البلاغة النبوية

فصل

هذه هي البلاغة الإنسانية التي سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دون غايتها، لم تُصنَع وهي من الإحكام كأنها مصنوعة، ولم يُتكلَّف لها وهي على السهولة بعيدةٌ ممنوعة.

ألفاظ النُّبُوَّة يعمرُها قلبٌ متصلٌ بجلال خالقه، ويصقِلها لسان نزل عليه القرآنُ بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليلٌ فقد كانت هي من دليله، مُحكمَة الفصول، حتى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفة الفضول، حتى ليس فيها كلمةٌ مفضُولة؛ وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبضُ قلب يتكلم، وإنما هي في سُموِّها وإجادتها مظهرٌ من خواطره .

إن خرجت في الموعظة قلتَ أنينٌ من فؤاد مقروح، وإن راعت بالحكمة قلتَ صورةٌ بشرية من الروح في مَنزَع يلين فينفر بالدموع، ويشتدُّ فينزو بالدماء، وإذا أراك القرآنُ أنه خطاب السماء للأرض أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السماء.

وهي البلاغة النبوية، تعرِفُ الحقيقةَ فيها كأنها فكرٌ صريحٌ من أفكار الخليقة؛ وتجيء بالمجاز الغريب فترى من غرابته أنه مجازٌ في حقيقة، وهي من البيان في إيجاز تتردَّد فيه «عَينُ» البليغ فتعرفُهُ مع إيجاز القرآن فرعين؛ فمن رآه غيرَ قريبٍ من ذلك الإعجاز فليعلم أنه لم يُلحق به هذه «العَينْ».١ على أنه سواءٌ في سُهولة إطماعه؛ وفي صُعوبة امتناعه؛ إن أخذ أبلغُ الناس في ناحيته، لم يأخذ بناصيته، وإن أقدم على غير نظر فيه رجع مُبصِرًا، وإن جَرَى في معارضته انتهى مقصرًا.

فصاحته

سنقول في هذا الباب بما يَحْضُرنا من جملة القول، لا نَسْتَرْسِلُ في الاتِّساع ولا نبسُط البَسْطَ كله، كما أننا لا نقفُ دون القصد، ولا نَنْكل عن الغرض الذي يتعلق بكتابنا، فإنَّا لو ذهبنا نستقصي في الكلام عن رسول الله ونشأته وأدبه وأثره في العرب وفي أحوالهم، وما كان لهم منه، ثم ما كان له منهم، إلى كل ما يتصل بذلك سببًا من الأسباب، أو يُداخِله جهةً من الجهات، أو يتعلق به ضربًا من التعلُّق — لذهبنا إلى سَعَةٍ من القول، وإلى فنون مختلفةٍ من التاريخ وفلسفته، تحفِلُ ببعضها الأجزاء الكثيرة والكتب المفردة، ولكنا سنَقصر الكلام على جهة واحدة من ذلك كله، وقد وسعنا العذرُ بما اعتذرنا.

أما فصاحته فهي من السَّمْتِ الذي لا يؤخذ فيه على حقِّه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق، فإن العرب وإن هذَّبوا الكلام وحذفوه وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، ورويَّة مقصودة، وكان عن تكلُّف يُستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرةُ اللغوية فيهم، فيُشبه أن يكون القول مصنوعًا مقدرًا على أنهم مع ذلك لا يَسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذفٍ في موضع إطنابٍ وإطناب في موضع حذف، ومن كلمة غيرها أليقُ، ومعنى غيرُه أردُّ، ثم هم في باب المعنى ليس لهم إلا حكمة التجربة، والأفضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قلَّ ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه، وبحسَبها يكون ماؤه ورونقُه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدارُ الرأي فيه ووجهُ القطع به.

بَيْدَ أن رسول الله كان أفصحَ العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلةً من وسائل الصنعة، ولا يُجاوز به مقدارَ الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقَطٌ ولا استكراه؛ ولا تستزلُّه الفُجَاءة وما يَبْدَهُ من أغراض الكلام٢ عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد النظرُ إلى كلامه طريقًا يتصفَّح منه صاعدًا أو منحدرًا؛ ثم أنت لا تعرف له إلا المعانيَ التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقدارٌ إنسانيٌّ من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية كما ستعرف.
وإن كلامه لكما قال الجاحظ: «هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف. استعمل المبسوطَ في موضع البسط؛ والمقصورَ في موضع القَصْر، وهجر الغريبَ الوحشيَّ، ورغب عن الهجين السُّوقيِّ؛ فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعِصْمة، وشُدَّ بالتأييد، ويُسِّر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبَّةَ عليه وغشَّاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلةِ عدد الكلام هو مع استغنائه عن إعادته وقلةِ حاجة السامع إلى مُعاودته، لم تسقط له كلمةٌ، ولا زلَّت له قدم، ولا بارَتْ له حُجة، ولم يَقُم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَب الطِّوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصدق، ولا يطلب الفلَج٣ إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يَهْمِزُ ولا يَلْمِزُ،٤ ولا يُبْطِئ ولا يَعجل، ولا يُسهِب ولا يَحْصر؛ ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعمَّ نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرمَ مطلبًا، ولا أحسنَ موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصحَ عن معناه، ولا أبينَ عن فَحْوَاه — من كلامه .» ا.ﻫ.

ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا إذ ابتعثه للعرب وهم قومٌ يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوُت ما بين طبقاتهم في اللغات وعلى اختلاف مَوَاطنهم كما بسطناه في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالصُ في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصُّص بعض القبائل بأوضاعٍ وصيغٍ مقصورة عليهم، لا يُساهمهم فيها غيرُهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنوَّ المأخذ.

فكان يعلم كلَّ ذلك على حقه؛ كأنما تُكاشِفُه أوضاعُ اللغة بأسرارها، وتُبادره بحقائقها؛ فيُخاطب كلَّ قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابًا، وأسدهم لفظًا، وأبينهم عبارة، ولم يُعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عُرف لقد كانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم.

ومثلُ هذا لا يكونُ لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حيًّا بعد حي وقبيلًا بعد قبيل، حتى يَفْليَ لغاتهم، ويتتبع مناطقهم، مستفرغًا في ذلك متوفرًا عليه، وقد علمنا أنه لم يتهيأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه٥ علمًا ليس بالظن، ويقينًا لا مَسَاغَ للشبهة فيه؛ إذ ترادَفَتْ به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم؛ فما عُرف أن أحدًا منهم تقصَّصَ اللغات وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع واختلاف الصيغ وأنواع الأَبْنِية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم أو ينتحلُه فيهم؛ بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم، لا تجد في الطبيعة ما يمتدُّ بها، أو يُنميها، أو يجعل لها عندهم شأنًا، أو يَبْغِيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها؛ فليس إلا أن يكون ما خُصَّ به النبي من ذلك قد كان توفيقًا وإلهامًا من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن فقد علَّمه الله من أشياء كثيرة ما لم يكن يعلم؛ حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يَحْصَر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم؛ لتكون الحجة به أظهر، والبرهانُ على رسالته أوضح، وليُعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البينة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة.

فهذه واحدة، وأما الثانية: فقد كان في اللغة القرشية التي هي أفصحُ اللغات وأبينها، بالمنزلة التي لا يُدافع عليها، ولا ينافس فيها، وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فَضَلَهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس ونفاذِ البصيرة واستقامة الأمر كله، بحيث يُصرِّف اللغة تصريفًا، ويُديرها على أوضاعها، ويشقِّق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه؛ لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومُعَاناةً، ولا بعد نظرٍ فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار ما تهيئ له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجتمعةُ والذهنُ الحادُّ والبصر النفَّاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني، تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع.

وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالصَ منها، وخصه بجملتها، وأسْلَسَ له مآخذَها، وأخلص له أسبابها كالنبي فهو اصطنعه لوحيه، ونَصَبَه لبيانه، وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته؛ وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام وجَمام الطبيعة وصفاءِ الحاسة وثقُوبِ الذهن واجتماعِ النفس وقوة الفطرة ووَثَاقَة الأمر كله بعضه إلى بعض؟

ولا يذهبنَّ عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سموِّ الفطرة وقوَّتها فإنما هذه سبيله؛ يأتي من ورائها، وهي الأسباب إليه؛٦ وقد نشأ النبي وتقلَّب في أفصح القبائل وأخلصها منطقًا، وأعذبها بيانًا، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله من بني زُهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومُتَزَوَّجُه في بني أسد، ومُهَاجَرَتُه إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة؛ ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة، ولذا قال : «أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر.»٧ وهو قول أرسله في العرب جميعًا، والفصاحة أكبر أمرهم والكلام سيد عملهم، فما دخلتهم له حميَّة، ولا تعاظَمَهُم، ولا ردوه، ولا غضُّوا منه، ولا وجدوا إلى نقضه سبيلًا، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقًا، ولو كان فيهم أفصحُ منه لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ثم لجعلوا من ذلك سببًا لنقض دعوته والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا منه الفصاحة على أتم وجوهها وأشرف مذاهبها، ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم، ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قويَّ العارضة، مستجيبَ الفطرة، ملهَمَ الضمير متصرف اللسان، يضعُه من الكلام حيث شاء؛ لا يَستكرِه في بيانه معنى، ولا يندُّ في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضطرب له عبارة، ولا ينقطع له نظمٌ، ولا يشوبه تكلف ولا يشقُّ عليه منزَعٌ، ولا يعتريه ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل، من التخاذل، وتراجُع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثُّر لمعنى بما ليس منه، والتحيُّف لمعنى آخر بالنقص فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع؛ إلى أمثالٍ أخرى لا نرى العربَ قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نُزه عن جميعها، وسلم كلامُه منها، وخرج سبكه خالصًا لا شَوْبَ فيه، وكأنما وضعَ يَدَه على قلب اللغة ينبضُ تحت أصابعه.

ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامُهُ إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرَّضوا، ولكان ذلك مأثورًا عنهم دائرًا على ألسنتهم، مستفيضًا في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردوا عليه القرآن، ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يَعيب عليه في مجلس حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويَغُضُّ من شأنه، فإن القوم خُلَّصٌ لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانًا، وأبينهم بيانًا، وخاصة في أوَّل النبوَّة وحِدْثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سُنَّتِه واطَّرَد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم، كما ستعرفه، علمنا قطعًا وضرورة أنه كان أفصح العرب، وافيًا بغيره، كافيًا من سواه، وأنه في ذلك آيةٌ من آيات الله لأولئك القوم، وكَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

صفته

ليس في التاريخ العربي كله مَن جُمعَتْ صفاته وأحصيت شمائله وتواتر النقل بذلك جميعه من طرق مختلفة على توثق إسنادها — غير النبي وهذا أصل لا يُعْدَلُ به شيء في بيان حقائق الأخلاق، والاستدلال على قوَّة الملكات، واستخرج الصفات النفسية التي حَصلَ من مجموعها أسلوبُ الكلام على هيئته وجهته، وانفرد بما عسى أن يكون منفردًا به، أو شارك فيما عسى أن يكون مشاركًا فيه؛ وعلى هذه الجهة نأتي بطرفٍ من صفته .

فعن الحسن بن علي — رضي الله عنهما — قال: سألت هندَ بن أبي هالة، عن حِلية رسول الله وكان وصَّافًا، وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئًا أتعلَّقُ به، فقال:
كان رسول الله فخمًا مفخَّمًا يتلألأ وجهه تلألؤَ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع٨ وأقصر من المُشذَّب،٩ عظيم الهامة، رَجْلَ الشعر،١٠ إن انفرقت عقيقته١١فرق وإلا فلا، يُجاوز شعرُه شحمة أذنيه إذا هو وفَّره، أزهرَ اللون، واسعَ الجبين؛ أزجَّ الحواجب سوابغ في غير قَرَن،١٢ بينهما عِرْقٌ يُدِرُّه الغضب؛ أقنى العِرنين١٣ له نورٌ يعلوه١٤ ويحسبه من لم يتأمله أشمَّ؛ كثَّ اللحية أدْعَجَ،١٥ سهل الخدَّين ضليع الفم، أشنب، مفلَّج الأسنان١٦ دقيق المسرُبة،١٧ كأن عنقه جيد دُمية في صفاء الفضة معتدل الخلق، بادنًا متماسكًا١٨ سواء البطن والصدر١٩ بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس٢٠ أنور المتجرَّد، موصول ما بين اللبة والسُّرَّة بشعر يجري كالخَطِّ، عاري الثديين ما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويلَ الزَّنْدين؛ رَحْبَ الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف،٢١ سبط العصب، خُمْصان الأخمصين٢٢ مسيحَ القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال زال تقلعًا، يخطو تكفُّؤًا، ويمشي هَوْنًا،٢٣ ذريع المشية إذا مشى كأنما يَنْحَط من صبب،٢٤ وإذا التفت التفت جميعًا٢٥ خافض الطرف، نظرُهُ إلى الأرض أطولُ من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابَهُ ويبدأ من لقيه بالسلام.
قال: قلت: صف لي منطقَه، قال: «كان رسول الله متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحةٌ، لا يتكلم في غير حاجة، طويلَ السكوت،٢٦ يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه٢٧ ويتكلم بجوامع الكلم٢٨ فصلًا لا فُضُولٌ فيه ولا تقصير،٢٩ دمثًا ليس بالجافي ولا المهين،٣٠ يُعظِّم النعمة وإن دقَّت لا يذم شيئًا، لم يكن يذم ذَوَاقًا٣١ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تُعُرِّض للحق بشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلَّبَها، وإذا تحدَّث اتَّصَلَ بها فَضَرَب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرضَ وأشاحَ، وإذا فرح غض طرفه؛ جُلُّ ضَحِكِه التبسُّم،٣٢ ويَفْتَرُّ عن مثل حب الغمام. انتهى.

ولقد أفاضوا في تحقيق أوصافه بأكثر من ذلك ألفاظًا ومعانيَ، ونقلوا الكثير الطيب من هذه الأوصاف الكريمة في كل باب من محاسن الأخلاق، مما لا يتسع هذا الموضع لبسطه. فتأمل أنت هذه الصفات واعتبر بعضها ببعض في جملتها وتفصيلها، فإنك متوسِّمٌ منها أروعَ ما عسى أن تدل عليه دلائل الحكمة، وسمةُ الفضيلة، وشدةُ النفس وبُعْدُ الهمة، ونفاذُ العزيمة، وإحكام خُطَّةِ الرأي، وإحراز جانب الخُلُق الإنساني الكريم.

وانظر كيف يكون الإنسان الذي تسع نفسه ما بين الأرض وسمائها، وتجمع الإنسانيةَ بمعانيها وأسمائها، فهو في صلته بالسماء كأنه مَلَكٌ من الأملاك، وفي صلته بالأرض كأنه فلكٌ من الأفلاك، وما خُصَّ بتلك الصفات إلا ليملأ بها الكونَ ويعُمَّه، ولا كان فردًا في أخلاقه إلا لتكون من أخلاقه روح الأمة.

وإذا رَجَعْتَ النظرَ في تلك الصفات الكريمة واعتبرتَها بآثارها ومعانيها رأيتَ كيف يكون الأساسُ الذي تُبنى عليه فِرَاسَةُ الكمال في نوع الإنسان من دَلالة الظاهر على الباطن، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روحُ الإنسان في أعماله، أو أثرُ هذه الروح، أو بقيةُ هذا الأثر، فإذا تأملتها متَّسِقةً، وتمثلتَها قائمةً في جملة النفس، وأنعمتَ على تأمل صُورها الكلامية التي تبعث الكلام وتزِنُه وتنظمه وتعطيه الأسلوبَ وتُجْملُه بالرأي وتُزَيِّنُه بالمعنى، فإنك ستجد من ذلك أبلغَ ما أنت واجدُه من الأساليب العصبية في هذه اللغة وأشدها وأحكمها، مما لا يضطرب به الضعفُ، ولا تُزايلُه الحكمة ولا تخذُله الرَّوِيَّة، ولا يباينه الصواب؛ بل يخرج رصينًا غير مُتَهافت، مُتَّسقًا غيرَ مُتَفَاوت، لا يغلب على النفس التي خرج منها، بل تغلب عليه، ولا تسترسل به المخيلة، بل يَضبطه العقل، ولا يتوثَّبُ به الهاجس بل يحكمه الرأي، ولا يَتَدَافَعُ من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه؛ بل تراه على استواءٍ واحدٍ في شدةٍ وقوةٍ واندماجٍ وتوثيق.

وهذا هو الأسلوب العصبي الممتلئ الذي قلما يتفق منه إلا القليل لأبلغ الناس وأفصحهم، وقلَّما يكون أبلغُ الناس وأفصحُهم في كل دهر إلا عصبيًّا على تفاوت في نوع المزاج وحالته؛ فإن من الأمزجة العصبيَّ البحتَ، والمنحرفَ إلى مزاجٍ آخر، ولكل من النوعين حالة قائمةٌ بالكلام، وصفة خاصة بالأسلوب.

وبالجملة، فإن النَّدْرَةَ في الأساليب العصبية: أن تجد منها ما إذا أصبتَه موثَّقَ السَّرْدِ متدامج الفِقَر محبوكَ الألفاظ جَيِّدَ النحت بالغ السبك — أن تجده مع ذلك رصينًا متثبتًا في نسقِ معانيه وألفاظِه، لا يتزيَّد بهذه ولا يتكثَّرُ بتلك، ولا يخالطه من فنون الأقاويل ما تستطيع أن تنفيه، ولا يتولَّاه ما تتأتى إليه من وجه التَّخْطِئَة؛ وأن تجدَه بحيث يمتنع أن تقول فيه قولًا، أو تذهب فيه مذهبًا؛ وبحيث تراه من كل جهة مُتسايرًا لا يتصادم ومُطَّرِدًا لا يتخلَّف.

ونحن فلسنا نعرف في هذه العربية أسلوبًا يجتمع له مع تلك الحالة العصبية هذه الصفة، ويكون سواءً في الحدة والرصانة، مبنيًّا من الفكرة بناءَ الجسم من اللحم، متوازنًا في أعصاب الألفاظ وأعصاب المعاني، يثور وعليه مَسْحة هادئة فكأنه في ثورته على استقرار. وتراه في ظاهره وحقيقتِه كالنجم المتَّقِدِ: يكون في نفسك نورًا وهو في نفسه نار.

لسنا نعرف أسلوبًا لأحد البلغاء هذه صفتُهُ، على كثرة ما قرأنا وتدبَّرنا واستخرجنا، وعلى أنه لم يَفُتنا من أقوال الفصحاء قولٌ مأثورٌ، أو كلام مشهور إلا ما يمكن أن يُجْزِئ بعضُه من بعضه في هذه الدلالة، فإنا لم نقرأ كلَّ ما كتب عبدُ الحميد، وابنُ المقفع، والجاحظ، وهذه الطبقة العصبية، ولكنا قرأنا لهم كثيرًا أو قليلًا، وبعضُ ذلك في حكم سائره؛ لأن الأسلوب واحد والطريقةَ واحدة، ومذهب الموجود هو مذهب المفقود — ولم نجد ألبتةَ في هذا الباب غيرَ أسلوب أفصح العرب فإن هذا الكلام النبوي لا يعتريه شيء مما سمَّينا لك آنفًا؛ بل تجده قصدًا محكمًا متسايرًا يشدُّ بعضُه بعضًا وكأنه صورة روحية لأشدِّ خلق الله طبيعة، وأقواهم نفسًا وأصوبهم رأيًا، وأبلغِهِم معنًى، وأبعدِهم نظرًا، وأكرمهم خُلُقًا؛ وهذا وشِبْهُه لا يتأتى إلا بعناية من الله تأخذ على النفس مذاهبها الطبيعية، وتتصرف بشدتها على غير ما يبعثُ عليها الطبعُ الحديد والخلُق الشديد، وتخرجها من كل أمر متكافئةً متوازنة، بحيث يظهر أثرُ النفس في كل عمل، فيأتي وكأنه من ذلك نفسٌ على حدة. ومن أولى بهذه العناية ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.

وعلى هذه الجهة، لا على غيرها، يُحمَل قوله لأبي بكر حين قال له (رضي الله عنه): لقد طفتُ في العرب وسمعتُ فصحاءهم فما سمعت أفصح منك فمن أدَّبَك «أي علمك»؟ فقال — عليه الصلاة والسلام: «أدبني ربي فأحسنَ تأديبي.» وقوله مثلَ ذلك لعليٍّ أيضًا، كما سيأتي في موضعه؛ ثم قوله: «أنا أفصحُ العرب.» وما كان من هذا المعنى؛ لأنه يستحيل أن يكون مع أحد من ذلك الذي بيناه ما خصَّ الله به نبيه — عليه الصلاة والسلام — إذ الاستحالةُ راجعة إلى الطبع والجِبلَّة وخلق الفطرة، مما لا يتغير في الناس إلا أن يخرق الله به العادة على وجه المعجزة ليقضي أمرًا من أمره، وأنَّى لامرئ بذلك من العرب غير النبي ؟

وهذا الذي أشرنا إليه آنفًا، إنما هو الأصل في أن الكلام النبوي جامعٌ مجتمعٌ، لا يذهب في الأعمِّ الأغلب إلى الإطالة بل هو كالتمثال: يأتي مقدَّرًا في مادته ومعانيه وأسلوب الجمع بينهما وربط الصورة بالمعنى كما سنأتي عليه بعد.

وأما الآن فإنا نقول قولَ أديبنا الجاحظ — رحمه الله — فإنه بعد أن وصف هذا الكلام السريَّ بما نقلناه عنه في موضعه خشي أن يظن بعض الناس أنه أفرط على ذلك الوصف، وبالغَ في الحمل عليه مما حمَل، فقال:

ولعل من لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقاديرَ الكلام، يظن أننا تكلَّفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده ولا يبلغه قدره. كلَّا والذي حرَّم التزيُّدَ عند العلماء، وقَبَحَ التكلفَ عند الحكماء، وبَهْرَجَ الكذَّابين عند الفقهاء — لا يظن هذا إلا من ضلَّ سعيُه.

وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.

إحكام منطقه

قد رأيت فيما مر من صفته — عليه الصلاة والسلام — أنه كان ضَلِيع الفم، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، وعلمت من معنى ذلك أنه كان يستعمل جميع فمه إذا تكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين فحسبُ، ولقد كانت العربُ تَتمادَحُ بسعة الفم وتَذم بصغره؛ لأن السعة أدلُّ على امتلاء الكلام، وتحقيق الحروف وجَهَارةِ الأداء وإشباع ذلك في الجملة، ولأن طبيعة لغتهم ومخارجَ حروفها تقتضي هذا كله ولا تحسُنُ في النطق إلا به، ولا تبلُغ تمامها إلا أن يبلغ فيها، وهو بعدُ مَزِيَّتُها الظاهرةُ في أفصح أساليبها؛ إذ كانت الفصاحة راجعة إلى حسن الملاءمة بين الحروف باعتبار أصواتها ومخارجها، حتى تستويَ في تأليفها على مذاهب الإيقاع اللغوي، كما بسطناه في كل موضع اقتضاه من هذا الكتاب.

وذلك أمر لم يكن علمُ أولئك القوم به على الهاجس والظن، أو المقاربةِ والتقدير، إنما هو أساس منطقهم، وعتاد لغتهم، فكانوا سواءً في المعرفة به وفي الحاجة إليه، من استوفاه منهم اتَّسقت له الفضيلة البيِّنة، ومن قصر فيه أخْمَلَه تقصيرُه حتى كأنما انطوت حقيقته العربية في فمه، أو كأنما أكل نفسه … ولهم في كل ذلك من البيان والصوت أخبار وأشعار لا حاجة بنا إلى تمثُّلها وقَصِّها.

وهذا الذي أومأنا إليه من أمرهم، هو السبب في أن كل من يتصافح في هذه العربية لا يعدو في جملة وسائله التي يستعين بها أن ينتحل سَعَة الشَّدق وتهدُّل الشَّفَة، ويبالغ في استعمال جميع فمه على كل وجه، يلتمس بذلك تحقيق الحروف، وجهارة البيان، وتفخيم الأداء، ووزنَ المخارج؛ إذ كانت هذه هي الدلائل الطبيعية على الفصاحة، وهو أمر لا يستقيم له إلا إذا مطَّ الكلام ومضَغَ الحروفَ وتَفَيْهَقَ٣٣ وكَدَّ حنجرتَه، وجعل كل شدق من شدقيه كأنه فم وحده … وذلك تكلُّفٌ قد ذمه العرب وكرهوه، وذمه رسول الله وحذَّر منه٣٤ لأنه غير طبيعي فيمن يتكلفه، وهو كذلك مبالغة تأباها طبيعة اللغة، ولا تتفق مع أسبابها وعللها؛ إذ تُحيل هذه اللغة إلى السماحة وتستغرقِها بصناعة الصوت، وتنفي عنها طبيعةَ اللين والعذوبة، وتجمع عليها تعقيد الصوت، واستكراههُ، وجسأته؛ وذلك كله في الذم والكراهة عندهم بسبيل من الصفات التي يعتدُّونها في عيوب المنطق، خِلقة كالتَّمْتَمَة والفأفأة والرُّتَّةِ ونحوها، مما أحصيناه في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، أو تخلفًا، كالتنطع، والتمطق، والتفيهق،٣٥ وما إليها.
فكانت محاسنُ هذا الباب في النبي طبيعية كما رأيت؛ لأنها عن أسباب طبيعية، وقد وصفوه مع ذلك بحسن الصوت٣٦ وهو تمامُها وحليتُها، فإن هذه اللغة خاصةً تجمُلُ بذلك ما لا تجمل به سائر اللغات؛ لما فيها من معاني الأوضاع الموسيقية في خفة الوزن، وصحة الاعتدال، وتمام التساوي، وحسن الملاءمة، فلا جرمَ كان منطقه على أتم ما يتفق في طبيعة اللغة ويتهيأ لها من إحكام الضبط وإتقان الأداء: لفظٌ مُشْبَعٌ، ولسانٌ بَلِيلٌ، وتجويدٌ فخمٌ، ومنطقٌ عذبٌ، وفصاحةٌ متأدِّيَةٌ، ونظم مُتَسَاوِقٌ، وطبعٌ يجمع ذلك كله، مع تثبُّت وتحفُّظ وتبيينٍ وترسُّلٍ وترتيلٍ.٣٧
وقد قالت عائشة — رضي الله عنها: «ما كان رسول الله يَسرُدُ كسردِكم هذا،٣٨ ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل، يحفظه من جلس إليه.» وفي رواية أخرى عنها أيضًا: «كان رسول الله يحدَّث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه.»

فأنت ترى أن هذا هو المنطقُ الذي يمرُّ بالفكر قبل أن ينطلق إلى الفم، وأن العقل فيه من وراء اللسان فهو غالب عليه مُصرِّفٌ له، حتى لا يعتريه لبسٌ، ولا يتخوَّنه نقص، وليس إحكامُ الأداء ورَوعة الفصاحة وعذوبة المنطق وسلاسة النظم إلا صفات كانت فيه عند أسبابها الطبيعية. كما مَرَّ آنفًا. لم يتكلف لها عملًا، ولا ارتاض من أجلها رياضةً، بل خُلق مستكملَ الأداة فيها، ونشأ مُوَفَّر الأسباب عليها، كأنه صورة تامة من الطبيعة العربية.

ولا تمنع أن يكون من فصحاء العرب من يشاركه فيها أو في بعضها: فإنها مظاهر للكلام لا غير؛ وإنَّما الشأن الذي انفرد به أنه مُنزَّه عن النقص الذي يعتري الفصحاء من جهتها أحيانًا كثيرة وقليلة؛ لأنها طبيعية فيه، ولأن من ورائها تلك النفسَ العظيمة الكاملةَ التي غلبت على كل أثر إنساني يصدر عنها، حتى قرَّت أعمالُها على نظام لا تُعدُّ فيه الفلتَةُ، ولا يؤخذ عليه مأخذٌ، وحتى كأن كلَّ عمل منها هو كذلك في أصل التركيب وطبع الخلقة، وهذه خصوصية ينفرد بها الأنبياء — صلوات الله عليهم — إذ هم أمثلة الكمال الإنساني في هذه الخليقة، تنصبهم يدُ الله على طريق الحياة لتنتهي فيهم عصورٌ وتبتدئ بهم عصور وليسددوا خُطا العقل في تاريخه، وهي من الجهة اللغوية مما انفرد به نبينا في عربيته، وما يمنعه منها، وإنَّما أُنزل القرآن بلسانه لسانٍ عربي مبين.

فهذا وجهُ الأمر وسبيله، وهذا فرقُ ما بينه وبين الفصحاء، من جهة إحكام المنطق وامتلائه، فإن أحدهم يكون مهيأً لذلك من أصل الخلقة؛ وبطبيعة النشأة بَيْدَ أن طباعه لا تتوافى إليه في كل منطق وفي كل عبارة؛ بل ربما غلبت خَصْلَةٌ على أختها، وربما تخاذلت طبيعة من طباعه، وربما رَكَّ٣٩ لفظه لبعض الضعف في معناه، فخرج من عادته في النطق به، وربما اضطربت نفسه في حالة من الأحوال، أو تَرَاجَع طبعُه لسبب من الأسباب؛ فيضطرب كلامه، ويضطرب كذلك منطقُه، وربما نطق فأبان واستحكم؛ حتى إذا مر في الكلام أو استفرغت الإطالةُ مجهوده وَنَزَحَتْ مادته، رأيتَه يتعثَّرُ ويتهافتُ، ورأيت منطقَه وقد صُرِف عن وجهه واختلط وتهالَكَ من الضعف؛ وما على امرئ إلا أن ينظر في خاصَّةِ نفسه وداخلة طبيعته، فإنه ولا ريب مصيبٌ فيها كلَّ ذلك أو أكثرَه أو كثيره.
وهذه كلها عيوبٌ تلحق الفصحاء وتُقْسَم عليهم، لا يكاد يسلم منها أحد، وإنَّما يُؤْتَوْن من جهة النفس في ضعفها أو اضطرابها أو غفلتها، أو ما أشبه ذلك من حالٍ تعتري وعِرْقٍ ينزِع،٤٠ وهي خِصالٌ لا تكون لأنفس الأنبياء — صلوات الله عليهم — فإذا أضفت إلى ذلك أن نبينا كان طويلَ السكوت، ولم يكن يتكلم في غير حاجة، فإذا تكلم لم يَسرُدَ سَرْدًا، بل فصَّلَ ورتَّلَ وأبان وأحكم، بحيث تخرج كل لفظة وعليها طابَعُها من النفس — علمتَ أن هذا المنطق النبوي لا يكون بطبيعته إلا على الوجه الذي بسطناه آنفًا، وأنه بذلك قد جمع خصالًا من إحكام الأداء، لا يشاركه فيها منطق أحد إلى حدٍّ، ولا تتوافى إلى غيره ولا تتساوى في سواه.

اجتماع كلامه وقلَّتُه

ومن كمال تلك النفس العظيمة، وغلبَةِ فكره على لسانه قلَّ كلامُه وخرج قَصْدًا في ألفاظه، محيطًا بمعانيه، تحسب النفسَ قد اجتمعت في الجملة القصيرة والكلمات المعدودة بكل معانيها: فلا ترى من الكلام ألفاظًا ولكن حركاتٍ نفسيةً في ألفاظ،٤١ ولهذا كثرت الكلمات التي انفرد بها دون العرب، وكثرت جوامعُ كلِمه، كما ستعرفه، وخَلُصَ أسلوبه، فلم يقصر في شيء، ولم يبلغ في شيء، واتَّسَقَ له من هذا الأمر على كمال الفصاحة والبلاغة ما لو أراده مُريدٌ لعجزَ عنه، ولو هو استطاع بعضه لما تمَّ له في كل كلامه؛ لأن مجرى الأسلوب على الطبع، والطبعُ غالبٌ مهما تشدَّد المرءُ وارتاض، ومهما تثبَّت وبالغ في التحفظ.

هذا إلى أن اجتماع الكلام وقلةَ ألفاظه، مع اتساع معناه وإحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف، ومع إبانة المعنى واستغراق أجزائه، وأن يكون ذلك عادةً وخُلُقًا يجري عليه الكلامُ في معنًى معنى وفي باب باب — شيءٌ لم يُعرف في هذه اللغة لغيره ؛ لأنه في ظاهر العادة يستهلك الكلامَ ويستولي علية بالتكلف، ولا يكون أكثر ما يكون إلا باستكراهٍ وتَعَمُّل؛ كما يشهد به العيان والأثر، فكان تيسير ذلك للنبي واستجابتُه على ما يريد وعلى النحو الذي خرج به — نوعًا من الخصائص التي انفرد بها دون الفصحاء والبلغاء، وذهب بمحاسنها في العرب جميعًا.

وهذا هو الذي كان يُعْجَبُ له أصحابه، ويرونه طبقة في هذا اللسان وطرازًا لا يُحسنه إنسان، حتى إن أبا بكر (رضي الله عنه) قال له مرة: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك؛ فمن أدَّبَك «أي علمك»؟ قال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.»

وهذا خبر متظاهر، وقد مرَّ بك، وهيهات أن يكون في العرب فصيحٌ تُعَرِّفُه فصاحتُه ولا يكون قد سمعه أبو بكر، متكلمًا أو خطيبًا أو منشدًا في سُوق أو موسم أو حفل؛ فإنه (رضي الله عنه) في علم العرب وأنسابِها وأخبارِها ولغاتها وآثارها — الغايةُ التي يُنتهى إليها ويُوقَفُ عندها، حتى لا يُعْدل به عَدْل؛ وحسبُك أن أنسب العرب في صدر الإسلام، وهو جُبَيْر بنُ مطعم، إنما عنه أخذ ومنه تعلَّم، وإذا قالوا في المبالغة: أنسبُ من أبي بكر، فقد قالوا: أنسب الناس!

فهذا أبلغ ما ندلي به من حجة وما ندلُّ به من خَبَر في هذا الباب٤٢ لأنه خبر من أنسب العرب عن معرفة، ومعرفةٌ عن عيان، وعيانٌ بعد استقصاء، واستقصاءٌ عن رغبة في هذا العلم وتحصيله والمعرفة به مع قوة الفطرة وسلامتها، وليس وراء ذلك في صحة الدليل مذهبٌ من مذاهب التاريخ.
على أنه لا يؤخذ مما قدمنا أنه لم يكن يُطيل الكلام إن رأى وجهًا للإطالة، فقد كان ربما فعل ذلك إن لم يكن منه بد، وقد روى أبو سعيد الخُدري أنه خطب بعد العصر فقال: «ألا إن الدنيا خضرةٌ حلوةٌ، ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون؛ فاتَّقوا الدنيا، واتقوا النساء! ألا لا يمنعَنَّ رجلًا مخافةُ الناس أن يقولَ الحق إذا علمه!» قال أبو سعيد: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حُمْرَةٌ على أطراف السَّعَفِ٤٣ فقال: «إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى!»

قلنا: وهذه مدة لا تقدر في عرفنا بأقل من ساعتين، وحسبك بكلام من البلاغة النبوية يستوفيهما، بَيْدَ أن الإقلال كان في الأعم الأغلب، حتى ورد أنه كان يأمر بقِصَرِ الخطبة، فروى أبو الحسن المدائني قال: تكلم عَمَّار بن ياسر يومًا، فأوجز، فقيل له: لو زدتَنَا! قال: «أمرنا رسول الله بإطالة الصلاة وقَصر الخطبة.» وقد ورد في الحديث: «نحن — معاشر الأنبياء — فينا بُكاء.» أي قلة في الكلام، وهو من بَكَأَتِ الناقةُ والشاةُ إذا قلَّ لبنُها، وتأويله على ما بسطناه آنفًا.

غير أن ههنا فصلًا حسنًا لأديبنا الجاحظ ساقه في كتاب «البيان»، وقد أورد هذا الحديث بلفظ آخر، وظن أن بعضهم ربما تأوَّله على جهة الحصرِ٤٤ والقلة، وعلى وجه المَعْجَزة والضعف، أو خطر له ذلك على الهاجس، بما يعطيه ظاهرُ اللفظ؛ وكلُّ امرئ ظَنينٌ بدعواه، فكتب ما كتب يستدفع به الظنَّ ويُصافِحُ اليقينَ، وقد رأينا أن نحصِّلَ كلامه توفيةً للفائدة، وبسطًا لما لم نبسطه؛ إذ كان هو قد سبق إليه. قال — رحمه الله: روى الأصمعيُّ وابنُ الأعرابي عن رجالهما: أن رسول الله قال: «إنا معشر الأنبياء بكاء» فقال ناسٌ: البُكوء: القلة، وأصل ذلك من اللبن، فقد جعل صفةَ الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول. قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخلقة، وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعًا، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني، والقلة تكون من وجهين: أحدهما؛ من جهة التحصيل والإشفاق من التكلف، وعلى البعد من الصنعة ومن شدة المحاسبة وحصْرِ النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادة تناسب الطبيعة.

وتكون من جهة العجز، ونقصانِ الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الاهتداء إلى جيد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ، ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى — على نبينا وعليه السلام — حين قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ.

فلو كانت تلك القلةُ من عجز، كان النبي أحقَّ بمسألة إطلاق تلك العُقدة من موسى؛ لأن العرب أشد فخرًا ببيانها وطول ألسنتها وتصريف كلامها وشدةِ اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت ذَرابَتُها على كل من قصَّرَ عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال. وقد شاهدوا النبي وخُطَبَه الطوالَ في المواسم الكبار، ولم يُطل التماسًا للطول، ولا رغبة في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثرت، والوجوهَ إذا افتنَّت كثر عدد اللفظ وإن حُذِفَت فضوله بغاية الحذف، ولم يكن الله ليعطيَ موسى لتمام إبلاغه شيئًا لا يعطيه محمدًا، والذين بُعِثَ فيهم أكثرُ ما يعتمدون عليه البيانُ واللَّسَن.

وإنَّما قلنا هذا لنحسِم وجوه الشغب، لا أن أحدًا من أعدائه شاهد هناك طَرفًا من العجز، ولو كان ذلك مرئيًّا ومسموعًا لاحتجوا على الملا، ولتناجوا به في الخلا، ولتكلم به خطيبُهم، ولقال فيه شاعرهم، فقد عرف الناس كثرة خطبائهم، وتسرُّع شعرائهم. هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله أم لم يقله؛ لأن مثل هذه الأخبار يُحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنَّا بفضل الثقة وظهور الحجة، نجيب بمثل هذا وشِبْهه.

وقد علمنا أن من يقرِض الشعرَ ويتكلفُ الأسجاع، ويؤلف المزدوج ويتقدم في تحبير المنثور «لا يكون كذلك إلا» وقد تعمَّق في المعاني وتكلف إقامةَ الوزن، والذي تجود به الطبيعة وتعطيه النفسُ سَهْوًا رهْوًا مع قلة لفظه وعدد هجائه، أحمدُ أمرًا، وأحسن موقعًا من القلوب، وأنفع للمستمعين، من كثير خرج بالكدِّ والعلاج، ولأن التقدم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلا ممن يحب السُّمعة، ويهوى النفج٤٥ والاستطالة؛ وليس بين حال المتنافسين وبين حال المتحاسدين إلا حجابٌ رقيق وحجازٌ ضعيف، والأنبياء بمندوحةٍ من هذه الصفة، وفي ضد هذه الشيمة.

وقال الله تعالى وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ، ثم قال: وَمَا يَنبَغِي لَهُ، ثم قال — أي في الشعراء: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، فعمَّ ولم يخصَّ، وأطلق ولم يقيِّد.

فمن الخصال التي ذمهم بها: تكلفُ الصنعة، والخروج إلى المباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق، ومن كان كذلك كان أشد افتقارًا إلى السامع من السامع إليه؛ لشغفه أن يُذكر في البلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء، ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسة والمغالبة، وولَّد ذلك في قلبه شدةَ الحمية وحبَّ المجاوبة، ومن سخُفَ هذا السُّخْفَ وغلب الشيطانُ عليه هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور والفخر بالكذب وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه وذم من منعه؛ فنزَّه الله رسوله، ولم يعلِّمه الكتاب والحساب، ولم يرغبه في صنعة الكلام، والتعبُّد لطلب الألفاظ، والتكلف لاستخراج المعاني، فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة والانبتات إليه، والميل إلى كل ما قرَّب منه؛ فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقينَ الذي لا يَطُوره شك، والعزم المتمكن، والقوة الفاضلة، فإذا رأت مكانه الشعراء، وفهمتْه الخطباء، ومَن قد تعبَّد للمعاني، وتعوَّد نظمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها واستخراجها من مَدافنها، وإثارتها من أماكنها — علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد حاولوه قليلًا مما يكون منه على البداهة والفُجاءة، من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله، وكانوا مع تلك المقامات والسياسات، ومع تلك الكلف والرياضات لا ينفكون في بعض تلك المقامات من بعض الاستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخَطَل، ومن التفنن والانتشار، ومن التشديق والإكثار، ورأوه مع ذلك يقول: «إياي والتشادق.» و«أبغضكم إليَّ الثرثارون المتفيهقون.» ثم رأوه في جميع دهره في غاية التسديد، والصواب التام، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم — علموا أن ذلك من ثمرة الحكمة، ونَتَاج التوفيق، وأن تلك الحكمة من ثمرة التقوى، ونتاج الإخلاص.

وللسلف الطيب حِكمٌ وخطبٌ كثيرة، صحيحة ومدخولة، لا يخفى شأنها على نُقاد الألفاظ وجهابذة المعاني، متميزة عند الرواة الخُلَّص، وما بلغنا عن أحد من جميع الناس أن أحدًا ولَّد لرسول الله خطبة واحدة، فهذا وما قبله حجة في تأويل ذلك الحديث. ا.ﻫ.

نفيُ الشعر عنه

ونحن نتمُّ القول فيما بدأ به الجاحظ آنفًا، من تنزيه النبي عن الشعر، وأنه لا ينبغي له، فإن الخبر في ذلك مكشوف متظاهر والروايات صحيحة متواترة، وقد قال الله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ. فكان — عليه الصلاة والسلام — لا يتهدَّى إلى إقامة وزن الشعر إذا هو تمثَّل بيتًا منه، بل يكسره ويتمثَّل البيتَ مكسورًا مع أن ذلك لا يعرض ألبتة لأحد من الناس في كل حالاته، عربيًّا كان أو أعجميًّا، فقد يُتعتِع المرء في بيت الشعر ينساه أو ينسى الكلمة منه؛ فلا يقيم وزنه لهذه العلة، ولكنه يمرُّ في أبيات كثيرة مما يحفظه أو مما يُحسن قراءتَهُ؛ فما وزن الشعر إلا نسقُ ألفاظه، فمن أدَّاها على وجهها فقد أقامه على وجهه، ومن قرأ صحيحًا فقد أنشد صحيحًا.

وهذا خلاف المأثور عنه فإنه على كونه أفصح العرب إجماعًا، لم يكن ينشد بيتًا تامًّا على وزنه، إنما كان ينشد الصدر أو العَجُز فحسب؛ فإن ألقى البيتَ كاملًا لم يصحح وزنه بحال من الأحوال، وأخرجه عن الشعر فلا يَلتئم على لسانه.

أنشد مرة صدر البيت المشهور للَبِيد، وهو قوله:

ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ

فصحَّحه، ولكنه سَكَتَ عن عجُزه: «وكل نعيم لا مَحالة زائلُ».

وأنشد البيت السائر لطرفة على هذه الصورة:

ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلًا
ويأتيك من لم تزود بالأخبار

وإنما هو: «ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوّدِ».

وأنشد بيت العباس بن مِرْداس فقال:

أتجعل نهبي نهب العبيـ
ـد بين «الأقرع» وعُيَيْنة٤٦

فقال الناس: بين عيينة والأقرع. فأعادها — عليه الصلاة والسلام: «بين الأقرع وعيينة» ولم يستقم له الوزن.

ولم يجر على لسانه مما صحَّ وزنه إلا ضربان من الرجز: المنهوك والمشطور.٤٧ أما الأول: فكقوله في رواية البَراء: إنه رأى النبي على بغلة بيضاء يوم أُحُد وهو يقول:
أنا النبيُّ لا كذبْ
أنا ابن عبدِ المطلبْ

والثاني: كقوله في رواية جندب إنه دَمِيَت إصبعه فقال:

هل أنتِ إلا إصبعٌ دَميتِ
وفي سبيل الله ما لقيتِ
وإنما اتفق له ذلك؛ لأن الرجز في أصله ليس بشعر٤٨ إنما هو وزن كأوزان السجع؛ وهو يتفق للصبيان والضعفاء من العرب، يتراجزون به في عملهم وفي لعبهم وفي سَوْقِهم، ومثل هؤلاء لا يقال لهم شعراء، فقد يتسق لهم الرَجزُ الكثير عفوًا غير مجهود، حتى إذا صاروا إلى الشعر انقطعوا، وإنما جَعل الرجزَ من الشعر تتابعُ أبياته، وجمعُ النفس عليه، واستعماله في المفاخرات والمماتنات ونحوها، وأنه الأصل في اهتدائهم إلى أوزان الشعر، كما سنفصل كل ذلك في الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب إن شاء الله، فأما البيت الواحد منه، فليس في العرب جميعًا، ولا في صبيانهم وعبيدهم وإمائهم من يأبه له، أو يعده شعرًا، أو يأذن لوزنه، أو يحسب أن وراءه أمرًا من الأمر: إنما هو كلام كالكلام لا غير.

ولقد كانت الأوزان فطريةً في العرب، فهي في الرجز، وهي في السجع، وهي في الشعر، جميعًا، ولم يُعلم أنه اتفق له في الرجز أكثر من بيت واحد، أو تمثل منه بأكثر من البيت الواحد كبيت أمية بن أبي الصَّلْت:

إن تغفِر اللهم تغفر جمَّا
وأي عبدٍ لك لا ألمَّا

وإنما كان له ذلك في الرجز خاصةً دون الشعر؛ لأن الشطرين منه كالشطر الواحد في الوزن والقافية، لا يَبِين أحدهما من الآخر؛ وبخاصة في هذين الضربين؛ المنهوك والمشطور، وهما بعد ذلك كالفاصلتين من السجع، لا يمتازان منه في الجملة إلا بإطلاق حركة الروي، ومن أجل هذه العلة لم يتفق له في غيرهما شيء، وهو كان يُقيم الشطر الواحد من الشعر كما علمت؛ لأن مَجازَه على انفراده مجازُ الجملة من الكلام؛ فلا يستبين فيه الوزن، ولا يتحقق معنى الإنشاد، ولا تتم هيئته من الإيقاع والتقطيع والتشدُّق ونحوها؛ فإذا صار إلى تمام البيت من المِصراع لآخر، وهمَّ الوزن أن يظهر، والإنشاد أن يتحقق، وأوشك الأمر أن يمتاز بما ينفرد به الشعر في خواصه التي تبينه من سائر الكلام — كَسَر وخرج بذلك إلى أن يجعل البيت كأنه جملةٌ مُرْسَلة من الكلام، على ما كان من أمره في الشطر الواحد.

والذي عندنا، أنه لم يُمنع إقامة وزنِ الشعر في إنشاده إلا لأنه مُنع من إنشائه، فلو استقام له وزن بيت واحد؛ لغلبت عليه فطرتُه القوية، فمرَّ في الإنشاد، وخرج بذلك — لا محالة — إلى القول والاتساع وإلى أن يكون شاعرًا، ولو كان شاعرًا لذهب مذاهب العرب التي تبعث عليها طبيعة أرضهم — كما بسطناه في موضعه،٤٩ ولتكلف لها، ونافس فيها، ثم لجاراهم في ذلك إلى غايته، حتى لا يكون دونهم فيما تَستَوْقِد له الحمِيَّة، وما هو من طبع المنافسة والمغالبة، وهذا أمر، كما ترى، يدفع بعضه إلى بعض، ثم لا يكون من جملته إلا أن ينصرف عن الدعوة، وعما هو أزكى بالنبوة وأشبه بفضائل القرآن، ولا من أن يتسعَ للعرب يومئذ بدٌّ، فيُقرَّهم على شيء، ويجاريهم على شيء، وينقض شعره أمر القرآن عروة عروة، ولذا قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ.٥٠

ثم يأتي بعد ذلك جِلَّة أصحابه وخلفائه، يأخذون فيما أخذ فيه، فيمضون على ما كان من أمرهم في الجاهلية، ويثبتون على أخلاقهم وعلى أصول طباعهم ويستطيرُ ذلك في الناس، وهو أمر متى تهيأ نما فيهم، ومتى نما غلب عليهم، ومتى غلب استبدَّ بهم، ومتى استبدَّ لم تقم معه للإسلام قائمة: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى.

فانظر، هل ترى شيئًا غير إلهي في هذا التدبير المحكم والصنع العجيب؟ وهل ترى في ذلك أعجبَ من أن الله تعالى منع نبيه تصحيح وزن الشعر، وجعل لسانه لا ينطلق به؛ إذ وضعه موضع البلاغة من وحيه، ونصبه منصبَ البيان لدينه؛ لأنه تعالى من غيب المصلحة لعباده، أنه لو أقام وزنَ بيت لأمال به عمودَ الدين، ثم لتصدع له الأساسُ الاجتماعي العظيم الذي جاء به القرآن؛ إذ يكون قد بُني على غير أركان وثيقة ولا عِماد مُحكَم.

على أن منع الشعر إنما أُخذ به منذ نشأته، ولولا ذلك ما استقام له على وجهٍ طبيعي ليس فيه ندرة تُعَدُّ؛ فقد نشأ منذ نشأ على بغضه؛ والانصراف عما يُزَيِّن الشيطانُ منه، والنَّفْرةِ من تعاطيه، وعلى أن لا يتوهم شيئًا من أوزانه وأعاريضه حتى يُميتَ الدواعيَ إليه من نفسه، فلا تنزع به الفطرة، ولا تستدرجه العادة، وعظم ذلك عنده وبلغَ، حتى لا يُعرف أحدٌ من العرب كره قولَ الشعر كُرهه، ولا أبغضه بغضَه، مع تأصله في فطرتهم، ونزوعهم إليه بالعِرْق، ونشأة الناشئ منهم على أسبابه من طبيعة الأرض وطبائع أهلها، وعلى أنه لا يفتأ يدور في مسمعه، ويختم في قلبه، ولا يبرح منه راويًا أو حاكيًا، فقد كان حكمةَ القوم وسياستهم ومعدنَ آدابهم وديوان أخبارهم؛ بل كان عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، والصلةَ المحفوظة بينهم وبين ماضيهم، كما سلفت الإشارة إليه في موضعه، ولذا قال : «لما نشأتُ بُغِّضت إليَّ الأوثان وبُغِّض إليَّ الشعر،٥١ ولم أهمَّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، فعصمني الله منهما، ثم لم أعد.»

لا جرم أن ذلك تأديبٌ من الله أراد به تحويل فطرته عن الشعر وقوله، حتى لا تنزع به العادة منزعًا، ولا تذهب في أسبابه مذهبًا، وحتى تستويَ في ذلك ظاهرًا ودِخلةً، فلا يستطرق لها الوهم من باب، ولا يجد إليها مَهْوًى يبلغه، ومتى كان بغض الشعر في نفسه كبغض الأوثان وأن العمل في ذلك بالنسبة إليه كالعمل لهذه، فكيف يمكن أن يبقى له مع هذا كله طبع فيه أو وجه إليه وكيف يتأتَّى أن يكون مثلُ هذا أدبًا أخذ به نفسه ورَاضَهَا عليه، دون أن يكون تأديبًا من الله وتصرفًا منه، تعالى في تكوين نفسه وتهذيب فطرته، وتحويل طبعه، وأن يكون قد منعه في هذا الباب ما لم يمنعه أحدًا من قومه، كما أعطاه في أبواب كثيرة ما لم يعطه أحدًا منهم، وخاصةً إذا عرفتَ أن الشعر قد كان سجية في أهله، وأنه ليس من بني عبد المطلب رجالًا ونساءً من لم يقل الشعرَ غيره وإنما كل ذلك تفسير طبيعي لقوله عليه الصلاة والسلام: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.»

على أنه كان فيما كان وراء عمل الشعر وتعاطيه وإقامة وزنه، يحب هذا الشعر ويستنشده، ويثيب عليه، ويمدحه متى كان في حقه ولم يُعدَل به إلى ضلالة أو معصية، والآثار في هذا المعنى كثيرة لا نطيل باستقصائها، ولولا أن ذلك قد كان منه لماتت الرواية بعد الإسلام، ولما وجد في الرواة من يجعل وَكدَه حملَ الشعر وروايته وتفسيره واستخراج الشاهد والمثل منه، وكأنه — عليه الصلاة والسلام — حين سمع الشعر وأثاب عليه ورخَّص فيه لم يُرد إلا هذا المعنى، والشاهد القاطع قوله في أمر الجاهلية: «إن الله قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته.» وبمثل هذا القول استأنس العلماء، وتجردوا للرواية، وتملأوا منها — رحمهم الله وأثابهم بما صنعوا!

وقد كان له شعراء ينافحون عنه، ويتجارَون مع شعراء القبائل الأحاديث والأفانين، ولم يُقمهم هو ولكن أقامتهم العادة العربية التي جعلت قولهم أشدَّ على بعض العرب من نضح النبل؛ لأنه — عليه الصلاة والسلام — لم يؤمر بالفخر، ولم يُبعث للهجاء، وقد ترك عادة العرب ونخوة الجاهلية في مثل ذلك، ولكنهم لم يتركوها في أول العهد بالرسالة، فكانوا يَهيجون عليه شعراءهم، ويحرضون خطباءهم، ويقصدونه بالأقاويل يستطيلون بها عليه، فإذا أتاه الوفد منهم: كبني تميم حين جاءوه بشاعرهم الأقرع بن حابس٥٢ وخطيبهم عطارد بن حاجب؛ ينادونه من وراء الحجرات: يا محمد، اخرج إلينا نفاخرْكَ ونشاعرْكَ، فإن مَدْحنا زين وذمنا شَين — رماهم بمثل خطيبه ثابت بن قَيْس بن شمَّاس، أو بأحد شعرائه عبد الله بن رَوَاحَة وحسَّان بن ثابت وكعب بن مالك، فضغَموا الشعراء والخطباء، وأبلغوا في الرد عليهم، تأييدًا من الله في المنافحة عن نبيه وردًّا لكيدهم الذي يكيدون.

ولقد كانت السابقة في ذلك لحسان (رضي الله عنه)، وكان ذا لسان ما يسره به مِقْوَلٌ من مَعَدّ، وكأنما زاد الله فيه زيادة ظاهرة؛ وهو الذي قال له النبي : «قل وروحُ القدسِ معك.» فكان إذا أرسل لسانه لم يجدوا له دفعًا، وإذا مسهم بالضر لم يُجد شعراؤهم نفعًا، وإذا وضع منهم لم يستطيعوا لما وضعه رفعًا:

إن كان في الناس سبَّاقون بعدهمُ
فكل سبق لأدنى سبقهم تَبعُ٥٣
لا يرقَع الناسُ ما أوهت أكفُّهمُ
عند الدفاع ولا يُوهُون ما رقعوا
أكرم بقومٍ رسولُ الله شيعتُهم
إذا تفرَّقت الأهواء والشيعُ

تأثيره في اللغة

قد علمتَ مما بسطناه في مواضع كثيرة،٥٤ أن قريشًا كانوا أفصح العرب ألسنة، وأخلصهم لغة، وأعذبهم بيانًا؛ وأنهم قد ارتفعوا عن لهجات رديئة اعترضت في مناطق العرب، فسلمت بذلك لغتهم، وإنَّما كان هؤلاء القوم أنضاد النبي من أعمامه وأهله وعشيرته، ثم علمتَ ما قلناه آنفًا في نشأته اللغوية، وما وصفناه من أمره فيها، وأن له في تلك رتبةً بعيدة المصعد، فلا جَرَم كان على حد الكفاية في قدرته على الوضع، والتشقيق من الألفاظ، وانتزاع المذاهب البيانية، حتى اقتضب ألفاظًا كثيرة لم تُسمع من العرب قبله، ولم تُوجد في متقدم كلامها، وهي بعدُ من حسنات البيان، لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها، وقوة دلالتها، وغرابة القريحة اللغوية في تأليفها وتنضيدها، وكلها قد صار مثلًا، وأصبح ميراثًا خالدًا في البيان العربي، كقوله: ماتَ حتف أنفه٥٥ وقد روي عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: ما سمعتُ كلمة غريبة من العرب — يريد التركيب البياني — إلا وسمعتها من رسول الله وسمعته يقول: «مات حتفَ أنفه.» وما سمعتها من عربي قبله.

ومثل ذلك قوله في الحرب: «الآن حميَ الوَطِيس.» وقوله: «بُعثْتُ في نفس الساعة.» إلى كثير من ذلك سنقول فيه بعد، وهذا ضربٌ عزيز من الكلام يحتذيه البلغاء ويطبعون على قالَبِهِ؛ وكلما كثر في اللغة لانت أعطافه، واستبصَرَتْ طُرُقُ الصنعة إليه، وما من بليغ أحدث في العرَبية منه ما أحدثه النبي فهذه واحدة في الأوضاع التركيبية، وسنبسط القول فيها.

والثانية في الأوضاع المفردة، مما يكون مجازُه مجازَ الإيجاز والاقتضاب؛ وهذا الباب كانت تتصرف فيه العرب بالاشتقاق والمجاز، فتضع الألفاظَ وتنقلها من معنى إلى معنى، غير أنها في أكثر ذلك إنما تتسع في شيء موجود ولا تُوجِدُ معدومًا؛ فلم يُعرف لأحد من بلغائهم وضعٌ بعينه يكون هو انفرد به وأحدثه في اللغة٥٦ ويكون العرب قد تابَعوه عليه، إلا ما ندر ولا يعدُّ شيئًا؛ بخلاف المأثور عنه في مثل ذلك، فهو كثير تعدُّ منه الأسماء والمصطَلَحات الشرعية مما لم يرد في القرآن الكريم؛ ومنه ألفاظ كان العربُ أنفسهم يسألونه عنها ويعجبون لانفراده بها وهم عربٌ مثله؛ كما عجبوا لفصاحته التي اختصَّ بها، ولم يخرج من بين أظهُرهم، كما روي من أنه قال لأبي تَميمة الهُجَيمي: «إياك والمخِيلةَ.» فقال: يا رسول الله، نحن قوم عرب؛ فما المخيلة؟ فقال — عليه الصلاة والسلام: «سَبْلُ الإزار.» ومرت الكلمة بعد ذلك على هذا الوضع، يراد بها الكِبْر ونحوه.
وكثيرًا ما كان يسأل أصحابه عن مثل هذا فيوضحه لهم، ويسدِّدهم إلى موقعه؛ واستمر عصره على ذلك، وهو العصر الذي جمَّت فيه اللغةُ واستفاضت، وامتنع العربُ عن الزيادة فيها بعد أن سمعوا القرآن الكريم وراعتهم أسرار تركيبه؛ فلم يكن يومئذ من يتجوَّز ويقتضب ويشتقُّ ويضع غيره مع أنه كان لا يتأتى إلى ذلك بالروية، ولا يستعين عليه بالفكر، ولا يجتمع بالنظر؛ إنما هو أن يعرضَ المعنى فإذا لفظه قد لبسه واحتواه وخرج به على استواءٍ، لا فاضلًا ولا مقصرًا، كأنما كان يُلهَم الوضع إلهامًا، وليس ذلك بأعجبَ من مخاطبته وفودَ العرب بما كان لهم من اللغات والأوضاع الغريبة التي لا تعرفها قريش من لغتها، ولا تتهدَّى إلى معانيها، ولا يعرفها بعضُ العرب عن بعض، ثم فَهْمِه عنهم مثل ذلك على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، حتى قال له علي (رضي الله عنه) وسمعه يخاطب وَفْدَ بني نَهْد:٥٧ يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فقال — عليه الصلاة والسلام: «أدَّبني ربي فأحسنَ تأديبي.»
ومن ذلك كتبه الغريبة التي كان يُمليها٥٨ ويبعث بها إلى قبائل العرب يخاطبهم فيهم بلحونهم ولا يعدو ألفاظهم وعبارتهم فيما يريد أن يلقيه إليهم، وهي ألفاظ خاصة بهم وبمن يداخلهم ويقاربهم، ولا تجوز في غير أرضهم ولا تسيرُ عنهم فيما يسير من أخبارهم، ولا تأتلف مع أوضاع اللغة القرشية فما ندري أي ذلك أعجب: أن ينفرد النبي بمعرفة هذا الغريب من ألسنة العرب دون قومه وغير قومه ممن ليس ذلك في لسانهم، عن غير تعليم ولا تلقين ولا رواية، أو أن يكونَ قومُه من قريش قد ضربوا في الأرض للتجارة حتى اشتُق اسمهم منها،٥٩ وخالطوا العرب وسمعوا مناطقهم في أرضهم، وحين يتوافَون إليهم في موسم الحج، وهم مع ذلك لا يعلمون من هذا الغريب بعضَ ما يعلمه، ولا يُديرونه في ألسنتهم، ولا يُورِّثونه أعقابَهم فيما ينشأون عليه من السماع والمحاكاة؛ حتى كان هذا البابُ فيه بابًا على حدة، كما يؤخذ كل ذلك من قول علي: «نحن بنو أبٍ واحدٍ ونراك تكلم وفودَ العرب بما لا نفهم أكثره.» فليس العجب في أحد القسمين إلا في وزن العجب من الآخر.

على أنا ننقل كتابًا من هذه الكتب؛ لنعرف الأمر على حقه، ولنميز اللغةَ السهلة التي ذهبت خشونتها وانسحقت في الألسنة، وهي لغة قريش، من هذه اللغات الغريبة التي يجمعها دون قومه، ثم لا تجري في منطقه إلا مع أهلها خاصة؛ ولا تندر في كلامه مع غيرهم، أو تغلب عليه، أو تنقصُ من فصاحته، أو تُضعف أسلوبه، كما هو الشأن في أهل الغريب من هذه اللغة، وفيمن يتباصرون به ويتكلفون لذلك حفظَه وروايتَه، وهم أهل التوعُّرِ والتقعير واستهلاك المعاني، الذين تُسْلمهم إلى ذلك طبيعةُ الغريب نفسه؛ إذ يدور في ألسنتهم ويستجيبُ لهم كلما مَثَلَت معانيه، غيرَ مُجتَلَب ولا مُستكرَهٍ، ويغلبهم على مُرادِفه من الكلام السهل المأنوس؛ لأنهم أكثر رغبةً فيه، وأشد عناية به في الطلب والحفظ والمدارسة؛ ومتى نشطت طبيعة الإنسان لأمر من الأمور، فقد لزمها توفيرُ قِسطِه من المزاولة، وتوفية حقه من العناية به حتى تبلغ منه البلاغَ كلَّه، وحتى يكون هو الغالبَ عليها، وحتى يلزمه منها في حق الاستجابة إليها، ما لزمها منه في حق العناية.

أما الكتابُ الذي أشرنا إليه فهو كتابه لوائل بن حُجر الكِنْدِي، أحد أقيال حَضرَمَوت، ومنه:

إلى الأقيال العَباهلةِ، والأرْواع المشابيب

وفيه:

وفي التيعة شاة لا مُقْوَرَةُ الألياط، ولا ضِنآكٌ، وانْطُوا الثبجة، وفي السُّيُوب الخُمس، ومَن زَنى مِمْ بكر فأصعقوه مائة، واستوفضوه عامًا، ومَن زَنى مِمْ ثيب فضرِّجوه بالأضاميم، ولا توصيمَ في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مُسكر، حرام، وائلُ بن حجر يترفَّل على الأقيال.٦٠
ومن هذا الباب كلامه مع ذي المشعار الهمدَاني، وطِهْفَة النهدي، وقَطَن بن حارثة العُلَيْمي، والأشعث بن قيس، وغيرهم من أقيال حضرموت ورجال اليمن، قد أحصاه أهلُ الغريب وفسَّروه؛ وانظر كتابه إلى همدان، ومنه:
إن لكم فِرَاعَها ووِهاطَها وعَزَازها،٦١ تأكلون عِلَافَها، وتَرعون عَفَاءَهَا؛٦٢ لنا من دفئهم وصِرَامِهم٦٣ ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثّلَبُ والنَابُ والفصيل٦٤ والفارضُ والداجِنُ والكبش الحوَرِي،٦٥ وعليهم فيها الصالغُ والقارح.٦٦

فهذه طائفةٌ يسيرة مما انتهى إلينا من غريب اللغات التي كان يعلمها النبي وإنَّما خرجت عنه هي وأمثالها، مما جمعوه حديثًا كالأحاديث، ورُويت كما فَصَلَتْ؛ ولولا أنها وجهٌ من التاريخ والسيرة، وضرب من تعليم أولئك القوم، لقد كانت انقطعت بها الرواية فلم ينته إلينا منها شيءٌ، فهي ولا ريب لم تكن مجتَلَبَة، ولا متكلفة، ولا ترامى إليها البحث والتفتيش، وإنَّما جرت منه مجرى غيرها؛ مما قذفه الطبع المتمكن، وألفته السليقة الواعية، لا ريب أن وراءها في ذلك الطبع وتلك السليقة، ما وراء ألفاظها من سائر ما انفردت به تلك اللغاتُ عن القرشية، فلا بد أن يكون عليه الصلاة والسلام محيطًا بفروق تلك اللغات، مستوعبًا لها على أتم ما تكون الإحاطة والاستيعاب، كأنه في كل لغة من أهلها، بل أفصح أهلها.

وإنما يحمل هذا على قوة في فطرته اللغوية، تتميز بالإلهام عن سائر العرب من قومه وغير قومه، على النحو الذي اختصت به ذاته الشريفة بالوحي من ربه، والبابُ في كلتا الجهتين واحدٌ أيسره وأكثره.

وإذا كانت تلك فطرته اللغوية، في تمكنها، وشدتها، واستحصافها، وسبيلها إلى الإلهام؛ وانطوائها على أسرار الوضع؛ فانظر ما عسى أن يُحَدَّ من مبلغ أثرها في اللغة وضعًا واشتقاقًا واستجازةً وتقليبًا، وما عسى أن يبلغ القول في مظاهرها من مخارج الكلام ووجه إرساله وإحكام تنضيده واجتماع نسقه؛ ثم تدبَّرْ ما عسى أن تكون جملةُ ذلك قد أثرت في العرب ومناطقها وأساليبها، وهم كما علمتَ أهل الفطرة والسليقة، وإنما أكبر أمرهم في اللغة التوهُّم والنزوع إلى المحاكاة، والمضي على ما توهموا، والأخذ فيما نزعتهم إليه الطبيعة، وعلى ذلك مَبْنَى لغتهم كما فصلناه في بابه.٦٧

فالعربي الفصيحُ منهم، إذا كان جافيًا مُتَوقِّحًا، وكان صافي الحس بليغ الطبع، وكان في قواه البيانية مع ذلك فضلٌ من التصرف — رجَعَ أمره ولا جَرَم إلى أن يكون صاحبَ لغتهم، وإلى أن يكون منطقُهُ فيهم مذهبًا من المذاهب، وإن كانوا لا يعرفونه باللغة وعلمها وتصريفها على الحدود التي يَعْرِفُ بها الناس علماءَهم، وكان هو لا يعرف من نفسه أنه لغويٌّ وأنه واضعٌ؛ إذ ليس من ذلك شيء يسمى عندهم علمًا، إنما هو سمت الفطرة التي تأخذ فيه طبائعهم، ودلالتها التي تهتدي بها وتستقيم عليها لا أكثر من ذلك ولا أقلَّ. ولقد كان هؤلاء العرب أجدَر الناس بأن يقال إن فيهم حاسَّة سادسة، هي حاسة الاهتداء اللغوي، ثم لا يكون هذا القول إلا حقًّا.

وبعد؛ فإنه ليس لنا أن نبسط في الفصل أكثر مما بسطنا، فإن علماءنا ورواتنا — رحمهم الله — لم يوقعوا الكلامَ في أماليهم وكتبهم على حالة اللغة لعهد النبي تعيينًا، ولا دلوا على ما كان له من الأثر في أوضاعها وتقليبها، وعلى ما جاء من قِبَله في ذلك مما كان من قِبَل سواه؛ وعلى ما صارت إليه اللغةُ بعد استفاضة الإسلام والاجتماع على المضرية، إلى ما يُداخِلُ ذلك من أبواب التاريخ اللغوي، وإنما اكتفوا بأنهم إجماع واحدٌ، ويقين لا تحلُّل منه، أنه كان أفصح العرب، وأعلمهم بلغاتها، وأوسعهم في هذا الباب، وأنه لم يأتهم عن أحد من روائع الكلام ما جاءهم عنه، وأن له في كل ذلك المزية البيِّنة، التي تَوَاتَرَ النقلُ، وتظاهَرَ بها الخبرُ، كما أسلفنا بيانه، ثم تركوا أن يتوسعوا في تفصيل ما أجمعوا عليه وأن يعتلوا له بأسبابه، ويعرضوا له من وجوهه، ويستقصوا فيه إلى أوائله، ويأخذوه من نشأته؛ حتى إن الذين وضعوا الكتب الممتعة في علم غريب الحديث، لم يتعرضوا له، ولم يقولوا فيه قولًا، مع أنه مبنى علمهم، وجهة تأليفهم، وله منصب الحجة، وإليه غايةُ الرأي؛ بل اجتزؤوا — عفا الله عنهم — ببيان اللفظ الغريب وتفسيره، وصرفوا أكبر همهم إلى الإكثار من الجمع، وإلى صحة المعنى وجودة الاستنباط، وكثرة الفقه، وإشباع التفسير، وإيراد الحجة، وذكر النظائر، وتخليص المعاني، حتى كانت هذه الكتب كلها كما قال الخطَّابي البُسْتي:٦٨ «إذا حصلت كان مآلها كالكتاب الواحد.»
وما ننكر أن هذا كله حظُّ النقل والرواية، ولكن أين حظ الرأي والدراية؟ وأين مذهبُ الحجة، وأين فائدة التاريخ؟ وأين دليل الفصاحة من اللغات؛ وأين أدلة اللغات من أهلها؟ وهذه فنون لو أن الرواية امتدت بها أو بعضها من عصر النبي ، وكان لعلمائنا رأيٌ محصد في هذا الأمر، وحِسْبةٌ حسنة، ونظر وتدبير. لقد كان الله ارتاح لنا برحمة من عملهم، وأنقذنا من كثير لا نبرح نضطرب فيه آخر الدهر، وهيأ لنا من صنيعهم أسبابًا وثيقة إلى أبواب من فلسفة هذه اللغة وتاريخ آدابها؛ ولكن ذلك قد كان من أمرهم في اللغة خاصةً؛ لما بينَّاه في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب: لم يروا أنه يُسقط شيئًا على من بعدهم، ولا رأوا أنه وَكَفٌ ولا نقصٌ،٦٩ ولا أن في باب الرأي غير ما صنعوا، فأخذوه على الجهة التي اتفقت لهم، وجاءوا به من عصرهم لا من عصره.

وقد كان هذا الشأن قريبًا منهم لو أرادوه، وذلك الأمرُ مُوطَّأ لهم لو اعتزموا فيه؛ ولكنه فوتٌ قد فات، وعملٌ قد مات، وأملٌ لزِمَتْه هيهات … فلم يبق لنا من بعدهم إلا أن نصنع كما صنعنا؛ فنأخذ بالجملة دون تفصيلها، ونصلَ القولَ بين الأسباب وما تسببت له، ونعتلَّ لما جاء عن النفس بما هو في تركيب النفس ونسترْوِحَ إلى ما أجمعوا عليه بالحجة التي ينصبُها الإجماعُ ويشدُّها الاتفاق. ومهما أخطأنا من ذلك لم يُخطئنا الكشفُ عن أصل المعنى وثبتِه ووجهِ مذهبه، وفي هذا بلاغ، ثم لا يكون قد فاتنا في مثل هذا الفصل إلا ضربٌّ من الكمال في التأليف، وبابٌ من التطوع في العمل، وإنما وجهُ الحقيقة في ذلك الأصل لا في الأمثلة، ومظهر الواجب في الفرض وحده، وكم وراء الفرض من نافلة.

نسق البلاغة النبويَّة

قد قلنا في بيان أسلوب كلامه أنه أسلوب منفرد في هذه اللغة، قد بان من غيره بأسباب طبيعية فيه، وأن ما أشبهه من بلاغة الناس في الكلمات القليلة والجمل المقتَضبَةِ، لا يشبهه في العبارة المبسوطة، ولا يستوي له الشبَهُ مع ذلك في كل قليل ولا في كل مُقْتَضَب، حتى يقع التنظير بين الأسلوبين على الكفاية، وحتى يميل الحكم إلى الجزم بأن بعض ذلك كبعضه: بلاغةً ونسقًا وبيانًا.

ونحن الآن قائلون في نَسَق هذا الأسلوب؛ ليتأدَّى بك القول إلى صميم مذهبه، وينتظم هذا القول بعضه ببعض.

إذا نظرت فيما صح نقلُه٧٠ من كلام النبي على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيتَه في الأولى مُسدَّدَ اللفظ مُحكَم الوضع جَزْلَ التركيب. متناسِبَ الأجزاء في تأليف الكلمات: فخمَ الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه واللفظ وضريبه في التأليف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفًا مضطربًا؛ ولا لفظةً مستدعاةً لمعناها أو مستكرهة عليه؛ ولا كلمةً غيرُها أتمُّ منها أداءً للمعنى وتأتيًا لسره في الاستعمال، ورأيتَه في الثانية حسنَ المعرِض، بيِّنَ الجملة، واضحَ التفصيل، ظاهِرَ الحدود، جيدَ الرَّصْفِ، متمكن المعنى؛ واسع الحيلة في تصريفه، بديعَ الإشارة، غريبَ اللمحة، ناصعَ البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهًا، ولا ترى اضطرابًا ولا خطلًا، ولا استعانة من عجز، ولا توسعًا من ضيق، ولا ضعفًا في وجه من الوجوه.

وهذه حقيقةٌ راهنةٌ؛ دليلُها ذلك الكلام نفسُهُ بجملته وتفصيله، لا يجهلها إلا جاهل، ولا يغفُل عنها إلا غافل، فإذا أنت أضفت إليها ما هناك، من سمو المعنى، وفصل الخطاب، وحكمة القول، ودنوِّ المأخذ، وإصابة السرِّ، وفضلِ التصرف في كل طبقة من الكلام، وما يلتحق بهذه وأمثالها من مذهبه في الإفصاح، ومنحاه في التعبير، مما خُصَّ به دون الفصحاء، وكان له خاصةً، من عظمة النفس، وكمال العقل، وثُقُوب الذهن ومن المنزعَة الجيِّدة، واللسان المتمكن — رأيتَ من جملة ذلك نسقًا في البلاغة قلَّما يتهيأ في مُثُول أغراضه وتساوُقِ معانيه لبليغ من البلغاء؛ إذ يجمع الخالصَ من سر اللغة ومن البيان ومن الحكمة — بعضها إلى بعض.

أما اللغةُ: فهي لغة الواضع بالفطرة القوية المستحكمة، والمتصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأما البيان: فبيان أفصحِ الناس نشأة، وأقواهم مذهبًا، وأبلغهم من الذكاء والإلهام، وأما الحكمة فتلك حكمة النبوَّة، وتبصيرُ الوحي وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانية.

وأين من ذلك الفصحاء والبلغاء وأنَّى لهم؛ وما قطُّ عرفنا بليغًا سَلِمت له جهاتُ الصنعة في كلامه — من اللغة والبيان والحكمة — على أتمها، بحيث لم يَزِغْ عن قصد الطريقة، ولا تحيَّفَتْه إحدى هذه الثلاث بإدخال الضَّيْم على أختيها في كلامه واستبانةِ أثرها فيه وغلبتِها عليه، وإنَّما جهد المُمَرَّن من هذه الفئة: أن يصنعَ الصنعةَ، ويَغْلُوَ في الإتقان، ويبالغَ في التهذيب والتنقيح، ويعملَ بما وسعه لتخليص كلامه، ويتلوَّمَ على ذلك٧١ ويتقدم فيه ويتأخر متأملًا ههنا وههنا من أعطافِ الكلام، ثم هو بعد ذلك إن سلمت له الحكمة لم تسلم له صنعة اللغة في حسِّ الهداية إلى الاستعمال والتمكن منه، وإن خَلصَت له هذه لم يخلص إلى أسرار البيان في تركيبها وتنضيدها، فإن هو أفضى إليها لم يخلص إلى النادر منها، مما يُخرجُ الكلامَ في قبوله وحسن معرضه وصفاء رونقه ودقة تأليفه كأنه وضعٌ تركيبي مُرتَجَل، له غرابة الارتجال في الوضع المفرد الذي هو من أصل اللغة، فإن قوة البيان إنما هي في هذه الغرابة وفي جهتها ومقدارها على ما عرفته من قبل.
ومن أجل ذلك تقرأ كلام البليغ من الناس، فترى الصنعة المحكمة، والطبع القوي، والصقلَ البديع، واللفظَ المونَقَ، والحكمةَ الناصعةَ، ولكنك تصيب أكثر ذلك أو عامته على وجهه كما هو، ليس فيه سرٌّ من أسرار البيان، ولا دقيقةٌ من أوضاع اللغة، ولا غرابةٌ من التركيب تتحير فيها، وتقف عندها وتعطفُ برأيك عليها كلَّمَا هممتَ أن تمضيَ في الكلام، وتُرَدِّد نظرك في مصادرها ومواردها، على إصابتك من الصناعة، وبلوغك من الأدب، ورسوخك في حكمة البلاغة، فإنَّ البصير بذلك ليَمُرُّ في كلام البلغاء مرًّا، لا يعدو أن يستحسنه وُيعجَبَ به ويستمرئ أسلوبه، حتى إذا انتهى إلى وجه من وجوه هذه الغرابة البيانية رأى في الكلام عقلًا من العقول تنطوي عليه الأحرف القليلة، وكأنه يكاشفه بنفسه، وقد ثَبَتَ على نظره كما تثبت العاطفةُ، فما يعفو ولا يضمحلُّ٧٢ حتى يكون هذا المتبيّن الذي يطلب أسرار الكلام قد وقف عنده ذاهلًا، وحبسَ عليه الفكرَ يتأمل به فرق ما بين عقله وهذا العقل، ويَروزُ نفسه٧٣ منه مختبرًا، ويتعرَّف من تلك الأحرف القليلة مسافة ما بين العجز والقدرة إن كان عاجزًا عن مثله، أو ما بين قوة وأخرى إن كان قادرًا عليه؛ فكأن اللفظة الواحدة من تلك الجملة إنما هي مقياس للنبوغ والابتكار، وكأن الجملة ليست كلامًا من الكلام، ولكنها سرٌّ من أسرار النفس يُلقي إليه شغلًا طويلًا لم يكن هو من قبلُ في سبب من أسبابه، وما كان إلا في أحرفٍ وكلماتٍ يَنشرُ منها ويطوي، فقد صار إلى كلمات مسحورة تَنشر هي من نفسه وتطوي.

هذا، على أن كلامه ليس مما تكلَّف له، ولا داخلته الصنعة، ولا كان يَتلوَّم على حَوكِهِ وسَردِه، ولكنه عَفوُ البديهة، ومُسَاقَطَةُ الحديث، مما يجريه في مُنَاقلةِ الكلام ومَساق المحاضرة، وإنه مع ذلك لعلى ما وصفنا وفوق ما وصفنا، فقد تراه وما يتفق فيه من الأوضاع التركيبية الغريبة، وتعرف أن ذلك شيء لم يتفق مثلُه في هذا الباب لشاعر ولا خطيب ولا كاتب على إطالة الروية، ومراجعة الطبع، والغلوِّ في الصنعة، وعلى أن لهم السَّبكَ الخالصَ والمعدنَ الصريحَ، والبيانَ الذي يتفجَّر في الألسنة لرقته وعذوبته واطِّراده.

والبليغ من البلغاء في صنعته وبيانه، كالشجرة المُورِقة في رُوَائها ونضرَتها حتى تتَّسق له أسبابٌ من هذه الأوضاع البيانية، وتستقل له طريقة في عَقدها وإخراجها، فيبلغ أن يكون مثمرًا، والثمر بعدُ متفاوِتٌ في أشجار البلاغة، نُضْجًا وماءً وحلاوة وكثرةً، وما أثمرت من ذلك بلاغةٌ غربية ما أثمرته بلاغة السماء في القرآن الكريم ثم بلاغة الأرض في كلامه ، والناسُ بعد ذلك أجمعوا حيث طاروا أو وقعوا.

فمن هذه الأوضاع قوله عليه الصلاة والسلام: «ماتَ حتف أنفِه.» وقد شرحناه فيما مر بك، وقوله في صفة الحرب يوم حُنيْن: «الآن حَمِي الوطيس.» والوطيسُ: هو التنور مجتمعُ النار والوقود، فمهما كانت صفة الحرب، فإن هذه الكلمة بكل ما يقال في صفتها، وكأنما هي نار مشبوبة من البلاغة تأكل الكلامَ أكلًا، وكأنما هي تمثل لك دماءً نارية أو نارًا دموية!

وقوله في حديث الفتنة: «هدْنَةٌ على دَخن.» والهدنة: الصلح والموادعة، والدخن: تغير الطعام إذا أصابه الدُّخَان في حال طبخه فأفسد طعمه.٧٤

وهذه العبارة لا يَعدلها كلام في معناها، فإن فيها لونًا من التصوير البياني لو أُذيبت له اللغة كلها ما وفت به، وذلك أن الصلح إنما يكون موادَعة ولينًا؛ وانصرافًا عن الحرب، وكفًّا عن الأذى؛ وهذه كلها من عواطف القلوب الرحيمة، فإذا بُنِيَ الصلح على فساد، وكان لعلةٍ من العلل، غلب ذلك على القلوب فأفسدها، حتى لا يُستروَح غيرُه من أفعالها، كما يغلب الدَّخَنُ على الطعام، فلا يجد آكله إلا رائحة هذا الدخان، والطعامُ من بعد ذلك مشوبٌ مُفسَد.

فهذا في تصوير معنى الفساد الذي تنطوي عليه القلوب الواغرة،٧٥ وثم لون آخر في صفة هذا المعنى، وهو اللون المظلم الذين تنصبغ به النية «السوداء»، وقد أظهرته في تصوير الكلام لفظة «الدخن».

ثم معنى ثالث، وهو النكتة التي من أجلها اختيرت هذه اللفظة بعينها، وكانت سرَّ البيان في العبارة كلها، وبها فَضَلَت كلَّ عبارة تكون في هذا المعنى، وذلك أن الصلح لا يكون إلا أن تَطْفَأَ الحربُ. فهذه حربٌ قد طفئت نارها بما سوف يكون فيها نارًا أخرى. كما يُلقى الحطب الرطبُ على النار تخبو به قليلًا، ثم يستوقِد فيستَعِر فإذا هي نارٌ تلظَّى، وما كان فوقه الدخان فإن النار ولا جَرَمَ من تحته. وهذا كله تصوير لدقائق المعنى كما ترى، حتى ليس في الهدنة التي تلك صفتُها معنى من المعاني يمكن أن يُتَصَوَّر في العقل إلا وجدتَ اللون البياني يصوِّره في تلك اللفظة لفظة «الدَّخَن».

ومنها قوله — عليه الصلاة والسلام: «بعثتُ في نَفَس الساعة» يريد أنه بُعث، والساعة قريبة منه. فوصفَ ذلك باللفظة التي تدل على أدق معاني الحس بالشيء القريب، وهي «لفظة النَّفَس» كما يحسُّ المرء بأنفاس من يكون بإزائه ولا يكون ذلك إلا على شدة القرب، وإنَّما أفرد اللفظة ولم يقل: «بعثت في أنفاس الساعة.» لأنها نفخة واحدة، وهذا معنى آخر فإن النفخة الشديدة متى جاءت من بعيد كانت كالنَّفَس من الأنفاس، وليس المراد من قرب الساعة أنها قَدَرُ اليوم أو غدٍ على التعيين، ولكن المراد أنها آتية لا ريب فيها، وأن ما بقي من عمر الأرض ليس شيئًا فيما مضى، وأن لا نظام لإنسان الدنيا إلا أن يتمثل في نفسه إنسان الآخرة؛ فالساعة من القرب كأنها من كل إنسان في آخر أنفاسه، وهذا كله قد أصبح اليوم من الحقائق التي لا مِرْية فيها.

وفي تلك اللفظة معنًى ثالث، كأنه يقول: إن عمر الأرض كان طويلًا فكانت الساعة بعيدة ثم قَصُرَ هذا العمر فبدأت الساعة تتنفَّس: وما يدرينا أنه قد حان أجل الأرض كما يحين أجل النهار عندما تبدأ الدقيقة الأولى من ساعة الغروب، ثم لا ينقضي هذا الأجل إلا في الدقيقة الأخيرة من هذه الساعة؟

وبقي معنى رائع في لفظة «النفس» أيضًا؛ وذلك أنه يقال على المجاز: فلان في نفس من ضيقه، إذا كان في سَعَةٍ ومندوحة وقد عَرَفَ الضيقَ ما هو بعد أن شدَّ عليه وكتم أنفاسه! فيكون التأويل على ذلك، أن الساعة آتيةٌ وأنها قريبة، وأنها تكاد تكون ولكن البعثة في نفس منها، فليعمل الناسُ لآخرتهم فإنه يوشِكُ أن لا يعملوا؛ ثم ليعمُرُوا أنفسهم قبل أن يعمروا أرضهم: فإن الساعة تطوي هذه وتنشر تلك.

ومن تلك الأوضاع قوله : «كل أرضٍ بِسِمَاتِهَا.» وقوله: «يا خيل الله اركبي.» وقوله: «لا تنتطح فيها عنزان.»٧٦
وقوله لأنجشةَ، وكان يسير بالنساء في هوادجهنَّ، وهو يحدو بالإبل ويُنْشِدُ القريض والرَّجر. فتنشط وتجدُّ وتنبعث في سيرها فتهتز الهوادج وتضطرب النساء فيها اضطرابًا شديدًا فقال له — عليه الصلاة والسلام: «رُوَيدك رفقًا بالقوارير.»٧٧
وقوله في يوم بدر: «هذا يومٌ له ما بعده.»٧٨ إلى أمثالٍ لذلك كثيرة؛ لو أردنا أن نستقصي في جمعها وفي شرحها واستنباط وجوه البيان منها، لطال بنا القول جدًّا ورجع أمر هذا الفصل أن يكون في معنى التأليف كتابًا برأسه وإن كنا لا نلتزم إلا جهة البيان وحدها.
وكل ذلك من الأوضاع التي ابتدعها أفصح العرب في هذه اللغة ابتداءً ولم تُسمع من أحد قبله، ولا شاركه في مثلها أحد بعده، وكل كلمة منها كما رأيت لا يعدلها شيء في معناها، ولا يفي بها كلام في تصوير أجزاء هذا المعنى وانتظام هذه الأجزاء ونفض أصباغها عليها، وهذا الضرب من الكلام الجامع هو الذي يمتاز البليغ في كل أمة بالكلمة الواحدة من مثله، أو الكلمتين، أو الكلمات القليلة، ولو ذهبت تُحصيه في العربية ما رأيته إلا معدودًا، على حين أن خطباءها وشعراءها وكتابها وأدباءها لا يأخذهم العدُّ، وقد انفردت بكثرتهم هذه اللغة خاصة، حتى لا تساويها في ذلك لغة أُمة من الأمم فإن كان لأضخم هذه الأمم بعض شعراء فلنا بعضٌ وكلٌّ، وإن عدُّوا لنا واحدًا «صفَّرْناه» ولا فخر.٧٩
وقلما يتفق ذلك الضرب من الكلام في العربية على مثل ما رأيت من الغرابة البيانية، إلا في القرآن الكريم والبلاغة النبوية، وهذه كتب الأدب ودواوين الشعر والرسائل بين أيدينا؛ فخذ فيها حيث شئت فإنه كلأٌ: حابسٌ فيه كمُرْسِل.٨٠

على أن أعجب شيء أنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما في القرآن، رأيت الفرق بينهما في ظاهره كالفرق بين المعجز وغير المعجز سواءٌ، ورأيت كلامه في تلك الحال خاصة مما يُطمع في مثله، وأحسست أن بين نفسك وبينه صلةً تطوِّعُ لك القدرة عليه وتَمُدُّ لك أسباب المطْمَعَةِ فيه، بخلاف القرآن، فإنك تستيئس من جملته، ولا ترى لنفسك إليه طريقًا ألبتة؛ إذ لا تحس منه نَفْسًا إنسانية، ولا أثرًا من آثار هذه النفس، ولا حالةً من حالاتها حتى تأنسَ إلى ذلك على التوهُّم، ثم تتوهَّم ثم الطمع والمعارضة من هذه الأنَسَة، فتُمضيَ عزمكَ وتقطعَ برأيك، وتبتَّ القول فيه — كما يكون لك في قراءة الكلام الإنساني، فإن جميع هذا الكلام الآدمي منهاجٌ، ولجملته طريق؛ وحدود البلاغة التي تفصل بعضه عن بعض كلها مما يوقف عليه بالحسِّ والعيان، ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها في السبك والصنعة والغرابة.

بَيْدَ أن ذلك مما لا يُستطاع في القرآن ولا وجه إليه بحال من الأحوال، فما هو إلا أن تقرأ الآية منه حتى تراها قد خرجت من حد المألوف، وانسلَّت منه وفاتت سَمت ما قدَّرتَ لها من مطلع ومقطع، فمهما وجدت لا تجد سبيلًا إلى حدِّها، ومهما استطعت لا تستطيع أن تقرن بها كلامًا تعرف حدَّه في البلاغة، إن لم يكن بالصنعة فبالحسِّ.

وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز في القرآن، وقد جاء من طبيعة تركيبه وأنه لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية، وعليه قولُ الجاحظ في «كتاب النبوة» وإن كان لم يهتد إلى تعليله: «لو أن رجلًا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم — أي العرب — سورة قصيرة أو طويلة، لتبيَّن له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابَعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدَّى بها أبلغَ العرب لأظهر عجزه عنها.»

ولا يُقذَفَنَّ في رُوعِك أنه وهو أفصح العرب، لو قد تصنع في شيء من كلامه؛ وتكلف له، وتأتَّى لوجوه البلاغة المعجزة فيه، من التركيب البياني، والاختراع اللغوي وما إليهما — لجاء منه بما عسى أن يطابق القرآن في نظمه وإحكامه، وفي كل ما به صار القرآن معجزًا — تتوهم ذلك للذي يكون من جمع النفس القوية، وكدِّ الذهن الصحيح، والتوفر بأسباب الفطرة والصنعة على عمل هذا أمره وشأنه؛ فإنه — عليه الصلاة والسلام — لو اتفق له كذلك — على فرض أن يتفق — لخرج مخرج غيره من فصحاء العرب، قولًا واحدًا؛٨١ لأن ما كان على حكم الغريزة لا ينزل على حكم الصنعة، وإنَّما نوادر الفصاحة والبيان من هذه التراكيب الغريبة عملٌ لا تبلغ فيه الحيلة؛ ولا يُؤتيه البحث والنظر وتعاطي هذه الصناعة الفلسفية التي تُنفِذُ شيئًا من شيء وتهيِّئ مادة من مادة، بل كل ذلك في حكماء البلاغة إنما هو شعر القريحة البيانية، وهو ضربٌ من الإلهام، يقوى بقوة الاستعداد له، ويكثر بكثرة أسبابه في النفس فلا يتعاطاه أهله بالصنعة الكلامية ولو وقعوا في ملءِ رءوسهم منها،٨٢ ولا يمكن أن تنفذ فيه قواعد التأليف البياني التي تصف البلاغة وضروبها وأسرارهَا؛ بل هو يتفق لهم اتفاقًا على غير طريقة معروفة ولا وجهٍ يسلكونه إليه، وقد يعسُرُ على أبلغ الناس في حين قد تيسَّر له بأسبابه، واتَّجه إليه بالرغبة، وجَمَعَ عليه النفسَ الحريصة، وحَسِبَه مُنْقَادًا فإذا هو عنانٌ لا يُملك.٨٣
ولو أن هذا الضربَ كان مما يجدي فيه الاحتفال، وتبلغ منه الروية ويُحتالُ عليه بالنظر والتثبت، كسائر ضروب الكلام — لقد كان البلغاء ابتذلوه ونالوا منه وصاروا فيه إلى الغاية، مع أنه غصَّةُ الريق التي لا يُعْتَصَر منها،٨٤ وإنَّما يبعثها قدرٌ، ويسيغها قدَرٌ، ومع أن الحرف الواحد منه في باب الاستعارة أو المجاز أو الكناية أو نحوها إذا اتفق لأحدهم كان أميرَ كلامه، والواسطةَ في نظامه، والدليل على إلهامه.

فهذه واحدة، والثانية: أنه لو اتفق له كذلك — على فرض أن يتفق — لما استطاع أن يتجرد من نفسه الكلامية، التي من شأنها أن تُطْمِع غيره في كلامه، وتجعله أبعدَ الأشياء عن مظنَّةِ الإعجاز بجانب الكلام المعجز، والتي من شأنها أن تزيده هو نفسَهُ يأسًا كلما تمثَّلت له في الكلام، ورأى ألفاظه تتنفَّس تنفُّسًا آدميًّا، بجانب تلك الألفاظ التي تهبُّ هبوبًا كأن لها جوًّا فوق كون من اللغة.

وليس الأمر في هذه المعارضة — كما علمت — إلى مقدار الهمة في بُعْدِها وقِصَرها، ولا مبلغ الفطرة في شدتها واضطرابها، ولا حالة البليغ في احتفاله ومُهَاوَنَتِه؛ بل هو أمرٌ فوق ذلك أجمع، وليست هذه الهمة وهذه الفطرة وهذه الحالة مما تُوجِدُ في نفس الإنسان غير صفاتها الإنسانية بالغةً ما بلغت ونازلةً حيث تنزل، فإن كل أمر لا يوَطَّأ له بأسبابه لا تُحْدِثُه غيرُ أسبابه، وما عرفَ الناسُ يومًا من الدهر أن قوة الخلق ظهرت في مخلوق، ولا أن إنسانًا أخرج من نفسه غير ما في نفسه.

ومن خواصِّ القرآن العجيبة، أن كل فصيح يحتفل في معارضته لا يزيده الاحتفال إلا نقصًا من طبيعته، وذَهابًا عن قصده وسَنتِه، فكلما اندفع إلى ذلك ارتدَّ بمقدار ما يندفع، وكلما كدَّ طبعهُ رأى من تبلُّده على حساب ما يكِدُّه، فإذا ترك ذلك حينًا فعفا من تعبه٨٥ وتراجع إليه الطبع ثم عاد، كانت الثانية أشدَّ عليه من الأولى؛ لأنه كلما طمع أسرع به ذلك أن يتحقق اليأس، وهكذا حتى يكون هو أولَ من يتهم نفسَه بالعجز، ويرمي طبعَه بالاختبال، ويصفُ كلامه بالنقص، فإنه إنما يطمح في تلك المعارضة إلى شيء من غير طبعه، فلا يرضى لها بشيء من طبعه، ومتى كان ذلك منه، لم يترك نفسه وشأنَها، بل يمنعها مما تُنازعُ العملَ عليه، ويرُدُّها عن وجهها ويشقُّ عليها في النزوع، ويُكدِّرُ بها تكديرًا يُفسد عليها كلَّ ما هي فيه من ذلك العمل، فليست تجد منه أبدًا إلا متعنِّتًا صعبًا يسومها ويحملُ عليها غير ما تطيق، وليس يجد منها أبدًا إلا طريقة معروفة وقوة محدودة وإلا ما صُنِعَت عليه ونشأت فيه.

فإذا طال ذلك به وبها، أماتَ حركتها ونشاطها، وترامى بها إلى العجز وضَرَبَها باليأس والقنوط، فذهب منه ما كان في طوقه وقوته من البلاغة في سبيل ما ليس في طوقه وقوته، وأكدَى طبعُه فيما كان ينجحُ فيه، وتَبَدَّل من شأنه الأول شأنًا ثانيًا كيفما أداره رآه سواءً غير مختلف، وذلك كلُّه من غير أن يكون هناك إلا قوة القرآن المعجزة، وقوة نفسه العاجزة، وهذا معنى قد وقع تفصيله في موضعه ومر في بابه، فلا حاجة بنا إلى الزيادة منه بأكثر مما سلف.

وضَرْبٌ آخر من الأوضاع التركيبية في بلاغة النبي غيرَ ما مرت مُثُلُهُ من ذلك النحو الذي يكون مُجتمعًا بنفسه منفردًا في الكلم القليلة. وهذا الضرب يتفق في بعض الكلام المبسوط، فتقوم اللَّمْحَة منه في دلالتها بأوسع ما تأتي به الإطالةُ، وتكفي من مرادفة المعاني وتوكيدها ومقابلتها بعضها ببعض، فيكون السكوتُ عليها كلامًا طويلًا، والوقوف عندها شأوًا بعيدًا، وهو قليل في كلام البلغاء إلى حدِّ الندرة التي لا يُبنى عليها حكم، ولكنه كثيرٌ رائع في البلاغة النبوية، لما عرفْتَ من أسباب قلة كلامه فإن هذه القلة إن لم تنطوِ على مثل هذا الضرب الغريب، لا تفي بالكثرة من غيره، ولا تُعَدُّ في باب التمكين والاستطاعة، ولا يكون فضلُها في الكلام فضلًا، ولا يُعْرفُ أمرها في البلاغة أمرًا.

فمن ذلك حديث الحُدَيْبِيَة،٨٦ حين جاءه بُدَيل بن ورقاء يتهدَّدُه ويحذِّره فقال له: إني تركت كعبَ بن لؤَي بن عامر بن لؤي، معهم العُوذُ المطافيل٨٧ وهمُ مُقاتلوكَ وصادُّوك عن البيت. فقال له النبي : «إن قريشًا قد نهكتْهم الحرب٨٨ فإن شاءوا ماددناهم مُدة ويدَعوا ما بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخلَ فيه الناس وإلا كانوا قد جمُّوا، وإن أبَوْا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفَتي هذه،٨٩ وليُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه.»

فتأمل قوله — عليه الصلاة والسلام: «حتى تنفرد سالفتي هذه.» وكيف تُصوِّر معنى الانفراد الذي لا يستوحش منه؛ لأن الثقة فيه بالله، والقلة التي لا يخاف منها؛ لأن الكثرة فيها من الله، والاستماتة التي لا تَرَدُّد معها؛ لأن الأمر فيها إلى الله. وانظر كيف تصف العزيمة الحذَّاء، وكيف تقرَعُ بالوعيد والتهديد، وكيف تُغني في جواب القوم ما لا تغنيه الرسائل الطوال، حتى لتقطعُ الشهادة عليها قطعًا بما في نية صاحب الجواب من عَزْم أمره ووثاقة عَقْدِهِ، فكأنها صورة واضحة لما استقر في نفسه من كل ما عسى أن يَرجعه جوابًا، وما عسى أن يتهيأ له في باب الحزم، وإنَّها لكلمة بمعركة!

ومن هذا الباب قوله : «من همَّ بحسنةٍ ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عمِلها كتبت له عشرًا، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه؛ فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك.» فتأمل هذا التذييل العجيب، فإنك لا تقضي منه عجبًا، ولَن يعجز إنسان أن يهم بالخير، يفعله أو لا يفعله، وأن ينزع إلى الشرِّ فيمسك عنه، فإن عجز حتى عن هذا فما فيه آدمية، ورحمة الله تنال الإنسان بأسباب من خيره ومن شره إذا كان فيه الضمير الإنساني، وهذا في الغاية كما ترى.

فصل

أما فيما عدا هذين النوعين من الأوضاع التركيبية، فإن نَسَقَ البلاغة النبوية يمتاز في جملته بأنه ليس من شيء أنت واجدُهُ في كلام الفصحاء وهو معدودٌ من ضروب الفصاحة ومُتَعلَّقاتها — إلا وجدتَه في هذا النسق على مقدارٍ من الاعتبار يفرِدهُ بالميزةِ، ويخصه بالفضيلة؛ لأن كلامه في باب التمكن لا يَعدِله شيء من كلام الفصحاء، فلا تلمحُ في جهة من جهاته ثَلْمَةً يقتحم عليه الرأيُ منها وتنساب فيها الكلماتُ التي هي من لغة النقد والتزييف أو بعضُ هذه الكلمات، أو أضعفُ ما يكون من بعضها؛ إذ هو مبني على ثلاثة: الخلوصُ، والقصدُ، والاستيفاء.
  • (١)

    أما الأول: فهو في اللغة ما علمتَ، وفي الأسلوب ما عرفتَ مما وقَّفناك عليه، وهو منفرد فيهما جميعًا؛ لأنه لم يكن في العرب — ولن يكون فيمن بعدهم أبدَ الدهر — من ينفذُ في اللغة وأسرارها وضعًا وتركيبًا، ويستعبدُ اللفظ الحر، ويحيط بالعتيق من الكلام، ويبلغ من ذلك إلى الصَّميم على ما كان من شأنه ولا نعرف في الناس من يتهيأ له الأسلوب العصبيُّ الجامعُ المجتمعُ على توثق السرد وكمال الملاءمة، كما تراه في الكلام النبوي. وما من فصيح أو بليغ إلا وهو في إحدى هاتين المنزلتين دون ما يكون في الأخرى على ما يلحقه من النقص فيهما جميعًا إذا تصفَّحتَ وجوهَ كلامه وضروب الفصاحة فيه، واعتبرتَ ذلك بما سلف؛ وأبلغُ الناس من وُفِّق أن يكون في المنزلة الوسطى بين منزلتيه .

  • (٢)

    وأما القصدُ والإيجاز والاقتصار على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه ومن طبيعة الألفاظ في معانيها، ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام وجهتيهِ «اللفظية والمعنوية» — فذلك مما امتازت به البلاغة النبوية حتى كأن الكلام لا يعدو فيها حركةَ النفس، وكان الجملة تُخلق في منطقه خَلْقًا سَوِيًّا، أو هي تُنتَزَع من نفسه انتزاعًا، وهذا عجيب حتى ما يمكن أن يعطيهُ امرؤ حظه من التأمل إلا أعطاه حظَّ نفسه من العجب، وإنَّما تم في بلاغته بالأمر الثالث.

  • (٣)
    وهو الاستيفاء، الذي يخرج به الكلام — على حذف فضوله وإحكامه ووجازَته — مبسوطَ المعنى بأجزائه ليس فيها خِدَاجٌ٩٠ ولا إحالة ولا اضطرابٌ حتى كأن تلك الألفاظ القليلة إنما رُكِّبت تركيبًا على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعتُه في النفس، فمتى وعاها السامع واستوعبها القارئ، تمثل المعنى وأتمه في نفسه على حسب ذلك التركيب، فوقع إليه تامًّا مبسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنى جَمُومًا٩١ لا ينقطع به ولا يكبو دون الغاية، كأنما هذا الكلام قد انقلب في نفسه إحساسًا لنظر معنوي.

وهذا ضربٌ من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة التي تُذعِن لها النفوس وتتصرف معها، وقلَّما يستحكم لامرئ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجة، فهو على حقيقته مما لا تعين عليه الدُّرْبَة والمزاولة إلا شيئًا يسيرًا لا يستوفي هذه الحقيقة، ولا يمكن أن تجعله المزاولةُ فيمن ليس من أهله كما هو في أهله، ولأمر ما قال أفصح العرب : «أعطيت جوامعَ الكلم.» وفي رواية «أوتيتُ»، وكان يتحدث في ذلك بنعمة الله عليه، فما هو اكتساب ولا تمرين، ولا هو أثرٌ من أثرهما في التفكير والاعتبار، ولا هو غايةٌ من غايات هذين في الصنعة والوضع، إنما هو «إعطاءٌ وإيتاء»، فمن لم يُعطَ لم يأخذ، ومن لم يأخذ لم يكن له من ذلك كائنٌ ولم تنفعه منه نافعة.

ولاجتماع تلك الثلاثة في كلامه وبناء بعضِها على بعض، سَلم هذا الكلامُ العظيم من التعقيد والعِيِّ والخطل والانتشارِ، وسلمتْ وجوهه من الاستعانة بما لا حقيقة له من أصول البلاغة: كالمجاز البعيد الذي يغوصُ إلى الأعماق الخيالية، وضروب الإحالة، وفساد الوضع المعنوي، وفنون الصنعة، وما إليها مما هو فاشٍ في كلام البلغاء، يعين جفاء البداوة على بعضه، ورقة الحضارة على بعضه، وهو في الجهتين بابٌ واحد.

ولذلك السبب عينه كثر في البلاغة النبوية هذا النوع من الكلم الجامعة التي هي حكمة البلاغة، وهو غير ذلك النوع الذي قلنا فيه، مما تكون غرابته من تركيب وضعه في البيان، ثم هو أكثر كلامه كقوله:
«إنما الأعمال بالنيات.»
«الدين النصيحة.»
«الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمورٌ متشابهات.»
«المُضْعِفُ أمير الرَّكب.»٩٢

وقوله في معنى الإحسان:

أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

وقوله:

«لا تجنِ يمينك عن شمالك.»
«خير المال عين ساهرة لعين نائمة.»
«آفة العلم النسيان، وإضاعتُه أن تحدِّث به غيرَ أهله.»
«المرء مع من أحبَّ.»
«الصبرُ عند الصَّدْمة الأولى.»

وقوله في التوديع:

أستوع الله دينَك وأمانتك وخواتيم عملك.

إلى ما لا يحصيه العدُّ من كلامه ، ولو ذهبنا نشرحه لبنينا على كل كلمة مقالة، وهذا الضرب هو الذي عَناه أكثم بن صيفي حكيم العرب في تعريف البلاغة، إذ عرَّفها بأنها: دُنُوُّ المأخذ، وقرع الحجة، وقليلٌ من كثير. وهي صفات متى أصابها البليغ وأحكمها، وضَع عن نفسه في البلاغة مؤونة ما سواها، ولكن إن أصابها وأحكمها.

ولقد علمتَ ما تكون وجوه الإعجاز المطلق في هذا الكلام العربي، وذلك مما وصفناه لك من إعجاز القرآن الكريم، فاعلم أن نسق البلاغة النبوية إنما هو في أكثره الحدُّ الإنساني من ذلك الإعجاز، يعلو كلامَ الناس من جهة وينزل عن القرآن من جهته الأخرى، فلا مطمعَ لأبلغ الناس فيما وراءه، ولا مَعْجَزة عليه فيما دونه، وهو عنده أبدًا بين القدرة على بعضه والعجز عن بعضه.

وقد بقيت بعد رسول الله أوصافٌ جمة من محاسن البلاغة النبوية في عَقِبه من أهل البيت — رضوان الله عليهم — ومن اتصل منهم بسبب،٩٣ أورثهم ذلك أفصحُ الخلق ولادة، وجادت لهم طباعه الشريفة بهذه الإجادة، فما تُعارِضهم بمن يُحسن البلاغةَ إلا كانت لهم في البلاغة الحُسنى وزيادة!

وبعدُ؛ فإن القول ما قاله الحسين — عليه السلام: «لن يؤدِّيَ القائلُ وإن أطنب في صفة الرسول من جميعٍ جزءًا.»

وقد قلنا بمقدار ما فهمنا وما شهدنا — يعلمُ الله — إلا بما علمنا، وتلك نعمة ٌعلى المسلمين لا يكتمها إلا البغيض، ولا يُنكرها في الناس إلا ذو قلب مريض، ومن جعل أنفَه في قفاه٩٤ فإنما السوءَة أن يفتح فاه!

على أننا إن كنا قد عجَزْنا، ووعدنا الكلام أكثرَ مما أنجزنا، فلا ضيرَ أن نَصِفَ النجم في سُرَاه، وإن لم نستقرَّ في ذُراه، ونستدلَّ بما رأينا منه وإن لم نَنفُذ فيما وراه، وإذا خطر الفكرُ الضئيل في مثل هذه الحقيقة السامية، فقل إنها خَطْرَةُ طيف، وإذا اجتمع للقلم سوادٌ في تلك السماء العالية، فقل إنما هي سحابة صيف، ولعمر الله كيف نضرب بالغاية على تلك البلاغة التي لا تُحدُّ؟ وكيف نمضي بعد أن كَلَّ حَدُّ الفكر ووقفنا عند هذا «الحدِّ»!

الحمد لله نهايةٌ لا تزال تبدأ، وبدءٌ لا ينتهي!

هوامش

(١) أي فليعلم هذا الناظر أنه غير بليغ، وإذا جعلت من الياء في لفظ «الإيجاز» عينًا صار «الإعجاز»، فالتورية ظاهرة في «العين».
(٢) أي يقتضيه القول على البداهة، وما يفجأه من أغراض الكلام البعيدة التي تحتاج إلى التقدير والروية وبُعد النظر.
(٣) أي الفوز والظفر.
(٤) لا يغتاب ولا يعيب.
(٥) قلنا على ذلك الوجه؛ لأن قريشًا كانوا أهل تجارة، وكانوا يضربون في الأرض، ولهم رحلة الشتاء والصيف، ثم كانت تتوافى إليهم قبائل العرب في الموسم، وتختلط بهم في الأسواق، وخاصة في عكاظ، فلا بد أن يكون في ألسنتهم كثير من ألفاظ العرب، ولكن هذا غير ما نحن فيه. فإن رسول الله كان يخاطب كل قوم بالغريب من لغتهم، وكان أصحابه لا يفهمون أكثر من ذلك، كما ستأتي الإشارة إليه في موضعه.
(٦) فصلنا هذا المعنى في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
(٧) هم بنو سعد بن بكر «وقد ذكرناهم في الجزء الأول في «أفصح القبائل»، وكانوا من العرب الضاربة حول مكة، وكان أطفال القرشيين يتبدَّون فيهم وفي غيرهم يطلبون بذلك نشأة الفصاحة، ولا يزال كبراء مكة إلى اليوم يرسلون أحداثهم إلى أماكن هذه القبائل من البادية، وخاصة إلى قبيلة عدْوان في شرق الطائف، وهي قريبة من بني سعد، وإنما يطلبون بذلك إحكام اللهجة العربية، وصحة النشأة، وحرية النزعة، وما إليها مما هو الأصل في هذه العادة يتوارثونها في التربية العربية من قديم.
وبنو سعد هؤلاء غير بني سعد بن زيد مَنَاة بن تميم الذين من لغتهم إبدال الحاء هاءً لقرب المخرج، وليست لغتهم خالصة في الفصاحة. والرواة جميعًا على أن بني سعد بن بكر خصوا من بين قبائل العرب بالفصاحة وحسن البيان.
(٨) المربوع، والربعة: الرجل بين الطول والقصر، لا بالطويل ولا بالقصير.
(٩) المشذب: البائن الطول في نحافة.
(١٠) الشعر الرَّجِل «بكسر الجيم وسكونها تخفيفًا»: الذي كأنه مشط فتكسر قليلًا، ليس بسَبْط ولا جَعْدٍ.
(١١) هي شعر الرأس، والمراد إن انفرقت من ذات نفسها فرقها، وإلا تركها معقوصة.
(١٢) الحاجب الأزج: أي المقوس الطويل الوافر الشعر، والقرن: اتصال شعر الحاجبين، وضد البَلَج.
(١٣) الأقنى: السائل الأنف المرتفع وسطه.
(١٤) رزق رسول الله من الحشمة والمكانة في القلوب والعظمة ما لم يفارقه منذ نشأ. فكان ذلك له عند الجاهلية وبعدها، ولقد كانوا يكذبونه ويؤذون أصحابه ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته. وقد كان يبهت ويفرَق لرؤيته من لم يره من قبل وربما أرعد فَرَقًا.
(١٥) الأدعج: الشديد سواد الحدقة.
(١٦) الفلج: فرق بين الثنايا، والشنب: رونق الأسنان وماؤها، وقيل رقتها وتحزيز فيها كما يوجد في أسنان الشباب، والفم الضليع: أي الواسع.
(١٧) المسربة: خيط الشعر الذي بين الصدر والسرة.
(١٨) البادن: ذو اللحم، والمتماسك: الذي يمسك بعضه بعضًا، أي هو بادن من عضل لا من شحم.
(١٩) أي مستويهما، فليس له بطن مرتفع ضخم.
(٢٠) الكراديس: رءوس العظام.
(٢١) سائل الأطراف: أي طويل الأصابع، وشثن الكفين والقدمين: أي لحميهما، ورحب الراحة: أي واسعها.
(٢٢) أي متجافي أخمص القدم، والأخمص: هو الموضع الذي لا تناله الأرض من وسط القدم، ومسيح القدمين: أي أمسلهما.
(٢٣) الهون: الرفق والوقار، والتكفؤ: الميل إلى سنن الممشى وقصده، والتقلع: رفع الرِّجْل بقوة، وهذه صفات أقوى الناس في مشيته، وهي تكون من تماسك الجسم ووزنه وشدته.
(٢٤) أي من علو، والذريع الواسع الخطو.
(٢٥) أي لا يلوي بعض جسمه حين يلتفت، بل ينفتل بجميع جسمه، وهي حالة تكون من بلوغ القوة منتهاها.
(٢٦) في بعض الأحاديث: كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير.
(٢٧) أي يستعمل جميع فمه للتكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين، وذلك من قوة المنطق والصوت والمعنى، وحضور الذهن واجتماعه.
(٢٨) هي التي تجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة مع حكمة وسموٍّ وبلاغة.
(٢٩) أي قولًا فصلًا يصيب به مقطع المعنى، لا حشو فيه فيزيد ولا تقصير فيقل.
(٣٠) الدماثة: سهولة الخلق، والجفاء: غلظه.
(٣١) هو ما يتذوق من الطعام.
(٣٢) كان أكثر الناس تبسمًا وأطيبهم نفسًا ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب. وقد تختلف الروايات في بعض ما مر من هذا الحديث الذي نقلناه، فلم نَرَ حاجة إلى إثبات الاختلاف أو الاستقصاء فيه، وهو بعدُ مبسوط في كتبه كشرح المواهب للزرقاني، وشرح الشفاء وغيرهما.
(٣٣) أي تكلم من أقصى فمه.
(٣٤) في الحديث الشريف: أبغضُكم إليَّ الثرثارون المتفيهقون، وكان — عليه الصلاة والسلام — يقول: «إياي والتشادق!»
(٣٥) مر آنفًا معنى التفيهق؛ أما التمطق: فهو ضم الشفتين ورفع اللسان إلى الغار الأعلى للفم، والتنطع: رمي اللسان إلى نِطع الفم: أي الغار الأعلى، وهو كالتمطق؛ إلا أن هذا أبلغ منه وأوسع.
(٣٦) عن قتادة: ما بعث الله نبيًّا إلا حسن الوجه حسن الصوت؛ وكان نبيكم حسن الوجه حسن الصوت.
(٣٧) أي التمهل وتحقيق الحروف والحركات في النطق.
(٣٨) السرد: متابعة الكلام على الولاء والاستعجال به، وقد يراد به أيضًا جودة سياق الحديث، فكأنه من الأضداد.
(٣٩) يراد باللفظ الركيك: ما ضعفت بنيته وقلَّت فائدته. واشتقاقه من الركة: وهي المطر الضعيف، وقيل من الركِّ: وهو الماء القليل على وجه الأرض. فانظر كيف خرج في كلامهم هذا المعنى.
(٤٠) لم نزعم هذا زعمًا ولا أخذناه قياسًا على ما نرى، ولكن في لغة القوم ما يثبته، فهم يقولون: ارْتك الرجل وفلان مرتك، إذا رأوه بليغًا ولكنه متى خاصم عيي واستضعف. والمخاصمة من أظهر الأحوال التي تضطرب فيها النفس.
(٤١) من أجل هذا المعنى وتمكنه فيه كان يكره الإطالة في الكلام بما يجاوز مقدار القصد به، وقد تكلم رجل عنده فأطال، فقال له النبي : «كم دون لسانك من حجاب؟ فقال: شفتاي وأسناني. فقال له: إن الله يكره الانبعاق في الكلام؛ فنضَّر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته.» والانبعاق؛ الاندفاع في الكلام، وهو مظنة الخطأ، وقلما سلم صاحبه من زلل؛ لأنه أبدًا إلى الزيادة عن معانيه وعن حاجته.
(٤٢) وجاءت أخبار أخرى مما يُدلُّ به، ولكنها في معنى التاريخ دون خبر أبي بكر لما علمت، ونحن نجتزئ بواحد منها لبلاغة التوكيد فيه. وذلك ما رووه من أنه بينا هو جالس ذات يوم مع أصحابه؛ إذ نشأت سحابة، فقالوا: يا رسول الله، هذه سحابة! فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها! قال: وكيف ترون رَحَاها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: وكيف ترون بواسِقَها؟ قالوا: ما أحسنها وأشدَّ استقامتها! قال: وكيف ترون برقها؟ أَوَمِيضًا أم خفيًّا أم يَشُقُّ شقًّا؟ قالوا: بل يشق شقًّا. قال: فكيف ترون جَوْنَها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده! فقال عليه الصلاة والسلام: الحيا. «أي لمطر، وقواعد السحابة: أسافلها، ورحاها: وسطها، وبواسقها: أعاليها، والوميض: اللمع الخفي. وخفيًّا أي ضعيفًا، وجون السحابة: أسودها». فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا الذي هو أفصح منك. قال: وما يمنعني من ذلك؟ فإنما أنزل القرآن بلساني، لسانٍ عربي مبين.
فتأمل قولهم: «ما رأينا الذي هو أفصح منك.» فإن تعبيرهم «بالذي» يدل على تمكن هذا الاعتقاد منهم، وأنهم يخبرون عن نظر ومعرفة واستقصاء، وأنه ليس في جميعهم واحد يقال عنه «الذي»، والرواة وعلماء اللغة والبلاغة جميعًا، على أنه من أفصح من نطق بالعربية، وأنه ما جاءهم عن أحد من روائع الكلام مثل ما جاءهم عنه .
(٤٣) السعف: أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإذا زال الخوص عنها قيل: جريد.
(٤٤) الحصر: امتناع الكلام وذهابه عمن يريده، لعجز أو غيره.
(٤٥) السمعة: الصيت، والنفج الافتخار.
(٤٦) عبيد: اسم فرس العباس، وهذا البيت من أبيات مشهورة.
(٤٧) المشطور: جعل البيت ثلاثة أجزاء، فيتحد العروض والضرب، وعليه أكثر رجز العرب «والجزء الأخير من الشطر الأول يسمى عروضًا، ومثله من الشطر الثاني يسمى ضربًا». أما المنهوك: فهو ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. وهما أخف أوزان الرجز، لا يمتنع منهما شيء على أحد.
(٤٨) اختلف العلماء في ذلك، وآراؤهم في تعليله مضطربة، فمنهم من يجعل الرجز شعرًا، وهو جمهورهم، ومنهم من ينفي أن يكون من الشعر. والصواب أنه ضرب من الوزن، لم يجعل من الشعر إلا أنه كان الأصل في اهتدائهم إليه، ثم أخذ فيه الشعراء بعد ذلك وأجروه مجرى القصيد، فجعلته العادة شعرًا، أما هو في أصله وحقيقته فليس من الشعر، وسنذكر تاريخه في موضعه من الجزء الثالث.
(٤٩) في هذا الكتاب.
(٥٠) بينا في صفحة سابقة أنه لم يكن يتأتى إلى العرب بالتمويه، ولا يتألفهم على باطلهم، ولا يرفق بهم فيما يتخيلون … إلخ، وأمسكنا هناك عن مثل نضربه؛ لأن له هنا موضعًا، وذلك أن ثقيفًا — وهم من أشد العرب — كانوا يأبون أن يدينوا للإسلام، حتى أسلم أكثر العرب، فائتمروا بينهم وأرسلوا إلى رسول الله وفدًا في السنة التاسعة للهجرة، فلما دنوا من المدينة، لقوا المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب الصحابة، فلما رآهم ترك الركاب وخرج يشتد ليبشر رسول الله بقدومهم. فلقيه أبو بكر، فلما علم الخبر قال له: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه! ففعل المغيرة، ودخل أبو بكر بهذه البشرى.
ثم خرج المغيرة إلى أصحابه، فروَّح الظَّهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله فلم يفعلوا، إلا بتحية الجاهلية، ثم كان فيما سألوه — عليه الصلاة والسلام — واشترطوه لبيعتهم وإسلامهم، أن يدع لهم الطاغية، وهي «اللات» لا يهدمها، ثلاث سنين، فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة. فأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم، فأبى أن يدعها شيئًا يسمى. وإنما كانوا يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.
وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال — عليه الصلاة والسلام: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه! فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة! ثم أسلموا، وأمَّر عليهم رسول الله عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنًا، ولكنه أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
وهذا خبر مكشوف ليس منه موضع إلا وهو يعطيك معنى من الفرق بين الأمر الإنساني والأمر الإلهي. فليست تبلغ العبارة في معناه ما تبلغ عبارته بمعناه.
(٥١) أي قوله وعمله. كما فسروه وكما هو ظاهر، وعطف الشعراء على الأوثان في هذا الحديث عجيب، فما من شاعر إلا له كالوثن، من امرأة، أو رذيلة، أو نحوهما.
(٥٢) وكان شاعرهم أيضًا الزبرقان بن بدر، وهو الذي فاخر بهم يومئذ، فلما أجابه حسان (رضي الله عنه) بأبياته العينية المشهورة؛ قال الأقرع بن حابس: وأبي؛ إن هذا الرجل يعني النبي لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا. ثم أسلم القوم جميعًا!
(٥٣) من أبيات حسان بن ثابت (رضي الله عنه) في مفاخرة بني تميم.
(٥٤) انظر الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
(٥٥) أي على فراشه، قال في القاموس: وخص الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه، وقال في النهاية: كانوا يتخيلون أن روح المريض تخرج من أنفه فإن جرح خرجت من جراحته. قلنا: وكل ذلك تحتمله العبارة، غير أن لها رأيًا آخر، وهو أن موت الرجل على فراشه من غير حرب ولا قتال ولا أمر يؤرخ به الموت في الألسنة، مما كانوا يأنفون له، والحتف هو الهلاك، فكأن صاحب هذه الميتة إنما ماتت أنفَته وكبرياؤه، فلم يرفع الموت أنفه في القوم، بل أذله وأرغمه، فكان به هلاكه؛ لأن حياته كانت في عزته، وعزته كانت في أنفه، وأنفه هو الذي كبه الموت، وإنما مجاز العبارة كما يقال في الكبر: ورم أنفه، وفي العزة: حَمِيَ أنفه، وفي الدفاع عن الأم: غضب لمَطْلَب أنفه، وكما يقال: غضبُه على طرف الأنف، إذا كان سريع الغضب؛ وجعل أنفه في قفاه إذا ضل، ونحو ذلك مما يكثر في كلامهم، والذي يؤيد ما ذهبنا إليه سياق العبارة نفسها، فقد وردت في قوله : «من مات حتف أنفه في سبيل الله فهو شهيد.» أي فلا غضاضة عليه مما يكره.
(٥٦) هذا المعنى مما انفرد العرب بعلمه؛ إذ لم يقع إلينا منه شيء يسمى تاريخًا، ولو أن أوضاع اللغة كانت منسوبة في الدواوين والمعاجم لأدركنا من إعجاز القرآن ومن قدرة البلاغة النبوية مثل ما أدركه العرب أنفسهم، أو قريبًا من هذه المنزلة، فإن الذي نذهب إليه أن أكثر أوضاع القرآن مبتكَر في البيان العربي، وأن العرب لم يَرِثُوه في كلامهم، ولكنا أضربنا عن الكلام في هذا الباب على سعته؛ لأن أدلته قد ماتت قبل ١٣٠٠ سنة من بكائنا عليها!
(٥٧) لما قدمت وفود العرب على النبي قام طهفة بن أبي زهير النهدي، وهو خطيب مفوَّه، فتكلم بكلام غريب من لغة قومه، أجابه عنه ودعا لهم، ثم كتب معهم كتابًا إلى بني نهد؛ وكل ذلك نقله صاحب «المثل السائر» في كتابه صفحة ٩٧ من الطبعة الأميرية، وكلام طهفة أيضًا في كتاب الوفود من «العقد الفريد»، ولكنه هناك ذهب به التحريف كل مذهب حتى اسم طهفة نفسه، فإنه هناك «طهية»، وهو غير الصحيح وغير المشهور، فإن طهفة اثنان: أحدهما النهدي، والثاني: ابن قيس الغفاري، وكلاهما صحابي؛ والاختلاف في اسم هذا دون ذاك، على وجوه متعددة، آخرها طهية.
وكل ما ورد من الغريب في كلام طهفة النهدي، وفي كلام النبي شرحه ابن الأثير في مواضعه من كتاب «النهاية في غريب الحديث والأثر» فالتمسه إن أردته، فإن الاستقصاء في هذا الباب ليس من غرض كتابنا.
(٥٨) ولا يفوتنا أن ننبه على أن صناعة الكتابة إنما كان ابتداء تمثيلها بما صدر عنه من الكتب، ولم يكن ذلك من أمر العرب قبله، إنما كانوا يستودعون رسائلهم في الألسنة، وقد أحصوا من كتبوا عنه في الوحي والرسائل فعدَّهم ابن عساكر في «تاريخ دمشق» ثلاثة وعشرين، وكان أكثرهم كتابةً زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان.
(٥٩) قال الجاحظ في بعض رسائله: قد علم المسلمون أن خيرته تعالى من خلقه، وصفيَّه من عباده، والمؤتمن على وحيه — من أهل بيت التجارة: وهي معوَّلهم، وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم، وسيرة خلفهم … وبالتجارة كانوا يعرفون، ولذلك قالت كاهنة اليمن: لله درُّ الديار، لقريش التجار، وليس قولهم «قرشي»، كقولهم هاشمي وزهري وتميمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشًا فينسبون إليه، ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش. ا.ﻫ، وقال في رسالة أخرى: إنهم كانوا إذا خرجوا للتجارة علقوا عليها المُقل ولحاء الشجر حتى يعرفوا فلا يقتلهم أحد.
(٦٠) تفسير هذا الكتاب على نسق ألفاظه: الأقيال: جمع قَيْل، وهو الملك من ملوك حِمْير وحضرموت. والعباهلة: المقرُّون على ملكهم فلم يزالوا عنه، والأرواع: الذين يروعون بالهيبة والجمال، والمشابيب: جمع مشبوب، وهو الجميل الزاهر اللون، والتيعة: أربعون شاة. تطلق على أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان، والمقورة الألياط: أي المسترخية الجلود، والضناك: الموثَّقة الخَلق السمينة، يريد أن شاة الصدقة لا تكون من المهازيل ولا من الكرائم، بل تكون وسطًا، وهو المراد بقوله «وانطوا الثبجة.» أي أعطوا بلغتهم، إذ يبدلون العين نونًا، والثبجة: الوسط، ومنه ثبج البحر.
والسيوب: جمع سيب، وهو العطية، والمراد به الرِّكاز، وهو دفين الجاهلية، وممْ بكر، وممْ ثيب: أي من بكر، ومن ثيب، وهي لغتهم في إبدال النون ميمًا، والصقع: الضرب، والاستيفاض: النفي والتغريب. والأضاميم: الحجارة الصغار، والتوصيم: الفترة والتواني. ويترفل: أي يترأس، وتروى في هذا الكتاب صورة أخرى بزيادات غريبة.
(٦١) الفراع: مجاري المياه إلى الشعب، والوهاط والوهاد بمعنى واحد؛ وهي الأراضي المنخفضة، والعزاز: الأرض الصلبة.
(٦٢) العلاف: جمع علف، والعلفاء ما ليس فيه ملك.
(٦٣) الدفء والصرام: أي الإبل والغنم.
(٦٤) الثلب: البعير الهرم الذي تكسرت أسنانه، والناب: الناقة الهرمة، والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
(٦٥) الفارض: المسن من الإبل، والداجن: الدابة التي تألف البيوت، والحوري يقال في تفسيره: إنه المكوي، منسوب إلى الحوراء، وهي كية مدوَّرة، ويقال: حوَّره إذا كواه هذه الكية.
(٦٦) الصالغ من البقر والغنم: الذي كمل وانتهت سنه في السادسة، والقارح من ذي الحافر: بمنزلة البازل من الإبل، وكل ذلك الذي كمل وانتهى في القوة.
(٦٧) الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
(٦٨) كان بعد الستين وثلاثمائة من الهجرة، وقد ألف كتابًا في غريب الحديث استوعب فيه كل ما تقدمه، ثم اتصل التأليف بعده في هذا العلم حتى وضع الزمخشري كتابه «الفائق». وهو من أوسع الكتب في غريب الحديث، ليس أوسع منه إلا كتاب «النهاية» لمجد الدين بن الأثير، وكلاهما مطبوع متداول، وهم يقتصرون على إيراد الألفاظ وتأويلها، ويغفلون ما وراء ذلك من تأريخ اللفظ، ونسبه في القبائل وتسلسله في الألسنة، فأحيوا بعملهم فروعًا في اللغة، وأماتوا فروعًا في التاريخ، كما بسطناه في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.
(٦٩) أي لا عيب ولا إثم، والعبارة على المجاز.
(٧٠) ليس كل ما يروى على أنه حديث يكون من كلام النبي بألفاظه وعبارته؛ بل من الأحاديث ما يروى بالمعنى، فتكون ألفاظه أو بعضها لمن أسندت إليه في النقل، ولجواز الرواية بالمعنى لم يستشهد سيبويه وغيره من أئمة البصريين على النحو واللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولو كان التدوين شائعًا في الصدر الأول وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي بألفاظه وصوغه وبيانه، لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها.
وقد كان الأصل عندهم أن يضبط المحدث معنى الحديث، فأما الألفاظ فمنها ما يتفق لهم بنصه، وخاصة في الأحاديث القصار، وفي حكمه وأمثاله ومنها ما لا يتفق، فيلبسه الراوية من عبارته، حتى قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.
ولبعضهم كلام حسن في ذلك، قال: إن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا كل ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كافٍ. ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتج به «أي على اللغة والنحو» لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين، ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه، فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون، مع قولهم بجواز النقل بالمعنى، فيغلب على الظن من هذا كله أنها لم تُبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحًا فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها، ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى، إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دوِّن وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم. وتدوين الأحاديث والأخبار، بل وكثير من المرويات، وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين — على تقدير تبديلهم — يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال. انتهى.
قلنا: وهذا الكلام يرجع بآخره إلى أوله كما ترى، فلا ينفي رواية الأحاديث بالمعنى؛ لأنه في توجيه صحة الاستدلال بها على النحو واللغة، وإنما الذي هو مادة كلامنا في هذا الباب، اللفظ والعبارة وقيامها بالمعنى، ولولا ما نعلم من حفظ العرب وثبات ما ارتبطوا في صدورهم، وأن الحديث هو كان علمًا من علم الصحابة — رضوان الله عليهم — لشككنا في لفظ كل ما رووه من الأحاديث إلا قليلًا مما يكون لفظه نصًّا لمعناه. كالوضع البياني والحكمة القصيرة، والمثل السائر ونحوها.
(٧١) تلوَّم على كذا: تمكَّث فيه وأبطأ، وتقول: فلان يتلوم على حوك الشعر وصنعته: أي يبطئ في عمله، مما يتكلف من إطالة النظر والتنقيح.
(٧٢) لا يندرس ولا يمحى ولا يذهب؛ لأنه وضع النفس للنفس.
(٧٣) يزنها ويمتحنها ويعرف مقدارها.
(٧٤) أو هو مصدر دخنت النار «من باب فرح» إذا ألقي عليها حطب رطب وكثر دخانها لذلك، وله معانٍ أخرى.
(٧٥) الممتلئة غيظًا وحقدًا.
(٧٦) أي لا امتراء فيها، وأكثر ما يكون انتطاح المعزى إذ أخصبت الأرض فشبعت، فإنها تتظالم من الأشر، فتنفش العنز شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وما بها نِطاحٌ، ولكنه مراء وأشر ومكابرة، وتلك طبيعة في المعزى بخاصتها.
(٧٧) هي الزجاجات، ووجه المعنى ظاهر، وكأنهنَّ نور وصفاء ورقة ثم سلامة قلما تسلم إلا بشدة الصيانة والحفظ والمراعاة.
(٧٨) يريد أنه أساس تاريخي لما سيبنى عليه، فليضعوا كل همهم فيه، أو هو يملك الأيام الآتية، فإذا أحرزوه أحرزوها معه، وإن خسروه ذهبت بذهابه.
(٧٩) أي زدناه صفرًا فعددنا عشرة، وأخرجناه كذلك صفرًا ولا فخر، وهذه الكثرة كثرة لغوية، كما بينَّاه في الجزء الأول من التاريخ.
فهذه اللغة العربية خاصة تقبل من الإعجاز البياني وضروبه ما لا يحمله شيء من لغات الأرض؛ لأن ذلك طبيعي فيها كما عرفت.
(٨٠) هذه العبارة مَثَلٌ يقال في المرعى الكثير الذي يكون من الخصب في حالة مستوية، فيخرج العشب بعضه كبعضه، فمن حبس إبله في موضع منه كمن أرسله؛ لأنه لا ميزة لموضع على موضع في معنى الكثرة من النوع.
(٨١) يؤكد لك ذلك، وأنه أمر لا خلاف فيه عند أهله: ما أسلفنا بيانه في صدر هذا الفصل؛ من أن الصحابة كانوا يروون الحديث بالمعنى؛ فهم لا يرونه بحس الفطرة إلا كلامًا إنسانيًّا. ولو أحسوا مثل ذلك في القرآن لاقتحموا عليه أو فعل ذلك غيرهم ممن لم يؤمنوا به؛ بل لكان واجبًا أن يفعلوا.
(٨٢) يقال وقع في ملء رأسه؛ أي: فيما يشغله ولا يترك له فكرًا في غيره.
(٨٣) استوفينا شيئًا من هذا المعنى في ما سبق من هذا الكتاب فارجع إليه.
(٨٤) الاعتصار: أن يُغَص إنسان بالطعام، فيشرب الماء قليلًا قليلًا ليسيغه وقد اعتصر بالماء: إذا فعل ذلك.
(٨٥) أي استراح وثابت إليه القوة.
(٨٦) هي بئر قرب مكة، أو قيل لها ذلك لشجرة حدباء كانت هناك.
(٨٧) يريد النساء والصبيان، والعوذ في الأصل: جمع عائذ، وهي الناقة إذا وضعت وبعدما تضع أيامًا حتى يقوى ولدها، أو هي كل أنثى حديثة النتاج؛ والمطافيل: جمع مُطْفِل، وهي ذات الطفل، وغرضه: أنهم جاءوا بحميتهم وما يقاتلون عليه فلا ينهزمون عنه!
(٨٨) أي جهدتهم وهزلتهم وبالغت فيهم.
(٨٩) المراد بالسالفة: العنق: وهي في الأصل ناحية مقدمها.
(٩٠) أي نقصان، وأصله أن تخدج الناقة أو نحوها من ذوات الظلف والحافر فتلقي ولدها لغير تمام الحمل فيجيء ناقص الخلقة.
(٩١) نقلناه من قولهم: فرس جموم، إذا كان قويًّا، كلما ذهب منه جري جاءه جري جديد.
(٩٢) المضعف: الذي به ضعف. ومعناه في حديث آخر: «سيروا بسير أضعفكم.» ومتى كان الركب على رأي أضعفهم في سيرهم ونزولهم. فهو أميرهم، وفي قول يروى لعمر (رضي الله عنه): «المضعف أمير على أصحابه.» وبين هذه وتلك فرق في المعنى وجمال في الصياغة، والركب أصحاب! وليس كل أصحاب ركبًا.
(٩٣) ما برح أهل البيت — رضوان الله عليهم — يتوارثون بلاغة هي فوق بلاغة الناس، إلى أن انتقضت السلائق العربية، وذلك فضل لا يدفعه من هذه الأمة أحد، وإنما هي ذرية بعضها من بعض. وقد نص العلماء على أن سبب فصاحة الحسن البصري — رحمه الله — وكان من هذا الشأن على ما وصفناه في الجزء الأول من التاريخ عند الكلام على اللحن صفحة ٢٤٣، وكان يعد من الفصاحة وخلوص اللغة كذي الرمة — أن سبب ذلك من إرضاع أم سلمة زوج النبي إياه، وكانت أرضعته فكيف بمن وشجت عروقه وكان من تلك الغاية مذهبه وطريقه؟
(٩٤) يقولون فيمن أعرض عن الحق وأقبل على الباطل: جعل أنفه في قفاه، وقد أكملنا العبارة بها كما ترى مذهبي المجاز والحقيقة؛ وكان بذلك تمامها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤