الأمومة والأبوة

إن الإنتاج البشري (ولادة الأطفال) كأي إنتاج آخر في المجتمع يخضع للنظام الاقتصادي والاجتماعي السائد، وإذا كانت الموارد الغذائية والمادية قليلة وعدد الأطفال الذين يولَدون كثيرًا، فإن المجتمع (خوفًا من الجوع) يبيح أي شيء من أجل أن يحدث التوازن بين الموارد الغذائية والمادية وبين عدد الأطفال، وذلك عن طريقين:
  • (١)

    إمَّا زيادة إنتاج الموارد الغذائية والمادية.

  • (٢)

    أو خفض إنتاج الأطفال.

وفي العصور البدائية لم يكن العلم قد تقدم ليزيد إنتاج الموارد الغذائية والمادية، ولم يكن أيضًا قد عُرفت وسائل تحديد النسل أو عمليات الإجهاض؛ ولهذا كان الحل الوحيد أمام المجتمع هو قتل الأطفال بعد ولاتهم، ولم يكن يُنظَر إلى قتل الأطفال كجريمة أخلاقية، بل بالعكس كان يُنظَر إليها كفضيلة أو بمعنًى آخر واجبًا وطنيًّا مُقدَّسًا، ولم تكن عواطف الأمومة (كما نعرفها اليوم)، ولا مشاعر الأبوة (كما نعرفها اليوم أيضًا) تمنع قتل الأطفال؛ لأن الضرورة أُم الحاجة، والمشاعر والعواطف كالقيم الأخلاقية تتغير وتتكيف تبعًا للضرورة الاقتصادية، وهناك رأي يقول إن الأمومة من الناحية البيولوجية ومن الناحية الإنسانية أكثر قدرة على عطاء الحب للأطفال من الأبوة. وقد يكون هذا الرأي صحيحًا وطبيعيًّا، ولكن حينما تصبح المسألة حياةً أو موتًا من الجوع فإن الإنسان (رجلًا أو امرأةً) يمكن أن يفعل أي شيء من أجل أن يأكل، والمجتمع البشري أيضًا، حينما تصبح المسألة بالنسبة إليه حياةً أو موتًا فإنه يمكن أن يضع أي قوانين وأي قيم أخلاقية ويجعلها مقدسة من أجل أن يعيش ويبقى. إن الحرية الجنسية وإنجاب الأطفال بكثرة خارج الزواج أو داخله قد تصبح واجبًا وطنيًّا تُكافَأ عليه الأم (المجتمع السويدي اليوم) من أجل زيادة الإنتاج البشري وبالتالي الأيدي العاملة، وقد يكون إنجاب أكثر من طفلين داخل الزواج (وليس خارجه) حدثًا تستحق عليه الأم العقاب في بعض المجتمعات النامية التي تدعو إلى تحديد النسل اليوم. وبرغم أن القيم الأخلاقية والدينية قد تتعارض في بعض المجتمعات مع الحرية الجنسية أو مع الإجهاض، أو مع تحديد النسل، أو مع عقاب الأم التي تلد أكثر من طفلين أو … أو … إلا أن المجتمع قادر دائمًا على تطويع القيم الأخلاقية والقيم الدينية حسب ضروراته الاقتصادية، بل حسب النظام الاقتصادي الذي يفرضه أصحاب السلطة والحكم، ويستطيع رجال الدين دائمًا في كل عصر من عصور التاريخ أن يطوِّعوا دينهم حسب النظام الإقطاعي مثلًا، فإذا تغير النظام الإقطاعي وأصبح نظامًا رأسماليًّا فإن رجال الدين يجدون بسرعة في دينهم ما يتفق مع الرأسمالية، فإذا تغير النظام الرأسمالي وأصبح اشتراكيًّا فإن رجال الدين يجدون بسرعة في دينهم ما يتفق مع الاشتراكية … وهكذا …

إن القيم الأخلاقية والنفسية كالملابس التي يرتديها البشر فوق أجسامهم، تتغير وتتبدل حسب الظروف الاقتصادية، (الملابس تلعب دور الإعلان عن طبقة الشخص الاجتماعية أكثر ما تلعب دور إخفاء الجسم أو تدفئته)، في المجتمعات البدائية والفقير كان العُري شيئًا طبيعيًّا، لكن في بعض المجتمعات اليوم يُعتبَر عملًا غير أخلاقي، وقد يقود إلى السجن، ومن يدري ربما يصبح العُري فضيلةً أو واجبًا وطنيًّا في بعض المجتمعات في المستقبل حين يمنع الفقر الشديد أغلبية الناس من شراء الملابس.

وهكذا نرى أنه من المهم أن ندرس الأنثروبولوجيا؛ لنعرف الدوافع الحقيقة وراء بعض النظريات النفسية عن الأمومة، أو علاقة الطفل بالأم والأب، وألا نأخذ هذه النظريات كمسلَّمات غير قابلة للمناقشة.

إن علاقة الأم الفلاحة الفقيرة بأطفالها التسعة أو العشرة تختلف تمامًا في المجتمع نفسه عن علاقة الأم الثرية الأرستقراطية غير العاملة بطفلها الوحيد، وعلاقة الأم بأطفالها في أفريقيا تختلف عنها في آسيا، كما تختلف عن علاقة الأم بطفلها في النظم الأبوية. وهكذا فإن النظام الاجتماعي والاقتصادي والثقافي هو الذي يحدد مفهوم الأمومة، ومفهوم الطفولة، ومفهوم الأبوة، وعلاقة كل هذه المفاهيم بعضًا بالبعض، ودور كل منها في الحياة.

وتكتب مارجريت ميد تقول: إن الطفل المولود في قبيلة إياتمول بمجرد أن يبلغ بضعة أسابيع من عمره، فإن أمه تكف عن أن تحمله أو تُجلسه في حجرتها، ولكنها تُجلسه في مكان بعيد عنها على دركة عالية، حيث تتركه يبكي طويلًا من شدة الجوع قبل أن تطعمه. وفي «موند بخدمور» فإن النساء يشعرن بكراهية شديدة نحو الأطفال ونحو عملية إنجابهم وتربيتهم، وتحمل الأم طفلها في سلة خشنة تؤلم جلد الطفل، ثُمَّ حين يكبر قليلًا تضعه على كتفها بعيدًا عن صدرها، وتُرضع الأم طفلها وهي واقفة، ثُمَّ تدفعه بعيدًا عنها قبل أن يشبع أو يكاد.

والفلاحة المصرية الكادحة التي تعمل ليلًا ونهارًا في الحقل وفي البيت، تترك طفلها عاري الأرداف على الأرض، يبكي ويزحف ويلعق التراب بأنفه ولسانه، ويبول ويتبرز عدة مرات على الأرض، ويلعب بأصابعه الصغيرة في التراب المبلل بالبول والبراز، وحين تنتهي الأم الفلاحة الكادحة من عملها تنتبه إلى طفلها، وتدس في فمه ثديها الضامر الناحل (من قلة التغذية وكثرة الإجهاد)، ويصرخ الطفل من شدة الجوع وهو يشدُّ حلمة الثدي الخالي من اللبن تقريبًا.

وفي معظم الأحيان يُصاب هذا الطفل بالنزلة المعوية بالإضافة إلى نقص التغذية، ويقضي بضعة أيام وهو غارق في بركة صغيرة عفنة من القيء والبراز السائل المندفعين بغير انقطاع من فمه وفتحة الشرج على التوالي. كل ذلك والأم (بسبب فقرها وبسبب جهلها وبسبب انشغالها فيما هي فيه) عاجزة عن فعل أي شيء، ويموت هذا الطفل بالطبع، وتلفعه الأم في قطعة من الملابس القديمة البالية، وتدفنه بيدها في حفرة الأرض كما تدفن أرنبًا ميِّتًا.

كنت أرى هذه المناظر بعيني حين عشت في الريف وحين اشتغلت طبيبة في إحدى القرى الفقيرة. وكنت أرى الأم تلد خمسة عشر طفلًا فلا يعيش منهم إلا ثلاثة أو أربعة ويموت الباقي. وكان موت الأطفال لكثرته يُعتبَر شيئًا طبيعيًّا كموت كتاكيت الفراخ، وقد تحزن الأم الفلاحة أكثر على موت الكتاكيت؛ وليس ذلك لقسوة الأم وإنما لقسوة الظروف الاقتصادية التي لا تعطي الأم الطاقة النفسية أو الجسدية لحب أطفالها.

وقد تتدخل الظروف الاجتماعية القاسية وتجعل الأم (من الطبقة المتوسطة أو فوق المتوسطة) تقتل طفلها الوليد، أو تتركه وحده في الليل بجوار جامع؛ لأن الأب رفض الزواج منها، وقد تتخلى الأم المطلقة عن أطفالها تمامًا من أجل أن تعيش في كنف زوج آخر يرفض بقاء أطفالها معها … وهكذا تتعدد الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تغير من علاقة الأم بأطفالها.

وكذلك تتغير علاقة الأب بأطفاله حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وفي المجتمعات التي تشترك فيها الأم والأب في الأعمال الإنتاجية والاقتصادية فإن الأب يشترك مع الأم في أعمال البيت وتربية الأطفال (معظم المجتمعات الاشتراكية اليوم وبعض المجتمعات الصناعية المتقدمة في أوروبا وأمريكا).

وهناك بعض المجتمعات تنفرد فيها الأم وحدها بالعمل والإنتاج، ويُترَك أمر تربية الأطفال ورعايتهم للزوج، الذي من شدة التصاقه بالأطفال تتولد لديه مشاعر قوية تربطه بالأطفال، ويستجيب لهم انفعاليًّا، ويشعر نحوهم بمشاعر الأم، ومن شدة تمثله لدور الأم فإنه يشعر مثلها بآلام الولادة (قبائل غينيا الجديدة ومانوس Manus وقبائل التشامبولي Tchambuli).
هذه ليست إلا أمثلة توضح أن تقسيم العمل بين الزوج والزوجة يتوقف على النظم الاجتماعية والاقتصادية أكثر مما يتوقف على كونهما رجلًا أو امرأة، وأن رعاية الأطفال قد تكون من نصيب الأم أو الأب أو قد تُرفع عن كاهلهما هما الاثنان، وتصبح مهمة المجتمع ودور الحضانة المتخصصة، كما هو الحال في بعض المجتمعات الاشتراكية المتقدمة. لكن الحضارة التي يعيشها العالم الحديث هي حضارة أبوية قائمة على سلطة الرجل داخل الأسرة الأبوية، والتي انتزع فيها الأب من الأم النسب، وأعطى لنفسه دور الإنتاج والخلق الفكري، وترك لها دور الخدمة في البيت وتربية الأطفال. ويقول فردريك أنجلز: «إن التقسيم الأول للعمل (في تاريخ الإنسان) حدث بين الرجل والمرأة ومن أجل رعاية الأطفال، وكان أول صراع طبقي في التاريخ هو الصراع بين الرجل والمرأة في ظل الزواج الوحداني Minogamy، وكان أول خضوع طبقي كان خضوع الزوجة لزوجها. لقد كان هذا الزواج تقدُّمًا تاريخيًّا من ناحية، لكنه من الناحية الأخرى أنتج الرق (العبيد) والملكية الخاصة، وتلك الظاهرة المستمرة حتى اليوم، وهي أن كل تقدم ليس إلا تأخُّرًا نسبيًّا؛ حيث إن تقدم مجموعة من الناس تكون على حساب شقاء وتخلف مجموعة أخرى.»
وقد دلت البحوث النفسية الأخيرة أن صحة الأطفال في الأسرة الأبوية تتأثر بعلاقة الأب والأم غير المتساوية، أو المشاكل الاقتصادية أكثر مما تتأثر ببقاء الأم في البيت طول الوقت أو خروجها إلى العمل. وأوضحت «ماكوبي» أن عمل المرأة خارج البيت هو أقل العوامل تأثيرًا في صحة الأطفال النفسية. ووجدت «ماكوبي» أن نسبة المشاكل النفسية بين المراهقين متساوية في الطبقات الفقيرة، سواء عملت الأم خارج البيت أم لم تعمل. ووصل إلى هذه النتيجة أيضًا علماء آخرون من أمثال وولتر Walter وباندورا Bandora وجلوكز Gluckes، والذي توصل أيضًا إلى أن مشاكل المراهقين النفسية تزيد في العائلات التي تتفرغ فيها الأمهات لأعمال البيت والأطفال. وفي بحث رومان (١٩٥٧) Roman اتضح أن أبناء الأمهات العاملات يتمتعن بصحة نفسية أفضل من الأمهات المتفرغات للبيوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤