الفصل الثاني

إسرائيل التاريخية

لقد غدا من نافلة القول اليوم الحديثُ عما يُسمى «بكل إسرائيل» ككيانٍ إثني أو سياسي، في سياق عصر الحديد الأول، والاسم «إسرائيل» لا يمكن إطلاقه على أي إقليمٍ في فلسطين قبل حلول عصر الحديد الثاني. وحتى هنا، فإننا لا نستطيع إطلاق اسم إسرائيل إلَّا على الدولة الإقليمية المعروفة بدولة السامرة، وهي الدولة التي أقامها الملك عُمري عقب بنائه مدينة السامرة حوالي عام ٨٨٠ق.م. إن كل ما بين أيدينا من معلوماتٍ كتابية وأركيولوجية موثَّقة ينفي وجود أية استمرارية إثنية وسياسية بين الاسم «إسرائيل» المذكور في نُصُب مرنفتاح، ومملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة، التي قامت في منطقة الهضاب المركزية خلال القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، وهي مملكةٌ موصوفة في التوراة وفي النصوص الآشورية على حدٍّ سواء. وقد ألمحنا في موضعٍ سابق من هذا الكتاب إلى أن نص الفرعون شوشانق (شيشق التوراتي) الذي يصف حملته على فلسطين ومناطق الجنوب السوري، خلال أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، وهي حملةٌ موجهةٌ أساسًا إلى طرق التجارة الدولية؛ لا يشير إلى وجود مملكةٍ قوية موحدة تحت لواء أورشليم أو أية مدينةٍ أخرى في فلسطين. ونستدلُّ من وجود بقايا نُصُب تذكاري أقامه الفرعون شوشانق في موقع مجدو بوادي يزرعيل شمالًا،١ ومن عدم ذكر مدينة أورشليم أو أية مدينةٍ أخرى في يهوذا أو الهضاب المركزية؛ أن هذه المناطق الهامشية في فلطسين لم تسترعِ انتباه الفرعون شوشانق، الذي كان مهتمًّا بالدرجة الأولى بتدعيم الوجود المصري في مناطقه التقليدية السابقة. كما ألمحنا أيضًا إلى أنه بصرف النظر عن تلك الإشارة الغامضة إلى إسرائيل في نُصُب مرنفتاح، والتي يُجمع المؤرخون اليوم عن عدم صلتها بإسرائيل التوراتية، فإن النصوص المصرية عبر التاريخ لم تتعرض لذكر إسرائيل في أية صورةٍ أو أية صيغة. أما النصوص الآشورية، التي ساعدت المؤرخين المحدثين على رسم الخارطة السياسية والبشرية لمنطقة الشرق القديم خلال عصر الحديد، فلم تذكر الاسم «إسرائيل» إلا في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وفي معرض الإشارة إلى دولة السامرة تحديدًا. وأما مملكة يهوذا فلم يرد ذكرها في الوثائق الآشورية إلا مع أواخر القرن الثامن قبل الميلاد.

وأما الحديث عن كنعان باعتبارها نقيض إسرائيل والخلفية العامة التي ميَّزت إسرائيل نفسها عنها؛ فيمتُّ إلى ماضي البحث التاريخي، وإلى نظريات تعتمد مسلَّماتٍ لم تخضع للنقد والتمحيص. فعصر البرونز الأخير ليس كنعانيًّا أكثر من عصر الحديد، وعصر الحديد ليس إسرائيليًّا في مقابل عصر البرونز الكنعاني؛ ذلك أن المكتشفات الأثرية في العصرين تعطينا صورة ثفافة فلسطينية مستمرة، واحدة، وغير منقطعة أو مُتلوِّنة بلونٍ خارجي غريب عنها. وكل المدن التي تهدمت خلال الفترة الانتقالية بين العصرين قد أُعيد بناؤها وسكنُها من قبل الذخيرة السكانية الفلسطينية نفسها. وهذا ما ينفي، وبشكلٍ قاطع، قدوم أقوام جديدة حلَّت محل السكان الأصليين، أو أقامت إلى جانبهم وأثرت فيهم ثقافيًّا وعرقيًّا. إن لجوء الآثاريين الإسرائيليين، وزملائهم من الملتصقين بالمنهج المحافظ القديم، إلى استخدام وصف كنعاني لكل ما يمتُّ إلى ثقافة عصر البرونز، واستخدام وصف إسرائيلي لكل ما يمتُّ إلى عصر الحديد؛ لا يصدر إلا عن موقفٍ متعنت. وهؤلاء أنفسهم لا يستطيعون تقديم أي معيارٍ علمي موضوعي للتفريق بين الأثر الكنعاني من عصر البرونز والأثر الإسرائيلي المزعوم من عصر الحديد، سواء في حقل الخزفيات أو الفنون التشكيلية أو الفنون المعمارية، وحتى في مجال اللغة والدين وما إلى ذلك من النواتج غير المادية للثقافة الفلسطينية.

إن كل ما في حوزتنا حتى الآن، وهو كثيرٌ بفضل تراكم المعلومات الآثارية خلال ربع قرن، ينفي وبشكلٍ قاطع أي وجودٍ لإسرائيل التوراتية خلال عصر الحديد الأول. فبناءً على الرواية التوراتية يتفق المؤرخون التقليديون على أن مملكة شاول قد قامت حوالي عام ١٠٢٠ق.م. وضمت القبائل الشمالية المدعوة بالإسرائيلية، ثم قامت مملكة داود وسليمان فيما بين ١٠٠١ و٩٣١ق.م. التي شملت منطقة يهوذا الجنوبية إلى جانب منطقة إسرائيل، فيما يُدعى بالمملكة الموحدة لكل إسرائيل، ثم انقسمت بعد ذلك إلى مملكتين. إلا أن الصورة العامة التي قدمها لنا المسح الأركيولوجي الشامل عن عملية استيطان الهضاب المركزية، وتطور هذه العملية خلال الحديد الأول، تظهر لنا أن الاستيطان لم يبلغ ذروته إلا في سياق الحديد الثاني، الأمر الذي لا يسمح لنا بافتراض قيام مملكة لإسرائيل في الشمال قبل بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. كما أن هناك من الأسباب ما يدعونا لأن ننفي أكثر قيام مملكة يهوذا في الجنوب خلال الفترة نفسها؛ لأن حركة الاستيطان هنا لم تَنضَج إلا بعد فترةٍ لا بأس بها من تشكيل مملكة إسرائيل-السامرة، والأوضاع الملائمة لتكوين مملكة في يهوذا لم تتوفر إلا في سياق القرن الثامن. وهذه الحقائق تنفي وجود قاعدةٍ مشتركة تجمع إسرائيل إلى يهوذا في تكوينٍ إثني وسياسي.

إن أسرة الملك عُمري التي بَنت مدينة السامرة هي الأسرة التي شكَّلت، ولأول مرةٍ، دولة اسمها إسرائيل. وهذه الأسرة معروفة تاريخيًّا، وملوكها موصوفون في النصوص الآشورية، إلا أننا لا نملك الأساس التاريخي الذي يمكننا من عقد صلة بين ملوك السامرة هؤلاء والملوك المزعومين للمملكة الموحدة، أو الافتراض بأن هذه المملكة الموحدة هي الأصل التاريخي لإسرائيل السياسية. فمع بناء السامرة فقط يتوفر لدينا من الوثائق التاريخية والأركيولوجية ما يكفي للحديث عن إسرائيل التاريخية، ولكن بصيغة «دولة إسرائيل» أو «دولة السامرة»، وهي دولةٌ فلسطينية محلية أنشأها الملك عُمري حوالي عام ٨٨٠ق.م. واستمرت أقل من قرنين من الزمان، حيث دمرها الآشوريون حوالي عام ٧٢١ق.م. وسبَوْا أهلها إلى آشور. وهؤلاء المسبيون لم يرجعوا قط إلى مواطنهم في فلسطين، بل ذابوا عرقيًّا بين الجماعات التي أقاموا بين ظهرانَيْها. أما قبل صعود أسرة عُمري وبناء مدينة السامرة، فإنه من العبث التحدث عن إسرائيل سياسيةٍ أو إثنيةٍ في المنطقة، ومفهوم «كل إسرائيل» هو نتاج التقاليد التوراتية المتأخرة، والتي بُنيت أساسًا على وجودٍ تاريخي لإسرائيل-السامرة، وليس العكس.

إنَّ المنظور الضيق لخلاصات الباحث الإسرائيلي فنكلشتاين وغيره من أصحاب النظرية الأركيولوجية الجديدة، والذي تم تحديده زمنيًّا بعصر الحديد الأول، وجغرافيًّا بمنطقة الهضاب المركزية، في سياق بحثه عن أصول إسرائيل، هو منظورٌ منحرف الرؤية؛ فنحن لا نستطيع أن نحصر بحثنا وتحليلنا في هذه المرحلة وفي هذه المنطقة فقط، لأننا نكون بذلك قد سلَّمنا مسبقًا بجواب السؤال الذي نبحث عنه. وفي الحقيقة، فإن عنوان كتاب فنكلشتاين نفسه، أي «أركيولوجيا المواقع الإسرائيلية»، يدل على أن الباحث يُسلِّم منذ البداية بأن القرى الزراعية التي نشأت في الهضاب المركزية هي قرًى إسرائيلية، وأن إثنية هذه التجمعات وأصلها العرقي والثقافي هو أمرٌ مفروغٌ منه، وذلك في الوقت الذي يُطلِعنا فيه المسح الأركيولوجي للمناطق الفلسطينية الأخرى على أن القرى الجديدة في عصر الحديد الأول لم تكن وقفًا على الهضاب المركزية، بل شملت أيضًا مناطق أخرى، وخصوصًا في المناطق الساحلية ووادي يزرعيل.٢ فلماذا تكون قرى الهضاب المركزية إسرائيلية، وقرى السهول كنعانية؟ أما اقتراح فنكلشتاين بأن أصول الجماعات الجديدة في الهضاب المركزية يجب تتبعها في الرعوية الفلسطينية المحلية، وأن أهل القرى الجديدة هم مزارعو الهضاب المركزية في عصر البرونز الوسيط ممن مروا بفترةٍ رعوية طويلة خلال عصر البرونز الأخير بسبب الجفاف؛ فاقتراحٌ يبدو جذابًا للوهلة الأولى، غير أنه اقتراحٌ نظريٌ محض، ولا يقوم على أساسٍ أركيولوجي أو تاريخي متين، ودافعه الوحيد هو رغبة هذا الباحث في التوكيد على الاستمرارية الإثنية في منطقة الهضاب المركزية باعتبارها إثنية إسرائيلية.
إن الفترة الانتقالية، التي جلبت معها انهيار البُنَى الاقتصادية لفلسطين، قد أحدثت تغييرًا جذريًّا في استراتيجيات تحصيل المعاش، حيث تحوَّل الاقتصاد المتوسطي التقليدي المُعتمِد على إنتاج سلع التبادل النقدي، مثل الكرمة والزيوت والخمور، إلى اقتصاد الكفاف، وهو اقتصادٌ أقل استقرارًا، ويقوم على زراعة الحبوب وعلى الرعي. وقد أدى هذا التحول إلى اقتلاع عدد كبير من السكان من مناطقهم التقليدية، ودفعهم إلى البحث عن مناطقَ أخرى. فإذا أخذنا بعين الاعتبار وضع فلسطين المتاخم لمنطقة السهوب، وكذلك الاقتلاع السكاني الذي حدث خارج فلسطين أيضًا في المناطق المجاورة، وفي منطقة عالم المتوسط بشكلٍ عام خلال منقلب الألفية الأولى قبل الميلاد، فإن دولتي إسرائيل ويهوذا، اللتين نشأتا خلال عصر الحديد الثاني كجزءٍ من النظام العالمي للإمبراطورية الآشورية، قد ضمتا إليهما عددًا من الجماعات الزراعية المحلية، التي تبحث عن بديلٍ لوضعها المتدهور في مناطق السهول والوديان، وكذلك عددًا من الجماعات الرعوية من السهوب الواقعة إلى الجنوب والشرق من المناطق الزراعية، وأيضًا جماعاتٍ مُقتلَعة من مواطنها في أماكن بعيدة من حوض المتوسط. ونظرًا لوضوح الاستمرارية الثقافية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد الأول فالثاني، فإن القسم الأكبر المكوِّن للتركيب السكاني للمناطق الهضبية يجب أن يكون قد جاء من المناطق الفلسطينية الزراعية الأخرى؛ لأن الجماعات الرعوية المتنقلة ليست ناقلًا جيدًا للثقافة.٣
وهذا يعني أن المنطقة التي كانت نواة مملكة إسرائيل لم تكن ذات طابع إثني مميز مع بداية عودة الاستيطان إلى الهضاب المركزية، ومفهوم إسرائيل لم يكن له وجود. ثم بدأ التكوين الإثني بالتوضُّح في سياق عملية التوطن خلال عصر الحديد الأول. ذلك أن توطيد التبادل التجاري المحلي قد أدى تدريجيًّا إلى تشكيل بُنًى سياسية بدائية على شكل عشائر تقاربت تدريجيًّا، ثم قادت المركزية السياسية المتزايدة — والتي أَمْلتها الشروط المتعلقة بإدارة نظامٍ اقتصادي دخل مرحلة الازدهار — إلى تكوين الدولة وبناء مدينة السامرة. وبذلك يكون الطابع الإثني لمنطقة إسرائيل قد جاء نتيجة عمليةٍ معقدة وطويلة، ولم يكن سابقًا عليها. وهذا يعني أن استخدام مصطلح إسرائيل للدلالة على أرضٍ أو على شعبٍ أو على تكوينٍ سياسي؛ لا معنى له قبل ظهور دولة إسرائيل السياسية في مطلع القرن التاسع، ولا معنى له بعد دمارها النهائي عام ٧٢١ق.م.٤
وفيما يتعلق بيهوذا، فقد شهدت المنطقة خلال القرن العاشر وأوائل القرن التاسع قبل الميلاد تحولًا من اقتصادٍ محصورٍ بالرعوية إلى اقتصاد القرية. وخلال القرنين التاليين، أي التاسع والثامن قبل الميلاد، شهدت هضاب يهوذا ازديادًا متسارعًا في السكان أدى إلى توضيح بنيتها السياسية كمنطقةٍ موحدة. وقد ساعد على ذلك تركيز المزارعين على الزراعة المكثفة، واعتماد شبكة تجارة محلية ودولية، موضوعها منتجات التبادل النقدي، مثل الزيوت والخمور والأخشاب وغيرها. أما مدينة أورشليم، فلم تكن في مطلع عصر الحديد الثاني (١٠٠٠ق.م.) سوى بلدةٍ متواضعة بمقياس ذلك العصر، ولم يكن لها نفوذٌ إلا على المنطقة الزراعية الصغيرة المحيطة بها. وقد أخذ النفوذ السياسي للمدينة بالتزايد مع توسع عملية الاستيطان في تلال يهوذا في سياق عصر الحديد الثاني، وزيادة حجم الإنتاج الزراعي والحيواني، وتوسع عملية التبادل التجاري. فصارت أورشليم مركزًا لتسويق السلع التجارية، وأخذت تبسط سلطتها السياسية على قرى منطقة يهوذا، التي لم تخضع حتى ذلك الوقت إلى سلطةٍ مركزية، ثم دخلت في منافسةٍ حادة مع مراكزَ حضريةٍ مهمةٍ أخرى في الجنوب، مثل جازر ولخيش وحبرون. إلا أن أورشليم لم تأخذ وضع الدولة الإقليمية القوية فعلًا قبل الربع الأخير للقرن الثامن قبل الميلاد. وقد ساعدها على تحقيق هذا الوضع دمار مدينة السامرة عاصمة إسرائيل، ودمار لخيش في الجنوب، فاستوعبت المهاجرين من المناطق المنكوبة، وتزايد عدد سكانها بشكلٍ ملحوظ، وتشكَّلت فيها نخبةٌ اجتماعية وسياسية مسيطرة، ومال مجتمعها من البساطة نحو التركيب والتمايز الطبقي. وفي هذا الوقت بالذات يمكن أن نتصور بناء معبدٍ كبير على درجةٍ ما من الفخامة والأبهة الموصوفة في سفر الملوك الأول. إن تزايد ثروة أورشليم وازدهار أوضاع النخبة فيها، وتزايد تداخلها في سياسة التجارة الدولية، قد أدى أخيرًا إلى صدامها مع آشور، ثم إلى دمارها فيما بعد على يد البابليين عام ٥٧٨ق.م.٥
اعتمادًا على كل ما قدمناه حتى الآن نستطيع تلخيص ما توصلنا إليه حول إسرائيل التوراتية وعلاقتها بإسرائيل التاريخية بالنقاط التالية:
  • (١)

    إن النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لروايات الآباء والخروج قد أوصلنا إلى القول بكل ثقةٍ علمية بأن الوقائع جميعها تنفي نفيًا قاطعًا وجود كيان إثني اسمه «كل إسرائيل» خلال أية فترةٍ من عصر البرونز الأخير، وصولًا إلى مطلع عصر الحديد الأول حوالي ١٢٠٠ق.م.

  • (٢)

    إن الشواهد الأركيولوجية من الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد تنفي نفيًا قاطعًا رواية سفر يشوع عن الاقتحام العسكري لأرض كنعان. ذلك أن نتائج التنقيب الأثري في مواقع المدن التي يعزو النص التوراتي تدميرها إلى يشوع؛ تُظهر عدم تطابق تاريخ دمار معظم هذه المدن مع التاريخ المفترض لقدوم الإسرائيليين إلى كنعان. أما المواقع التي يتزامن تاريخ الدمار فيها مع قدوم الإسرائيليين، فإن الشواهد الأثرية الصامتة لا يمكن أن ترجِّح رواية سفر يشوع، بسبب وجود العديد من المرشحين لتدمير هذه المدن خلال تلك الفترة، وخصوصًا الفرعون مرنفتاح وشعوب البحر. ومن ناحيةٍ ثانية، فإن المواقع المهدمة التي أُعيد بناؤها في سياق عصر الحديد الأول تُظهر ارتباطًا عضويًّا بثقافة البرونز الأخير.

  • (٣)

    إن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمنطقة الهضاب المركزية ولمنطقة مرتفعات يهوذا، في المستويات الأثرية العائدة لعصر الحديد الأول، تنفي نفيًا قاطعًا ظهور مجموعةٍ إثنية واحدة في كلا المنطقتين خلال الفترة المفترضة لعصر القضاة والاستقرار في الأرض. فالقرى التي ظهرت بشكلٍ بطيء في الهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول كانت قرًى كنعانية من أصلٍ زراعي محلي، مرتبطة ثقافيًّا بعصر البرونز الأخير، ولا علاقة لها بالقبائل الرعوية التوراتية. وقد سبق استيطان منطقة الهضاب المركزية الاستيطان في منطقة يهوذا بحوالي قرنين من الزمان، الأمر الذي ينفي وجود قاعدةٍ مشتركة بين المنطقتين، كما ينفي قيام كيانٍ إثني يشتمل على «كل إسرائيل» خلال فترة عصر القضاة التي تغطي كامل فترة الحديد الأول.

  • (٤)

    لم يتوفر خلال القرن العاشر قبل الميلاد الأساس السكاني والاقتصادي اللازم لقيام مملكةٍ قوية في الهضاب المركزية أو مرتفعات يهوذا، ناهيك عن قيام مملكة موحدة متسعة الأرجاء بسطت سلطانها على كامل أراضي فلسطين. فإضافةً إلى الفقر المدقع لقرى الهضاب المركزية المبعثرة، فإن منطقة يهوذا كانت شبه خالية من السكان، وأورشليم كانت بلدةً متواضعة وغير صالحةٍ لأن تكون عاصمةً للمملكة المذكورة في التوراة.

  • (٥)

    لا يوجد ذكرٌ لكيانٍ سياسي اسمه إسرائيل في وثائق الشرق القديم جميعها قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد (أي بعد أكثر من قرنٍ على تشكيل مملكة كل إسرائيل التوراتية)، عندما بدأ اسم إسرائيل يظهر في السجلات العسكرية الآشورية، وللدلالة حصرًا على مملكة السامرة، التي تشكَّلت تاريخيًّا حوالي عام ٨٨٠ق.م. وكذلك الأمر في مملكة يهوذا، التي لم يرد ذكرها في السجلات الآشورية إلا نحو نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، وعندما بدأت مملكة إسرائيل بالأفول.

  • (٦)

    لا يوجد في وثائق الشرق القديم ذكرٌ لكيانٍ سياسي اسمه إسرائيل بعد دمار مملكة السامرة على يد الآشوريين عام ٧٢١ق.م. وسبي أهلها الذين لم يرجعوا إلى أوطانهم قط. أما المقاطعة الآشورية التي قامت في الهضاب المركزية بعد سبي الإسرائيليين وإحلال أقوام جديدة محلهم فقد دُعيت بمقاطعة السامرة، واستمرت تُدعى بهذا الاسم خلال العصر الفارسي والهيلينستي والروماني. وفيما يتعلق بمنطقة يهوذا، فقد أُطلق عليها اسم مقاطعة اليهودية بعد عودة المسبيين إليها من بابل، واستمر هذا الاسم قائمًا حتى العصر الروماني.

  • (٧)

    لا يوجد أثرٌ للمعتقد الديني التوراتي في منطقتَي إسرائيل ويهوذا، وفي بقية أنحاء فلسطين، خلال الفترة السابقة على السبي البابلي، والديانة التي سادت هنا هي ديانةٌ كنعانية تقليدية. إن جميع المعابد والمقامات الدينية وتماثيل وشارات الألوهة جميعها مما كشفت عنه التنقيبات في المستويات الأثرية العائدة إلى عصر الحديد الأول والثاني، تشير إلى استمرارٍ طبيعي للمعتقدات الدينية لعصر البرونز في فلسطين. أما الإله يهوه، الذي تركز حوله المعتقد التوراتي فيما بعد، فقد كان على ما يبدو المعبود الرئيسي في السامرة ويهوذا، إلى جانب آلهة البانثيون الكنعاني الفلسطيني.

ولعل أوضح برهان على ما أسوقه هنا هو مخطوطات جزيرة الفِيَلة (= الأفيال) التي اكتُشفت في الجزيرة المدعوة بهذا الاسم عند منطقة أسوان بمصر العليا. فلقد عاش في هذه الجزيرة التي تتوسط النيل جاليةٌ من منطقة يهوذا منذ مطلع القرن السادس قبل الميلاد، عمل أفرادها كمرتزقة في الجيش المصري فترةً طويلة قبل أن يستقروا مع أسرهم في هذه المنطقة النائية عن فلسطين. وقد حافظت هذه الجالية على عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها السابقة لتكوين المعتقد التوراتي، وتركت لنا عددًا من الوثائق الكتابية باللغة الآرامية يرجع تاريخها إلى الفترة الواقعة بين عامَي ٤٩٥ و٣٩٤ق.م. وهي الفترة ذاتها التي شهدت إعادة سكن أورشليم وبناء هيكل زَرُبابل المدعو بالهيكل الثاني. وتضم المخطوطات المكتشفة وثائق تجارية وعقود زواج، ومراسلات بين رئيس الجالية المدعو جيدانية وعددٍ من الشخصيات السياسية في فلسطين. وقد قدم الباحث الإسرائيلي Bezalel Porten من الجامعة العبرية أحدث قراءةٍ لهذه المخطوطات، ونشرها تباعًا فيما بين عامَي ١٩٦٨ و١٩٧٩ في عددٍ من الكتب والأبحاث العلمية.٦ وتُطلِعنا المخطوطات على أن جالية جزيرة الفِيَلة هذه قد بَنت هيكلًا لإلهها الرئيسي المدعو ياهو (= يهوه)، وذلك منذ بدايات استقرارها في الجزيرة. وعندما تهدَّم الهيكل قام رئيس الجماعة جيدانية بالكتابة إلى الحاكم الفارسي لمنطقة اليهودية طالبًا عونه المادي على بناء هيكل ياهو، الذي اعتبره نظيرًا لهيكل زَرُبابل في أورشليم، كما كتب حول الموضوع نفسه إلى حاكم منطقة السامرة. وهناك رسائل أخرى بعث بها جيدانية هذا إلى كهنة أورشليم يستعلم منهم عن بعض القضايا الشعائرية والسنن الدينية. الأمر الذي يدل بوضوحٍ على أن جماعة جزيرة الفِيَلة كانت ترى في معتقدها وطقوسها استمرارًا طبيعيًّا للمعتقدات والطقوس المعروفة في يهوذا. إلا أن هذه المعتقدات والشعائر، كما تبدو في مخطوطات الفِيَلة، لا تمتُّ إلى الدين التوراتي بصلة، فالإله ياهو، رغم علوِّ مكانته، ليس الإله الأوحد للجماعة، بل تظهر إلى جانبه زوجته التي تشير إليها المخطوطات باسم عنات ياهو، والتي ظهرت في النقوش الكتابية من فلسطين تحت اسم عشيرة أو عشيرة يهوه. كما تذكر المخطوطات أسماء آلهةٍ أخرى، مثل إيشيم وبت إيل وعناة-بت إيل وغيرهم. وبما أن الجالية في جزيرة الفِيَلة قد سمحت لنفسها بطلب المعونة من سكان يهوذا والسامرة من أجل إعاة بناء هيكل ياهو، وتشاورت مع رجال الدين هناك حول مسائلَ دينية مشتركة، فإن الاستنتاج المنطقي الذي يطرح نفسه هو أن ديانة يهوه في فلسطين لم تكن حتى ذلك الوقت المتأخر قد اكتسبت الشكل التوراتي بعد، وأنها ما زالت في طور التشكُّل على أيدي كهنة أورشليم بعد العودة من المنفى.

إن خلاصة ما يمكن قوله فيما يتعلق بإسرائيل ويهوذا التاريخيتين هو أن هاتين الدولتين قد نشأتا تباعًا في فلسطين كجزءٍ من النظام العالمي للإمبراطورية الآشورية، ثم دخلتا في صراعٍ مرير إبان فترة صعود مدينة أورشليم، من أجل السيطرة التجارية والسياسية على منطقة فلسطين وشرقي الأردن. وقد واجهت كل منهما منفردةً، وعلى طريقتها الخاصة، المد التوسعي لكل من مملكة آرام دمشق، التي نشأت خلال الفترة نفسها، ومملكة آشور. وبما أننا لا نستطيع فهم مسار حياة هاتين الدولتين والأحداث التي قادت إلى دمارهما إلا من خلال علائقهما مع دمشق وآشور؛ القوتين العُظميَين في ذلك الوقت، فإننا سوف نَعمِد في القسم الثاني من دراستنا هذه إلى تقصي تاريخ إسرائيل ويهوذا من خلال تشابك هذا التاريخ محليًّا مع تاريخ دمشق، ودوليًّا مع النظام العالمي الآشوري. وسيكون اعتمادنا بالدرجة الأولى على النصوص التاريخية الآشورية ثم الآرامية، وبالدرجة الثانية على أخبار ملوك يهوذا والسامرة في سفرَي الملوك الأول والثاني، وذلك بعد نقدها وتمحيصها ومقارنتها بالمصادر الخارجية من أجل فرز الخيالي عن الواقعي فيها. وسنبتدئ أولًا برسم الصورة التاريخية لصعود مملكة دمشق، وتكوينها لإمبراطورية سورية غير مُعلَنة ضمن مناطق غربي الفرات تحت قرارٍ سياسي واحد، يتخذه ملك آرام المقيم في دمشق.

١  James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 263-264.
٢  Th. L. Thompson, Early History of the Israelite People, p. 220.
٣  Th. L. Thompson, op. cit., p. 324.
٤  Ibid., p. 327.
٥  Ibid., pp. 332–334.
٦  J. D. Purvis, Exile and Return (in: Hershel Shanks, Ancient Israel, pp. 164-165).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤