عن تاريخهم القديم بشكل أشبه بالخرافة التي كانوا يروونها، قائلين إن أسلافهم وصلوا إلى هذه الجزر، وكان عددهم ستين بين رجل وامرأة، وإنهم جاءوا من سواحل أفريقيا إلى الكناري، دون أن يعرفوا كيف ولا بأي وسيلة. ما يثير الانتباه في أسطورة التأسيس هذه هو الرقم ستين (٦٠) الذي أرى أنه ذكرى مشوشة عن السفن الستين التي كانت في رحلة حنون. فهل عرجت الرحلة على جزر الكناري؟ أم أن هؤلاء الغوانش كانوا في رحلة أخرى تالية توجهت إلى المدن الليبوفينيقية أو واحدة منها؟!
٥  تاريخ: ١٤٢.
٦  تاريخ: ١٤٣.
٧  تاريخ: ١٤٢.
٨  سيطر الفينيقيون على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط من قورينا شرقًا إلى جبل طارق غربًا، ونستطيع العودة باسم قورينا إلى أصل فينيقي، بالرغم من أن الرواية السائدة تقول إن قورينا تم توطنها وإطلاق اسمها هذا بعد أن قامت مجموعة من المهاجرين الإغريق بالنزوح إلى الساحل الليبي من جزيرة Thera (سانتورين الحالية) عام ٦٣١ق.م. حيث أشار عليهم العرافون في معبد دلفي Delphi بأن يتوجهوا إلى ليبيا، فقادهم رجل من كريت سيتخذ بعد وصوله اسم باتوس Battus ويصبح حاكمًا بعد ذلك لأربعين سنة، ويبدو اسمه هذا ذا أصل شرقي، وربما كان يعود إلى اللغة الليبية التي كان الأهالي يتحدثونها آنذاك، وتقول أسطورة التوطن إنه كان قبل ذلك يُدعى أرسطوطاليس Aristoteles، وإنه كان مصابًا بالثأثأة التي لم يتخلص منها إلا عند قدومه إلى ليبيا. وقد نعتبر ما ورد في هذه الأسطورة إشارة إلى أن أصول باتوس هذا كانت فينيقية-كريتية، بدليل أنه لم يكن يحسن التحدث باليونانية كما يبدو. ولم يستطع المهاجرون الإغريق البقاء في الساحل الليبي أكثر من سنتين لفشلهم في العثور على مكان مناسب لتأسيس مدينة جديدة فعادوا أدراجهم، ولكن وحي دلفي أمرهم بالعودة ثانية فعادوا وتوطنوا مكانًا يدعى أزيريس Aziris. وتقول الأسطورة إن الأهالي بعد ذلك أقاموا معبدًا لأبولو بالقرب من نبع يدعى كورا Kura أو كورانا Kurana ومنه جاء اسم قورينا Cyrene، والتحق بالمهاجرين الأول عدد آخر فطردوا القبائل الليبية واستولوا على أراضيها ومراعيها. وفي عهد آخر ملوك قورينا — الذي مات مغتالًا — نشأ نظام جمهوري عام ٤٤٠ق.م. تم فيه تعيين الحدود بين قورينا وقرطاج.
٩  تاريخ: ١٤١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤