الفصل الأول

نظريات في نشوء إسرائيل

إن الإخفاق الذي مُنِي به الباحثون المحافظون حتى الآن في إيجاد مستنداتٍ تاريخية لإسرائيل التوراتية، قد قاد إلى الاستقلال التدريجي للبحث في أصول إسرائيل عن البحث التوراتي والبحث اللاهوتي. وفيما عدا البقية المتعنتة من تلامذة أولبرايت، والحلقات الأكاديمية ذات الخلفية اللاهوتية، فإن الباحثين اليوم يضربون صفحًا عن كل ما سبق فترة الاستقرار في كنعان، باعتباره «ما قبل التاريخ» بالنسبة لمسألة أصول إسرائيل، ويركزون دراستهم على عصر الحديد الأول، والفترة الانتقالية من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، وذلك من أجل الكشف عما حدث فعلًا في فلسطين وأدى إلى نشوء إسرائيل.

(١) نظرية آلت في التسرب السلمي

في عام ١٩٢٥ نشر الباحث الألماني ألبريخت آلت Albrecht Alt بحثه المُعنوَن «توطُّن الإسرائيليين في فلسطين»، وذلك ضمن كتاب موسوعي أشرف على تحريره عنوانه «مقالات في تاريخ وديانة العهد القديم».١ وقد بسط آلت في ذلك البحث نظريته في أصل إسرائيل، والتي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ على مسار البحث منذ ذلك الوقت. يبتدئ آلت دراسته لأصول إسرائيل من عصر القضاة، أما ما قبل ذلك من المرويات التوراتية فليست عنده إلا من قبيل الأدب الخيالي، الذي تمت صياغته في الفترات المتأخرة، بهدف خلق أصولٍ متجذرة لإسرائيل وديانتها في الماضي البعيد. وجد آلت من دراسته لأسماء المواقع التي تعزو الرواية التوراتية سُكْناها من قِبل أوائل الإسرائيليين في سفر القضاة، أن هذه المواقع كانت بعيدة عن مناطق دويلات المدن الكنعانية، وقامت في المناطق الهضبية شبه الخالية من السكان تقريبًا. من هنا كان منطلقه في بناء نظريته في التسرب السلمي للجماعات التي شكَّلت فيما بعد إسرائيل. لقد لاحظ هذا الباحث من مقاطعته للعديد من المعلومات أن الهضاب المركزية لفلسطين كانت شبه خالية من السكان خلال عصر البرونز الأخير، وخصوصًا منذ فترة تل العمارنة حوالي ١٣٥٠ق.م. ولم تكن تحتوي إلا على عددٍ قليلٍ جدًّا من القرى الصغيرة والمتباعدة. وكانت مدينة شكيم في الشمال هي المدينة الوحيدة المهمة فيما بين أورشليم جنوبًا ووادي يزرعيل (مرج ابن عامر) في الشمال. وقد بقي وضع الهضاب المركزية على هذه الحالة حتى عام ١٢٥٠ق.م. عندما بدأ مسرح الحدث التوراتي بالتوضح في هذه الرقعة. وفي الحقيقة، فإن هذا الاستنتاج المبكر الذي توصل إليه آلت بنفاذ بصيرته قد أثبته المسح الأركيولوجي للهضاب المركزية بعد أكثر من نصف قرنٍ على ظهور دراسة آلت.

ويعتقد آلت أن الجماعات التي شغلت الهضاب المركزية كانت عبارة عن عشائرَ بدوية من أصولٍ مختلفة أخذت بالتسرب تدريجيًّا إلى هذه المنطقة، وعلى فتراتٍ متقطعة ومتباعدة، اعتبارًا من منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، تسوق قطعانها الصغيرة عبر نهر الأردن باحثةً عن مراعٍ جديدة في كنعان. وكان هؤلاء الرعاة يتوقفون خلال الشتاء والربيع عند أطراف المناطق الزراعية، فإذا يبست الأعشاب صيفًا أخذوا بالتوغل أكثر فأكثر نحو المناطق الزراعية من أجل رعي القش المتبقي بعد الحصاد، وذلك بالاتفاق مع أصحاب الحقول، الذين كانوا يدخلون معهم في علاقات منافع متبادلة. وشيئًا فشيئًا، وجد بعض هذه العشائر أماكن مناسبة لإقامتهم في المناطق الخالية الفاصلة بين دويلات المدن الكنعانية، والبعيدة عن نفوذ المراكز السياسية الهامة، وعن النفوذ المصري في وادي يزرعيل، فتوطنوا هناك وأخذوا بالاستقرار والزراعة دون أن يسببوا تهديدًا أو مخاوف لأي فريق، ولم يكن لهذه الجماعات من حاجةٍ إلى العنف وإلى اكتساب الأرض بالقوة. ثم إن هذه العشائر المسالمة والمتباعدة عن بعض أخذت بالتقارب بعد فترةٍ من الاستقرار، وأخذت تدريجيًّا بالإحساس بنوعٍ من الرابطة فيما بينها. ومن المرجح أن عبادةً واحدة قد نشأت بينها تدريجيًّا، وتركزت طقوسها حول مقامٍ مقدس أو مذبح مشترك، الأمر الذي زاد من ترابطها وإحساسها بالتمايز عمَّن حولها. وعندما أخذت أكبر هذه العشائر بتوسيع مناطقها على حساب مناطق الكنعانيين، وذلك في أواخر عصر القضاة، وقع الصدام العسكري مع الكنعانيين على شكل حروبٍ محلية محدودة. وهذه الحروب هي التي بقيت ذكراها قائمة في الأذهان بشكلٍ غامض ومشوش، وأدت فيما بعد إلى نشوء تقليد الفتح العسكري واكتساب كنعان بالقوة، مما يذكره سفر يشوع. ثم تنادت هذه الجماعات بعد أن أحست بوحدة مصالحها إلى إقامة المملكة الموحدة، التي ابتدأت بحكم الملك شاول.

وينطلق آلت في نظرته إلى أصول إسرائيل من موقفٍ مخالفٍ تمامًا لموقف الباحث أولبرايت، فبينما كان همُّ أولبرايت أن يزرع جذور إسرائيل في التربة الأوسع لثقافة الشرق القديم، فإن آلت والمدرسة التي ينتمي إليها، بنظرتهم الشكوكية إلى القيمة التاريخية لروايات الآباء والخروج ويشوع، يجدون أنه من غير المجدي البحث عن أصول إسرائيل في الفترات السابقة لعصر القضاة وتشكيل المملكة الموحدة. وهنا، وبدلًا من توطين أصول إسرائيل في الثقافة المحلية، والبحث عن نواحي اللقاء والانسجام، فإن آلت يلجأ إلى إبراز أصول إسرائيل من خلال تضادها وتناقضها مع محيطها، ويركز على ثنائية إسرائيل – كنعان. إن المفتاح الرئيسي لفهم نشوء إسرائيل كهويةٍ متميزة في المنطقة، هو البحث عن اختلافها وتفردها وتميزها عن المحيط الكنعاني الأوسع والأقدم. أما الجوانب التي يجدها آلت مشتركة بين ما هو إسرائيلي وما هو كنعاني، فيعزوها إلى قيام الإسرائيليين لاحقًا بتبني جوانب معينة من الثقافة الكنعانية، وهي جوانبُ غير أصيلة في إسرائيل كما يعتقد.

يستخدم آلت مصطلح «كنعان» وصفة «كنعاني» للدلالة على دويلات المدن الفلسطينية وما يتعلق بها خلال عصر البرونز الأخير، وهي الدويلات التي نعرف عنها من رسائل تل العمارنة، ومن وثائق الإمبراطورية المصرية عمومًا العائدة لذلك العصر. وهو يصفها بأنها دويلاتٌ زراعية يحكمها ملوكٌ متسلطون، مرتبطة ثقافيًّا بالعالم السوري المسماري، وذات ديانةٍ تقليدية وثنية. أما مصطلح «إسرائيل» وصفة «إسرائيلي» فهو مفهومٌ تجريدي عند آلت استمده من نفي كل ما هو كنعاني. فالمصطلح، والحالة هذه، يشير إلى ثقافةٍ قبلية ورعوية شبه بدوية، ومعتقدٍ ديني توحيدي، ونظام حكم بدائي ديمقراطي. وثنائية كنعان – إسرائيل عند آلت لست ثنائية تضاد ثقافي فقط، بل ثنائية تتابُع زمني أيضًا؛ فعصر البرونز الأخير هو عصرٌ كنعاني، ويدل على كامل فلسطين قبل وصول الإسرائيليين، أما ما تلاه من عصر الحديد فإسرائيلي، أو فلسطين في طريقها لأن تغدو إسرائيل. من هنا، فقد أعطى هذا الباحث لنفسه الحق في دراسة نصوص عصر البرونز الأخير، واستقراء آثاره سواء في فلسطين أم خارجها، دون الاستعانة بالنص التوراتي أو الرجوع إليه، وذلك على عكس موقفه من نصوص وآثار عصر الحديد الذي يعتبره فاتحةً للعصر الإسرائيلي.

لقد وضع آلت نموذجًا لنشوء إسرائيل غدا سُنَّة متبعة بعده. ويعتمد هذا النموذج على وصف التغيرات الاجتماعية والسياسية، التي أدت إلى الانتقال من عصر البرونز إلى عصر الحديد، أو من فلسطين دويلات المدن الكنعانية في السهول والوديان إلى فلسطين المملكة الموحدة في المناطق الهضبية، والتي بسطت سلطتها فيما بعد على بقية دويلات المدن الكنعانية. من هنا، فقد صار من البديهي التحدث في الأدبيات التاريخية عن كل ما هو كنعاني باعتباره يمتُّ إلى البرونز الأخير، وعن كل ما هو إسرائيلي باعتباره يمتُّ إلى عصر الحديد. أما الجانب الآخر من نظريته، والذي يؤكد على التسرب السلمي وينفي الفتح العسكري لأرض كنعان، فقد بقي موضع جدالٍ بين الباحثين. وقد عارضتْه منذ البداية مدرسة أولبرايت، التي بقيت حتى النهاية من أنصار نظرية الاقتحام العسكري، ويعارضه في الوقت الحاضر بعض الباحثين الإسرائيليين من أمثال يادين Yadin ومالامات Malamat، وذلك رغم أن نتائج المسح الأركيولوجي لفلسطين تُثبت يومًا بعد يوم نظرية التسرب التدريجي. فأحداث سفر يشوع لم تؤكدها حتى الآن نتائج التنقيب الأثري، أما التسرب التدريجي فيمكن لأنصاره الاعتماد على الوقائع الأركيولوجية الجديدة. لقد استطاع المنقب موشي كوشافي العثور على مائة قريةٍ زراعية صغيرة نشأت في منطقة أفرايم بالهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول،٢ كما عثر المنقب آدم زرتال في منطقة منسي بالهضاب المركزية أيضًا على ١٣٦ قرية جديدة خلال الفترة نفسها.٣

ولكن من يستطيع القول إن هذه القرى الجديدة هي قرًى إسرائيلية؟ إن الدلائل تتزايد اليوم على أن أولئك القادمين الجدد إلى المناطق الهضبية في فلسطين كانوا بشكلٍ رئيسي من المزارعين ومُرَبي الماشية المستقرين، ولا علاقة لهم بالبداوة أو الرعي المتنقل، وأنهم من أصلٍ محلي لا خارجي. يضاف إلى ذلك أن ظهور القرى الجديدة في فلسطين إبان عصر الحديد الأول لم يكن وقفًا على المناطق الهضبية فقط، وأن إعادة استيطان المناطق التي هُجرت خلال عصر البرونز الأخير هي عملية مرتبطة بعودة المناخ المطري. إن أخْذ هذه الحقائق كلها بعين الاعتبار يؤكد لنا بأن التغييرات السكانية في المناطق الهضبية لا علاقة لها من قريبٍ أو بعيد بنشوء إسرائيل التوراتية.

إن ثنائية كنعان – إسرائيل، التي رسختها نظرية آلت، لم تنشأ نتيجة لوصفٍ مباشر وبسيط لمجموعتين بشريتين متعاصرتين ومعروفتين تاريخيًّا، هما الإسرائيليون والكنعانيون، بل جاءت نتيجة وصف تخيلي يعتمد التوفيق بين الرواية التوراتية والمصادر التاريخية. فصورة الكنعانيين عند آلت وغيره من الباحثين التقليديين مستمدة من تفسير النصوص المصرية لعصر البرونز، والتوفيق بينها وبين الصورة العرقية التوراتية عنهم. وأما صورة الإسرائيليين فمستمدة فقط من الرواية التوراتية المتأخرة، والتي لا تعكس سوى صورة جماعة السبي البابلي، من بني يهوذا، عن أنفسهم وعن أصولهم. وفي الحقيقة، فإننا اعتمادًا على المكتشفات الأثرية في كل مواقع القرى والمدن الفلسطينية، لا نستطيع التمييز بين ما هو كنعاني وما هو إسرائيلي. ففي المواقع القديمة، مثل مجدو وحاصور وشكيم، والتي استمرت من عصر البرونز إلى عصر الحديد، تُظهر الآثار المادية صورة ثقافةٍ محلية مستمرة وغير منقطعة، من عصر البرونز الوسيط إلى البرونز الأخير فعصر الحديد الثاني. كما تُظهر الخزفيات والمخلفات المادية الأخرى في مواقع القرى الجديدة، التي ظهرت إبان عصر الحديد الأول انتماءً للثقافة المحلية، وارتباطًا كاملًا بثقافة عصر البرونز الأخير. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمدن التي بُنيت في عصر الحديد، ومثالنا الوحيد عليها هو مدينة السامرة، فهنا يُبدي كل أثرٍ من آثار تنظيم المدينة وعمارتها وخزفياتها وفنونها التشكيلية انتماءً إلى الثقافة الفلسطينية التقليدية، والثقافة الفينيقية المجاورة.

كل ذلك يدعونا إلى القول مع السيدة كاثلين كينيون — التي قضت جُل حياتها المهنية في التنقيب في أورشليم وأريحا وعددٍ آخر من المواقع الفلسطينية — إنه لا يوجد وقتٌ فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد نستطيع أن نلاحظ فيه تغيرًا حضاريًّا يشير إلى حلول أقوامٍ جديدة في فلسطين، سواء في المناطق الهضبية أم في غيرها،٤ وإلى نشوء ثنائية إسرائيل – كنعان كواقعٍ ثقافي ملموس. لقد كانت تقارير السيدة كينيون الأثرية بمثابة قمة نتاج الأركيولوجيا التقليدية في فلسطين. ورغم أن هذه الباحثة لا تنتمي إلى الفريق المحافظ الذي يسعى إلى إيجاد الدعم الأركيولوجي للرواية التوراتية، إلا أنها لم تُنحِّ جانبًا الرواية التوراتية التي كانت حاضرة على الدوام كشاهد نفي أو إثبات. ومع ذلك فإنها توضح على الدوام عدم إمكانية تمييز ما هو إسرائيلي عما هو كنعاني، وذلك في المواقع جميعها وعبر المراحل كلها.

(٢) نظرية الانتفاضة الداخلية

إذا لم يكن الإسرائيليون قد وفدوا من خارج كنعان، فلا بد أنهم شريحةٌ اجتماعية محلية فرزتها ظروفٌ معينة عن المجتمع الكنعاني. وهذا ما تقول به نظريةٌ ظهرت في ستينيات القرن العشرين على يد الباحث ميندنهُل Mendenhall، وطورها بعده الباحث غوتوالد Gottwald.
يرفض ميندنهُل، من حيث الأساس، نظرية الأصل الخارجي الرعوي للجماعات الإسرائيلية التي تسربت إلى المناطق الهضبية بحثًا عن المراعي. وهو يرى أن الجماعات التي شكَّلت إسرائيل فيما بعد هي شرائح فلاحية كنعانية لجأت إلى الثورة في وجه حكام دويلات المدن الطغاة، وأن خميرة هذه الحركة الثورية كانت جماعةً آبقة من العبودية في مصر، جاءت معها بعبادة يهوه التي تبنتها الجماعات الفلاحية الثائرة. وقد كان تبني الجماعات الثائرة لعبادة يهوه بمثابة إعلانٍ لرفضها لكل ما تمثله دويلات المدن الكنعانية المتسلطة على الشرائح الزراعية المضطهدة. ويعقد ميندنهُل صلةً بين عبران عصر الحديد الذين استهلوا هذه الثورة، وعابيرو عصر العمارنة في البرونز الأخير. فالعابيرو والعبراني عنده متعادلان، والكلمة تدل على تلك الشرائح الاجتماعية المحرومة في مجتمعات الشرق القديم، والتي لجأت بسبب وضعها العام إلى التمرد والعصيان على النظام الفاسد لدولة المدينة الكنعانية. وهو إذ يفهم ويفسر اضطرابات العابيرو في فلسطين إبان القرن الرابع عشر قبل الميلاد من خلال هذا المنظور، فإنه يعتقد أن روح التمرد والمقاومة قد استمرت لدى هذه الشرائح منذ ذلك الوقت، ثم أعلنت عن نفسها مجددًا في القرن الثاني عشر قبل الميلاد بين الجماعات القديمة ذاتها. إلا أن ما يميز التمرد العبراني اللاحق عن تمرد العابيرو هو أن التمرد العبراني كان تمردًا دينيًّا في جوهره، وأن أصحابه كانوا يبحثون عن الحرية الدينية تحت لواء عبادة يهوه المناقضة لعبادة الأبعال الكنعانية. من هنا، فإن إسرائيل في نشأتها كانت تلاحمًا دينيًّا لجماعاتٍ محلية في أصلها، وأن القرى الزراعية الكنعانية قد صارت عبرانيةً باختيارها لديانة يهوه، ورفضها للنظام السياسي الكنعاني في المدن الكبرى.٥
أما الباحث غوتوالد Gottwald فقد تبنى نظرية ميندنهُل في الانتفاضة الداخلية مع بعض التعديلات التي تعتمد الأفكار الماركسية (١٩٧٩). يتفق غوتوالد، من حيث المبدأ، مع ميندنهُل في أن الجماعات الإسرائيلية الأولى كانت شرائح مضطهدة من الفلاحين والمزارعين والرعاة، ومن الجماعات الهامشية التي تقع خارج الإطار الاجتماعي والسياسي لدويلات المدن الكنعانية. إلا أنه يرى في ثورة هؤلاء انتفاضةً طبقية بالمفهوم الماركسي. فهذه الشرائح المضطهدة في فلسطين قد ثارت ضد دويلات المدن الإقطاعية ونظمها السياسية، التي تديرها أرستقراطيةٌ نبيلة تعمل على استغلال وقمع الشرائح الاجتماعية المحرومة.٦

ولقد طور كاتب هذه السطور من جهته، وبشكلٍ مستقل، منذ مطلع الثمانينيات نظريةً في أصول إسرائيل قريبة من نظرية ميندنهُل وغوتوالد، وتختلف عنها في أنها أسقطت عنصر الثورة الداخلية، وركزت على التمايز الديني عن الوسط الكنعاني، وما تبعه من تمايزٍ اجتماعي وثقافي أدى في النهاية إلى ما يُشبه التغاير الإثني، الذي كرَّسه فيما بعد كهنة يهوذا خلال السبي البابلي وما تلاه. وقد عرضتُ أفكاري هذه في عددٍ من المحاضرات التي ألقيتها في منتدياتٍ ثقافية سورية، وفي بحثٍ مطول نُشر في مجلة الفكر الديمقراطي الصادر في قبرص. ويُعبر المقطع التالي، الذي أقتطفه للقارئ من آخر هذا البحث، عن الخطوط العامة للنظرية التي عملتُ على تعديلها فيما بعد:

«لقد أوصلتنا دراسة المخلفات المادية للثقافة الإسرائيلية إلى القول بأن أرض فلسطين لم تعرف شعبًا متميزًا اسمه الشعب الإسرائيلي، ولا ثقافةً خاصة يمكن تعريفها بالثقافة الإسرائيلية. فكل ما كشف عنه علم الآثار يشير إلى ثقافةٍ سورية كنعانية في تطورها الذاتي الطبيعي. ثم جاءت دراستنا للتراث اللغوي والأدبي والديني للثقافة الإسرائيلية لتدعم نتائجنا المبدئية. فاللغة التي نطق بها الإسرائيليون وكتبوا بحرفها هي لغةٌ كنعانية، وآدابهم هي آدابٌ كنعانية، ومعتقدهم التوراتي الذي وجدوا فيه مصدر تميُّزهم قد نشأ وتطور نتيجةً لجدليَّات المؤسسة الدينية الكنعانية. ولا ينجم عن ذلك كله إلا القول بأن الشعب الذي أنتج ما يُدعى بالثقافة الإسرائيلية هو فئةٌ كنعانية لم تغادر فلسطين قط، وربما استوعبت إليها فئةً ضئيلة من النازحين من مصر. وعندما بدأ كهنة يهوه في المنفى بتحرير أسفار التوراة، في فترة انحلال المجتمع الإسرائيلي وتألُّب القوى الكبرى عليه، كتبوا تاريخ بني إسرائيل من وجهة نظرهم، فجعلوا منهم فئةً متميزة منذ البداية، سعيًا وراء ترسيخ الشكل الأخير للدين اليهودي، الذي صار مصدر تماسكهم وأملهم في الوقوف في وجه الفناء. لقد ميَّز كهنة يهوه، أخيرًا، أنفسهم ومن صار معهم، عن كنعان تمييزًا مطلقًا، وجعلوا من الفارق الديني الذي يفصلهم عن بقية الكنعانيين فارقًا في كل شيء.»٧
وفي الحقيقة، فإن نظرية الانتفاضة الداخلية، بشقَّيها الديني والطبقي، تبقى نظريةً قائمة على تجريدياتٍ ذهنية لا أساس لها في الواقع الاجتماعي والسياسي لفلسطين في عصر الحديد. فإضافةً إلى أن معلوماتنا التاريخية لا تؤيد وقوع مثل هذه الانتفاضة في أي وقتٍ فيما بين ١٢٠٠–١٠٠٠ق.م. فإن الشواهد الآثارية تؤكد أن المناطق الهضبية في فلسطين، والتي يفترض ميندنهُل أن أتباع عبادة يهوه قد لجئوا إليها في مطلع عصر الحديد، كانت خاليةً من السكان تقريبًا كما أوضحنا سابقًا. يضاف إلى ذلك أن مفهوم دولة المدينة في فلسطين باعتبارها قوةً كبرى، ذات بلاطٍ واسع وملكٍ مستبد، حوله حاشيةٌ وأمراء ونبلاء، وإدارةٌ بيروقراطية، وجيشٌ عَرَمْرم؛ هو مفهومٌ مغلوطٌ فيه فيما يتعلق بفلسطين، ويعتمد على سوء فهم لرسائل تل العمارنة من جهة، وعلى مقارنة دويلات فلسطين عصر العمارنة بدويلات فلسطين في عصر الحديد. فالمدن الفلسطينية كانت في واقعها أشبه بالقرى الصغيرة المسوَّرة مقارنةً بمثيلاتها في سوريا، ولم يكن أكبر هذه المدن يضم داخل أسواره أكثر من بضعة آلاف لا تتجاوز الخمسة في أفضل الأحوال. ورغم ذلك فقد كان وضع هذه المدن في عصر الحديد الأول أسوأ بكثيرٍ من وضعها في عصر تل العمارنة، وذلك بسبب تناقص السكان الناجم عن الاقتلاع السكاني العام، الذي ميَّز فترة الانتقال بين البرونز الأخير والحديد الأول.٨ من هنا، فإن صورة الملك الكنعاني في دولة المدينة الفلسطينية، الذي يتحكم مع طبقة النبلاء بثروة البلاد، ويمارس الظلم والاضطهاد على شرائح الفلاحين المحرومة، هي صورةٌ لا تتوافق مع واقع حال المنطقة وظروفها التاريخية.
أما عن العنصر الروحي، الذي كان السبب في نشوء إسرائيل وتميُّزها عن الوسط الكنعاني، مما تقول به نظرية ميندنهُل ونظرية كاتب هذه السطور، كلٌّ على طريقته (يرى ميندنهُل بأن الشرائح المضطهدة قد تحولت إلى ديانة يهوه التي جاءت إلى فلسطين ناجزةً من الخارج، بينما يرى كاتب هذه السطور في نظريته السابقة بأن ديانة يهوه التوراتية لم تأتِ ناجزةً من الخارج، بل تطورت داخل المؤسسة الدينية الكنعانية)، فإن المسح الأركيولوجي للمراكز السكنية في فلسطين جميعها من أكبر المدن إلى أصغر القرى، لم يجد أثرًا للمعتقدات والشعائر التوراتية خلال كامل الفترة السابقة على السبي البابلي ليهوذا، فلا هياكل للإله يهوه التوراتي ولا معابد ولا مذابح، ولا نقوش تذكره بالطريقة التي تقدمه بها الأسفار التوراتية. لقد كان هناك في فلسطين إلهٌ اسمه يهوه، ولكنه غير يهوه إله التوراة؛ لأنه يظهر في النقوش القليلة التي ذكرته إلى جانب بقية الآلهة الكنعانية، مثل إيل وبعل، وتُذكر إلى جانبه زوجته المدعوة عشيرة، والتي كانت في النصوص الكنعانية الأوغاريتية زوجة الإله إيل. ففي موقع عجرود جنوب فلسطين اكتشف المنقبون عام ١٩٧٥ عددًا من النقوش الكتابية على الفخار تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، يرد فيها اسم الإله يهوه بين عددٍ من الآلهة الكنعانية الأخرى، مثل إيل وبعل وعشيرة. نقرأ في أحد هذه النقوش ما يلي: «فليباركك الإله يهوه وعشيرته (زوجته عشيرة)، ليباركك يهوه ويحفظك ويبقَ إلى جانبك.» وفي نقشٍ على الفخار من السامرة نجد أن الإله يهوه يُلقَّب بالعجل، وذلك على طريقة آلهة أوغاريت. كما اكتُشف في موقع السامرة حديثًا مقامٌ ديني يحتوي على تمثال برونزي للعجل المقدس، الذي يرمز هنا على الأغلب للإله الكنعاني يهوه.٩ وفي مكانٍ لا يبعد كثيرًا عن جدار هيكل سليمان المفترض، عثرت المنقبة كاثلين كينيون على مقامٍ ديني كنعاني في أورشليم يرجع بتاريخه إلى الهزيع الأخير من حياة أورشليم قبل الدمار البابلي، يتصدر الحرمَ الرئيسيَّ فيه نُصُبُ المازيبوت المعروف في بقية المعابد الكنعانية، وهو عبارةٌ عن عمودين حجريين يرمزان إلى ألوهة الخصب. كما عثرت المنقبة في مستودعٍ تابع لهذا المعبد على عددٍ كبيرٍ من الدمى العشتارية تُمثِّل إلهة الخصب الكنعانية في وضعيتها التقليدية المعروفة، التي تظهر الإلهة ممسكةً بنهديها.١٠ وفي بقية مواقع المدن الفلسطينية تم العثور في المستويات العائدة لعصر الحديد الثاني على كثيرٍ من الدمى العشتارية في أوضاعٍ مختلفة، وخصوصًا في موقع بيت شميش، حيث تظهر الإلهة هنا في هيئة الحامل، مع التركيز على البطن الكبير المنتفخ.١١

ويبدو لي الآن بوضوح، أن ما كنت قد توصلت إليه في نظريتي السابقة، التي تقول بأن المعتقد التوراتي قد تطور داخل الديانة الكنعانية ذاتها، قد اعتمد بشكلٍ رئيسي على النقد النصي لأسفار التوراة، ودون تقييمٍ حقيقي للبينات الأركيولوجية المتعلقة بالموضوع، والتي تؤكد بما لا يدع مكانًا للشك أن المعتقد التوراتي، وخصوصًا كما ترسمه أسفار الأنبياء، لم يكن له وجودٌ في فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد. ولسوف نُبيِّن في الفصول الأخيرة من هذا الكتاب أسباب وكيفية نشوء المعتقد التوراتي خلال القرون الثلاثة التي تلت السبي البابلي، ودور هذا المعتقد في تكوين الجماعة اليهودية.

(٣) نظرية بوتقة الانصهار

ترتبط هذه النظرية بشكلٍ رئيسي بالباحث ماكسويل ميللر J. Maxwell Miller من جامعة Emory بالولايات المتحدة، والذي تطرقنا إلى أفكاره خلال عرضنا لمسألة نُصُب مرنفتاح. فبعد استقصاءٍ دقيق للوثائق الكتابية، والمادة الأركيولوجية، ودراسةٍ معمقة لسفر القضاة، توصل ميللر إلى نتيجةٍ مفادها أن الاسم «إسرائيل» الوارد في نُصُب الفرعون مرنفتاح، يشير إلى تجمعٍ لثلاث قبائل كنعانية في منطقة الهضاب المركزية، هي أفرايم ومنسي وبنيامين. وقد كانت أفرايم هي القبيلة الرائدة في هذا التجمع، الذي ضمَّ فيما بعد قبيلة جلعاد في عَبْر الأردن. كما لاحظ من دراسته لسفر القضاة أن التقاليد الأقدم التي بُنيت عليها أحداث هذا السفر تربط القبائل الإسرائيلية بشكلٍ رئيسي بمناطق الهضاب المركزية التي كانت الموطن الأساسي لهم، وبقوا ضمن حدودها حتى تشكيل المملكة الموحدة. وقد أخذ هذا التجمع الأولي للقبائل الأربع بالتوسع تدريجيًّا حتى بلغ عشر قبائل، وهي القبائل التي دعتها القاضية دبُّورة إلى القتال معها ضد يابين ملك حاصور (القضاة، ٥: ١٢–١٨). ومع انتقال الحكم إلى الملك داود توسع الاتحاد القبلي ليشمل اثنتي عشرة قبيلة، بينها قبيلة يهوذا الجنوبية. ويرى ميللر أن هذه القبائل جاءت من أصولٍ مختلفة، ودخلت الهضاب المركزية على فتراتٍ متباعدة. من هنا، فإننا لا نستطيع وضع تاريخٍ محدد لما يسمى بالاستقرار الإسرائيلي في كنعان. وبذلك يُجدد ميللر فكرة الباحث آلت عن التسرب التدريجي عبر فترةٍ طويلة من الزمن، وينحِّي بشكلٍ ضمني تلك المطابقة بين ظهور الإسرائيليين في كنعان، وبين عصر الانتقال من البرونز الأخير إلى عصر الحديد. فإسرائيل كمفهومٍ إثني وسياسي قد نجمت عن بوتقة انصهار ضمت جماعات مختلفة ومتنوعة، استغرق تقاربها واندماجها فترةً طويلة من الزمن، في عمليةٍ أكثر تعقيدًا بكثيرٍ من الرواية التوراتية البسيطة التي يعرضها سفر يشوع أو سفر القضاة.١٢
ويمكن وضع أفكار الباحث لامكه Lemche ضمن الخطوط العامة لنظرية بوتقة الانصهار. فقد قام هذا الباحث في عمله المُعنوَن Early Israel والصادر عام ١٩٨٥ بالمحاولة الثانية الهامة بعد آلت، التي تهدف إلى دراسة بدايات إسرائيل بشكلٍ مستقل عن الرواية التوراتية. وقد توصل لامكه إلى نتيجةٍ مفادها أنه لا يوجد لدينا من الحقائق الموضوعية ما يسوِّغ الحديث عن مفهوم إسرائيل قبل فترة المملكة الموحدة، وبدلًا من الاعتماد على الرواية التوراتية يلجأ الباحث إلى دراسة فترة التحول من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، من أجل البحث عن أصول إسرائيل خلال هذه الفترة. وقد قادته دراسة نتائج علم الآثار إلى ملاحظة الاستمرارية الثقافية بين هذين العصرين اللذين وجد فيهما حلقتين متتابعتين في ثقافةٍ كنعانية محلية لا انقطاع فيها ولا فجوات. من هنا، فإن إطلاق صفة كنعاني على عصر البرونز، وصفة إسرائيلي على عصر الحديد ليس له ما يسوِّغه على الإطلاق، وثنائية كنعان – إسرائيل لا تقوم على أساسٍ أركيولوجي وتاريخي حقيقي. وهذا ما قاد الباحث إلى تقصي أصول إسرائيل في المصادر المحلية، فهو يرى أن بعض الشرائح الاجتماعية المحرومة في مناطق السهول قد أخذت بالنزوح تدريجيًّا نحو الهضاب المركزية منذ عصر البرونز الأخير، وبشكلٍ خاص بعد فترة تل العمارنة، وأخذت بتشكيل وحداتٍ سياسية بدائية، ترابطت شيئًا فشيئًا بسبب عزلتها عن طرق التجارة المحلية والدولية، وشكَّلت إسرائيل.١٣

(٤) النظرية الأركيولوجية الحديثة

تعتبر هذه النظرية بمثابة الصياغة العلمية لنظرية التسرب السلمي ونظرية بوتقة الانصهار. وتمت صياغتها على يد الأركيولوجيين الإسرائيليين المحدثين بشكلٍ رئيسي، مدفوعين بنظرية آلت عن الاستقرار السلمي والتسرب التدريجي. وقد ولدت النظرية كخلاصةٍ لتفسيرات نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمناطق مرتفعات الجليل والهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، والذي نشط فيما بين سبعينيات وتسعينيات القرن العشرين على يد منقبين من أمثال Z. Gal وR. Frankel وA. Zertal وI. Finkelstein وM. Kochavi. ولسوف أركز فيما يلي على تنقيبات آدم زرتال Adam Zertal في الهضاب المركزية، والخلاصات النظرية التي بناها على نتائج هذه التنقيبات، وكذلك على الخلاصات النظرية لزميله فنكلشتاين Finkelstein التي تُطور خلاصات زِرتال.
اختار آدم زِرتال لمسحه الأركيولوجي منطقة منسي التوراتية التي تُشكِّل مع منطقة أفرايم ٨٠٪ تقريبًا من مساحة الهضاب المركزية. تبلغ مساحة منسي حوالي ٢٠٠٠كم٢، يحدُّها من الشرق نهر الأردن، ومن الغرب الطريق الدولي المعروف أيام الرومان بطريق البحر، ومن الشمال وادي يزرعيل، ومن الجنوب مدينة شكيم ضمنًا، والتي تقع على تخوم منطقة بنيامين. وقد ابتدأ زِرتال العمل مع فريقٍ موسَّع من الإخصائيين في عددٍ كبير من العلوم المساعدة عام ١٩٧٨، واستمر اثنتي عشرة سنة حتى عام ١٩٩٠. قام فريق العمل خلال هذه المدة الطويلة بمسح كل مترٍ مربع من منطقة منسي سيرًا على الأقدام، وجمع عددًا هائلًا من المعلومات الآثارية والمعلومات الأخرى التي تُعين على تفسيرها، وذلك مثل ارتفاع الموقع المُكتشَف عن سطح البحر وعن المنطقة المحيطة به، الوضع الطبوغرافي والجيولوجي للموقع، نوعية التربة، المحاصيل التي تزرع حوله الآن والمحاصيل التي زُرعت في الماضي قرب الموقع، إلى مصادر المياه وإلى الطرق العامة، إطلالة الموقع على بقية المواقع الأخرى … إلخ. وفي النهاية تم الاستعانة بالحاسوب من أجل تحليل هذه الكمية الهائلة من المعلومات.١٤

لقد عثر فريق زِرتال على ١١٦ قرية زراعية تعود إلى النصف الثاني من عصر البرونز الوسيط، وعلى ٣٩ قرية زراعية من عصر البرونز الأخير، وعلى ١٣٦ قرية زراعية من عصر الحديد الأول. أي إنه بعد الهبوط الحاد في منحنى الاستيطان خلال البرونز الأخير بسبب الجفاف العام، عاد المنحنى إلى الصعود خلال عصر الحديد الأول بعد عودة المناخ المطري، وهي الفترة المفترضة للاستيطان الإسرائيلي في الهضاب المركزية. كما تبين من تحليل المعلومات أن معظم مواقع عصر البرونز الوسيط وعصر البرونز الأخير كانت متوضعة في المناطق الأكثر خصوبة من الهضاب المركزية، مثل الأودية التي يسيل فيها ماء المطر، أما معظم مواقع عصر الحديد فكانت متوضعة في المناطق المرتفعة ذات الطبيعة الصعبة والتربة القليلة الخصوبة. وإضافةً إلى ذلك، فقد لاحظ زِرتال أن أولى المواقع التي ظهرت في الهضاب المركزية قد توضَّعت في وادي الأردن والمنحدرات الشرقية للهضاب، ومع التقدم زمنيًّا في عصر الحديد الأول تأخذ القرى الجديدة بالظهور أعمق فأعمق نحو الغرب، معتمدةً في زراعتها على القمح والشعير. وفي آخر مراحل الاستيطان خلال القرن الحادي عشر يأخذ القرويون باستصلاح المنحدرات، وتسوية المدرجات التي تصلح لزراعة المحاصيل المتوسطية، كالكرمة والزيتون.

وبما أن المنقب زِرتال يفترض مُسبقًا بأن القرى الجديدة في منطقة الهضاب المركزية هي قرًى إسرائيلية، فإنه يفسر ظهورها أولًا في المناطق الأقل خصوبة بوجود الكنعانيين في المناطق الخصيبة، وهذا ما دفع القادمين الجدد إلى الاستقرار في المناطق غير المملوكة من قِبل أحد. كما أنه يفسر سبب ظهور القرى الأولى في المنحدرات الشرقية للهضاب المركزية، ثم زحفها التدريجي نحو الأعلى وصولًا إلى المناطق المرتفعة، بأن القادمين الجدد قد جاءوا من المناطق الرعوية في شرقي الأردن، وبدءوا في الاستقرار التدريجي بوادي الأردن والمنحدرات الشرقية، ثم تغلغلوا نحو الداخل. كما يرى زِرتال أن المجموعتين الكنعانية والإسرائيلية كانتا متعايشتين بشكلٍ سلميٍّ في المنطقة، وأن الكنعانيين القدماء في الأرض قد سمحوا للإسرائيليين بالاستقرار في المناطق البعيدة عنهم وبناء قراهم الجديدة، ذلك أن المناطق التي شغلها القادمون الجدد كانت عديمة المصادر المائية الطبيعية، وكان أهلها مضطرين لجلب الماء من مناطق الكنعانيين البعيدة بالاتفاق معهم. أما عن كيفية جلب هذه المياه وطريقة خزنها، فإن زِرتال يعتقد بأن تلك الجرار الضخمة التي وُجدت في المواقع الإسرائيلية الأولى، والتي تُشكِّل الجزء الأكبر من المكتشفات الفخارية في هذه المواقع، قد استُخدمت لهذه الغاية، ويدعم هذا الاستنتاج في رأيه أن هذا النوع من الجرار الضخمة قد بدأ بالاختفاء مع حلول عصر الحديد الثاني، وشيوع استخدام الأدوات الحديدية، من معاولَ وغيرها، والتي ساعدت سكان المناطق المحرومة من المياه على حفر خزاناتٍ مكشوفة واسعة في الصخر، من أجل تخزين مياه المطر في الشتاء واستخدامها في الصيف.

وقد قام المنقب كوشافي من ناحيته باختيار منطقة أفرايم التوراتية في الهضاب المركزية، واستطاع — مع فريقه المؤلف على طريقة فريق آدام زِرتال، وباستخدام التقنيات الأركيولوجية نفسها — اكتشاف مائة قرية زراعية ظهرت تدريجيًّا خلال عصر الحديد الأول في منطقة أفرايم.١٥ وبذلك يصل عدد القرى الزراعية، التي قامت في الهضاب المركزية فيما بين ١٢٠٠ و١٠٠٠ق.م.، إلى ٢٣٠ قرية جديدة، بعد فترة الفراغ السكاني خلال النصف الثاني من عصر البرونز الأخير. ويتفق كوشافي مع زِرتال في الخطوط العامة للتفسير معتبرًا أن القرى الجديدة هي قرًى إسرائيلية، وأن الجماعات التي شكَّلتها هي جماعاتٌ رعوية زحفت تدريجيًّا من مناطق شرقي الأردن. غير أن الأركيولوجي الإسرائيلي المعروف I. Finkelestein — الذي قام بتلخيص نتائج المسح الأركيولوجي للمنطقة الهضبية في فلسطين في كتابٍ شامل أسماه: أركيولوجيا المواقع الإسرائيلية — يرى أن المواقع الجديدة في الهضاب المركزية هي بالفعل مواقع إسرائيلية، ولكن من شكَّلوها لم يأتوا من خارج فلسطين بل من داخلها. فقد أدى الجفاف، الذي حلَّ بالمنطقة خلال عصر البرونز الأخير، إلى اقتلاعٍ شامل للسكان في منطقة الهضاب المركزية، وحوَّلهم إلى رعاةٍ متنقلين. وعندما عاد المناخ المطري سيرته الأولى عادت هذه الجماعات المُقتلَعة إلى مواطنها السابقة واستقرت فيها.١٦ وبذلك يعمل فنكلشتاين على تجذير القبائل الإسرائيلية في المنطقة، ويؤكد على الطابع الإثني المستمر والمتميز لهذه الجماعات، التي شكَّلت إسرائيل فيما بعد.
لقد أراد أصحاب النظرية الأركيولوجية الحديثة إنقاذ ما تبقَّى من السمعة التاريخية للرواية التوراتية، عن طريق إثبات جوهر الرواية وإسقاط تفاصيلها جميعها، ولكن النتائج التي خرجوا بها قد دقَّت، وإلى الأبد، المسمار الأخير في نعش هذه الرواية بجوهرها وتفاصيلها جميعها، وقدمت لنا المادة اللازمة لكتابة تاريخ فلسطين في عصر الحديد الأول والثاني، ودراسة مسألة أصول إسرائيل بشكلٍ علمي مستقل عن التوراة. وهذا ما قام به على أكمل وجه الباحث توماس ل. تومبسون في كتابه الصادر عام ١٩٩٢ تحت عنوان The Early History of the Israelite People. وسوف نشير إلى أهم أفكار هذا الباحث في مواضع الإفادة منها عبر الصفحات المقبلة من هذا الكتاب.
١  انظر الطبعة الإنكليزية الأحدث للكتاب الصادر عام ١٩٦٨:
Albrecht Alt, Essays On Old Testament History and Religion, N. Y. Doubleday, 1968, pp. 175–221.
٢  عن تقريرٍ للمنقب الإسرائيلي Kochavi، انظر:
Joseph A. Callaway, The Settlement in Canaan (in: Hershel Shanks, edt. Ancient Israel, p. 71).
٣  Adam Zertal, Israel Enters Canaan, Biblical Archaeology Review, September 1991.
٤  Kathleen Kenyon, Archaeology in the Holy Land, p. 200.
٥  G. A. Mendenhall, The Hebrew Conquest of Palestine, Biblical Archaeologist, 25, 1962, pp. 66–68.
٦  N. K. Gottwald, The Tribes of Yahweh, Maryknoll, N. Y. Orbis Books, 1979.
٧  فراس السواح، أركيولوجيا فلسطين والتوراة السورية، مجلة الفكر الديمقراطي، نيقوسيا، قبرص، العدد الأول ١٩٨٨.
٨  Th. L. Thompson, Early History of the Israelite People, pp. 58-59.
٩  Hershel Shanks, edt. Ancient Israel, Prentice Hall, New Jersey, 1988, pp. 82–112.
١٠  Kathleen Kenyon, Digging Up Jerusalem, pp. 137–141.
١١  Kathleen Kenyon, Archaeology in the Holy Land, p. 253.
١٢  J. M. Miller and A. D. H. Hayes, History of Ancient Israel and Judah, Philadelphia, Westminster, 1986.
١٣  N. P. Lemche, Early Israel, Vetus Testamentum Supplements, Leiden, 1985.
١٤  المعلومات التي أقدمها هنا عن نتائج تنقيب زِرتال وأفكاره مستمدة من دراسته المنشورة في مجلة علم الآثار التوراتي عام ١٩٩١، انظر:
Adam Zertal, Israel Enters Canaan, Biblical Archaeology Review, September 1991.
١٥  عن تقريرٍ للمنقب الإسرائيلي كوشافي، انظر:
Joseph A. Callaway, op. cit., p. 71.
١٦  Th. L. Thompson, op. cit., p. 160.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤