هنري كورييل: سيرة ذاتية

كُتبت في المنفى بدين Digne (ألب دي هوت بروفونس) في أكتوبر – نوفمبر – ديسمبر ١٩٧٧م ترك المؤلف هذه الصفحات (مسود) بخط يده، ولم تُتَح له الفرصة لمراجعتها.

(١) تحذير للقارئ

عندما يكتب المرء كتابه الأول وهو في الثالثة والستين من عمره، فإن ذلك يعني أنه لا يُعَد من زمرة الكتاب، وها أنا ذا أحذر القراء!

تغطي هذه الذكريات فترة قصيرة وقديمة من حياتي، وإذا كنت أكتبها منتهزًا فرصة اعتكاف إجباري فرضَتْه عليَّ الحكومة، فلا يرجع ذلك إلى ميلي للكتابة، بل أجدني مدفوعًا إليها للتغلب على نفور شديد نحو الكلمة المكتوبة والعودة للوراء لاسترجاع الماضي.

ولكنها الحقيقة الواجبة تجاه رفاقي الذين كثيرًا ما طلبوها مني، وهو واجب كنت دائم التملُّص منه بحجة أعمال أقوم بها. ولقد أصبح عليَّ الآن — بعد أن فقدت هذا العذر — أن أبدأ العمل، بل وأن أنتهي منه سريعًا بدلًا من أن أعمل بلا جدوى على تجويده لكي أجعل منه عملًا هامًّا.

ما الغرض منه إذَن؟ إن الغرض منه الإسهام في كتابة تاريخ نشوء الحزب الشيوعي المصري وبخاصة الفترة من بداية الأربعينيات وحتى بداية الخمسينيات، وليس الغرض منه — للأسف — الاستجابة لطلب الذين ألحوا عليَّ في معالجة تاريخ هذه الفترة ذاتها.

أعرف خيبة الأمل الكبيرة التي سيُصاب بها هؤلاء عندما يطَّلِعون على هذه الذكريات صغيرة الحجم بدلًا من الكتاب العظيم الذي تطَّلَعوا إليه بشغف، ولكن يجب أن نأخذ في الحسبان أنني لا أملك مصدرًا سوى ذاكرتي، وهي ضعيفة للغاية بخاصة أنه كثيرًا ما تم اقتلاعي من جذوري، ليس فقط من مصر ولكن بفعل انتقالي من نشاط إلى آخَر مختلف تمامًا مع رفاق جدد تمامًا؛ هناك مثلًا التجربة الجزائرية حيث كانت الجزائر شغلي الشاغل لمدة عشر سنوات كسبت خلالها عشرات الأصدقاء الفرنسيين الذين عرفتهم في ذلك الحين والمئات من الجزائريين. فضلًا عن فترة الاعتقال التي قضيتها بفرسن Fresnes وهو اعتقال يتنافى مع الفراغ حيث كان بمثابة حياة مليئة لمدة ما يقرب من عامين … كان ذلك منذ خمسة عشر عامًا!

بالإضافة إلى ذلك فأنا أجهل كل شيء عن الأنشطة التي لم أمارسها.

وفي الحركة المصرية — المجموعة الشيوعية التي ساعدت على ميلادها — لم نكن أبدًا نهتم اهتمامًا شديدًا بالآخرين. ربما كنا على خطأ في ذلك، ولكن الحقيقة أن الآخرين لم يشكِّلوا إلا أهمية ضئيلة بالنسبة لنا، فلم نفكر مثلًا في «دس» مُخبرِين لديهم على الإطلاق وقد لا أتعرض للأخطاء فحسب، بل ولعدم قيمة الدور الذي لعبوه.

كل ما أستطيع أن أؤكده مع هذا هو أن الحركة المصرية وخليفتها الحركة الديمقراطية كانتا دائمًا في الطليعة. كان هذان التنظيمان سبَّاقين دائمًا إلى اتخاذ المواقف الصحيحة على الأقل خلال الفترة التي عرفتهما فيها، ولا أذكر نموذجًا واحدًا نقلناه عن مجموعة أخرى سواء على الصعيد السياسي أو التنظيمي أو غير ذلك من المجالات. بل على العكس كانت المجموعات الأخرى هي التي تتبنى مواقفنا في كل المسائل الهامة، وإذا لم تفعل ذلك فمرجعه إلى أن هذه المجموعة أو تلك تمسكت بموقفها الخاطئ أو المتخلف.

ولكن حق الحلم مشروع! وقد تساعد هذه الصفحات التي تحكي بكل صراحة، بل وبراءة، قصة مولد حزب شيوعي على إزالة بعض الأفكار الخاطئة.

لا يمكن لحزب شيوعي ألَّا يرتكب أخطاء. فإذا كانت السياسة هي على حد قول لينين «علم تغيير المجتمع» فهي مهمة لا يعادل صعوبتها سوى تعقيدها، وهي تتطلب أولًا أن «تُدرس كأي علم» (إنجلز).

إن إبراء مجتمع دائم التغير من أدوائه أصعب كثيرًا من علاج أمراض الجسم الإنساني، ومن يجرؤ على القول إنه يستطيع ذلك قبل سبعة أعوام من الدراسة المستفيضة؟ فضلًا عن أن المجتمع في حالة دائمة التجديد ويتغير بسرعة متزايدة. وبالنسبة لنا، لم يكن هناك أكثر صعوبة أمامنا من:
  • إدماج جميع العناصر المختلطة التي تؤدي دورًا في جسم المجتمع كما طلب لينين.

  • تقديرها تقديرًا صحيحًا دائمًا مع أخذ تطور كل منها وتفاعلها فيما بينها في الحسبان.

إن الحزب الشيوعي ينمو مع المراحل المتتالية التي يمرُّ بها. فمن يستطيع أن يلوم رضيعًا وطفلًا على عدم تصرفه كبالغ؟ إن مَن يفعل ذلك بالطبع هم أولئك الذي يحترفون التشهير المنظم اللازم للإبقاء على المجتمع بأوضاعه الراهنة.

أما الآخرون الذين يعتبرون أنفسهم دائمًا أكثر ثورية وصدقًا وكفاءة، الذين لو كانوا «قادة للحزب الشيوعي في فرنسا، أو في فيتنام، أو في الاتحاد السوفييتي، أو على أقل تقدير في مصر، لَتَفادوا أخطائهم» فليقفوا في الصف، وليعرضوا علينا ما قاموا بتحقيقه بكل ما يتصفون به من كفاءة وحقيقة ثورية أعلى كثيرًا من هاتين اللتين يتمتع بهما الشيوعيون، وليبرزوا لنا المجتمعات التي قاموا بتغييرها؛ تلك المجتمعات الخالية من جميع الحدود الموجودة في المجتمعات الاشتراكية؛ على حين أنه من المعروف بحقٍّ أن انتصار الأحزاب الشيوعية في الاتحاد السوفييتي والبلاد الاشتراكية الأخرى لم يجعل منها قوة تحول في مجتمعات هذه البلاد فحسب، بل على مستوى جميع دول العالم، فالثورة البلشفية هي القوة الرئيسية التي حققت يوم العمل ذا الساعات الثمانية.

من الممكن واللازم أن تكون هذه الاعتبارات موضوعًا لكتاب على ألا يسخر أحد من «عبادة ستالين»! فلقد انتهيت على سبيل المثال من قراءة كتاب أمورو Amourou الحافل بالعبر، وعنوانه «أربعون مليونًا من البيتانيين» (أتباع بيتان) Petain ووجدت أن «عبادة» بيتان التي تشير إليها جميع أعمال تلك الفترة مغرقة في الهذيان وليس لها ما يبررها إذا ما قُورنت الشخصيتان.

إنني أقولها بصوت عالٍ: إن الشيوعيين ليسوا بمعصومين، إنهم يخطئون في أحيان كثيرة وبخاصة في البداية. ولكن هذا لا يولِّد داخلي أيَّ إحساس بالذنب؛ فالشيوعيون هم قوة التقدم الحاسمة بالنسبة للإنسانية وليتأمل الآخرون مجتمعهم الفاسد والمقزز بامتيازات الثروة فيه، وهي امتيازات أكثر وقاحة من امتيازات الإقطاعيين برذائلهم التي لا تُحصى، وبلبلتهم و«حرية» التفكير المزعومة على الصورة التي يتمناها البرجوازيون المسيطرون عليهم.

لا، ليس هناك ما يدعو للخجل في عقد مقارنة بين المعسكرَين الاشتراكي والرأسمالي مع أخذ مجتمع الولايات المتحدة «النموذجي» كمثال لأكمل إنجازات هذا الأخير. أما بالنسبة للاتحاد السوفييتي، فلا أعرف مَن كان يستطيع «التفوق» على اللجنة المركزية!

ولا يساورني أي شعور بالخجل لتقديم هذه الذكريات، بل أشعر بفخر شديد، بقدر ما تعطي هذه الذكريات — بغض النظر عن شخصي — لمحة عن تفاني وشجاعة ونبل زملائي أفضل أبناء مصر!

إذا كان للمرء عدد كبير من الأعداء مثلي فهو يرتجف مُسبقًا، عندما يقتحم مجال النشر، من الأساليب الفنية التي سيتم بها تفنيد ما كتبه، والكشف عن كافة الدوافع الخسيسة والانحرافات «اليمينية» أو «اليسارية» إذا لم تكن ثمة أدلة «خيانة».

ومع هذا ليس لديَّ الخيار؛ يجب:
  • «الانتهاء» بأقصى سرعة، فكتابٌ كهذا يهدف إلى استخلاص كل شيء مني، أنا المؤمن بالعمل الجماعي فقط، ليس مجازفة فحسب، بل هو أيضًا عملية شاقة جدًّا.

  • تفضيل السرعة على الجودة، لن يكون إذَن عملًا متقنًا بالرغم من مزاج ينشد الكمال.

كان لينين يقول: «الأقل والأجود»، ولكنني أعمل تحت شعار: «السيئ أفضل من لا شيء، والأسرع أفضل من الأجود.»

قيل لي أيضًا ألَّا أكثر من «الإيضاحات» وأعتقد أن عليَّ هنا أن أفعل ذلك، على كل الأحوال ليس هناك أصعب على نفسي من الإفصاح عما أريد، ليس إيمانًا مني بالطبع باللاتواصلية (النظرية القائلة بعدم إمكان الاتصال بين الناس) ذائعة الصيت، ولكن من المُسلَّم به أن الأوضاع المركبة قد يُساء فهمها حين يشرحها عجوز مقتلع من جذوره.

سبب هام آخَر وراء الشروع في هذا الكتاب، وهو الغياب التام «للثورة المصرية» وتمثيلها بالإضافة إلى إنكار الحركة الشيوعية المصرية وعنصرها الأساسي: الحركة المصرية والحركة الديمقراطية.

إنني أجهل كل شيء عن ثورة ١٩١٩، ولقد بيَّنت في بحث صغير كيف أنها قامت خارج الوفد ورغمًا عنه، ولا أستطيع القول بأن الحزب الشيوعي المصري قد قام بدور فيها، فضلًا عن تحديد ماهيته.

أما عن الحركة الثورية المصرية التي حققت انتصارات باهرة مثل: الجلاء عن وادي النيل، تحرير السودان، استقلال مصر، نهاية الإقطاع الريفي الكبير، تأسيس العالم العربي كقوة لها أولوية السبق في التقارب من المعسكر الاشتراكي: رفض الأحلاف العسكرية، وقبلها رفض الاشتراك في حرب كوريا التي شنَّتها الولايات المتحدة. الدفعة التي جعلت من مصر دولة مؤثرة في عدائها للإمبريالية: مساعدتها لأفريقيا في نضالها من أجل التحرر من الاستعمار؛ في كل هذه التطورات أستطيع القول بأن الشيوعيين المصريين قاموا بدور رئيسي سواء كقيادة أو كقوة تفسيرية أو كمصدر للإلهام.

حقًّا يمكن القول إن الكثير من هذه الانتصارات لم تكن حاسمة، ولكننا نعرف جيدًا أن الانتصارات الحاسمة نادرة … والشيوعيون المصريون لم يبلغوا بعدُ بالفعل ذروة انتصارهم، مثلهم في ذلك مثل الكثيرين غيرهم من الشيوعيين في العالم. ولا أزعم أن التنظيمات الشيوعية المصرية تقارن بأي شكل بالحزب الفيتنامي مثلًا، عِلمًا بأنني لم أؤمن أبدًا بالتعدد في فيتنام.

عادةً ما يُقدم الشيوعيون المصريون في صورة مثيرة للازدراء: مجموعات صغيرة على رأسها «أجانب» يتنازعون فيما بينهم، ويقول رفعت السعيد في كتابه: إن «الشيوعيين الحقيقيين ورثة الحزب الشيوعي المصري القديم لم يكونوا قادرين على مقاومتهم؛ لأن البوليس السياسي كان يترك الأجانب آمنين ويضطهد «المصريين».»

إن مواقف كهذه قد لا تُحدث إلا جروحًا في الكبرياء، ولكن المناضلين الشيوعيين المصريين قد اضطروا إلى التنازل عن كل ملمح للكبرياء من أجل البقاء، والخطير حقًّا هو ما تتضمنه هذه المواقف من ازدراء للثورة المصرية وللمناضلين المصريين الذين وُصفوا بالانقياد للأجنبي بلا تبصُّر!

هذه هي التحليلات التي تبغي الحكم علينا! كان لينين يتساءل: «مَن هم القضاة؟ وما الذي حقَّقه نقَّادنا؟»

إن «تحليلًا» يُنكر وجود المناضلين الثوريين وكفاءتهم التنظيمية ودورهم، قد يكون مقبولًا من الرجعيين الذين يردِّدون دائمًا أن الشيوعيين المصريين قد «فشلوا»، وأنهم «لم يؤدوا أي دور»! والذين يتخذون هذه المواقف نفسها من «اليساريين» إنما يتصرفون على أحسن الفروض، مثل الرجعيين وحلفائهم الذين يتلخَّص التاريخ «من وجهة نظرهم» في كونه مجموعة من الطرائف.

ولسوف نرى أنه بدون الاعتراف بهذا التيار الثوري لا يمكن تفسير مشكلة الوحدة التي طالما وجهنا بها، إلا بتوافر «الألفة» أو غيابها أو توافر الطموح لدى بعض الأفراد أو انعدامه.

كما أن تحليل حركة شيوعية من خلال ما «لم تحققه» يمثل نظرة سياسية محدودة للغاية، ولقد رأينا من جهة أخرى «ما حققه كل هؤلاء الوعاظ».

كيف لم يكن للحركة الشيوعية المصرية جذور قوية بالريف؟ لم تكن معظم قياداتها من العمال؟ كانت على درجة من التخلف أدَّت إلى اعتقال الغالبية العظمى من كوادرها؟ لم تكن تشمل القطر المصري كله؟!

إن هذه الوثيقة تهدف قبل كل شيء إلى المساهمة في توضيح ما شارك فيه رفاقي وعملوا على إنجازه لكي يبرز التاريخ الغني والخصب لهذه الفترة؛ وقد تثير اهتمام مناضلي الحزب الشيوعي المصري الحاليين الذين يبحثون عن ماضٍ، وهو ماضٍ مجيد يصور لهم على أنه مثير للشفقة؛ وقد يقرؤها في دول أخرى بعض المناضلين الشيوعيين الذين كنا في مصر ننظر إليهم دائمًا نظرة احترام وحب، والذين كنا نحس بقربهم الشديد منا.

أمل من آمال الرجل العجوز الذي أصبحته، هو أن تنمو هذه الأخوة الحقيقية بين الشيوعيين وأن تظل عربونًا على أخوة الشعوب.

(٢) نبذة عن حياتي

لا يألف الشيوعيون — بفعل نشاطهم النضالي — الحديث عن أنفسهم فضلًا عن رواية سيرهم الذاتية، فيما يختص بي فإن أصدقائي يعرفون بأنني لا أتمتع بموهبة التحليل النفسي؛ ولكن بما أنني قررت تقديم هذه الذكريات ينبغي أن أعطي للقراء عددًا من العناصر التي آمل أن تمدهم بشعاع من نور؛ فبالرغم من الفترة الطويلة جدًّا التي قضيتها في النشاط السري، أعتقد أن الاهتمام «بكشف الأوراق» لا يزال يشغلني. لذا أتمنى لو أستطيع التعبير عن الحقيقة فقط، فأنا مدين لأساتذتي الرهبان اليسوعيين بمقولة أن تمويه الحقيقة أمر ميسور، وأن الكذب يسير، مع الالتزام بذكر وقائع صحيحة … لذلك سأبذل قصارى جهدي لأكون صادقًا.

المراد إذَن هو الإشارة إلى بعض العناصر المكونة لشخصية المؤلف. فإذا كان صحيحًا أن انضمامي للشيوعية هو بمثابة ميلاد جديد لي على كلٍّ من صعيدَي الفكر والعمل المتلازمَين، فإن التغييرات الوجدانية التي طرأت عليَّ تكاد تكون غير محسوسة؛ فلا أظنني تغيرت فيما يتعلق «بالقلب» — من البديهي أن المعنى المجازي للكلمة هو المقصود حتى لا يظن أحد أنني أجعل من القلب المركز الحقيقي للمشاعر — ولكن شتان بين تكويني الفكري «قبل وبعد» الانضمام للشيوعية.

ولدت منذ زمن طويل في «حي راقٍ»١ من أحياء القاهرة في اليوم الذي عرف فيه الوالدان بانتصار لا مارن La Marne كما كان يحلو لهما القول.

كانا أبوين «غير عاديين» وإن كنت في الواقع لا أعرف عنهما الكثير لأن المشاكل لم تكن لتُثار أبدًا أمام الأطفال.

كان أبي قد فقدَ بصره في الثالثة من عمره، على أن هذا لم يقف حائلًا دون إدارته لبنك خاص برءوس أموال أخيه وأخواته الثلاثة عند وفاة والده وقد استقر هؤلاء جميعًا بفرنسا باستثناء أخت واحدة تزوجت من أحد أثرياء الإسكندرية.

حملَت إدارة البنك لأبي الكثير من المفاجآت، وبخاصة أنه كان عليه — في سبيل ذلك — أن يهجر مهنته كعازف بيانو بادي الموهبة. لم يكن أبي يروي شيئًا عن شبابه وحياته ولكنني عرفت أن في حياته زيجة سابقة، وأن زوجته الأولى قد توفيت.

كانت أمي٢ هي الأخرى غريبة الطباع، وُلدت باستانبول في عائلة ميسورة وبعد وفاة والدها قام الأبناء على ما يبدو بتبديد الثروة التي تركَها لهم. ومن المؤكَّد أنه تم تعميدها بدير نوتردام – دي – سيون Notre Dame – De Sion حيث تلقَّت تعليمها. ولقد أثَّرَت عليها نشأتها هذه، ممَّا جعلها تقوم سرًّا بتعميدنا أنا وأخي، لكنها أبدًا لم تذكر شيئًا عن هذا. وعلى العكس من ذلك، لم تُخفِ أمي أبدًا إيمانها بجميع الأديان معًا، مرورًا بالكنيسة والمعبد اليهودي، وحتى زيارة أولياء المسلمين.

كانت أمي هي الأخرى تتمتَّع بموهبة العزف على البيانو، أما نزعتها الحقيقية فكانت دينية، وأعتقد أن زواجها من كفيف كان نوعًا من تحقيق الذات. لم يكُن زواجًا سعيدًا جدًّا؛ فقد كان لكلٍّ منهما ميلٌ واضح لتدمير الذات، فأبي مثلًا «عاقبَ» والدتي بهجره للبيانو الذي يُضفي عليها البهجة.

ولا شك أنه كان لكلٍّ من حماس أمي وعاهة أبي أثره العميق في طفولتي، علاوةً على فاجعة فقدهما لأخت صغيرة محبوبة على إثر حادث. ولكن من المؤكَّد أن الأثر الأكبر والدائم كان ﻟ «عاهة» والدي حتى لو كان هذا الأخير قد عاش حياة «ملكية» يحوطه بلاط صغير مؤلَّف من البنك والأسرة والأصدقاء.

وللإحاطة بجميع أفراد الأسرة يجب ذكر أخي راءُول ذي «العقل الراجح والمليء» الذي عاش هو الآخَر حياةً فوضوية.

استقرَّت عائلة أبي بمصر منذ زمن غير محدَّد، على كل الأحوال منذ إنشاء الدولة الحديثة في مصر حوالي عام ١٨٥٠م.٣ لم نكُن من اليهود العرب رغم انتمائنا الشرقي إلى شبه الجزيرة الإيبيرية ومن ناحية الجنسية، كنا — كالعديد من يهود مصر — إيطاليين نازحين من ليفورن Livourne فعقب حريق بلدية هذه المدينة، أُعيد تكوين أرشيف الأحوال المدنية بها، ممَّا أدَّى إلى إعلان عدد كبير من يهود مصر في ذلك الوقت انتسابهم إليها؛ نظرًا للامتيازات المفرطة التي يمنحها الحصول على جنسية أجنبية، وأهمها الخضوع لنظام قضائي خاص؛ لذا أصبحنا ليفورنيين، وإن كان الأصل الإيطالي للعائلة يبدو لي أمرًا محتملًا، فلقد وجدتُ هذا الاسم شائعًا في دليل تليفونات كل المدن الإيطالية الكبيرة.
وباعتبارنا يهودًا إيطاليين، تلقَّينا أنا وأخي تعليمنا كله من السنة الأولى الابتدائية وحتى نهاية الدراسة الثانوية في البتي كوليج Petit College التي تديرها الراهبات، ثم في الجران كوليج Grand College بالفجالة ويديرها الرهبان اليسوعيون. كان بهذه المدارس نظامان للتعليم منذ الصف السادس الابتدائي: ينتهي الأول بالبكالوريا المصرية، والآخَر بمثيلتها الفرنسية. وكان طبيعيًّا أن يقع اختيارنا على هذا النظام الأخير كما أننا لم نتردد في تفضيل اللغة اللاتينية على اللغة العربية.

بعد إتمام دراستنا في عام ١٩٣٠م، على ما أعتقد، تأجَّل رحيلنا الذي كان مقرَّرًا إلى فرنسا بسبب الأزمة الاقتصادية التي عالجها أبي بصعوبة وكان عزاؤنا، إن أمكن القول، هو الحصول على ليسانس الحقوق، الشهادة الفرنسية الوحيدة التي يمكن الحصول عليها في مصر، ثم غادر أخي مصر إلى فرنسا و«تقرَّر» أن أبقى، ربما لأنني كنت أقل تفوُّقًا منه ولكن الإيضاحات لم تتوافر لي.

سبَّب لي هذا الحدث بلبلة شديدة فأنا لم أكُن أفكر إلا في السفر إلى فرنسا، لم يكُن هذا حلمًا، بل كان مصير كل أبناء عمومتي وكل زملائي في الدراسة.

كان من الصعب على يهودي إيطالي تخرَّجَ في مدرسة فرنسية أن يجد نقطة ارتباط حقيقية في بلد مسلم؛ وكانت فرنسا هي الوطن الوحيد الذي أشعر بالارتباط به بعد أن فقدتُ إيماني مبكرًا، فرنسا التي أصبحت فجأةً بعيدة المنال.

إن تفاصيل هذه الفترة قليلة الأهمية، وها هو الإطار المكوِّن لشخصيتي قد تحدد منذ البداية بعناصره المختلفة.

(٣) العداء للشيوعية

لا شك أن الحركة الشيوعية المصرية تلقى بصفة خاصة عداءً فائقًا وتشويهًا منظَّمًا لعملها رغم أنها تمثِّل التيار الثوري، ويجب أن أقدِّم هنا أسباب ذلك:

هناك أولًا العداء الموجود في معسكر «الأعداء» وهو أمر طبيعي. فمصر تُعَد «أهم البلدان» وهو العنوان الكامل لكتاب صدر بالإنجليزية. لقد حللتُ فضلًا عن هذا «وزن مصر» وبيَّنت مدى أهميتها داخل مجموعات عديدة؛ العالم العربي بالطبع، منطقة البحر المتوسط، والعالم الإسلامي، وأفريقيا، وآسيا القديمة، والعالم الثالث بأكمله. في كلٍّ من هذه المجموعات لعبَت مصر دورًا هامًّا في بعض المناسبات، وكان حجم هذا الدور يتفاوت تبعًا لأهداف سياستها، على أنها لم تستطع القيام به، بسبب قصر نظر طبقتها الحاكمة، إلا بعد أن حدَّد الشيوعيون المصريون تحديدًا دقيقًا عددًا من الأهداف سنسرد بعضًا منها في هذا العمل، من الطبيعي إذَن أن تحاول الرجعية العالمية جاهدة أن تقلل من شأن الشيوعيين المصريين الذين يهدِّدون سيطرتها المباشرة وغير المباشرة على هذا البلد. وطبيعي أيضًا أن تتخذ الأنظمة المتتالية المجردة من أية قيمة ذاتية موقفًا مزدوجًا من الحركة الشيوعية المصرية، فهي من ناحيةٍ تنقل عنها تحاليل وحلولًا لم تكن لتتوصل إليها بنفسها، وفي الوقت ذاته تشهِّر بالشيوعيين إلى أقصى درجة. والمدهش أن عبد الناصر قد دفع بهذا الموقف المزدوج إلى الذروة، فليس هناك بين القادة المصريين من يدين مثله للشيوعيين بفهمه للمواقف، وقد كلف الوقت الذي قضاه في بعض منها الشعب غاليًا، كما لم يذهب أحدٌ أبعد منه في عدائه للشيوعيين وازدرائه لهم. إن فترة حكمه لا تدخل بالطبع في نطاق هذا الكتاب، ولكن لا جدال في أن الرصيد الشيوعي الغني بالتحليلات وتحديد الأهداف هو المصدر الذي أخذ عبد الناصر «يتزود»٤ منه؛ ولنا عودة لهذا.

تحتاج إذن الأنظمة المسيطرة في أحلك الظروف إلى إفقاد الشيوعيين اعتبارهم لكي تؤكد ادعاءاتها.

كل هذا «طبيعي» إن صح القول؛ فالوشايات والأكاذيب السفيهة، والمغامرات الدنيئة التي تدعمها الوسائل الضخمة هي الأساليب التي تستخدمها الأنظمة التي يدينها التاريخ لتُبقي على نفسها. ولقد استعملت كل الوسائل لإهانة الشيوعية والشيوعيين، وحماية مصر من «عدوى الشيوعية» التي قد تُفقدها «حريتها».

هذا العداء طبيعي و«شرعي» بشرط أن نجيد الدفاع عن أنفسنا. ولكن للأسف أصبحت «أفكار الطبقة الحاكمة» هذه «أفكارًا غالبة» بين الشيوعيين أنفسهم الذين يتأثرون كثيرًا في بعض الأحيان ببعض وجهات النظر «البرجوازية».

ولكن المدهش والأصعب احتمالًا حقًّا بسبب ما يخلفه من مرارة هو العداء الذي تعرَّضنا له، وما زلنا نتعرض له، من جانب بعض الأحزاب «الشقيقة»؛ هذه الأحزاب التي كانت قادرة على فهمنا، وعلى مساعدتنا، ولمَ كان ذلك؟ سأروي على صفحات هذا الكتاب كيف أساءت هذه الأحزاب٥ معاملتنا؛ الحزب الشيوعي الإنجليزي، الحزب الشيوعي الإيطالي، بل والحزب الشيوعي اليوناني، وبصفة خاصة الحزب الشيوعي الفرنسي، وأيضًا معظم الأحزاب الشيوعية العربية باستثناء الحزب الشيوعي اللبناني وكأنها رغبة مشتركة في العداء، رغبة لا يمكن تصوُّرها ثانية واحدة!

•••

إن أول ما يسترعي الانتباه في الدراسات التاريخية هو غياب التأريخ لمراحل التطور مع كونها مشكلة جوهرية تشغل بالفعل كوادر الحركة المصرية للتحرر الوطني (MELN) — أين كنا؟ من أين أتينا؟ إلى أين نقصد؟ بدون رؤية واضحة لهذه المسائل، «تفقد تحديد الاتجاه» هذه القاعدة لم تكُن يومًا أكثر صحة منها اليوم.
والتأريخ لمراحل الحركة الشيوعية المصرية، وهو الذي يهمنا، ليس ذاتيًّا فحسب، بل يرتبط بوضع وطني وعالَمي، وسنرى ذلك عندما نعرض لتاريخ الفترات المختلفة.
  • (أ)
    فترة «التكوين الأولى»: لا تزال هذه التسمية التي أطلقناها عليها صالحة للفترة التي تبدأ في تاريخ غير محدد وتنتهي بالنسبة لنا في أكتوبر سنة ١٩٤٣م. وهي تنقسم بدورها إلى مرحلتين:
    • المرحلة: التي تنتهي في ديسمبر سنة ١٩٤٢م.
    • والمرحلة: التي تليها والمدهش أن المرحلة الأولى هي التي تلقى الاهتمام مع أنها في الواقع مثيرة فقط؛ ولنا عودة إليها.
  • (ب)
    وتشهد الفترة الثانية: في أكتوبر سنة ١٩٤٣م ميلاد الحركة المصرية للتحرر الوطني كخلية شيوعية تحمل مسئولية بناء «حزب شيوعي مصري» PCE وتستمر حتى أكتوبر سنة ١٩٤٥م؛ حيث اشتركت الحركة باسمها ورايتها في ظروف معينة في النضال الوطني للجماهير ولم تكُن هذه الفترة قد انتهت بعد.
  • (جـ)
    الفترة الثالثة: وتمتد من أكتوبر سنة ١٩٤٥م حتى حريق القاهرة وثورة سنة ١٩٥٢م وهي تشمل أربع مراحل متتابعة:
    • (١)

      أكتوبر سنة ١٩٤٥م إلى مايو سنة ١٩٤٧م: تأسيس الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني.

    • (٢)

      مايو سنة ١٩٤٧م إلى مايو سنة ١٩٤٨م؛ حرب فلسطين.

    • (٣)

      حقبة المعتقلات.

    • (٤)

      النهضة، أو بالأحرى الميلاد الثاني.

(٤) ذكريات الميلاد (أو الميلاد الثاني) ١٩٣٤–١٩٤٣م

منذ حل الحزب الشيوعي المصري الأول في ١٩٢٤م كان للشيوعيين دائمًا وجود في مصر؛ انطلاقًا من هذه الحقيقة دافعَ المؤرخ رفعت السعيد عن فكرة الوجود الدائم لحركة شيوعية مصرية؛ وهذا خطأ كبير فطوال فترة كاملة لم يكن هناك وجود لحركة شيوعية — مع استمرار وجود الشيوعيين — فضلًا عن عدم وجود حزب شيوعي ولو في شكله البدائي.

عنوان هذا الفصل صحيح إذَن؛ لقد وُلدت بالفعل حركة شيوعية مصرية، وهذا الميلاد هو ما سنتحدث عنه: لم يكن هذا الميلاد وليد الصدفة، بل هو وليد ظروف معينة جديدة تمامًا مقارنةً بالظروف السابقة عليها التي لم تولد فيها الحركة الشيوعية المصرية. ينبغي إذَن قبل كل شيء دراسة هذه الظروف، وسنرى أنها لم تكُن فقط وراء ميلاد الحركة الشيوعية المصرية ولكنها توضِّح أيضًا بعضًا من معالمها، وبخاصة الدور الذي لعبه «الأجانب» في ميلادها.

ويشمل القسم الأول فترات ثلاث:
  • ١٩٣٤–١٩٣٥م إلى يونيو سنة ١٩٤١م؛ دخول الاتحاد السوفييتي الحرب.

  • يونيو سنة ١٩٤١م إلى فبراير سنة ١٩٤٢م: حيث تبلغ هذه الظروف مرحلة النضج.

  • فبراير سنة ١٩٤٢م إلى نوفمبر سنة ١٩٤٣م: ميلاد الحركة المصرية للتحرر الوطني MELN.

أما القسم الثاني:

فيتكون من أربع فترات قد تصل إلى خمس:
  • نوفمبر سنة ١٩٤٣م إلى أكتوبر سنة ١٩٤٥م: فترة «التكوين الأولى».

  • أكتوبر سنة ١٩٤٥م إلى يوليو سنة ١٩٤٦م: فترة المد.

  • يوليو سنة ١٩٤٦م إلى مايو سنة ١٩٤٨م.

  • مايو سنة ١٩٤٨م إلى فبراير سنة ١٩٥٠م.

  • فبراير سنة ١٩٥٠م إلى يوليو سنة ١٩٥٢م.

(٤-١) القسم الأول

(١) سنة ١٩٣٤–سنة ١٩٤١م

كان عام ١٩٣٤–١٩٣٥م عامًا فاصلًا على الصعيد الدولي، كما كان عام اختيار هام بالنسبة لي، فقد وضعني هذا العام الذي بلغت فيه سن الرشد أمام خيارين:
  • الخيار الأول: هو الحصول على الجنسية المصرية.
  • أما الثاني: فهو الاحتفاظ بجنسية والديَّ الإيطالية التي تضمن لي «الامتيازات الأجنبية» الهائلة؛ مما جعل من ممارسة الاختيار عملية غير متوازنة.
لم أكن في اختياري مدفوعًا بحبي لمصر، هذا الحب الذي يشاركني فيه الكثير من الأجانب، وخاصةً أن الامتيازات التي يتمتعون بها تجعل الحياة فيها ناعمة، بقدر ما كنت مدفوعًا بنفوري من هذه الامتيازات. وقد ساهمَت أيضًا المظاهرات الشعبية آنذاك٦ في رغبتي في «التمصير» الصريح، وجدير بالذكر أن مؤتمر الدولية الشيوعية السابع كان محددًا لانعقاده الفترة من (يوليو: أغسطس) لهذا العام.

إن الخصومة بين الإمبرياليين الإنجليز والفرنسيين من ناحية، ومن ناحية أخرى الأنظمة الفاشية في إيطاليا وألمانيا، حيث وصل هتلر إلى السلطة عام ١٩٣٣م، وأيضًا اليابان، بدأت تأخذ شكلًا حادًّا لا في أوروبا — ليس بعد — ولكن في منطقة النفوذ الحافلة بالتناقضات الإمبريالية: المستعمرات أو المنطقة التي تُدعى اليوم بالعالم الثالث. ويظهر الصراع في سلسلة من الاعتداءات من جانب الدول الفاشية وأهمها عدوان إيطاليا على إثيوبيا، واليابان على الصين، وإيطاليا وألمانيا على إسبانيا الجمهورية.

كان للدول الفاشية بالإضافة إلى هذه الأعمال السافرة، سياسة حاضرة ونشيطة تعتمد على رعاياها العديدين في الكثير من البلدان مثل الإيطاليين في مصر، وعلى العناصر الوطنية التي يدفعها قِصر نظرها الطبيعي والملازم للوطنية المجردة إلى «التفكير» تبعًا للقاعدة الشهيرة والكريهة معًا على المستوى الوطني: «أعداءُ أعدائنا أصدقاء لنا!»

العنصر الآخر الذي يشكل السمة الهامة الثانية للوضع الدولي هو التأثير المتزايد لحركات الجماهير؛ صعود «الجبهات الشعبية» المعتمد في سنة ١٩٣٥م من المؤتمر السابع للدولية الشيوعية، وهو صعود له تأثير كبير في أوروبا وخارجها.

ولكن، فلنطرح العموميات جانبًا، ولننتقل إلى الوضع المصري الذي لا غِنًى عنه لفهم المسألة التي تشغلنا، وأكرِّر القول بأن عرضه سيكون موجزًا للغاية.

كان هذا العام ١٩٣٤–١٩٣٥م عامًا فاصلًا أيضًا في مصر وإن كانت مشاركتها في التيارات الكبرى للسياسة العالمية غير واضحة؛ ها هي الحركة الوطنية بقيادتها الوفدية٧ تساعد على اتساع نطاق المظاهرات ضد نظام «صدقي» الاستبدادي والكريه، للتعبير في آنٍ واحد عن مطالبها الديمقراطية وتطلعاتها الوطنية للاستقلال، وهي تطلعات ومطالب ترتبط بعمقٍ بعضها ببعض.

أما السياسة الإنجليزية فكانت تحت تأثير الوضع الدولي والداخلي تُجري انعطافًا كاملًا لتحقيق حماية أفضل لمصالحها بالطبع، وسيتم هذا الانعطاف على نطاق واسع في الشرق الأوسط كله بصفة خاصة، ولكننا سنكتفي بدراسته في مصر حتى لا ننجرف بعيدًا.

كانت السياسة الإنجليزية في مصر حتى عام ١٩٣٥م تستند على حماية مصالح «الأقليات الأجنبية» العديدة والمؤثرة التي تشكِّل بدورها أكبر دعامة لها وفي مقابل ذلك كانت إنجلترا توفر لهذه الأقليات «الامتيازات الأجنبية» المفرطة التي سبق الحديث عنها؛ ولنذكر هنا أن روسيا البلشفية قد تنازلت من طرف واحد عن هذه الامتيازات منذ بداية الثورة.

في مواجهة الخطر الإيطالي في البحر المتوسط وأفريقيا، وفي مواجهة الدعاية الإيطالية والألمانية الفعالة في البلد ذاته سيقوم الإنجليز بتغيير حقيقي في هذه السياسة؛ حيث سيقدمون بعض التضحيات لتجنُّب الإخفاق؛ ومن هذه التضحيات التخلي الكامل أو شبه الكامل عن هذه «الأقليات الأجنبية»، ومحاولة التوصل إلى تسوية مع الوفد باعتباره ممثلًا شديد الاعتدال للحركة الوطنية (وقد بيَّنتُ في بحث صغير كتبته عام ١٩٥٠م الدور الكبير الذي قام به لكبح الثورة الوطنية عام ١٩١٩م). سيعهد الإنجليز إذَن بالسلطة مؤقتًا إلى الوفد نظرًا لميلهم إلى الديمقراطية على الصعيد الدولي؛ وسيمارس الوفد هذه السلطة على حساب «الأقليات الأجنبية» التي لم تعُد قادرة على الدفاع عن نفسها؛ فهو سيقوم على سبيل المثال بإصدار قانون للديون العقارية، بمقتضى هذا القانون لا تُمس القروض التي تمنحها البنوك الأجنبية الكبيرة بينما تُصفَّى تلك التي تم أخذها من الأفراد «الأجانب» في مصر؛ لا مجال هنا للتباكي على هؤلاء فهدفنا هو توضيح ميكانيزم (تركيب) التحالفات. سيفرض الوفد أيضًا على «الأجانب» إشراك مالكين مصريين في «مشاريعهم»؛ وهذا يمثل في أحيان كثيرة مجرد صورة طفيلية؛ حيث إن مقاعد مجلس الإدارة في معظم الأحيان لم تكن تحقِّق مشاركة فعلية في النشاط بقدر ما تكافئ العلاقات القائمة مع جهاز الدولة «الوطني» ولنتوقف هنا!

وعلى صعيد العلاقات مع إنجلترا، سيوقع الوفد «معاهدة الشرف والاستقلال» التي تؤمِّن للإنجليز قوام سيطرتهم، وتخدِّر الهيجان الوطني لفترة طويلة، وتحول الوفد من عدو إلى حليف لإنجلترا مع إعطائه ميزة انتصار تُحقَّق بسهولة، هذا بالإضافة إلى الاستخدام المثمر جدًّا لجهاز الدولة.٨

ومن الآن فصاعدًا وحتى فبراير ١٩٤٢م تتلخص «السياسة» في مصر في صراع بين السراي والوفد على استخدام هذا الجهاز؛ كلٌّ يريد استغلاله لصالحه ولكن بينما تلتفُّ حول السراي مجموعة واسعة من القوى شديدة الرجعية يستند الوفد على تأييد الجماهير؛ هذا هو الفارق المحسوس بين الطرفين، ولكن هذا ليس مرادنا.

ولنعُد الآن إلى موضوعنا: ما النتائج التي سيسفر عنها الوضع الجديد في مصر؟ الحركة الوطنية في ذروة الاضطراب فالأهداف قد تحقَّقَت حسب الموقف المُعلَن، ولكن هناك بعض العناصر التي تدرك عدم صحة هذه المقولة. ماذا ستفعل هذه العناصر؟ ستتحالف معظمها مع النازيين والفاشيين، كما فعل أنور السادات مثلًا؛ إن هذا الموقف مشابه للموقف الذي أدَّى إلى تصفية الحزب الوطني أثناء الحرب العالمية الأولى كقائد أساسي للحركة الوطنية لصالح حزب الوفد.

وعلى النقيض من هذا، سينفتح فنانون وكتاب ومثقفون على التأثيرات التقدمية الآتية من أوروبا وفرنسا بصفة خاصة؛ وسيصبح الكثير منهم سرياليين في الوقت الذي تشرف فيه هذه الحركة على الانتهاء في أوروبا، وآخرون، وأحيانًا يتحول الأشخاص أنفسهم إلى تروتسكيين (أنصار أفكار تروتسكي والأممية الرابعة)؛ سنجد فيما يلي سطورًا عنهم، والبعض الآخَر شيوعيون؛ ولكن نكرِّر القول بأنه كان انضمامًا فرديًّا إلى مذهب لا يزال مجردًا وغير معروف تمامًا لهم. ويرى هؤلاء الشيوعيون بدورهم أن المسألة الوطنية قد حُلَّت عمليًّا، ويتحدثون عن الصراع الذي يجب قيادته ضد «البرجوازية المصرية» وهذا هو أيضًا اعتقاد العديد من الشيوعيين بالخارج كما قرأناه في المقالات شديدة الندرة المخصَّصة لمصر في أعداد مجلة «المراسلات الدولية» Correspondance Internationale التي كانت — ويا للغرابة! — تصل من حين لآخر إلى مصر بعد مرورها برقابة تتميز بالشدة والغباء معًا.
كان تطور العناصر التقدمية بالجاليات الأجنبية يتم بطريقة سريعة وجذرية ولندع جانبًا الجاليات المرتبطة بدولة مثل اليونانيين الذين يناضل معظمهم داخل جاليتهم ذاتها؛ هناك أيضًا شيوعيون آخرون كانوا عابري سبيل وهم المدرسون الفرنسيون والإنجليز الأعضاء في أحزاب بلادهم. المعنيون هنا هم الآخرون، وهم بصفة أساسية يهود من جنسيات مختلفة — «الامتيازات الأجنبية» الشهيرة تظهر مرة أخرى — يتحدث معظمهم الفرنسية، حيث إنهم تلقوا تعليمهم في الليسيهات (المدارس) المتقدمة للإرسالية العلمانية الفرنسية Mission Laique Francaise وقد تأثر هؤلاء بالنضال الأوروبي ولا سيما في فرنسا؛ حيث انتصر الحزب الشيوعي الفرنسي والجبهة الشعبية في انتخابات سنة ١٩٣٦م، ولكنهم لم يتأثروا كثيرًا بالمشاكل الوطنية الداخلية، كانوا بالطبع ينفرون من الفاشية التي فتنت الكثير من الوطنيين المصريين، وقد نجحوا بحقٍّ في اكتساب البُعد الوطني عن طريق انخراطهم في الشيوعية، العدو الطبيعي للفاشية، فباعتناقهم الشيوعية في مصر أصبحوا شيوعيين مصريين، وكانت الشيوعية هي الجانب الوحيد الذي يعترف بهم كمصريين.

كيف يتسنى ليهودي في نهاية الثلاثينيات أن يصبح حرًّا دستوريًّا أو حتى وفديًّا؟!

بالاختصار لم يكن أمام هؤلاء من سبيل غير الشيوعية، لذا سلكَه عدد كبير منهم مدفوعين في ذلك بعدَّة عوامل: تأثرهم بالحركة الشيوعية الدولية أكثر من العناصر المصرية، نفورهم من الخيار الفاشي، بُعدهم عن الحياة السياسية المصرية، وأخيرًا عدم انحيازهم إلى تيار سياسي آخَر؛ إذ كيف السبيل لأن يكون الإنسان راديكاليًّا اشتراكيًّا أو حتى اشتراكيًّا ديمقراطيًّا؟

هكذا يتضح من خلال ظروف معينة الدور الذي قام به هؤلاء في حقبة ميلاد الحركة الشيوعية المصرية؛ لا غموض هناك يستحق كل هذه «العقد» التي يشعر بها بعض الشيوعيين المصريين في هذا الصدد. ومهما يكن من ظن بعض رفاقي المتطرفين في وطنيتهم، لم يكن هذا الدور سلبيًّا على الإطلاق؛ وإلا فلماذا بذلت الرجعية المصرية البالغة السوء كل هذه الجهود لإخراجهم من مصر مسترشدة في ذلك بأصدقائها الإمبرياليين! هل كانت تهدف إلى دعم الحركة الشيوعية المصرية؟ هل أصبحت فجأة الحركة الشيوعية أكثر قوة بعد خروجهم؟ على أية حال ستكون لنا عودة لتحليل الدور الذي قاموا به بدون أفكار مسبقة في هذا الاتجاه أو ذاك.

ولنعد الآن إلى موضوعنا: بميلاد الحركة الشيوعية المصرية؛ يأخذ عدد الشيوعيين في الفترة من سنة ١٩٣٥م إلى ١٩٤١م في الازدياد زيادةً لا يُستهان بها وإن كانت بطيئة؛ ويبذل الشيوعيون الأجانب الذين يتضاعف عددهم جهودًا حميدة لإقناع المصريين دون نجاح كبير. يجب القول بأن المهمة الرئيسية للشيوعيين الأجانب والمصريين على السواء هي بالفعل الدعاية لأفكارهم ومضاعفة عدد الأشخاص الذين يعتنقون الشيوعية «كمذهب» مجرد لا تزال تطبيقاته العملية في مصر مبهمة على أقل تقدير. وتتحقَّق هذه الدعاية عندما تكون القوى كافية لإنشائها من خلال «المنتديات» وعن طريق منشورات صغيرة متفاوتة الانتظام تصدر في مناسبات معيَّنة وكانت الأنشطة «السياسية» تتم على الصعيد الدولي فقط: الدعاية ضد العدوان الإيطالي على إثيوبيا وضد العدوان الياباني على الصين، جمع التبرعات لمساعدة إسبانيا الجمهورية. بالإضافة إلى هذا، يُنشئ الشيوعيون الأكثر نضجًا، وهم الشيوعيون القادمون من الخارج، «رابطة سلام» تعمل على تشجيع النضال من أجل الحفاظ على السلام الدولي، ولكنها تظل مجموعة صغيرة بلا تأثير يُذكر لصعوبة تعميم هذا الهدف.

أما «الاتحاد الديمقراطي» المعادي للفاشية فسرعان ما شل حركته التدخل المنظم للبوليس الذي لا يخفى تعاطفه مع الفاشية، وهو تعاطف تشاركه فيه الحكومات التي خلفت الوفد في هذه الفترة. وقد شاركت عناصر مهاجرة، انضم إليها يونس٩ من «رابطة السلام» (المتحزبة في رأيهم) في تأسيس هذا الاتحاد على قواعد واسعة من الفرنسيين والإنجليز واليونانيين والإيطاليين واليهود بالطبع، وأيضًا من المصريين الذين كان بعضهم على درجة من النفوذ.

ويبذل الشيوعيون مجهودًا كبيرًا: يكوِّن البعض مجموعات صغيرة، ويعتقل البعض الآخر! البعض يجتهد، وينجح البعض في الاتصال بالأحزاب الشيوعية الأجنبية التي لا تسفر نصائحها عن أي تطور.

ولا يغير إعلان الحرب في سنة ١٩٤٠م بدوره شيئًا يذكر من هذا الوضع، ولا يمثل الاتفاق الألماني-السوفييتي ولا حرب فنلندا أزمة ضمير بالنسبة للمناضلين في هذه الحقبة؛ فالاتفاق مع ألمانيا ليس بالتصرف الشاذ من وجهة نظر الشيوعيين الأجانب الذين فهموا جميعًا موقف ألمانيا على وجهه الصحيح؛ فهي قد خانت تشيكوسلوفاكيا في محاولتها إقامة حلف يجمع بين «الديمقراطيتين» الإنجليزية والفرنسية والفاشية الإيطالية والألمانية، لذا لم يُصدموا لمحاولة الاتحاد السوفييتي من جانبه كسب الوقت لكسر هذا التحالف في مواجهة اختبار القوة الحتمي الذي تعده له مجموعة الإمبرياليين «الديمقراطيين» والفاشيين. كنا إذن مقتنعين بأن هذا الإجراء يستهدف الإبقاء على وطن الاشتراكية.

ينبغي هنا ذكر الحادث الذي أخذ شكل الصراع من أجل تغيير اسم «الاتحاد الديمقراطي» قد يكون هذا الحادث بلا قيمة تاريخية ولكنه يبين موقف الشيوعيين في مصر من الإمبريالية الإنجليزية، وإليكم الأحداث.

في بداية الحرب كانت الرجعية المصرية تغازل الفاشية على مرأًى منا، بينما كان الإنجليز الواثقون من تحقيق نصر قريب «يعدون للمستقبل عدته»؛ من أجل هذا اتصلوا بالمعادين للفاشية الإيطالية بالاتحاد الديمقراطي، وقالوا لهم ما معناه: «يجب أن نعدَّ لما بعد الحرب؛ علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لتفادي إقامة نظام شيوعي بعد الإطاحة بالفاشية. تعاونوا معنا للإعداد لنظام «ديمقراطي» في إيطاليا. وسنرى فيما بعد عندما نعرض ﻟ «المسألة اليونانية» المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا الإعداد، ولكن هذا ليس موضوعنا، ولندع جانبًا الشيوعيين المنتمين لجاليات أجنبية وصِلاتهم بالإنجليز، ولنعد إلى مصر.

ذات مساء بعد إعلان الحرب، استقبلنا في «الاتحاد الديمقراطي» زائرًا غريبًا — إنجليزيًا — قال لنا إجمالًا:

«إن رابطتكم تهمنا كثيرًا! ونحن نعرض عليكم كل المساعدة التي قد تحتاجون إليها لكي تصبح قوية وتنتشر في مصر كلها.» عرفنا فيما بعد أنه يقصد مشروع «إخوان الحرية الذي لقي فشلًا ذريعًا لأنه لم يضم سوى عملاء الإنجليز من المصريين؛ ومن الصعب تخيل درجة فقد الثقة التي وصل إليها هؤلاء برغم، أو بسبب، المساعدات التي يحصلون عليها.

أثارت هذه الزيارة اضطرابًا كبيرًا في الاتحاد الديمقراطي؛ حيث كانت الغالبية العظمى بإدارة الرابطة ترغب في الموافقة فهي ترى عناصرها مضطهدة ومشلولة الحركة بسبب البوليس المصري الفاشي، كما أنها ترى أن الدعم الإنجليزي يمكن استغلاله في تنمية أنشطة الرابطة المعادية للفاشية بطريقة هائلة؛ وهذا في نظرها هدف يبيح «الاتفاق» مع الإنجليز.

كنت ثاني اثنين وقفًا في وجه هذا الرأي؛ وكان الآخر هو جورج هنري بوانتي Georges Henri Pointet عضو حزب العمل السويسري ومدرس اللغة الفرنسية بالمدارس الثانوية المصرية؛ وقد انضم فيما بعد إلى قوات فرنسا الحرة ومات بشرف أثناء المعركة؛ لقد كان مناضلًا شيوعيًّا مؤثرًا ومخلصًا بحق، وربما أجد متسعًا للحديث عن نشاطنا المشترك خلال هذه الفترة.

طلب مني جورج هنري بوانتي عند تطوعه — وكان واثقًا من عدم العودة — أن أبلغ حزبه أنه ظلَّ للنهاية مخلصًا له، الأمر الذي لم تُتَح لي فرصة لتنفيذه.

كان جورج عضوًا بإدارة الاتحاد الديمقراطي، أما أنا فلم أرغب في عضويتها حتى لا «أعرِّض» الرابطة للخطر، فتعاركنا معًا، ولكن يجب أن اعترف أن أحدًا لم يعترض على دخولي اللجنة.

كانت الأمور تبدو له بسيطة فحرب سنة ١٩٤٠م هي حرب بين إمبرياليين وعلينا ألا نشارك فيها بمال، وألا نرتبط بأيٍّ من أطرافها. وكان الأمر يختلف معي قليلًا، ففي بداية الحرب تطوَّعتُ في الجيش الفرنسي: لم أكن حينئذٍ أشعر بمسئولية خاصة في مجال العمل السياسي ولم أكن أدرك حقًّا أن الديمقراطية، سواء كانت إمبريالية أو رجعية تعادل الفاشية؛ كنت إلى حدٍّ ما قد اتخذت قراري الذي أنَّبَني عليه بوانتي، على كل الأحوال لم يكن لتطوعي نتيجة عملية؛ حيث إنه لم يتم أبدًا استدعاء المتطوعين.

ولكن التعاون مع الإنجليز أمر مختلِف تمامًا. لم يكُن هذا الموقف صادرًا عن «غريزة طبقية» فأنا لم أمتلك يومًا مثل هذه الغريزة: مع الانسحاب الأوروبي تجمع في مصر العديد من عملاء المخابرات Intelligence Service، هل أحتاج إلى القول بأنني لم أشعر نحوهم بأي نفور؟ يجب هنا أن أعترف بأمانةٍ أن «الحقد الطبقي» تجاه «المستغلين» ينعدم لديَّ، وبأنني كنت وللأسف لا أزال أميل إلى فهمهم؛ الأمر الذي لا يُثير الدهشة على الإطلاق، فالعديد من الغرائز ينقصني، وبخاصةٍ القدرة على تكوين رأي يعتدُّ به محدثي! ولكن في حالتنا هذه، كان الوضع المصري هو القضية: هل كان ممكنًا أن نأمل في إقامة علاقات مع المصريين التقدميين ونحن متورِّطون ولو قليلًا مع مضطهديهم؟! كان هذا الأمر يبدو لي جليًّا.

لم ننجح في إقناعهم، ولكننا انتصرنا بفضل إصرارنا، فغيَّرَت رابطتنا اسمها وأصبحت «الرابطة الديمقراطية»، ولم يعُد واردًا استخدامها لصالح السياسة الإنجليزية، وأخيرًا لم نرَ بعد ذلك صاحبنا الإنجليزي، وأعتقد أنه من ناحيته قد لقي تعنيفًا شديدًا لاتصاله بنا.

ولكننا سنلتقي فيما بعد وفي أكثر من مناسبة بالمشكلة الهامة التي تشكِّلها العلاقات مع الإنجليز أثناء الحرب العالَمية الثانية؛ حيث سنعرض للفترة التي أصبحت فيها إنجلترا حليفًا للاتحاد السوفييتي، وهو وضع أكثر تعقيدًا.

إذا كانت هذه الفترة كلها قد شهدت تزايدًا ملحوظًا في عدد الشيوعيين الأجانب والمصريين على حدٍّ سواء، فإن نشاط هؤلاء ظلَّ نشاطًا فرديًّا يتم من خلال المنتديات على اختلاف أنواعها ولم يتجاوز الشكل الجماعي المحدود. فلنكرِّر القول: «هناك شيوعيون عديدون، ولكن لا وجود لحركة شيوعية مصرية حيث إن ظروف ميلادها لم تتحقَّق بعدُ.»

(٢) يونيو سنة ١٩٤١م-فبراير سنة ١٩٤٢م

ستتحقَّق هذه الظروف، وهي بالتحديد ثلاثة، في الفترة بين يونيو سنة ١٩٤١م وفبراير سنة ١٩٤٢م: العدوان النازي على الاتحاد السوفييتي في ٢١ يونيو سنة ١٩٤١م، تغيير الحكومة بالقاهرة تحت ضغط من القوات المسلحة البريطانية في ٤ فبراير سنة ١٩٤٢م، وأخيرًا انتصار ستالينجراد في فبراير سنة ١٩٤٣م.

أثارَ العدوان النازي الكثيرين منا؛ وكانت صدمتي في حال مصر البائس — ولا سيما في الريف — هي الدافع وراء بحثي عن حلول لهذه المشكلة، وقد فشلتُ في كل محاولاتي لإيجاد حلول، بدءًا من الجهود الميدانية العملية مثل رعاية «فلاحينا»١٠ بأقصى جهدنا، أنا والسيدة التي أصبحَت فيما بعد زوجتي، والتي تتمتَّع بكفاءة عالية في مسائل الصحة والنظافة، وميلًا إلى البحث الفلسفي؛ حيث انضمت إلى مجموعة رينيه حبشي الإنسانية بالقاهرة (مجموعة تعتنق مذهبًا يؤكد على أهمية الشخصية الإنسانية وعدم جواز انتهاك حريتها).

لن أطيل الحديث عن هذه الاتجاهات وغيرها، فهي جميعًا قد انتهت إلى طريق مسدود؛ بهذه الطريقة، وفي ظلِّ ظروف لا أتذكَّرُها على وجه التحديد، اكتشفتُ الشيوعية ولم أتخلَّ عنها ليوم واحد في حياتي الطويلة.

في البداية، وجدتُ في الشيوعية الإجابة عن مشاغلي الاجتماعية؛ إنني أذكر في هذا الصَّدَد مقالًا صغيرًا نشرتُه في إحدى المجلات الأسبوعية التي تولَّيتُ إدارتها؛ برهنتُ في هذا المقال على أن حال الحمار في مصر أفضل كثيرًا من حال الفلاح!

أصبحتُ شيوعيًّا إذَن لأنني لم أحتمل سوء أحوال الجماهير المصرية ولا سيما الفلاحين؛ أما الجانب «السياسي» للمذهب فلم أتبيَّنْه إلا فيما بعدُ بالتدريج.

علمت بنبأ العدوان النازي١١ في طريق عودتي بالقطار من أحد أملاك أبي، بينما كنت أقرأ نشرةً صغيرة عن «التعليم في الاتحاد السوفييتي» كنتُ مندهشًا ممَّا تحقَّق في هذا البلد بينما لم يُبذل في بلدي مجهودٌ لتحسين الوضع، هزَّني النبأ … نتائج كل هذه الجهود معرَّضة إذَن للضياع … لم أحتمل هذه الفكرة، وقرَّرتُ أن الوقت قد حان لكي أهبَ نفسي للنضال أساسًا … أظن أن هذا هو رد فعل الكثير من الشيوعيين، وبصفة خاصة الأجانب منهم؛ حيث شعر الجميع بارتباطهم بمصير هذه الحرب، وكنتُ أتميَّزُ عن معظم هؤلاء بأن أعبائي المهنية الخفيفة تُوفِّر لي إمكانات واسعة نسبيًّا.
الحادث الثاني معروف تمامًا؛ في ٤ فبراير سنة ١٩٤٢م طلبَ السفير الإنجليزي،١٢ سير مايلز لامبسون، من الملك تغيير حكومة علي ماهر لميولها الفاشية، وإعادة الوفد إلى السلطة، رفض الملك خوفًا من أن ينتقم الوفد لنفسه بعد جميع الضربات التي وجَّهَتها له السراي، فتوجَّه السفير إلى السراي على رأس كتيبة إنجليزية مسلَّحة تصحبها الدبابات. فأذعن الملك.

كان للحدث دَويٌّ هائل بين العناصر الوطنية غير الشيوعية التي رأت فيه الدليل على أن صِلات إنجلترا بمصر لم تزَل صِلات سيادة، وأن شيئًا لم يتغيَّر بالرغم من الاعتقاد الشائع بأن المعاهدة قد أنهت ذلك العهد الذي كانت فيه الحكومات المصرية مضطرة إلى الإذعان أمام تهديد الأسلحة الإنجليزية. مثالٌ من ردود فعل هذا الحدث: استقالة اللواء محمد نجيب الذي جسَّد لفترةٍ ثورة سنة ١٩٥٢م، وقد عاد محمد نجيب وسَحَبها استجابةً لطلب فاروق.

فقدَ الوفد شيئًا من نفوذه في هذا الموقف، وإن كان تولِّيه السلطة أوقف ردود الفعل الشعبية، إلا أن الرأي العام كان بعيدًا عن الابتهاج، كما ظلَّت العناصر الوطنية المتشدِّدة على موقفها المعارض، وهي عناصر غير وفدية، وبالتالي قليلة نسبيًّا.

وأخيرًا العنصر الثالث من الوضع الجديد؛ معركة ستالينجراد، في هذه المعركة لم تُحرز الجيوش السوفييتية انتصارًا حاسمًا ضد جيوش ألمانيا فحسب، بل إنها قلبت رأسًا على عقب البنية الأيديولوجية المُعادية للسوفييت — وأستطيع هنا أن أشهد أنها فعلَت ذلك بالنسبة لمصر — وبالتالي للشيوعية منذ عام ١٩١٧م.

كانت هذه البنية تقوم على عنصرَين رئيسيَّين:
  • أولهما: عدم فعالية اقتصاد يرتكز على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج: «الإخفاق» المتوالي للخطط الخمسية.
  • وثانيهما: هو التفكك الاجتماعي في دولة «ملحدة» حيث تُعطي بوفرةٍ التفاصيلَ عن حالة الانحلال الخُلقي السائدة في الاتحاد السوفييتي، فالطبقات المالكة في مصر تُنادي بمبادئ شديدة الصرامة بالرغم من انحلالها!

أخذ تراشُق المدافع في ستالينجراد يدكُّ ويدمِّر جذريًّا هذين المفهومَين، خاصةً أن الجيش المهزوم كان يبدو منيعًا: «الجنرال شتاء» هو الذي فاز أمام موسكو! وبدا المعنى الجليُّ لهذا النصر، وهو ارتكاز النظام السوفييتي على الجماهير الشعبية التي دافعَت عنه ببطولة بلغَت حدَّ التضحيات الخارقة، بالإضافة إلى تمتُّع اقتصاده بقوة وفعالية لا مثيل لهما.

ولنقُل في هذا المجال إن إعادة تأسيس البِنى الأيديولوجية المُعادية للسوفييت في مصر تتطلَّب وقتًا طويلًا؛ وقد أوقف تحالُف الاتحاد السوفييتي مع القوى الغربية الجهود المبذولة في هذا الاتجاه حتى نهاية الحرب، ثم زادت بعد ذلك مساندة الاتحاد السوفييتي الحازمة للمطالب الوطنية من تعاطف جماهير المصريين وأيضًا قطاع هام من البرجوازية. على أنه يجب التركيز بإصرارٍ على أن «الظروف الموضوعية» لا تكفي وحدها؛ فقد لعبَت مساندة الشيوعيين المصريين الحازمة دورًا حاسمًا في ذلك، وكذلك تفسيراتهم المستمرة في مواجهة الافتراءات المعادية للسوفييت وحملات التشهير؛ وعندما أثيرت الأفكار المعادية للسوفييت وغيرها مثل: الاتحاد السوفييتي قوة عدوانية وتوسُّعية أساسًا، الاتحاد السوفييتي هو القوة «الاستعمارية الرئيسية»! الاتحاد السوفييتي قوة عُظمى تهدف إلى اقتسام العالَم مع الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته الاتحاد السوفييتي الدولة ذات الاقتصاد المتأخِّر حتمًا، وجَّهَت الحملات النشِطة للشيوعيين في كل البلاد ضربات حاسمة لتلك الدعاية المعادية، على أساس من الحقائق السوفييتية.

والمثير للأسف حقًّا هو تأثُّر الشيوعيين في بعض البلاد بالحملة البائسة «من أجل حقوق الإنسان» التي اضطرت إلى الارتداد إليها الأنظمة البرجوازية بأزماتها الدائمة والمتزايدة، فهم لم يكتفوا بعدم التصدِّي لها، بل إنهم اعتقدوا أن اشتراكهم فيها سيقوِّي من نفوذهم، لا يمكن وصف هذه السياسة المذهلة بأقل من قصر النظر حتى لا نستخدم ألفاظًا أقوى. ولنعُد إلى مصر خلال تلك الفترة، ولنقُل إن الظروف الموضوعية لميلاد حركة شيوعية مصرية حقيقية قد اكتملت بنصر ستالينجراد.

وجدير بالذكر أننا بدأنا في تحقيق الظروف الذاتية لميلادها اعتبارًا من يونيو سنة ١٩٤١م؛ حيث افتتحنا مكتبة بإحدى ميادين وسط القاهرة١٣ وأسميناها «الميدان»، وقع الاختيار على هذا الاسم لمعناه المزدوج: ميدان، وساحة قتال؛ تم الافتتاح الذي أثار استنكارًا شديدًا دون صعوبات كبيرة لاشتراك الاتحاد السوفييتي في الحرب، ولانتمائي إلى الطبقة الاجتماعية المتميزة التي تتمتَّع بحقوق هائلة.

في ظلِّ المقاطعة الكاملة لأوروبا، كانت معظم الكتب ترِد إلينا من الولايات المتحدة؛ وقد قامت المكتبة بدور لا يُستهان به في تزويدنا بأعمال عن الاتحاد السوفييتي والنظرية الماركسية، وهذا هو الغرض من إنشائها؛ حيث كانت هذه الأعمال ممنوعة منذ عام ١٩٢٤م بينما كان مصرَّحًا بمؤلفات تروتسكي؛ مما أدَّى إلى اعتناق العديد من المصريين للشيوعية، مرورًا بالتروتسكية، الأمر الذي يبدو شاذًّا في الغرب؛ يعود الفضل إذَن في تكويننا الماركسي العميق نسبيًّا إلى هذه الكتب التي درسناها بحُب ومثابرة.

أدَّت المكتبة أيضًا دورًا هامًّا في إعلام الجمهور المصري المستنير؛ كان الكثير من الناس يأتون للتزوُّد منها بالكتب والمجلات، وبالرغم من كثرة العملاء لم تكُن الحالة مزدهرة؛ لأن العاملين بالمكتبة، وهم أصدقاء من ذوي القلوب الرقيقة، كانوا يغمضون عيونهم عندما يغادر أحد الطلاب — وأكثرهم فقراء جدًّا — المكتبة دون أن يسدِّد ثمن ما يحمله من كتب.

وأخيرًا كان للمكتبة دور شديد الأهمية كحلقة اتصال؛ كان في مصر حوالي المليون من جنود الحلفاء الذين ينتمون إلى جميع الجنسيات ويتحدثون مختلف اللغات: فرنسيون، إنجليز، أستراليون، نيوزيلنديون، سنغاليون، يونانيون، بولنديون، يوغسلافيون، وفلسطينيون يهود … إلخ. وكانت المكتبة تتلقى كتبًا بكل هذه اللغات، خلاف الكتب الإيطالية والألمانية التي تُوزَّع داخل معسكرات الاعتقال — وحدات يهودية فقط — بالاتفاق مع الجنود الفلسطينيين المكلَّفين بالحراسة. لم يكُن الإنجليز يرحِّبون باشتراك الفلسطينيين في المعارك الحربية حتى لا يكتسبوا الخبرة العسكرية، فقط عدد قليل منهم يتميَّز بالجرأة الشديدة كان يُكلَّف بأشد المهام خطورة، وغالبًا ما تكون مهامَّ انتحارية؛ ساعد هذا النشاط على تكوين مجموعات تقدُّمية مُعادية للفاشية داخل هذه المعسكرات. وحتى لا نعود مرة أخرى لهذا الموضوع أودُّ الإشارة إلى المجلة المعادية للفاشية التي أصدرَتْها الحركة المصرية للتحرُّر الوطني بعد ميلادها في إطار المهام الدولية التي قامت بها؛ كانت هذه المجلة موجهة إلى معسكرات الاعتقال باللغة الألمانية، وقام بتوزيعها أيضًا الجنود اليهود الفلسطينيون؛ هكذا كانت المكتبة وسيلة الاتصال بين التقدُّميين من كل البلاد (وبيننا).

لم تكُن المكتبة هي النشاط الوحيد لنا، فقد ازدادت خلال هذه الفترة كثافة النشاط الدعائي داخل الأوساط المصرية لا سيما الشعبية؛ وأحبُّ هنا أن أقول إنني أعتبر لقائي بعبده دهب فرصة كبيرة لي.

إن عبده دهب سوداني الأصل، وهو يكاد — حينذاك — أن يكون بلا مورد؛ ولكنه ذكي نشِط، مُناضل، سريع البديهة، والأهم من ذلك شعبي جدًّا؛ ويجدر بنا الإشارة إلى انتصار مذهل حقَّقَه التضامن النوبي مع حصافة عبده دهب عندما نجح هذا الأخير في الاتصال بأحد المحيطين بأحمد حسنين، رئيس الديوان الملكي آنذاك، وحصل منه على التقارير العديدة التي ترِد إلى السراي عن الشيوعيين؛ وهو الذي حصل على الرخصة — التي لا غِنى عنها عند نشر أية دورية — للمجلة الأسبوعية «حرية الشعوب» حيث قمتُ باستئجارها من المالك الذي أقنعه عبده دهب بمواجهة جميع صداماتنا مع البوليس السياسي، وكان هو أيضًا الذي اجتذب معظم المحررين. وأودُّ هنا الحديث عن أحدهم للدور الخاص الذي قام به وهو النوبي عبد الرحيم صلاح عرابي.

كنت أشعر دائمًا بالحب تجاه النوبيين — المصريين منهم والسودانيين — قد يرجع هذا إلى المودة الكبيرة التي كنتُ أكنُّها للإنسان الرائع الذي يعمل بخدمتنا: أحمد صاحب القلب النادر والهيئة العظيمة، الدرة التي حسَدَنا عليها جميع الأصدقاء؛ كان لأحمد ابنٌ في مثل سني وكنا متفاهمَين، بدأ هذا الابن طريقًا لامعًا وأعتقد أنه أكمله وإن كانت أخباره انقطعت عني؛ أما أحمد فما زلت نادمًا ندمًا لا يخفُّ مع الزمن لأنني لم أوفِّر له حياةً أكثر راحة في أيامه الأخيرة.

كان أحمد هو الذي يقوم باختيار بقية العاملين: الطباخ وغيره من الخدم ذكورًا وإناثًا، ولا أذكر أنني تعوَّدت على قيام أحمد «بخدمتي» على المائدة، ولا أظنني تناولتُ وجبة واحدة — كنت الأصغر سنًّا وبالتالي الأخير في الترتيب — دون أن تثير ضيقي الشديد فكرة ذهاب «بقايا الطعام» إلى المطبخ ليتناولها الخدم؛ أما عن اهتمامه بي فلم يؤثِّر فيَّ كثيرًا؛ حيث إن أمي وعمتي كانتا تفعلان الشيء نفسه.

ولنعُد إلى عبد الرحيم الذي أخبرني يومًا أن أحد الضباط المصريين، وهو سوداني من جهة الأم، سأله في إحدى الجمعيات التي اعتاد النوبيون اللقاء فيها عن موقف الشيوعيين من المسألة السودانية؛ هذه هي المناسبة التي كتبتُ فيها، لهذا الضابط، التقريرَ الطويل الذي يحدِّد بصفة نهائية موقفنا من هذه المسألة.

تعرَّفتُ على هذه المشكلة بفضل عبده دهب والطلبة السودانيين الذين كان يحضرهم للقائي. أذكر حماسي عند اجتماع أول خلية شيوعية كلها من السودانيين! وساعدني أصدقائي على أن أقيم وزنًا للحقائق السودانية حتى لا يكون تصوُّري للمشكلة «مصريًّا» تمامًا.

كانت السياسة السودانية الداخلية تنقسم إلى تيارَين كبيرَين:

الأول: يُنادي بالوحدة مع مصر؛ لا أريد أن أحلِّل بالتفصيل التكوينَ الاجتماعي لهذا التيار، ولكنه — بداهةً — مُعادٍ للسيطرة الإنجليزية، ولشدة ضعفه لا يتصوَّر مستقبلًا ذاتيًّا للسودان في مواجهة الإمبراطورية البريطانية المهيبة؛ ويرتكز هذا التيار على مجموع القوى السياسية المصرية التي لا تقبل شعارًا خلاف «وحدة وادي النيل»١٤ تحت التاج المصري أي تحت السيادة المصرية.

ويُنادي التيار الثاني الذي يُسانده الإنجليز بكل قواهم — والذي يُدعى أعضاؤه ﺑ «الانفصاليين» — باستقلال السودان، ولن نعرض لتكوينه الاجتماعي هو الآخَر.

عن أي الموقفَين دافعَ التقرير؟ كان التقرير مُؤلَّفًا من عنصرَين: الأول خاص بالنضال المشترك للشعبَين ضد الإمبريالية، وهو موقف أساسي وإنْ لم يكُن لدى بعض الأوساط «الديمقراطية» بالبداهة التي يظنها البعض. أذكر أنني التقيتُ في هذه الفترة — لا أذكر سنة اللقاء بالتحديد — بأحد الشيوعيين الإنجليز الذين عملوا بالتدريس في السودان؛ وكان هذا الشخص يرى أنه من المُسلَّم به أن يرتبط الشيوعيون السودانيون مباشرة بالحزب الشيوعي الإنجليزي عملًا بالمبدأ القائل ﺑ «تحالُف البروليتاريا (الطبقة العاملة) في البلد الإمبريالي مع حركات التحرُّر في المستعمرات» التابعة لهذا البلد، أكدت له — وأنا على يقين مما أقول — أن الصِّلات المتميِّزة التي يقيمها الشيوعيون السودانيون ينبغي أن تكون معنا نحن الشيوعيين المصريين. غضب لرأيي وعرفت بعد فترة أن الحزب الشيوعي الإنجليزي أعلن أنني «تروتكسي».

كان هذا الاتهام هو الأول في سلسلة طويلة استمرَّت في كل مكان حتى يومنا هذا؛ وقد أثَّر فيَّ هذا الاتهام وأضعَفَ من نفوذي لمغزاه الكبير في هذه الفترة؛ حيث أصبح عليَّ مواجهة العداء — داخل مصر نفسها — من التيارات التقدمية وخاصة الشيوعيين الإنجليز العديدين المتواجدين بالجيش، وهم باعتبارهم «شيوعيين معترفًا بهم» يتمتعون بتأثير كبير علينا نحن — الشيوعيين المناضلين «غير المُعترَف بنا» — الذين نسعى وراء هذا «الاعتراف» بكل قوانا؛ لأنه القادر وحده على إعطائنا الثقة في أننا شيوعيون حقيقيون.

وإذا بالحزب الشيوعي الإنجليزي الذي ندينُ له بصورةٍ ما بالتبعية حسب المبدأ المذكور عاليه يتهمني — في أول موقف له من الشيوعيين بمصر — بالتروتسكية؛ يا له من نصر بالنسبة لأعدائي!

إنه إذَن «نضال مشترك»؛ وبما أننا نحب الانتقال من القول إلى العمل فسرعان ما وجد عبده دهب «رخصة» أخرى للإيجار لنشر مجلة سودانية أسبوعية: أم درمان التي تحمل منذ عددها الأول اسم «نضال مشترك» بحروف كبيرة إلى جانب الاسم الأصلي المطبوع بحروف أصغر بصورة ملحوظة؛ وقد قامت هذه المجلة التي تحمَّلَ عبده دهب مسئوليتها بالكامل بدور رئيسي سواء في السودان أو في مصر.

كان العنصر الثاني في التقرير هو «حق الشعب السوداني في تقرير مصيره بعد التحرُّر من سيطرة الإمبريالية»، ويتكوَّن هذا العنصر بدوره من شقَّين:

الشق الأول: حق تقرير المصير، وهو من المبادئ الدائمة في الحركة الشيوعية؛ وكانت ميزته الأولى في رأينا تكمن في أن النداء به وممارسته يؤسِّسان القاعدة لوحدة القوى المعادية للإمبريالية في السودان. كما أنهما يَحُولان دون انقسام الوطنيين السودانيين بسبب مشكلة مستقبل بلدهم، الأمر الذي يقوِّي النضال ضد الإمبريالية.

كانت القوى «الانفصالية» مع حلفائها من الإنجليز دائمة الإشارة إلى «تقرير المصير» هذا، ممَّا أدَّى إلى تعرُّضنا مرَّة أخرى للهجوم من جانب جميع الذين يتهموننا بأننا «عملاء للإنجليز» — لا شعوريًّا على الأقل — وبأننا، على أحسن الفروض، «نساعد الإمبرياليين على تحقيق أهدافهم» … إلخ.

لم نتأثر؛ فلقد كان هناك بالفعل اختلاف جوهري بين التصوُّرَين؛ فالشق الثاني من هذا العنصر ينصُّ على أن هذا الحق لا يجب ممارسته إلا بعد الانتصار على الإمبريالية، وليس تحت رعايتها، كما تعد لذلك المخططات الإنجليزية.

أثار الموقف بكامله مناقشات كثيرة قبل أن يتم قبوله واعتباره «مُسلَّمًا به»، حتى إننا اكتشفنا، أنا وعبد الخالق محجوب، عند لقائنا في الخمسينيات بباريس أن ظروف ميلاد هذا الموقف قد انمحت، وأنه بطريقةٍ ما يظنه «موجودًا دائمًا».

لم أستطِع نسيان هذا الموقف — خاصةً أنه هو الذي أتاح للسودان في عام ١٩٥٣م أن تكون أول بلد يتحقَّق لها الجلاء التام بالشرق الأوسط — في إطار انتمائها جزئيًّا على الأقل إلى هذه المنطقة، وأن الضابط الذي استفسر عن موقفنا هو «محمد نجيب»!

يُعتبر «محمد نجيب» أخصائيًّا كفؤًا في هذه المسألة؛ فهو كنصف سوداني عاش وعمل وناضل في الفترة الأولى من حياته في السودان الذي احتفظ فيه بصداقات عديدة؛ وفي مذكراته «كلمتي للتاريخ» الذي خصَّص فيه فصلًا كاملًا لهذا الموضوع تبنَّى «محمد نجيب» هذا الموقف وأثبَتَه كما فعلتُ وانتهى إلى الحصول على تطبيقه، ولكنه أغفلَ ذِكر أن الشيوعيين المصريين والسودانيين فقط هم الذين دافعوا عنه حتى ذلك الحين بسبب عدائه الشديد للشيوعية؛ كان ينبغي لهذه الواقعة أن تُكتب، وهذا هو أحد أهداف هذا الكتاب؛ ذِكر فضل الشيوعيين في تاريخ مصر الحديث، الأمر الذي حُرموا منه طويلًا.

إن الأنشطة التي تمثِّلها السودان — بالرغم من أهميتها — والمكتبة كانت تتم بالارتباط مع اتجاه سياسي ينبغي عرضه، ولكن أودُّ قبلَه أن أنتهي من نشاط إضافي له أثَر كبير في إعدادنا منذ بداية نشاطنا، هذا النشاط هو ما سُمِّي ﺑ «المسألة اليونانية» التي لن أعرض لها إلا من خلال عملنا، فهي موضوع يطول شرحه، كما أن عناصر كثيرة تعوزني، ولكنها ستُتيح لنا مع هذا تصحيح بعض الأخطاء، وكذلك التشويه المتعمَّد الفاضح.

من المعروف أنه حدث عصيان بين الجنود اليونانيين في مصر عام ١٩٤٣م، لم يُكتب لهذا العصيان تاريخ حقيقي، فكلُّ ما كُتب عنه هو تحليل جادٌّ؛ وأنا في الواقع أجهَلُ ما إذا كان ذلك حدثَ داخل الحزب الشيوعي اليوناني. ماذا كان موقفنا؟

يبدو أن إسكرا Iskra قد اتخذ من هذه الحركة موقفًا سلبيًّا تمامًا. وإن كنتُ لا أعلم ذلك علم اليقين لأنني — كما سبق لي القول — أجهَلُ ما يدور عند «منافسينا» مع أنها حركة جمعت بين ثقافة نظرية بدَت لي عميقة، وإن لم أتمكَّن من التحقُّق منها وإيمان مُطلَق «بالطهارة الثورية» لأفرادها الذين «يُصدِرون أحكامًا» على كل شيء، فهم على يقين من قدرتهم على التحليل الصحيح للموقف في أيٍّ من بلدان العالم وليس في مصر فقط. كما أنهم على ثقة ليس من انتصار القضية التي يدافعون عنها فحسب، بل من عدم إمكان خسارتها مؤقتًا في أي مكان، وأذكر تحليل الانسحاب «الاختياري» للجيوش السوفييتية في يونيو سنة ١٩٤١م وأخيرًا وقت الفراغ الهائل لدى أعضائها، بالإضافة إلى الفرصة الممتازة التي أُتيحَت لشغلهم.

كُتب تحليل إسكرا في هذه المناسبة لينتهي إلى أن هذا العصيان قد أُدين بشدة لأنه «يحدُّ من جهد الحلفاء في الحرب»، ولكني لم أصدِّق شيئًا من هذا؛ فجهد الحلفاء بالحرب — وأقصد الإنجليز بالذات — يحدُّ منه الحكام الإنجليز؛ كان هناك مليون من الجنود البريطانيين يُحشَدون بلا قتال في الشرق الأوسط.

إن الهزيمة لم تبدُ لي قطُّ دليلًا كبيرًا على خطأ قرار الحرب، ونذكر هنا موقف لينين بعد هزيمة الثورة الروسية في ١٩٠٥م تجاه الذين قالوا: «كان ينبغي ألا نحمل السلاح» … إلخ.

مرَّة أخرى لا يمثِّل حُكمي إلا «رأيًا عابرًا»، أما موقفنا المساند للعصيان فكان قائمًا على اعتبارات أخرى، أولها وأهمها هو عدم إمكان المناقشة عندما يطلب منا الممثلون الرسميون لحزب شيوعي «شقيق» شيئًا — كان شعورنا بهذه الأخوة قويًّا لدرجة لا مثيل لها — لم يكُن أمامنا سوى تنفيذ المهام المطلوبة بأقصى جهدنا، وخاصةً أن العداء الإنجليزي للعصيان لم يبدُ لنا بالضرورة عنصر إدانة، بل على العكس من ذلك أكَّد جهودنا لصالحه، وقد سبقَ لي أنْ قلت هذا الكلام وسأعود إليه مرَّة أخرى.

ما أهمية عملنا في هذا المجال؟!

لا أعرف إلى أي حدٍّ ساعد عملُنا الحركة، كانت أنشطتنا عديدة بالطبع فهي تشمل توزيع المنشورات والتستُّر على المناضلين العديدين الجاري البحث عنهم. أذكر أنه في إحدى المرات قيل لنا إنهما اثنان، ووجدنا عند اللقاء سبعة عشر، وكنا نُخفيهم في أماكن مختلفة … مرَّة ثانية كان لديَّ مسئول يوناني لم أتمكَّن من إيجاد سرير له إلا حيث أقطن في الطابق الثالث عشر من عمارة كبيرة وحديثة تضمُّ أندية للضباط البريطانيين، وتلقَّينا تحذيرًا بأن البوليس السياسي يُحاصر العمارة ويفتِّشها، كنا نُئوي حينئذٍ ضابطًا من القيادة العامة البريطانية العظيمة، وهو جامعي النشأة تؤهِّلُه معرفته باللغات التي يجهل عدد ما يجيده منها لاستجواب السجناء، لم يتردَّد صاحبنا هذا؛ ارتدى لباسه العسكري الخاص بالضباط من مرتبة القادة وتأبَّط زميلنا الذي لم يكُن عظيم الهيئة واجتاز الحواجز تصحبه تحيات الشرطة والحرس، انضمَّ هذا الضابط بعد تسريحه إلى الحزب الشيوعي الإنجليزي الذي لا يزال عضوًا فيه حتى الآن، ومع هذا كان هذا الضابط هو المقصود عندما اتهمني الحزب الشيوعي الفرنسي في عام ١٩٥٢م بالاتصال بعميل من المخابرات البريطانية.

ولنستأنف إحصاء نشاطنا في مساعدة الوطنيين اليونانيين المتمرِّدين الذين كنا نوفِّر لهم أماكن اللقاء … فضلًا عن تأمين الصِّلات بين مركز الحركة بالقاهرة والجنود اليونانيين المحاصرين بالجنود الإنجليز في الصحراء، عبَرَ اثنان من زملائنا الصحراء مرَّتَين، وفي إحداهما تعرَّضا لرصاص حرس الحدود المصري. أما أنا فكان دوري هو المساعدة في تزويد الجنود المحاصرين بالمئونة، فكوَّنتُ في أحد أملاك أبي على أطراف الصحراء احتياطيًّا من البنزين والغذاء وكنتُ أذهب ليلًا لتسليمه في أماكن مُتفَق عليها. لم يستمر هذا لأكثر من خمسة عشر يومًا، أو بالأحرى خمس عشرة ليلة كان عليَّ أثناءها الاستمرار في أنشطتي اليومية بما فيها الأنشطة المهنية، لذا لم أستطِع الصمود إلا بتناول كميات متزايدة من البنزدرين benzedrine — وهو مُستحضَر يُعطَى للحرس الليلي لمَنْعهم من النوم — الذي يمدني به رفاقي الإنجليز، يجب أن أقول إن جهازي العصبي اهتز لسنوات طويلة.
نقطة أخيرة: كان لي حديث بعد سَحْق التمرُّد مع قواد الحركة الذين شكرونا بتأثُّر وقال لي أحدهم، واسمه نيفيلوديس Nephelodis: «نحن نعرف أن موقفك حرِج في مصر ونحن أقوى مما تظن فإذا تعرَّضتَ لخطر أنذِرْنا وسنبعث بغواصة لإحضارك.»

لماذا أروي هذا؟ بسبب ما يلي: في سنة ١٩٥٢م انعقد بفيينا المؤتمر الدولي لرجال القانون الديمقراطيين وقد مثَّل مصر فيه أحد رفاقي، الْتَقى هذا الرفيق بعضو هام من الوفد اليوناني قال له: «أنت قادم من مصر، حسنًا نحن نعرف أن بها (كنت قد أُبعِدتُ منذ سنتين في ظروف سأرويها فيما بعد) تروتسكيًّا معروفًا: هنري كورييل … هل تعرفه؟»

والآن إلى واقعة لقاء المسئول اليوناني مع أندريه مارتي Andre Marty١٥ حيث إن الرواية الموجودة في الكتاب اليوناني المترجَم بالفرنسية مشوَّهة للغاية: كان أندريه مارتي مارًّا بالقاهرة في طريقه إلى الجزائر — سأقصُّ هذا في مناسبة أخرى — وألحَّ علينا المناضلون اليونانيون عندما علموا بذلك في ترتيب لقاء معه، كان لدى مارتي تعليمات مشدَّدة جدًّا بعدم إجراء أي اتصال وبخاصة في مصر حتى لا تُثار الشبهات حول قدومه للجزائر، فكيف بلقاء سرِّي مع مناضلين في صراع مع حلفاء الاتحاد السوفييتي ومطلوبين أيضًا! كيف استطعنا إقناعه أنا وزوجتي؟ لا أذكر، لعلَّه تأثَّر باستعدادنا الطيِّب وعدم إدراكنا للأمور … نجحنا في النهاية، وتمَّت المقابلة في سيارتي التي تولَّيتُ قيادتها لمدة تقرب من ساعتين قدَّم فيهما المسئول اليوناني إلى مارتي تقريرًا عن كل الأحداث المتعلِّقة بهم، سَمِعه هذا الأخير باهتمام، محاذرًا اتخاذ موقف ووعد بنقل الحديث؛ لم يتعدَّ الأمر ذلك.

كانت المشاركة في المسألة اليونانية هامة جدًّا بالنسبة لنا؛ حيث كانت المخاطر في الأنشطة المصرية التي تتم في ظل ظروف أمن مرضية نسبيًّا، كما سأبيِّن ذلك فيما بعد، تبدو لنا بعيدة، أما المشكلة اليونانية التي كانت بحقٍّ شكلًا ضاريًا من أشكال الصراع ضد الإمبريالية فقد واجهنا معها حقائق فظيعة، من تفتيش فظٍّ إلى تعذيب مخيف للمناضلين المعتقلين، ونحن مَدينون لها بالقوة التي اكتسبناها من مشاركتنا المتواضعة.

ولنعُد الآن إلى الفترة التي تنتهي بميلاد حركة شيوعية مصرية حقيقية وثورية؛ لقد كانت بحقٍّ فترة غنية جدًّا.

ولنتصوَّر الوضع أولًا: قُمنا حتى ذلك الحين بإذاعة الأفكار الشيوعية المرتكزة على نشر النظرية الماركسية والدعاية للاتحاد السوفييتي؛ ومن الآن فصاعدًا نريد الذهاب لأبعَد من ذلك؛ لذا ينبغي أولًا الإجابة عن هذه الأسئلة، مع إعطاء إجابات عملية لا إجابات مجرَّدة أو تعريفات حكيمة:
  • ما معنى اعتناق الشيوعية؟

  • ما الأهداف التي ينبغي للشيوعيين أن يتخذوها؟

  • ما المهام التي ينبغي أن يقوموا بها؟

يجب الاعتراف بأننا لم نُسِئ التصرُّف، وخاصةً أنه لم يكُن لنا معلِّم: لقد كنا في آنٍ واحد مبتدئين بلا معلِّم، وقادة بلا إعداد، حاولنا بالطبع أن «ننقل» عن المناضلين الذين اتصلنا بهم من خلال المكتبة، ولكن التجارب لم تكُن مثمرة جدًّا، فالغالبية العظمى منهم مناضلون بأحزاب شرعية بدائية التكوين، والمسئولون المهمين — مثل بعض المسئولين الإنجليز (راجع ما سبق) — يقاطعونني، أو يزدروننا، أو كانوا غير قادرين على فهم مشاكلنا وإيجاد حلول لها.

كانت أكثر الصِّلات ثراءً هي صِلاتنا بالزملاء اليونانيين ولا سيما إتيين Etienne الذي قام بدور كبير في تنظيم جنود الجيش الملكي، وهو حسب اعتقادي، عامل خراطة مريض بالسل، له تحياتي … كم أكون سعيدًا لو عرفت أخباره! وأستطيع القول، رغم أحاديثنا الشيِّقة أحيانًا مع مناضلين شيوعيين أجانب، فإننا لم نتلقَّ أبدًا نصائح ولا توجيهات ولا تعليمات من أي شخص. وأرغب هنا في الحديث عن صِلاتي بسفارة الاتحاد السوفييتي التي فتحت أبوابها عام ١٩٤٢ أو ١٩٤٣م: كنت الوحيد في مصر الذي أقام علاقات عمل مع الاتحاد السوفييتي وهي صِلات لا يمكن اعتبارها تجارية فحسب، ومن جهة أخرى كانت زوجتي أمينة صندوق «السيدة تشرشل! للإعانة الروسية!» يا لها من هيئة مدمرة!

كان من الطبيعي إذَن أن أقابل المستشار عبد الرحمن سلطانوف الذي ربما اختير لهذا المنصب بسبب أصله الإسلامي ولمعرفته باللغة العربية، قابلني المستشار عبد الرحمن ثلاث أو أربع مرات، وقد أعلنني على الفور في أول مقابلة أن الاتحاد السوفييتي لا ينوي القيام بأي نشاط في مصر التي يجهل عنها كل شيء، شرحتُ له أفكارنا عن الوضع في مصر وأعتقد أنني لم أؤثِّر فيه كثيرًا، فقد عرفت بعدها أنه كتب مقالًا في مجلة سوفييتية أكَّد فيه عدم وجود شيوعيين بمصر!

وفي آخِر مرَّة طلب مني أن أتخلَّى عن استيراد الكتب من الاتحاد السوفييتي لأدير مكتبة «برجوازية» لأنني أسيء إليهم … رددت بنبرة مُستنكِرة: إنه لا توجد مكتبة قادرة على بذل الجهود والتضحيات التي نقوم بها، ولا على الحصول على نتائج تُقارَن بنتائجنا. فلم يعلِّق على هذا، ولكنني لم أرَه بعدها؛ وقد تمَّت هذه المقابلات بالطبع على مرأًى ومَسمع من الجميع.

إن تقارير بعض هيئات المخابرات التي أعلنت أنني «عميل سوفييتي» تعود إلى هذه الفترة، تصوروا! مقابلة مستشار بالسفارة! لا يحتاج المرء أكثر من ذلك ليكون «عميلًا»! لقد تحدَّث القذر جورج سوفرت Georges Suffert في إحدى مقالاته المقزِّزة عن صِلاتي بسلطانوف «الرهيب» تنطق هذه الصفة «بالعلم» وتعطي لهذه «الصِّلات» طابعًا مثيرًا للقلق، ولكن إذا كان الشخص قذرًا … يجب أن أعلن أن السبب في هذه الصِّلات المحدودة بالاتحاد السوفييتي لا يعود إليَّ.
بدأنا إذَن العمل بحماس في الفترة التي تلَت العدوان النازي، أعطاني مارسيل إسرائيل ثقته في وقتٍ ما، وأشركني في عمله، ولكن لم تُسفِر أبحاثنا المشتركة عن شيء يُذكر فقد تركتُ العمل منذ الاجتماع الأول بمجموعة مارسيل إسرائيل؛ حيث كانت لي رؤية أوسع — تعود لأصلي «البرجوازي» — من تصوُّرهم الضيِّق للأمور الذي روعني؛ كانوا أناسًا جادين ولهم «اتصالات دولية» لا أعرف عنها الكثير، ولكنهم — في رأيي — يحملون أنفسهم على مَحمل الجد أكثر من اللازم، ومع هذا تعاونت معهم «من الخارج» لفترة، ولكن ساءت علاقاتنا إلى أن انتهت بهجرهم «بسببي» الاتحاد الديمقراطي الذي أنشَئُوه، والذي انعقدت اجتماعاته الأولى في مركز محفل ماسوني إيطالي، فالماسونيون أعداء منطقيون للفاشية التي تضطهدهم وقد أصبح بعضهم مناضلين شيوعيين نشِطين مثل ساندروروكا الذي قابلتُه في تورين Turin عام ١٩٥١م، وجدتُ بعد ذلك خلف مكتبه مركزًا بدا لي رائعًا بالمقارنة بالحجرة الرثة التي وضعها الماسونيون تحت تصرُّفنا.

بعد ترك الاتحاد الديمقراطي قامت مجموعة مارسيل بتأسيس نادٍ جديد أكثر شعبية وذي إلهام مصري «الثقافة وأوقات الفراغ» وذلك لعدم قدرتها على تغيير أسلوب عملها، هكذا كنت أُعتبَر ممثلًا للبرجوازية بينما يمثِّلون هم الجماهير الشعبية! لست أعرف بالتحديد تاريخ المقابلة الحاسمة التي جمعتني ومارسيل بعد رجوعه من فلسطين حيث اقترح عليَّ، في محاولة جديدة للوحدة شجعته عليها الأحزاب الشقيقة، أن أنضم لمجموعته، حاولنا معًا الإلمام بالموقف ولكن سرعان ما توقفنا عند تعرُّضنا لمسألة الدين؛ كان مارسيل يؤكد في جميع الحالات على ضرورة الإلحاد بالنسبة للشيوعيين وعلى أهمية الأنشطة المعادية للدين بالنسبة للحزب؛ راعني موقفه بالرغم من أنني فقدتُ إيماني مبكرًا؛ كنت يهوديًّا في مدرسة كلها من المسيحيين (مدرسة الرهبان اليسوعيين المدهشة بالفجالة. وهي مدرسة أحتفظ لها بذكرى طيبة للغاية، فهي قد ربَّت فيَّ القيم الأخلاقية العالية، كما أدين لها بتلقيني فلسفة التومائية الحديثة التي أشعرتني بحاجتي لتصوُّر شامل للعالم، هذا التصور الذي وجدته في الماركسية) ولأنني عشت في بلد مسلم أدركت نسبية العقائد ومنافاة تمييز إحداها على الأخريات — باعتبارها جامعة لجميع الحقائق — للعقل، ساعدتني أيضًا على التخلُّص من «الأفكار» الدينية «المُسبَقة» الذي لم يتطلب وقتًا طويلًا، معلمة فرنسية غادرتنا لتُدير ليسيه البنات التابع للإرسالية العلمانية بالقاهرة … ولكن مصارعة الدين في مصر حيث يتمتع بجذور عميقة عملية انتحارية بحق.

كان جوهر المناقشة في الواقع غير هذا: هل يهدف الشيوعيون إلى نشر الماركسية كأفكار، كمفاهيم، كعقيدة؟ أم يهدفون إلى جعلها دليلًا للصراع من أجل تحرير الشعب المصري؟ يجب أن أقول إن مفاهيمي «الانتهازية العميقة» أثارت تقزُّز مارسيل لمدة طويلة، ومع هذا كانت ولا تزال المناقشة أساسية، فالشيوعيون إما سيبرزون أن الماركسية هي الأسلوب الأكثر فعالية لتحسين أحوال الجماهير المصرية جذريًّا، وفي هذه الحالة يكونون جديرين بثقتها، أو سيقاتلون مع أو ضد مفاهيم فلسفية ودينية، مما يؤدي إلى انقسام قوى التحرير.

سيُقال لي إن الثورة البلشفية ناضلت ضد الكهنة الأرثوذكس! ولكن ما العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية التي تمثل السند الرئيسي للقيصرية الطاغية في العشرينيات وإيمان الجماهير المصرية!

حقًّا إن أكثر القوى رجعية تستخدم الدين ضد الشيوعية وقد قدمتُ واقعة من هذا الصراع (راجع موضوع القذر جورج سوفرت Georges Suffert في بوان دي جوان (نقطة يونيو) Point de juin سنة ١٩٧٦م) ولكن هذا يحدث أيضًا في دولة فرنسا العلمانية؛ من الغباء إذَن الرد على مثل هذا الهجوم بهجوم على الدين لا على الرجعية.

إن العالَم بعد ثورة أكتوبر، وهذه الفكرة من الأفكار العزيزة جدًّا عليَّ، لم يعُد هو عالم سنة ١٩١٧م، فالقوة المحولة للثورة البلشفية المنتصرة يزيد وزنها في جميع المجالات شيئًا فشيئًا، كل شيء في المجتمع يتغيَّر كما أن دور الدين قد تطوَّر كثيرًا؛ حيث وقف إلى جانب الجماهير عدد متزايد، لا من المؤمنين فقط، بل ومن رجال الدين الذين انضموا بعزم إلى قوى التحرُّر الاقتصادي والاجتماعي وشاركوا في النضال من أجل إجراء تغييرات اجتماعية عميقة كفوا عن محاولة كبحها.

سأسبق الأحداث بعض الشيء وأتحدَّث هنا عن عملي بالأزهر: كان للحركة المصرية للتحرُّر الوطني قطاع بالأزهر، وكان هناك — في الفترة التي تولَّيتُ فيها مسئولية هذا القطاع (!) — مجموعة في كلٍّ من كليات: أصول الدين، الشريعة، اللغة، ومجموعة أخرى في المعهد الثانوي الذي يؤهِّل لدخول هذه الكليات، وكانت لجنة الأزهر تضم عضوًا من كل مجموعة.

كان طلبة الأزهر هم أكثر الطلبة فقرًا في مصر، وهم نازحون من الريف، ويقطنون لدى عائلات فقيرة هي الأخرى، ويحصلون من الجامعة على منحة شهرية: جنيهان مصريان يتدبرون بهما أمرهم، بحيث يبعثون إلى ذويهم بجزء منهما، كان يأتيهم من الريف بعض الطعام: جرة الجبن الذي يأكلون به الخبز الموزَّع عليهم مجانًا بالجامعة، وكانوا يظنونني لعدم معرفتي باللغة العربية، وهي اللغة الوحيدة التي يمكنني التحدث بها إليهم، عاملًا فرنسيًا (!) ويجدون طبيعيًّا اهتمامي بهم.

كنت أحضر اجتماعات «لجنة الأزهر» وكانت كثيرًا ما تتوقف في أوقات الصلاة، ولأعلن رسميًّا أنه لم تحدث قط «مشكلة» — ولو صغيرة — تتصل بالدين: نَظَم أحدهم قصيدة شعرية من خمسمائة بيت عن الجدلية (الديالكتيك)! وقد اتخذ طلبة الأزهر في سنة ١٩٤٦م موقفًا تقدميًّا حازمًا إلى جانب طلبة جامعة القاهرة، وبالإضافة إلى ذلك أقاموا الصِّلة الأولى بين الشيوعيين والريف المصري الذي عادوا إليه، كان عملًا مثاليًّا ينبغي استئنافه باستخدام كل القوى، وهي قوى أكثر عددًا من تلك المُتاحة لنا.

يحيا ثوار الأزهر! وليسقط استخدام الدين بواسطة الرجعية المنحلة والفاسدة ممثلة في الطبقات التي تزدهر فيها جميع المباذل!

وليحيا الشيوعيون المدافعون عن أخوة شعوب الأرض جميعًا، سواء تلك التي تحرَّرَت أو التي لا تزال تناضل في سبيل تحرُّرها، مثالًا للاستقامة والخلق والإخلاص للوطن وللجماهير المصرية!

كان أكثر مواقف الحركة الشيوعية المُقبلة حسبما هو الموقف المعادي للإمبريالية، بيَّنتُ قبلًا أن للبرجوازية المصرية والقوى التقدُّمية رأيًا في معاهدة سنة ١٩٣٦م تكريسًا فعليًّا للاستقرار في مصر، كما بيَّنتُ أن أحداث سنة ١٩٤٢م هي أحداث «تقدُّمية» في رأي مجموع التقدميين، فهي قد انتهت إلى:
  • (١)

    الإتيان بحكومة أغلبية بدلًا من حكومة أقلية.

  • (٢)

    الإتيان بحكومة حليفة ﻟ «الديمقراطية» بدلًا من حكومة موالية للفاشية، مما يزيد من قوة المعسكر المُعادي للنازية.

منذ البداية أوضَحَ لي كتاب لينين «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» الجانب المُعادي للإمبريالية في النشاط الشيوعي، لم يكُن هناك شك في أن النضال ضد الإمبريالية هو جوهر نضال الشيوعيين في العالم كله، وحسب ما تراءى لي لم تغير الإمبريالية الإنجليزية من قوامها، فناديت على الفور (في مواجهة المناضلين ضد البرجوازية العدو الرئيسي للجماهير المصرية، وفي مواجهة المؤيدين للنضال ضد الفاشية، العدو الرئيسي للشعوب) بالنضال ضد الإمبريالية الإنجليزية، العدو الرئيسي للشعب المصري، وضد فاشية النازيين الذين لا يفضلونهم بحال.

كان أول نشاط «عملي» لي هو توزيع منشور كتبه زملاء مصريون لبوانتي Pointet وقمت أنا وهو بتوزيع أربعة آلاف نسخة منه في أحياء القاهرة الشعبية، ليلة بعد ليلة في ظلِّ الأحكام العُرفية بعد تقدُّم الجنود الإيطاليين عن طريق ليبيا: كانت الأحكام العرفية قد أُعلِنَت منذ بداية الأعمال الحربية ولكن تطبيقها ظلَّ غير مشدد حتى ذلك الحين. ماذا يقول هذا المنشور؟ باختصار «إن الغزاة الجدد ليسوا بأفضل من الإنجليز. وهنا أيضًا ينبغي الاختيار بين الانطلاق من مفاهيم مجرَّدة أو من وقائع يجب تغييرها؛ لا وزن إذَن لنشاط يُعادي الفاشية ويميز الإمبريالية، فنشاط كهذا ليس إلا دعاية إنجليزية: (الرجوع إلى واقعة إخوان الحرية).

أما إدراكي الداخلي للصراع ضد الإمبريالية كهدف للشيوعيين في مصر فقد تحقَّق في الزيتون.

في سنة ١٩٤٢م حدثت دفعة قوية للجنود الألمان الذين توغلوا في مصر بقيادة روميل فأحرقت سفارة إنجلترا الأرشيف الخاص بها وشاهدت القاهرة كلها الدخان يرتفع فوق حدائق السفارة، وقامت بتخصيص قطار لنقل «المناضلين المعادين للفاشية» من كل الجنسيات إلى فلسطين، في هذا القطار كانت الرفيقة التي أصبحت زوجتي ترتدي — كبقية زميلاتنا — زيَّ الجنود اليونانيين، ولحُسن الحظ أن تم تفتيشهن عند الحدود بواسطة رقيب إنجليزي شيوعي تزوَّج فيما بعد من الصديقة المصاحبة لها، وقد أصبحت هذه الصديقة منذ وصولها إلى إنجلترا — ولا تزال — عضوًا بالحزب الشيوعي الإنجليزي. وكان هذا الرقيب واحدًا من الشيوعيين الإنجليز الذين انحازوا إلى مجموعتي، فدفع مع زوجته غاليًا جدًّا ثمن هذا العمل الذي أدَّى إلى عزلهما لفترة داخل لجنة الشرق الأوسط للحزب الشيوعي الإنجليزي.١٦

أتاحت هذه الرحلة للشيوعيين إقامة صِلات مع ممثِّلي الأحزاب الشيوعية العربية وبخاصة الحزب الشيوعي الفلسطيني، ولا أعرف من مضمون هذه الصِّلات غير مطالبتها الشديدة «بوحدة» الشيوعيين المصريين!

أما أنا فقد قرَّرتُ البقاء لأنني ظننت بمنتهى حُسن النية إمكان تنظيم «المقاومة ضد الألمان» … الأمر الذي لم يكُن ممكنًا ولا سيما أنني لا أستطيع الذوبان داخل الجماهير بسبب شكلي «الأجنبي» وعدم إجادتي اللغة العربية. ولكن هذا لم يحل دون مضاعفة نشاطي خلال هذه الفترة التي كانت فيها «أسماء البقلي» الطالبة آنذاك هي السند المعنوي القوي لي، وكانت عائلتها القاطنة في المعادي تستقبلني هي الأخرى بكرم الضيافة الحار الذي يميِّز المصريين من كل الفئات: تزوَّجَت أسماء فيما بعد من شاب لامع هو «أسعد حليم» الذي سيصبح الساعد الأيمن لمارسيل إسرائيل، ولقد قابلت والدها الذي كان مديرًا لسجن محكمة الاستئناف؛ حيث تم حجزي في سنة ١٩٤٦م على ذمة القضية المسماة ﺑ «المؤامرة الشيوعية الكبرى» وكان استقباله للمعتقلين السياسيين العديدين طيبًا للغاية.

ولكن هذا النشاط لم يدُم طويلًا ففي أوائل يونيو تقريبًا وجدت ذات صباح في المكتبة مجموعة كبيرة من رجال البوليس بالداخل والخارج، وقد قاموا بتفتيش دقيق للمكتبة وحجزوا بعض الكتب وتم ترك الباقي، ثم صحبوني إلى فيلَّا العائلة؛ حيث لم يُسفِر التحقيق عن شيء، فالفيلَّا كبيرة وتتيح بسهولة نَقْل ما قد يورطني من غرفتي الخاصة بواسطة المصعد، وإخفاءه في القبو بمساعدة جميع الموجودين.

تم اقتيادي بعد ذلك إلى فيلَّا كبيرة بضاحية الزيتون ووجدت هنالك ما يقرب من خمسين شخصًا من «الخطِرين على الأمن العام» (كم من مرَّة عرضت فيها هذا «الأمن العام» للخطر!) الذين تم حجزهم بمقتضى القانون القائم على الأحكام العُرفية، وهم جميعًا من المصريين، فقد تم وضع الأجانب وبصفة خاصة رعايا دول المحور في معسكرات واسعة بالصحراء، ويمكن القول بأن عزلتهم هذه نسبية؛ حيث ذهبت مرَّة هنالك لزيارة أحد أصدقائي الإيطاليين الذي لم يكُن فاشيًا على الإطلاق!

قضيت في الزيتون ستة أو سبعة أسابيع شيِّقة كجميع فترات اعتقالي اللاحقة: كانت المرَّة الأولى التي اعتقل فيها وبينما كنت في حالة من الإعياء البدني لا يمكن وصفها كنت على درجة من التأهُّب النفسي جعلها تبدو لي «مألوفة»، بل ومثيرة للحماس، لم أشعر بالطبع «باستحقاقي» لها، لذا عاهدت نفسي أن يكون كشف حسابي إيجابيًّا في المرَّة القادمة حتى لا يُثير لديَّ شعورًا بالذنب من هذه الجهة، ولقد حافظت على العهد.

لماذا ألقى القبض عليَّ بينما خُصِّص قطار لحماية المناضلين اليساريين الآخَرين؟ عرفتُ بعدها أن البوليس السياسي المصري هو الذي اتخذ قرار اعتقالي — خلافًا لِما جرت عليه العادة حيث كان للإنجليز اليد الطولى في هذا المجال — على أساس من منطق بسيط: إن الألمان سيدخلون مصر، ونحن في نظرهم متورِّطون بسبب تعاوننا مع الإنجليز، كما أن اعتقال وتسليم شيوعي — يهودي علاوةً على ذلك — يُعَد عربونًا عن حقيقة مشاعرهم تجاه الألمان، كان هذا شرفًا كبيرًا لي!

كان المعتقلون الآخرون — وبينهم عميل فرنسي بيتان Petain — مناضلين نشِطين لصالح دول المحور ويتميَّزون بعدائهم الشديد للشيوعية والسامية، وكان الاتصال الأول بهم مثيرًا للقلق؛ إذ اتفق الجميع على تصفية الحساب معي في الليلة نفسها، فلم يتمَّ قبولي بأية غرفة، ولكنَّ هناك شخصَين أتيا لنجدتي: أحدهما بارون روسي أبيض عرض عليَّ مشاركته غرفته بعد أن وجد فيَّ شخصًا من وسطه، أما الآخَر، وكان شخصًا ذا نفوذ، فهو أمين سابق في الحزب الشيوعي المصري١٧ «!» أُقصِي في ظروف لا أعرفها حتى اليوم بواسطة الدولية الشيوعية فأصبح عميلًا ألمانيًّا! لماذا أظهر تعاطفًا؟ ربما لأنني أمثِّل بالنسبة له ماضيًا لا يزال يشعر بالحنين إليه؟ لست أدري ولكنه ذهب إلى حد قبول انضمامي إلى مائدته وكانت لنا محادثات طويلة ناشدني خلالها أن أتحوَّل إلى الإسلام تحسُّبًا لوصول الألمان الوشيك، كان الإغراء شديدًا؛ إذ كنت في هذه الفترة أتمنَّى أن «أتمصر» وبدا لي أن اعتناق الإسلام إحدى الوسائل لتأكيد «مصريتي» وكان ما أنقذني من هذه الهفوة هو بالفعل خطر التقدُّم الألماني ونفوري من أن يبدو الغرض من هذا التحول هو حماية نفسي.

كان هناك العديد من اليهود الذين يشعرون بالرغبة نفسها فتحوَّل الكثير منهم إلى الإسلام، وتعمَّقوا في دراسة اللغة العربية وتناولوا الأكلات المصرية وحاولوا جادِّين تذوُّق الغناء والرقص والأفلام المصرية، آملُ أن يكونوا قد نجحوا في هذا، أما أنا فقد حللتُ المشكلة بطريقة مختلفة؛ حيث إن العبرة هنا أيضًا بأفعال المرء وليس بماهيته، فتحسين لغتي العربية مثلًا لم يكُن مفيدًا لأحد سواي، بينما يُعد وقف جهودي لتعلُّم الماركسية أكثر فائدة لزملائي وبلدي، لن أصبح مصريًّا إذَن إلا بالنضال من أجل بلدي وشعبه: لا أزال مؤمنًا بأنني سرت في الطريق الصحيح.

ولنعُد إلى اعتقالي وهو بمثابة أول غوص لي في واقع السياسة المصرية التي لم أكُن أعرفها جيدًا، فهو قد أتاح لي إدراك أن المواطن المصري الحق لا يمكنه قبول أية «مرونة» تجاه إنجلترا! وإذا كان هدفنا هو حقًّا النضال ضد المحور فكيف يمكننا الحصول على نتائج أفضل انطلاقًا من الموقف المجرد: «إنجلترا تُقاتل المحور وينبغي مساعدتها» الذي يؤدي إلى نتيجة وحيدة ألَا وهي حرماننا من اهتمام الرأي العام؛ على العكس من ذلك بدا لنا أن الطريق الأفضل هو الانطلاق من موقف ثابت في عدائه للإمبريالية وتنمية أقوى حركة شيوعية يمكن إقامتها على هذه القاعدة ونشر الشعور بالاحترام والحب نحو الاتحاد السوفييتي، وأعتقد أننا كنا على حق. ولكن كم من معارضةٍ أثارَها هذا الخط! وكم من اتهام — «مرة أخرى» — لإثبات أنني انتهازي قذِر … إلخ. صمدنا وأطلقنا على مجموعتنا التي سنعود إليها لاحقًا اسمَ «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني».

كان الحدث الآخَر أثناء الاعتقال هو مشاركتي في إضرابٍ عن الطعام.

انتخبنا عضوًا ونائبًا سابقًا عن الحزب الوطني ممثلًا للمعتقلين، لست أذكر ظروف هذا الانتخاب كما أنني لا أذكر اسم هذا العضو ولا سبب إبعاده عن مركزنا الذي أسفر عن قرار المعتقلين بالإضراب عن الطعام للمطالبة بعودته.

كنت قد اتخذت قراري بالتضامن مع جميع المعتقلين حتى لو كانوا ينتمون إلى المعسكر المُعارِض لمعسكري، لذا سمحت لنفسي أن أنتقل مباشرةً من صيام رمضان إلى الإضراب عن الطعام، بينما لم يبدأ الآخَرون الإضرابَ إلا في اليوم التالي بعد وجبة حافلة بالطعام. كنت أصوم رمضان كالآخَرين؛ إذ إن المرء لا يُعتد بكلامه إذا تحدَّث وهو شبعان إلى أناس خاوية بطونهم، كما أن من اللائق احترام العادات الاجتماعية للوسط الذي يتواجد فيه الإنسان وبخاصةٍ إذا كان في هذه العادات ما يزعج، وعلى الشيوعي أن يسلك سلوكًا مثاليًّا؛ لأن هذا يخدم قضيتنا أكثر من الأحاديث الطويلة.

كان هذا الإضراب ناجحًا، على كل حال فيما يخصني، فهو أقصَر — إذ لم يستمر سوى عشرة أيام — وأنجَح إضراب في حياتي.

كانت الظروف العامة مُواتية، فالألمان قد هُزموا وعاد قطار الديمقراطية حاملًا إياهم إلى مصر، والظروف العامة شرط هام يجب أخذه في الحسبان عند الإعداد لإضراب، والإضراب عن الطعام «كغيره من الإضرابات» التي يتشابه معها في التكتيك، يتطلَّب مراعاة بعض القواعد مثل عدم تعبئة كل القوى منذ البداية، حتى لا تضعف بمرور الوقت.

ينبغي إذَن البدء بأكثر العناصر عزمًا مع الانضمام التدريجي للآخَرين حتى تزيد قوة الموقف بدلًا من أن تضعف … إلخ. لم ينقص هذا الإضراب إلا «الإعداد» وهو أحد العناصر الرئيسية التي يجب توافُرها مع التعبئة في الخارج حتى يحتفظ بتأثيره، إذ إن الإضراب عن الطعام هو السلاح الأخير في يد المعتقل، وينبغي ألا يضيعه. وهو — للأسف — ما فعلناه في النهاية! عادةً ما تتم التعبئة في الخارج ببطء ولكن هذا لم يكُن مهمًّا في حالتي لأن الخارج بالنسبة لي هو العائلة التي تحركت على الفور فتدخلت لصالحي تعزيزات قوية حالت دون إصدار قرار اتهام ضدي.

إن العزيمة هي العنصر الأساسي لإنجاح الإضراب عن الطعام ولم يكُن هناك شك في إصراري على المُضيِّ ﻟ «النهاية»؛ لن أذكر الضغوط التي مُورِسَت عليَّ لحملي على قطع هذا الإضراب، ولكن في المستشفى، حيث نقلت، قيل لي حين طالبت بإطلاق سراحي: «النحاس باشا يقول لك إنه سيطلق سراحك إذا توقَّفتَ ويُنذرك أنه لن يفعل إذا استمررت … إلخ.» ولكنني صمدت!

أُطلِق سراحي وتم وضعي إداريًّا تحت المراقبة فكان عليَّ ألا أغادر منزلي منذ الغروب إلى الشروق، وقد اتُّخِذ هذا الإجراء لسلب المجرمين في نظر القانون العام القدرة على الإيذاء؛ إذ إن المعروف أن هؤلاء يتحركون ليلًا، وهو يُعتبر امتحانًا كبيرًا عانى منه سنين طويلة رفاقي الذين تعرَّضوا له، فالاستيقاظ فجأةً عدة مرات بالليل ليس دائمًا بالأمر المحتمل، وهو قاسٍ في كل الأوقات، أما أنا فلم أتأثَّر به على الإطلاق لصِلتي الوثيقة بامتيازات البرجوازية الكبيرة.

كان أحد رجال البوليس يمرُّ مرتين أو ثلاثًا للاطمئنان، وكان مدركًا تمامًا لوضعه، فهو لانبهاره من مظاهر البذخ المحيطة لم يكُن يجرؤ على الدخول من الباب الرئيسي، وكان يدخل من الباب المخصَّص للخَدَم؛ حيث تتم مقابلته في غرفة الخدمة فيُقدَّم له شيء من الطعام مع أجر بسيط، ثم ينصرف بعد التوقيع في سجل التفتيش، غادرت في النهاية منزل والدي إلى المنزل الذي أقيم فيه مع زوجتي، ولكن رجل البوليس رابط الجأش، استمر في المرور على الفيلَّا ثلاث سنوات، أي حتى انتهاء الأحكام العرفية، ومن المؤكد أنه استاء بعدها كثيرًا لفقد هذا المورد من الرزق.

شدَّت فترة الاعتقال أزري من كل النواحي، واستأنفتُ جهودي لتكوين حركة شيوعية مصرية بعزيمة أكبر من ذي قبل، وأخذَت بعض المواقف تتضح شيئًا فشيئًا:
  • المضمون المُعادي للإمبريالية كمحور لنضال الشيوعيين.

  • الموقف من السودان.

  • الحياد الديني.

كنا في طريقنا للإعداد لهدفنا الرئيسي، وهو بناء الحزب الذي أصبح حديث الكثيرين، ولكنَّ أحدًا غيرنا لم يُعطِه مضمونًا فعليًّا، فمعظم الشيوعيين حتى سنة ١٩٤٣م ينظرون لتأليف الحزب على النحو التالي: تكوين مجموعة من الشيوعيين المخلصين والصادقين والأحسن إعدادًا من «الآخَرين»، وتتويج هذه المجموعة باعتراف من الدولية الشيوعية، وأنا اليوم أكثَر تفهُّمًا لهذا الموقف الذي ينظر إلى الأحزاب الشيوعية على أنها «أقسام» من الدولية الشيوعية التي تُعد الإدارة الحقيقية لها بصفتها الهيئة التي تحدِّد للأحزاب خُطَّتها وتكتيكها كما تقوم بتصحيح الأخطاء التي قد تحدث … إلخ. من هنا يتضح أن إنشاء «قسم» أكثَر سهولة من تأسيس حزب. ولكن مفهومنا الذي أكَّدَه لنا عمل الدولية الشيوعية مختلِف تمامًا، فنحن نرى أن الحزب هو طليعة الطبقة العمالية، وليس من الممكن اكتساب هذا الاسم بغير انضمام جميع العناصر العمالية الطليعية إليه، ومن هنا كانت المهمة التي أسميناها «بناء» الحزب، والتي رأينا تنفيذها على مراحل.

ولكنها ليست مهمة لمُناضل واحد أو مجموعة صغيرة، بل هي مهمة للحركة الشيوعية المصرية التي يتعيَّن البدء بها، وهي أيضًا مهمة معقَّدة بطريقة غريبة، إذ إنها تتطلَّب مناضلين ثوريين من الجماهير الشعبية لا من المثقفين، كما أن هؤلاء المناضلين ينبغي أن تكون لهم «رسالة»، وكان هذا الأمر على درجة من البساطة على الصعيد الاجتماعي، حيث يجب التركيز على أن معاداة الإمبريالية — وهو ما نتفق فيه ظاهريًّا على الأقل مع تكوينات سياسية أخرى — ليست الرسالة الوحيدة للحركة المصرية للتحرُّر الوطني؛ المجموعة الوحيدة التي تخاطب مناضلين لا يمكنهم الاستغناء عنها لأنها مجموعة ذات رسالة اجتماعية حقيقية.

كانت الصيغة بسيطة:

«الفقر، الجهل، المرض» هذه الأوبئة الاجتماعية الثلاثة:
  • ليست حتمية.

  • لا يمكن القضاء عليها في إطار نظام رأسمالي يُضيف إلى عدم عدالة التوزيع عَجْزه الواضح عن زيادة الإنتاج بدرجة كافية لتصفية هذه الأوبئة.

  • لا يمكن القضاء عليها إلا في ظِل نظام اشتراكي على غرار ما حدث في الاتحاد السوفييتي.

  • إن تاريخ المجتمعات يجعل من قدوم المجتمع الاشتراكي أمرًا حتميًّا.

سيُقال إن كل هذا ليس مُبتكَرًا! ولكنه واضح ومُقنِع، وقد أثبتت التجربة أن هذا كافٍ.

من جهة أخرى كان علينا تحديد خبراتنا «السياسية» من أجل التقدُّم في مجال غير مألوف لنا وهو مجال التنظيم، أعني التنظيم السري، الذي كان نقطة ضعفنا.

في بداية «نشاطي» استدعاني عمر «بك» حسن، مدير «القسم المخصوص» (ضمنيًا لمكافحة الشيوعية) الذي يتحدَّث الروسية، وهو قد تم إعداده مع سليم زكي «باشا» — رئيس البوليس فيما بعد — الذي يتحدَّث الروسية١٨ هو الآخَر على يد الأوكرانا القيصرية؛ البوليس السياسي الرهيب التابع للقيصر، وقال لي:

«إنني أقدِّر أسرتك كثيرًا وأعرف «مثاليتك»، وأنا أعمل منذ عشرين سنة بهذا المكتب «وتحت يدي» جميع الشيوعيين؛ إن عملائي يُحيطون بكم! تعقَّلْ وكرِّس نفسك للنشاط الاجتماعي.» حقيقةً كان المخبرون وقتئذٍ أكثر عددًا من المناضلين!

لم ينَل هذا من عزيمتنا وقرَّرْنا مواجهة الموقف بوعي؛ فأنا لست من المؤمنين ﺑ «القوة غير المحدودة» للبوليس السياسي، ولكنى أُومِن بالإعداد «الكافي» أو بعدم الإعداد للمناضلين، وإلى الآن لم أقابل استثناءً واحدًا لهذه القاعدة؛ إن الفشل والاعتقال يرجعان لا إلى التقدُّم «الفني» أو القدرات الفائقة للبوليس، بل إلى تخلُّف الشيوعيين أنفسهم، وليسأل هؤلاء أنفسهم بأمانة عن «تجاوزاتهم» غير المعقولة لأبسط قواعد الأمن والتنظيم.

بدأنا إذَن بوضع هذه القواعد وهو بداهةً أسهَل كثيرًا من تطبيقها، ولكن يجب ألا ننسى أننا لم نتلقَّ إعدادًا، وأن اكتشاف القواعد الأولية، وهي أهم القواعد، يطلب منا جهودًا كبيرة، وقد أدَّى تناولنا الجدِّي للأمور إلى النجاح في تطبيق هذه القواعد بطريقة لائقة، وإحاطة عملنا ﺑ «الهامش الأمني» اللازم لازدياد نشاطنا على الأقل خلال الفترة التي امتدَّت حتى سنة ١٩٤٧م، كما ساعد إعداد اللوائح على تحديد المشاكل التنظيمية وكانت أولى هذه المشاكل هي اختيار الاسم، وهي مشكلة حلَّتْها على طريقتها كلٌّ من المجموعات الأخرى، سواء بعدم اختيار اسم أو باختيار «اسم مستعار» مثل مجموعة «الديمقراطية الشعبية» التي تدعى غير ذلك وترى أن خداع الرأي العام حيلة جيدة! هناك أيضًا الأسماء الموجهة «للمبتدئين»: إسكرا Iskra مثلًا، ما الذي يعنيه هذا الاسم أو ترجمته العربية لغير الشيوعيين؟

وقفنا في اختيارنا للاسم عند اقتراحين فقط:
  • (١)

    الأول هو اتخاذ اسم «الشيوعية» المجيد بشكل ما، ولكننا تراجعنا لثلاثة أسباب:

    • السبب الأول: يتعلَّق بالأمن فهذا الاسم يعرضنا للهجوم لأن الشيوعية «خارجة على القانون».
    • السبب الثاني: وهو أهم من الأول، هو أن هذا الاسم يؤدِّي إلى الحكم علينا لا من خلال حقيقتنا أو أهدافنا الحقيقية بل انطلاقًا من أفكار مُسبَقة غير معقولة أدخلتها في العقول دعاية مستمرة تصوِّر «الشيوعية» على أنها المرادف لأكثر المباذل شذوذًا.
    • ويتعلَّق السبب الثالث: وهو أهم الأسباب جميعًا، بما تنتظره الطبقة العمالية والجماهير المصرية من الشيوعيين، إذ يعني هذا الاسم بث الاعتقاد في النفوس بأننا قادرون على أداء دور قيادي: دور الحزب الطليعي بينما نحن لم نزَل في المرحلة الأولى من بنائه.
    وقد حدث آنذاك إجماعٌ على هذا الرأي، لذا كان الشباب المثقَّف١٩ الذي تم «إعداده» من خلال المناقشات داخل الحزب الشيوعي الفرنسي — لا عن طريق النضال في بلاده — على خطأ حين خرج عن الإجماع في هذا الشأن وألَّف «حزبًا شيوعيًّا مصريًّا» فاختيار هذا الاسم وإن كان حسنة لا جدال فيها، إلا أنه يُعد غلطة سياسية عميقة، الذنب الأول فيها هو خداع الجماهير (ولم يكُن — للأسف — الخطأ الأخير فهم لم يتركوا خطأً إلا وارتكبوه).
  • (٢)

    ولنعُد إلى مسألة اختيار الاسم للمجموعة التي كنا بسبيل إنشائها: اتخذنا قرارنا بأن يكون الاسم معبِّرًا عنا وعن هدفنا فوقع اختيارنا على ما يلي:

    • حركة: لا حزب للإشارة إلى أننا لا نزال في البداية.

    • مصرية: لأن التمصير يجب أن «يتم» وسنرى أنه تحقَّق مع ميلاد المجموعة.

    • تحرر وطني: فالتحرُّر الوطني هو المهمة التي حددناها لأنفسنا حتى في ذروة نضالنا ضد النازية والتي تعبِّر عن نشاطنا المعادي للإمبريالية، وبالإضافة إلى هذا هناك الواقع الاجتماعي الذي لا يمكن إنكاره لمفهوم التحرُّر.

ها هو العرض الملخص للطريقة والسبب اللذين تم بهما اختيار اسم «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني»؛ هناك ملحوظتان أخريان فيما يتعلَّق بالاسم:
  • الأولى: وهي أنه عند وحدتنا مع «إسكرا» تم بناءً على اقتراحي اختيار كلمة «ديمقراطية» بدلًا من «مصرية» التي فقدت مع تأليف المجموعة الجديدة سبب وجودها مع الحفاظ على اسمنا السابق: لقد أصبح اسمنا — أكثر من أي وقت مضى — هو رايتنا، فالتحرُّر الوطني والنضال من أجل الديمقراطية هما المهمتان اللتان حدَّدناهما لأنفسنا.
  • الملحوظة الثانية: هي أن اختيار الاسم لمجموعة ما، لا يعني بالضرورة ظهورها به فور اختياره، فقد أصدرنا منشورنا الأول (نكاد نكون مجبرين كما سنرى لاحقًا) في سنة ١٩٤٥م بينما اختير الاسم في سنة ١٩٤٣م.

واجهتنا أيضًا بقية اللوائح بالعديد من المشاكل:

ما شروط دخول المجموعة؟ مَن يكون داخل وخارج المجموعة؟ كان هذا على درجة من الأهمية وخاصة أن عدد الشيوعيين في تزايُد: أعني هؤلاء الذين كانوا حينئذٍ يعتبرون أنفسهم كذلك، هل سيصبحون أعضاءً من «تلقاء أنفسهم» وبعضهم معروف بل و«شهير» وسبق له دخول السجن؟ هل سنتركهم جانبًا؟ هل هذا من حقنا؟

هاكم الطريقة التي عملنا بها:

أولًا: «غيرنا الوسط»، غادرنا «عالم الشيوعيين» المعروفين والمكشوفين الذين لا يعرفون للنظام معنًى، ولا يرغبون في دخول «ثكنة»! هذه هي الكلمة التي استخدمها لينين للإشارة إلى نظرة العديد من المثقفين للحزب؛ «نزلنا» (اعذروا جرأتي في استخدام هذا اللفظ، فالأولى أن أقول «صعدنا») إلى الجماهير العديدة داخل هذا المحيط الحقيقي الذي لا يمكن للبوليس أن يعرفه جيدًا وبالتالي لا يمكنه التحكُّم فيها؛ هذا «النزول» يمكن أن نقول إننا نجحنا فيه في حدود متطلباتنا المتواضعة فقد عدنا منه بعددٍ من المناضلين يعدون من أكثر المناضلين الذين عرفتهم مصر صدقًا في ثوريتهم، والذين يفخر بهم أيُّ «حزب» لم يزِد عددهم على العشرين، فنحن لم نكُن قادرين على «استيعاب» عدد أكبر، ومع هذا فقد أنشأنا الحركة الشيوعية المصرية بهم.

كان العثور عليهم هو المرحلة الأولى، ويليها بعد ذلك الإعداد الذي كان أيضًا مغامرة مثيرة: مدرستنا الأولى للكوادر، لقد كانت مغامرة حاسمة.

تمَّت تسوية المشاكل المادية بسهولة بفضل إمكانياتي «البرجوازية» مرَّة أخرى؛ حيث كان مقر مدرسة الكوادر الأولى «السراي» وهو بيت ريفي كبير يقع في مزرعة واسعة يمتلكها أبي وأتولى إدارتها.

ضمَّت المدرسة خمسة عشر مناضلًا استمرَّ تدريبهم خمسة عشر يومًا على ما أذكر، وكانوا من العمال والطلبة الفقراء — بينهم أزهري واحد على الأقل — و«صغار البرجوازيين»، الأحرى أن أقول «صغار» بدون برجوازيين.

ماذا تعلَّمُوا؟ لقد نقلنا إليهم كل ما نعرفه تقريبًا. أولًا: من المقصود ﺑ «نحن»؟ مجموعة صغيرة جدًّا لا تزيد على ستة أو سبعة أشخاص من المثقفين بالطبع، وقد نجح معظمهم في حياتهم العملية وأصبح أحدهم وزيرًا!٢٠ كانوا جميعًا مُخلِصين، متواضعين، راغبين في نقل معلوماتهم بطريقة بسيطة ومباشرة للغاية وكذا في «نقل الشعلة» بقدر إمكانهم إلى مَن هم أقدَر على حملها مدة أطول ومسافة أبعَد؛ إنني أذكرهم بمودة عظيمة فرغم طريقهم اللامع في الحياة لم يركن أحدهم أبدًا ﻟ «الخيانة».

عاش الدارسون حياةً بسيطة وزاهدة في ظروف مادية شديدة التقشُّف وجوٍّ معنوي غير عادي، وقد ترجم أحد المرشدين «النشيد الأممي» بقدر كبير من الدقة والفن، وكان سماع هذا النشيد بالعربية من مناضلين صادقين قاموا على الفور «باتخاذه نشيدًا لهم» مكافأة أكبر من كل الجهود التي بذلناها.

كانت مهام التدريس أكثر تعقيدًا بالطبع فالمقرَّر «غير مُنسَّق»، وإن كنت لا أستطيع تذكُّره إلا أنني أعرف أنه يضم بعض العناصر عن مصر؛ مواردها وبؤسها، مع تحليل أوَّلي — على الأرجح — للطبقات بها، ومبادئ عن الاقتصاد السياسي والفلسفة الماركسية: نص ستالين الشهير عن «المادية الجدلية والمادية التاريخية»، مبادئ عن تاريخ الحزب الشيوعي البلشفي بالاتحاد السوفييتي وإنجازات الاتحاد السوفييتي في جميع المجالات: القضاء على البطالة، المساواة بين الجنسين، التعليم للجميع … إلخ. كل ما يبدو خرافيًّا وما تم اكتسابه بفضل أكبر جهود بذلها شعبٌ من الشعوب في ظِل ظروفٍ، كثيرًا ما بلغت في صعوبتها حد القسوة … ولأتوقف هنا، فأنا كلما فكرت في الاتحاد السوفييتي أتحول إلى شاعر.

ولنعُد إلى مدرسة الكوادر، أُقيمَت المدرسة حوالي أكتوبر سنة ١٩٤٣م، ولم يداخلنا شك في أنها علامة على الميلاد الحقيقي للحركة الشيوعية المصرية، حيث «استوعب» الماركسية مثلنا، مناضلون من الجماهير الشعبية استعدوا لأخذ مكاننا، كانوا بالطبع يعترفون لنا بالجهود التي قُمنا بها، وكنا نحس بحبهم واحترامهم لنا، فهم يُولوننا ثقتهم وينوون على الاحتفاظ بنا إلى جانبهم لا التخلُّص منا، ومع هذا فقد أصبحوا هم الشيوعيين من الآن فصاعدًا، أما نحن فكنا في ذروة السعادة لأننا أقرب الأصدقاء إليهم.

كنا قد اتفقنا أن التنظيم الشيوعي يمرُّ بسلسلة من المراحل وإن لم نتفق على مغزًى ولا مضمون هذه المراحل:

في أول مراحله يعمل الحزب — فلنسمِّه هكذا لتبسيط الأمور — «من الداخل»، وقد اختلفنا على معنى هذا العمل؛ حيث يرى أكثر «منافسينا» جدية أنه يرتكز بصفة خاصة على الإعداد النظري؛ أما نحن فكانت لنا رؤية مختلفة.

ولكني أولًا أودُّ توضيح نقطة: في كتابه «تاريخ المنظمات اليسارية المصرية» يزعم رفعت السعيد — «لتبرير» الدور الذي قام به «الأجانب» في إنشاء الحركة الشيوعية المصرية — أن البوليس السياسي لم يكُن يهتم بهم بينما تشل رقابته حركة الشيوعيين المصريين، وسأثبت خطأ هذا الرأي.

أثناء بحثنا عن مناضلين «ذوي خبرة»، أحطنا بكل «قدماء» الشيوعيين وبخلاف عصام حفني ناصف الذي طالب كشرط لاشتراكه بتعيينه أمينًا عامًّا ولم نكُن مستعدين لقبول «شرط» كهذا، وياناكاكيس Yannakakis تاجر الإسفنج الشهير الذي كرَّس نفسه للعمل بين مواطنيه اليونانيين، انضم إلينا جميع مَن توجهنا إليهم من الآخرين وناضلوا معنا، أي كان بوسعهم النضال، وهم الذين دخلوا الحركة المصرية ولسنا نحن الذين أصبحنا أعضاء في مجموعتهم؛ وأودُّ ذكر بعض ممَّن أتذكرهم بصفة خاصة: الدكتور عبد الفتاح القاضي، تحدثت عنه كناشر ومحرِّر للمجلة الألمانية التي أصدرتها الحركة المصرية لأسرى الحرب الألمان (الرجوع إلى ما سبق)، وقد عمل كثيرًا في ترجمة الكتب النظرية ونشر المجلات الداخلية التي سأتحدث عنها لاحقًا؛ ظلَّ عبد الفتاح القاضي لفترة طويلة عضوًا في لجنتنا المركزية إلى أن صده أخيرًا المعدَّل السريع لاجتماعاتنا الليلية التي تستمر طَوال عشر ساعات من الساعة السادسة مساءً حتى الرابعة صباحًا فضلًا عن عمله صباحًا.

هناك أيضًا «الدكتور» حسونة، المسئول عن مجموعة الإسكندرية، وهو في الواقع طبيب أسنان على درجة عالية من التعليم، وإنْ كان أقل «ثقافة» من الدكتور القاضي، وقد تولَّى الإشراف على مشاكل الطباعة السرية؛ مجموعة «الكتب الخضراء»، المنشورات … إلخ. والشيخ صفوان، وعبد الرحمن فضل الذي أصبح شهيرًا بسبب منعه من دخول مصر عند عودته من الاتحاد السوفييتي، فظلَّ لشهور طويلة جوَّالًا لا يرسو في مكان، و«كوَّاء» لا أذكر اسمه … انضمَّ هؤلاء جميعًا إلينا وقاموا بعمل هام بالرغم من معرفة البوليس بهم جيدًا، وقد مات جميعهم للأسف، وإنني أتمنى أن يتولى إنسانٌ ما جَمْع كل الذكريات التي يحتفظ بها عنهم البعض منا؛ لإحياء ذكراهم كما آمل ألا يتخذ المناضلون «الجدد» الذين يبحثون بجدية عن الخبرة الناقصة لديهم، موقفًا مزدريًا من «القدماء»، إذا كان هؤلاء لا يريدون التعاون مع مناضلين «ارتكبوا أخطاءً» فإن هذا يعني الادعاء غير المعقول بعدم ارتكابهم أخطاءً؛ لأن الوحيد الذي لا يخطئ هو مَن لا يعمل، على حد قول لينين، كما أن موقفهم المزدري للعطاء القليل إنما يعني في الواقع عدم التمسُّك بالثورة، ونحن الذين كنا على استعداد للزحف تحت أقدام مَن يتيحون لنا التقدُّم خطوةً واحدة في أي مجال!

أخذت مجموعتنا إذَن في الاتساع بعض الشيء، وقد تألَّف — إنْ صح القول — «العمود الفقري» الثوري في المرحلة الأولى من عمَّال الجيش بقيادة سيد سليمان رفاعي الذي يستطيع المساهمة في تاريخ حزبنا بكتابة مذكراته، وآمل أن يحذو حذوي؛ ينبغي أيضًا نشر المعارك التي قادها هؤلاء العمَّال المتعلمون والمؤهلون، وهم بحق صفوة الطبقة العمَّالية في مصر ومعاركهم جديرة باحتلال مكان مشرِّف بين معارك الطبقة العمَّالية في العالم.

إنني أذكر جيدًا — مع كثرة الأشياء التي نسيتها — التقرير الذي قدمته إلى اللجنة المركزية، بعد دورة مدرسة الكوادر وهو «خط إعداد الكوادر»؛ قوبل التقرير بحرارة، وبخاصة من الأعضاء الجدد باللجنة المركزية، فلقد كان معبرًا عن المطلب الرئيسي للمرحلة التي نمرُّ بها، إذا كان هدفنا الأساسي هو «بناء الحزب» فإن الحركة الرئيسية في هذا البناء هي «إعداد الكوادر» الذي نجحنا فيه بقدر معيَّن ولفترة ما، والدليل على هذا هو رأى «منافسينا»: يا لهنري من شخص مزعج! لم تكُن الأوصاف بهذا اللطف — للأسف — إن كوادر الحركة المصرية لا مثيل لهم؟! ومن الأخطاء الكبرى التي ارتكبناها عدم الانتباه إلى توقُّف عملية «إعداد الكوادر» بينما تتطلَّب الزيادة السريعة في التنظيم عددًا متزايدًا من الكوادر الجديدة، وربما كان السبب في المقاومة غير الكافية التي واجهت بها الحركة الديمقراطية للتحرُّر الوطني حملات الشرطة في مايو سنة ١٩٤٨م هو هذا التفاوت المستمر بين عدد الكوادر الموجودة وعدد الأعضاء، وبالإضافة إلى هذا فإن كوادر الحركة المصرية — لانغماسهم بالكامل في النشاط العملي — لم يتطوروا باتساقٍ في جميع النواحي، اكتفاءً بتطورهم من خلال المشاركة في المعارك الحادة التي قُدناها، وسنرى أن اجتماعات اللجنة المركزية للحركة الديمقراطية خلال الفترة الطويلة للصراع الداخلي لا تشغلها مهام الإدارة الفعلية للعمل، فضلًا عن محاولة التحليل الواعي والهادئ للوضع، وقد كلف هذا «الانحراف» الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني غاليًا، ولكنني أشك في وجود تحليل كافٍ لهذه الظاهرة. أقول هذا لأن اجتماعات اللجنة المركزية بالحركة المصرية ساهمت في إعدادنا؛ كانت المشاكل كلها تُطرَح وتُناقَش بعمق، على سبيل المثال تحليل الوضع السياسي للبلد الذي سنتحدَّث عنه عند ذكر أحداث سنة ١٩٤٥-١٩٤٦م، وهو تحليل لم تقُم بمثله الحركة الديمقراطية، كما أننا قمنا وحدنا في مواجهة الجميع بتحليل لضرورة المد الثوري في أكتوبر سنة ١٩٤٥م بالتحديد، على أننا لم نكتشف ولم نتصور الهجوم المتطوِّر للرجعية في منتصف سنة ١٩٤٧م تقريبًا؛ لذا كانت الإجراءات التي اتخذناها لمواجهته سطحية، أو على أية حال غير كافية؛ ولا أذكر أننا تناقشنا مرَّة واحدة حول ما قد يحدث في ١٥ مايو: الحرب، إعلان الأحكام العُرفية … فكان «الإجراء» الحازم الوحيد هو توجيه «النصح» للقادة بتغيير أماكن إقامتهم؛ لم يكُن مدهشًا إذَن نجاح الهجوم الرجعي من هذا النوع من الإعداد، ولنا عودة لكل هذا.

لا نزال حتى هذه اللحظة في الحقبة التي تَلَت «فترة التكوين الأولى» وهي المرحلة الأولى في بناء الحزب، تلك المرحلة التي يعمل فيها الحزب من الداخل فيُنشئ كوادره ويحدِّد أسلوب العمل وتجارب التنظيم والوسائل الفنية، ويحلِّل واقع البلد تحليلًا ماديًّا وليس مجردًا: إلى أين وصلت بالفعل كلٌّ من القوى الاجتماعية التقدمية، والمحافظة والرجعية؟ ما درجة نضوجها الفعلي؟ ما هو بالضبط التأثير المتبادل بين هذه القوى؟ إلخ … إلخ.

من أكثر دراساتنا خصوبةً تلك الدراسة التي أسفرت عن إدراكنا بأن القلب الثوري المصري للطبقة العمالية ينبض بشبرا الخيمة: يا عمال شبرا، ها هي المناسبة للانحناء لكم ولقائدكم المحبوب والمحترم محمد شطا، القائد بلا منازع الذي أنشأ «مجالس المصانع» قبل ثلاثين عامًا من تشكيل «اللجان العمالية» بإسبانيا، والذي قاد المعارك المثالية الجديرة بأن يذكرها التاريخ.

ساعدت مجموعة من العناصر الموضوعية التي أدركناها جيدًا على حب عمَّال شبرا للنضال:
  • ضخامة الطلب وارتفاع الأسعار؛ حيث أوقفت حالة الحرب الاستيراد الخارجي، كان إذَن من صالح أصحاب العمل شديدي الجشع الاستجابة لمطالب العمال، إذ إن الخسارة في حالة الإضراب مرتفعة للغاية.

  • على العكس من هذا كان الموقف في المحلة التي لم يكُن بها سوى مصنع كبير واحد، وكان الطرد منه يعني إما الاغتراب إلى القاهرة مثلًا، أو العودة إلى الأرض؛ أما في شبرا حيث المصانع العديدة — كان البعض منها مجرد ورشة بسيطة — وحيث تنقص الأيدي العاملة المؤهلة كان من السهل أن يجد العامل المطرود بسبب نشاطه مكانًا آخَر للعمل.

كانت الظروف إذَن مواتية، وأعطت جهود شطا ثمارًا أخرى، ولم تقتصر على انتصار المطالب، ففي وقت بسيط أصبح عدد كبير من عمال شبرا شيوعيين، وأي شيوعيين! أتذكر بيانًا لي عن «الأجر، السعر، الفائدة»، يصف هذا البيان ميكانيزم استغلال العمال وكان عمال النسيج الذين يستمعون إليه يفهمونه بصورة أفضل مني، فهم يعيشون هذا الاستغلال وبإمكانهم حساب معدله بدقة … لقد كان الأمر جليًّا بالنسبة لهم، من هنا كان انضمامهم الفوري والنهائي.

أحسست هذا الإحساس «بالحب من أول نظرة». مرَّة أخرى أودُّ أن أرويها هنا: في سنة ١٩٤٧م تم القبض عليَّ واعتقالي في سجن الأجانب في ظروف سأعود إليها؛ قابلت في السجن معتقلًا آخر، وهو قاطع طريق قادم من الريف، قتل عددًا لا أذكره من الأفراد، وإن كنت أظن أن الإحصاء شمل أكثر من عشرة، ولكن أحدًا لم يشهد ضده لما يثيره من خوف ورهبة؛ هذا السجين أدين له بفهمي المادي لمعنى النضال الفوري التلقائي في الريف؛ حيث يأخذ هذا النضال شكل «قطع الطريق» لعدم قيام الطبقة العمالية بقيادته، كما أدين له أيضًا بمعرفتي باحتياج الفلاحين إلى «تجسيد» طموحاتهم في صورة أشخاص «يفوِّضون» إليهم أمرهم وينقادون إليهم بلا تبصُّر، على أن تكون لهم جميع المزايا، إنه شكل من أشكال «عبادة الشخصية» … ولنعُد إلى «قاطع الطريق» الذي كانت لي معه مناقشة قصيرة: كلَّمتُه، وإنْ لم أحسن التعبير لعدم كفاءتي في هذا المجال، عن مبدأ «الأرض لمَن يزرعها»، لم أرَ في حياتي رد فعل أسرع من هذا، فقد نادى السجانين، وكان أطول منهم قامةً ويثير في نفوسهم الرعب، وقال لهم مأخوذًا بحق: «لقد وصل المهدي!» عبثًا حاولت أن أشرح له أن هذه المواقف ليست شخصية وأنها مواقف يتبناها حزبي وكل الشيوعيين في العالم … تم الفصل بيننا على أنني أظن أن قاطع الطريق هذا كان بإمكانه أن يصبح تشابايف Tchapaiev مصريًّا بحق.

ولنعُد إلى عمَّال شبرا الخيمة الذين يعرف عنهم الجميع أنهم رمح الحركة الوطنية في سنة ١٩٤٥-١٩٤٦م، فهم القوة الأساسية لمظاهرات الجماهير؛ حيث كان قادتهم هم المحرِّكين الرئيسيين «للجنة الطلبة والعمال» — والأجدر تسميتها «لجنة العمال والطلبة» — ومصر مدينة لحبهم للقتال وللتضحيات التي بذلوها في قيادتهم للجماهير بأول انتصار ثوري تحقَّق بعد الحرب وهو الجلاء عن وادي النيل المحتل منذ سبعين عامًا.

إن كتابة ملحمة عمَّال شبرا مهمة لمحمد شطا الذي لم يتوقف دوره الوطني عند حد قيادة عمَّال شبرا أو عمَّال النسيج بصفة عامة، بل امتدَّ إلى «لجنة الطلبة والعمَّال» وإلى اللجنة المركزية للحركة المصرية التي كان عضوًا بها، ثم الحركة الديمقراطية بعدها؛ إن محمد شطا أحد أساتذتي، وكان يقول لي أحيانًا: «ليس في مقدوري الرد على حججك ولكنك مخطئ مع هذا.» وكان على حق.

ولكن الوقت لم يُتَح لنا للذهاب أبعَد من ذلك.

أخذنا في العمل بجدية ﻟ «تحويل» الحركة المصرية إلى حركة «عمَّالية (بروليتارية) شبراوية»، وصعد عمال آخَرون من شبرا إلى اللجنة المركزية بالحركة المصرية.

إن تحويل التكوين الوطني أو الاجتماعي لهيئةٍ ما ليس بالعملية الميكانيكية، إنه تحوُّل حقيقي ينبغي إجراؤه، لذا يجب النجاح في العمل على ألا يشعر العنصر الجديد بالاغتراب أو بأنه «في ضيافة الآخَرين»، بل يجب أن يشعر أنه «في بيته» وأن «الآخرين» هم الذين «في ضيافته»، يجب أن يمرَّ سريعًا من «أنتم» إلى «نحن»؛ صدِّقوني ليس هذا بسيطًا، وبخاصةٍ أن القادة الجدد لا يتم اختيارهم بواسطة زملائهم الذين لم يصلوا للقيادة بعد، وإنما بواسطة الآخرين؛ كيف ينبغي لهذا الاختيار أن يتم؟ ليس تبعًا للمعايير الخاصة «بنا»، وهي درجة الإعداد والحكم على القيم، بل يجب أن يتم على أساس وجهة نظر الآخرين: العنصر العمالي الطليعي هو العامل الذي يعتبره زملاؤه كذلك، سواء في المصنع أو في المهنة، وإذا كان هذا العامل محترمًا من زملائه فإن هذا بالضرورة يعود إلى:
  • أنه يجيد النصح، ومن الطبيعي التوجُّه إليه عند مواجهة صعوبة.

  • أنه يهتم بالآخرين أكثر من نفسه؛ هذا الإخلاص لزملائه، الإخلاص الذي سيكرِّسه سريعًا للطبقة العاملة كلها وللمصالح العميقة لشعبه، هو قوام شخصية العامل الطليعي.

  • وأخيرًا أنه لم «ينتظرنا» ليبدأ النضال، فالمعرفة بقوانين الماركسية لم تكُن هي ما جذبه للنضال، بل إنه هو الذي قاد النضال على الفور من أجل زملائه وطبقته وشعبه، وعندما «قابل» الماركسية وجد فيها ما يبحث عنه بكل روحه وقواه، المغزى العميق لقتاله والسلاح القوي الذي سيمكنه من القتال بفعالية أكبر وهما تجربة كل الذين — من قبله — قادوا المعركة نفسها في العالم أجمع؛ يا لها من حقيقة مثيرة للحماس، إنها حقًّا المعركة ذاتها!

ولكن الوقت لم يُتَح لنا، كما سبق أن قلتُ، لإعداد عدد كافٍ من عمَّال شبرا ككوادر فقد عرقلَتْنا عن هذا الإعداد الوحدةُ التي ينبغي تحقيقها، وكنا نظن تراجعنا مؤقتًا ولكن للأسف لم نستطِع استئناف جهودنا في هذا الاتجاه، إذ يبدو أن المشاكل الداخلية شلتنا؛ كنا نعمل بجدية في كل الاتجاهات، ونشرت الحركة المصرية دوريات داخل الحزب لحل مشاكل التكوين الداخلي: «الوعي» وكانت بمثابة «لسان حال نظريتنا»، وأخرى لا يحضرني اسمها عن الاتحاد السوفييتي، والثالثة واسمها «الكادر» مركزة على مشاكل التنظيم.

أما على الصعيد «الخارجي» فكما قلتُ لم نكُن قد ظهرنا بعدُ كتنظيم، وكنا على حق في هذا الموقف المطابق للنظرية الماركسية اللينينية عن البناء المرحلي للحزب الثوري، ولكن هذا لم يكُن يعني على الإطلاق أن مناضلي الحركة المصرية قانعون ﺑ «دراسة الماركسية» كما يحدث لدى «آخَرين».

لم يكُن بالطبع كل المناضلين صادقين في ثوريتهم، إذ انضم بعضهم إلى تنظيمات أخرى «أكثر جدية» و«أفضل تنظيمًا» من وجهة نظرهم لعدم استطاعتهم مجاراتنا، وأصبح بعضهم أشد الأعداء ضراوة، كما ألف آخرون «تنظيماتهم الخاصة» التي يشعرون فيها أنهم «في بيوتهم».

ولكن هؤلاء لم يمثِّلوا إلا أقلية، وكنا نرى في موقفهم تأكيدًا لصحة خطَّنا الثوري فنكتفي، حتى لا نرثي كثيرًا لفرارهم، بذكر جملة لينين عن «أولئك الذين ينقلبون بعرباتهم عند المنعطفات»؛ وكنا في أحيانٍ أخرى نتنفَّس الصعداء لتُخلِّصنا من هذا «الثقل المعوق» بحق، ولا أذكر أنني أو أننا — مجموعة كوادر الحركة المصرية — رثينا حقًّا لمغادرة هؤلاء التي هي في الواقع بمثابة سقوط الأجزاء الفاسدة في التنظيم.

كان العمل «خارج» التنظيم يعني بالنسبة لمناضليه استئناف النشاط الذي تقوم به غالبيتهم بطريقة أكثر فعالية وأكثر إدراكًا وأكثر وعيًا فزادت الإضرابات في كل مكان، وأصبحت أحسن إعدادًا وقيادة وأثمرت نتائج أفضل من ذي قبل.

من المشاكل التنظيمية التي كان علينا حلها مشكلة «المتفرغين» أو «المحترفين»، وهو اسم لا يحمل أي معنًى مهين، وقد اتبعنا في مواجهتها وصية لينين — وإن لم يتم قبولها بسهولة — القائلة بأن «الثورة لا يُعَد لها في أوقات الفراغ»، والتي تتطلب أكبر عدد من «المحترفين» الثوريين لمواجهة «محترفي» البوليس السياسي المصري والآخَرين، أحصينا سبعة أنماط من البوليس ينبغي علينا مواجهتها.

كانت المكافأة الزهيدة التي يحصل عليها المحترفون، وهي ستة جنيهات مصرية، غير كافية إلا بالنسبة للمناضلين من أشد الطبقات بؤسًا، مما يضطرهم إلى الاستدانة من رفاقهم ميسوري الحال، وكان السبب في هذا الجو غير الصحي هو مواردنا المحدودة التي كان لها ثقلها. فَلْاعترف بأمانة: عند تحقيق الوحدة مع إسكرا Iskra حيث يتيح الحصول على موارد وفيرة تطويرًا حاسمًا لنشاطنا، وذلك عن طريق زيادة عدد ومكافأة المحترفين؛ ومع هذا كان خطؤنا الرئيسي هو الاعتقاد بأن «المعجزة» أو المهارة كفيلة بحل المشاكل المالية التي لم ننظر إليها باعتبارها مشكلة سياسية ينبغي مواجهتها بالنشاط الذي نكرِّسه بصفة عامة لحل المشاكل الهامة.

كان من الضروري إذَن إعطاء أهمية حاسمة لتجنيد وإعداد المتفرغين الذين يُعتبر إطلاق هذا الاسم على عدد منهم نوعًا من «التحايل» مثل الطلبة الذين لا يزالون يعيشون مع عائلاتهم.

إن النظرية بدورها لم تأخذ الأهمية الواجبة في جهودنا لبناء الحزب؛ وسألخِّص هنا العناصر المختلفة التي لا غنى عنها داخل وخارج الحزب، وهي عناصر يقوم تسلسلها على درجة الالتزام، حيث نجد على القمة هؤلاء الذين يكرِّسون أنفسهم بالكامل لخدمة الحزب ويتخذون من الثورة حرفةً لهم؛ ينبغي إذَن أن تكون مواردهم من الحزب نفسه؛ إذ إنهم جميعًا يتمتعون بقدرات عقلية وتنظيمية تُتيح لهم ممارسة أنشطة أكثر إيرادًا، ومن هؤلاء المناضلين تتكون، ما لم يكُن هناك استثناء، الهيئات الموجهة لأنهم بالفعل الوحيدون القادرون على ممارسة «مهنة» ترتكز على العناية بجسم المجتمع، وعندما يصل الثوري منهم إلى منصب «نائب» مثلًا يقوم بتسديد ما تقاضاه للحزب، من المعروف أن هذه المبالغ تمثل مصدرًا هامًّا جدًّا من المصادر المالية للحزب الشيوعي الفرنسي مثلًا … وقد حاول الرجعيون دائمًا النَّيْل من هؤلاء المحترفين بوصفهم ﺑ «المرتزقة» و«العملاء»، لذا لزم الرد عليهم بحزم؛ إذ كان علينا مواجهة «محترفين» لا يحركهم مثل أعلى، ومعظمهم من المرتزقة بحق: البوليس السياسي بأنماطه، ثم الأحزاب البرجوازية التي تضم عددًا كبيرًا من الأعضاء وربما لا يحصل هؤلاء الأعضاء على مكافأة أو قد تكون المكافأة غير مباشرة، إلا أن إمكاناتهم «الشخصية» تتيح لهم العيش ببذخ.

أصبح لدينا إذَن «محترفون» رغمًا عن الرأي العام، على أن هؤلاء المحترفين في نظرنا لم يكونوا على درجة كافية من الاحتراف، إذ إننا — كما قلت سابقًا — لم نهتم بإعدادهم إعدادًا كافيًا، واكتفينا في الواقع باستغلالهم لأقصى درجة، ومع هذا فهم الثروة الحقيقية للحزب الثوري.

هناك أيضًا «الانتشار الاستراتيجي» الواسع الذي بذلنا كل ما في وسعنا لتحقيقه، بالتوازي مع جهودنا للعثور على الحلقة الثورية التي يمثِّلها في هذه الفترة عمَّال شبرا، وتطويرها؛ لا أقصد هنا الجهود التي بذلناها مع اليونانيين والإيطاليين والألمان والفرنسيين … إلخ. فهذه الجهود قمنا بها على أساس «دولية عمالية (بروليتارية)» وكنا فخورين جدًّا بتقديمها حتى أنني لا أذكر اعتراضًا واحدًا على الأنشطة العديدة لنا في هذا المجال، وهي أنشطة كان بإمكاننا استغلالها بحكمة في تطوُّرنا الذاتي، ومع هذا لم نتهرب أبدًا من أية مهمة وكان لنا العديد من المبادرات مثل مساعدة الإثيوبيين، وبرغم ضعف الإمكانات طبَّقنا حرفيًّا القول المأثور: «يَثرى المرء بما يُعطيه» إذ كان ثراء الحركة المصرية من هذه الناحية لا ينفد.

إن هذه الأنشطة قد أفادتنا كثيرًا أيضًا؛ حيث حصلنا من مساعدتنا لليونانيين مثلًا على خبرة في العمل الثوري السري، كما ربَّت فينا هذه المواقف الإحساس الذي ذكرته «بالدولية العمالية (البروليتارية)» التي تؤلف القوام الحقيقي للشيوعية وهو إحساس لا يتنافى مع معنى الوطنية التي ينبغي أن تكون عليها الشيوعية، فالشيوعيون هم أحسن الوطنيين، وهم يفضلون كثيرًا هؤلاء الذين يدعون أنفسهم كذلك، والذين يتسبَّب مفهومهم الضيِّق والمحدود في إلحاق الفشل الذريع بالوطن بدلًا من أن يخدمه في حين أن الدولية العمالية — قلنا هذا عددًا لا يُحصى من المرات — لا تضع حدًّا لأشد الوطنيات تصلُّبًا، بل إنها تضيف إليها تألُّقًا، ولقد ساعدنا هذا الإحساس على اتخاذ موقفين ضد التيار في مشكلتَي السودان وفلسطين اللتين سنعود إليهما بالطبع.

إنني أتحدث هنا عن المرحلة الأولى التي تمتد من أكتوبر سنة ١٩٤٣م إلى أكتوبر سنة ١٩٤٥م، هل استطعت إعطاء فكرة عن اتساع وتعقيد مهامنا مع ضعف الإمكانات المتاحة؟ هل كان بوسعنا عمل «كل شيء» في هذه الظروف؟

كان «انتشارنا» داخليًّا وقد وُجِّه إلينا اللوم لأننا لم «نعمل بالريف» وهو بداهة ما لم يقُم به نقادنا، ولكن هذه قصة أخرى؛ حقيقةً إننا عملنا بالقاهرة أساسًا — والإسكندرية أيضًا — ولكنَّ هناك امتدادًا لنا يتمثَّل في المناضلين الذين يعودون لبلادهم لسبب أو لآخَر: الطلبة الذين يعودون إلى ذويهم أثناء العطلة، العمال العائدون إلى قراهم بعد الاستغناء عنهم، الأزهريون، أو بصفة عامة حمَلة الشهادات المقيمون بالريف … إلخ.

كان «الانتشار» في القاهرة نفسها لا يُستهان به؛ تحدثت عن العمل بين السودانيين، وهنا ينبغي القول إنه إذا كانت الكوادر العمالية الرائعة للحزب الشيوعي السوداني تدين بتكوينها إلى العمل معنا؛ عملنا بين النوبيين وذكرت فخر حزبنا بكوادره النوبية التي شاركت في القيادة على جميع المستويات، فإن العديد منهم، كوادر ومثقفين، قد ناضل إلى جانبنا ومنهم عبد الخالق محجوب، وهو بلا جدال أكثرهم تأثيرًا، الذي قام بدور رئيسي، أهَّلَه له الدور القيادي الذي أدَّاه كاملًا في الحركة المصرية والحركة الديمقراطية وفي الحركة السودانية والحزب الشيوعي السوداني؛ هذا ولا ينال من جدارته الدور الكبير الذي لعبته في تكوينه الفترة التي قضاها في مصر، والتجربة التي حصل عليها أثناءها سواء على الصعيد السياسي والتنظيمي أو على صعيد مشاكل النضال الداخلي.

لقد تحدثت عن الأزهر وعمَّال الجيش كما سأذكر كلمة عن «الجنود» (ضباط الصف) عند الحديث عن الجيش وعمال النسيج، أما الآن فإنني أودُّ الحديث عن قطاع «الطلبة» لدينا، في كل بلاد العالم الثالث كثيرًا ما يلعب الطلبة دورًا هامًّا في النضال الثوري؛ إذ إنهم بتعليمهم وتجمعهم الضخم داخل الكليات التي تجتمع بدورها داخل الجامعة كما هو الحال في جامعة القاهرة بالجيزة يمثِّلون بحق شباب البلد، وبالتالي مستقبله، ولكن فلنطرح العموميات جانبًا ولنعُد إلى مصر؛ حيث كانت الخاصية الأولى للطلبة هي الفقر الشديد، فرق واضح بينهم وبين الطلبة الأثرياء الوافدين علينا بعد الوحدة مع إسكرا Iskra، لقد كانوا بالفعل من طبقة اجتماعية مختلفة! أما الشباب من غير الطلبة الذي تضطره الظروف إلى العمل للوفاء باحتياجاته واحتياجات أسرته، والذي يصِل مبكِّرًا إلى مرحلة النضوج بفعل هذه الظروف، فهو لا يمثِّل طبقة مختلفة عن بقية العاملين أو على الأقل لم يظهر لنا هذا الاختلاف.

كان الطلبة ثوريين لأقصى درجة وسنرى فيما بعد الدور الوطني الذي قاموا به في مصر؛ حيث كانوا قوة مشاركة لا «مساعدة» فحسب في إدارة الحركة الوطنية، ويعود الفضل في هذا الدور إلى الطلبة الشيوعيين بالحركة المصرية.

كان العمل مع لجنة القطاع الطلابي بالحركة المصرية هامًّا جدًّا بالنسبة لي فهو يُعَد أول محاولة لي للعمل «المباشر» في قطاع ما، بدأت هذا العمل عندما «يئس» منه المسئول السابق الذي لم أعُد أذكر اسمه المستعار، وكان ما شجعني على الاهتمام بهذا القطاع هو أن العمل مع هؤلاء المناضلين كان معرضًا للتوقف.

«أمين، شوقي، سلطان» كم كانت رائعة فكرة عملي معهم! أي نوع من البشر هم؟! لقد كانوا على درجة من الفقر لا تُتيح لهم ركوب الترام البالغ ثمن تذكرته آنذاك ستة مليمات، فكانوا يذرعون القاهرة وضواحيها سيرًا على الأقدام، وهو ما كانت تضطرهم إليه عودتهم المتأخِّرة في أحيان كثيرة عن موعد آخِر ترام، ومع هذا كانوا، ككل الشباب الثوري، تزيد سعادتهم ويزيد عملهم كلما زادت المطالب وتعدَّدَت المهام التي يقومون بها.

وأودُّ هنا الحديث قليلًا عن عبد الرحمن الشرقاوي، لا أذكر الظروف التي انضمَّت فيها مجموعته، وهي مجموعة بها عدد كبير من الموظفين بمصلحة الضرائب «!» إلى الحركة المصرية للتحرر الوطني MELN؛ ربما كان هناك سبب خفي وراء هذا الانضمام المؤقت — غادرت المجموعة التنظيم في سنة ١٩٤٥م في ظروف سأعرض لها فيما بعد — ويبرِّر هذا الظن اتخاذهم أسماء «أوروبية» مستعارة تساعدهم على التعرف بعضهم على بعض دون «الذوبان» في التنظيم، وفي رأيي فإن الهدف منه هو الحصول على أعمال ماركسية باللغة العربية، واكتساب الخبرة التي تنقصهم في مجال التنظيم؛ وقد قاموا بعد مغادرة التنظيم بتأسيس «الحزب الشيوعي لشعبي وادي النيل»، وأنا هنا أتحدث عنه لأعطي مثالًا «للتنظيمات» الشيوعية التي هي في معظم الأحيان «تكتُّلات»؛ مجموعات من «الأصدقاء» متجانسة تمامًا تُنشئ سويًّا تنظيمًا شيوعيًّا، أو بمعنًى أدق «تنظيمًا خاصًّا بهم» تسوده نظرة مشتركة للمشاكل؛ وكانت هناك بالفعل صِلات شخصية قوية جدًّا تجمع بين هؤلاء، وكانوا أقدَر على التفاهُم فيما بينهم منهم على التفاهُم معنا ومع الآخَرين بصفة عامة، فهم يرون أنهم وحدهم يمتلكون الصِّدق الثوري والقدرة على الفهم الصحيح للأوضاع.

كان الوضع في الحركة المصرية التي لم تضم «تكتُّلات» مختلفًا تمامًا، فالقادة لم يتعارفوا إلا داخل التنظيم، وكنا نختلف تمامًا عن بعضنا البعض بصرف النظر عن انتمائنا الطبقي الذي قد يكون مشتركًا، لم يكُن هناك — مثلًا — تشابُه بين بدر الميكانيكي بالجيش والحاصل على شهادة من مدرسة فنية، وشطا عامل النسيج وثيق الصِّلة بمسقط رأسه، على أن هذا لم يحُل دون تشكيلنا فريقًا تجمِّعه الأخوَّة الحقَّة، وكانت هذه الاختلافات المتبادلة تزيد من ثرائنا؛ حيث كنا نشعر بالتضامن مع الآخرين، أما التشتت فكان يمثِّل عنصر ضعف بالنسبة لكلٍّ منا.

لا أود الرجوع إلى أحداث أكتوبر-نوفمبر سنة ١٩٤٥م، التي كثيرًا ما تحدَّثتُ عنها، إلا بقدر ما تمس المشاكل الداخلية وإن بقي واردًا أمر عودتي إليها عند كتابة هذا الكتاب بصفة نهائية.

إنها مرحلة جديدة للحركة المصرية التي «خرجت إلى النور» في جوٍّ حماسي بهيج؛ حيث قامت بالدعوة إلى العمل في منشورات تحمل، للمرة الأولى، اسمها وكان الأعضاء يوزعون ويلصقون هذه المنشورات على الحوائط برغم الأخطار التي يتعرضون لها، فإن هذه الأخطار تعني أن عملنا من الآن فصاعدًا أصبح يتم على صعيد أعلى.

لم نكُن مع هذا مستعدين لمواجهة علنية مع البوليس، لقد كان اندفاعنا إلى العمل بمثابة زوبعة شديدة أدَّت إلى انهيار هيكلنا التنظيمي لا اهتزازه فحسب — دليل آخَر على عدم استعدادنا — وإذا كنا استطعنا الصمود فإن ذلك يعود إلى المد الثوري الذي كان في ذروته، وإلى معرفة البوليس غير الجيدة بنا.

أثبتت الأحداث التالية ضعفنا الحقيقي، هذا الضعف أدركه صدقي الذي تولى السلطة، فطرح في يوليو سنة ١٩٤٦م قضية «المؤامرة الشيوعية الكبرى» التي كنت — ولي الشرف — المتهم الأول فيها؛ كنا أكثر من مائة الْتَقينا في سجن الاستئناف المجاور للعمارة التي توجد بها محافظة القاهرة والنيابة العامة المسئولة عن إجراء الاستجواب، حقًّا لقد شاهدت الكثير من «السينما» بدون مغادرة السجن المشترك؛ حيث كان الجو مثيرًا ومرِحًا أكثر منه باعثًا على الخوف؛ إذ أدركنا أن المؤامرة المدبَّرة ضدنا يحيق بها الفشل التام، تخفَّف عبده دهب مثلًا من ملابسه وارتدى «جلبابًا» فهذا ليس أول اعتقال له وهو يشعر كأنه في بيته، أما أنا فكنت أتعرَّف للمرة الأولى على سجن حقيقي، وكان البق هو مبعث خوفي الرئيسي، وقد وافق المدير الذي كان رفيقًا بنا وبي بصفة خاصة — كما قلت سابقًا — على رش دي دي تي، كانت هذه هي أول مرة يتم فيها الرش، لذا حضر إلى زنزانتي المدير يتبعه الممرض مع مجموعة من السجانين الذين يحملون الرشاشة ويتخذون كافة الاحتياطات كما لو كانت قنبلة، وعند انتشار البخار بصوته المميز ساد الهرج المكان لمدة دقيقة.

ذهبت إلى النيابة العامة بصحبة ثمانية من الجنود يرأسهم ضابط، وقام باستجوابي رئيس النيابة، كانت لنا في الواقع أحاديث طويلة عن «الشيوعية» وطبيعتها الحقة؛ لأن ملفي لم يكُن به عنصر محدَّد، في البداية كنت أرد بإيجاز بقدر الإمكان إلى أن فهمت أنه يرغب في الحصول على ملف يحتوي على أكبر عدد ممكن من الصفحات المليئة … أعطيته قدر طاقته وتحدثت باستفاضة … كان المعتقلون في مجموعهم يشكِّلون خليطًا غريبًا من وفديين «يساريين» إلى كل «الشيوعيين القدامى» أي الشيوعيين المعروفين منذ بداية الأربعينيات، وقد توقف معظمهم عن العمل واقتصروا — على كل حال — على الأنشطة الفردية على صعيد المواقف؛ أما أعضاء الحركة المصرية المعتقلون — مثلي ومثل عبده دهب — فقد تم اعتقالهم لوجود أسمائهم في القوائم القديمة، هذا وقد أثبت توزيع المنشورات بالخارج فور القبض علينا أن اعتقالنا لم يؤثِّر بحال على الحركة الشيوعية المصرية وعلى الحركة المصرية قبل كل شيء.

وتوالى الإفراج بكفالة عن المعتقلين، كان ترتيبي قبل الأخير في قائمة المُفرَج عنهم، أما الأخير٢١ فكان تروتسكيًّا — الوحيد في مصر أو يكاد يكون كذلك — وقد أدلى بتصريحات خطيرة … للانتهاء من هذه المسألة من الطريف أن أقول إن محاكمتنا تمَّت بعد عشرين شهرًا من ذلك بمحكمة الجنايات وصدر الحكم — الغيابي فيما يخصني — بالبراءة التامة.

وفي العام التالي، حدثت محاولة أخرى «لتغذية» ملف خالٍ، ففي أحد الأيام بينما كنت جالسًا في مقهًى مع بعض الزملاء إذا بالبوليس يعتقلنا ويقودنا إلى سجن الأجانب حيث عزلوني عن زملائي واتهموني بإصدار منشور، هذه هي الفترة الوحيدة التي انتابني فيها شيء من القلق، ولكن سرعان ما أُطلِق سراحنا؛ إذ إن التحدي كان سافرًا.

لمحة عن الأخلاق في السجن، عندما رأى مدير السجن هزالي، وكان يشعر بمودة نحوي، نصحني بأن أتعاطى «الحشيش» حتى «يفتح شهيتي» … وكان في الطابق العلوي؛ حيث تجمع زملائي تاجر حشيش أظهر نحوهم الود، وفي يوم من الأيام إذا بالضحكات المصاحبة لعسر الهضم الناتج عن الحشيش ترنُّ عاليًا داخل أرجاء السجن ولا تتوقف، كان السجانون يُغمضون أعينهم، وخاصة أنهم يتلقون مكافأة من جرعات الحشيش التي لا يستطيع معظمهم الاستغناء عنها.

إنني لا أعرف في أية فترة بالتحديد يأتي تأسيس الحركة السودانية للتحرُّر الوطني الذي تحكي عنه روايات مختلفة وأودُّ هنا أن أقص روايتي:

إنني على يقين من أنني صاحب اقتراح فصل ما كان حتى الآن القسم السوداني من الحركة المصرية للتحرر الوطني، وتحويله إلى حركة مستقلة، كما أنني أذكر جيدًا أن زملاءنا السودانيين قابلوا هذا الاقتراح في بادئ الأمر بالوجوم: «هل تخلَّيْتم عنا؟!» ولكنهم سرعان ما استدركوا؛ شرحتُ أولًا أن المسألة «مسألة مبدأ». وكانت هذه الكلمات السحرية كافية للتغلب على جميع الصعوبات — إذا استُخدِمَت في محلها — لأننا كنا على استعداد دائم للتضحية في سبيل «المبادئ»، ثم أكَّدتُ لمحدثي أننا لن نهمل أبدًا في أي ظرف من الظروف تقوية الصِّلات بين الحركتين، ويجب أن أقول إن المشاعر الأخوية التي تربط بين «الحركة السودانية للتحرر الوطني» MSLN التي أصبحت فيما بعد الحزب الشيوعي السوداني والحركة المصرية ثم الديمقراطية للتحرر الوطني لم تضعف أبدًا بعد رحيلي، ولكنها للأسف لم تتعدَّ المشاعر، فأنا لا أعرف مواقف مشتركة اتُّخِذَت بالتنسيق بين الحركتين: اتُّخِذ قرار حَل الحزب٢٢ مثلًا — واسمحوا لي أن أقول كلمات عنه بالرغم من أنه لا يقع في الفترة التي يتناولها هذا العمل — بدون الرجوع إلى الحزب الشيوعي السوداني، وقد وجه هذا ضربة حقيقية لهؤلاء الذين يناضلون في السودان، وعلى رأسهم عبد الخالق محجوب، ضد «الحزب الواحد» الذي تُحاول القوى البرجوازية فرضه ويساندها في هذا تيار يميني داخل الحزب الشيوعي السوداني؛ لست أقصد عدم وجوب اتخاذ هذا القرار بل أقصد وجوب اتخاذه بمضمون مختلف — سأتحدث عنه في موقف آخَر — أي بالرجوع الصريح إلى الموقف السوداني؛ حيث كان ينبغي مناقشته مع الرفاق السودانيين، وأخذ القرار السوداني في الحسبان.

إن هذا الموقف ليس إلا مثلًا، ولكنه يبدو لي مثلًا صارخًا وخاصةً أنني أشعر أن صِلات «النضال المشترك» لا غِنى عنها — اليوم أكثر من ذي قبل — وإن أصبحت ذات طبيعة عميقة الاختلاف عن تلك الموجودة في الفترة التي أتحدث عنها.

ويقودنا هذا الموضع إلى دراسة مشكلة قريبة منه وهي مشكلة الوحدة العربية، تعرضت الحركة المصرية في موقفها منها إلى أعنف الهجمات التي تبدو اليوم مثيرة للدهشة، ولكن فلنذكِّر بأن إنجلترا هي التي أوجدت «الجامعة العربية» وساعدت على إنشائها، وقد اشتركت فيها آنذاك جميع الأنظمة التي تُخلص لها الإخلاص كله؛ وفي مصر حيث كانت الملكية في خدمة الجامعة العربية، حاولت حكومة الوفد برغم صِلاتها الممتازة بالإنجليز أن تُعطي المشروع مضمونًا أكثر وطنية، ولكنها سرعان ما انقلبت — بتحريض من الإنجليز — لتأخذ مكانها حكومة أحمد ماهر.

كان بديهيًّا أن إنجلترا — بعد خروجها من الحرب — ضعيفة للغاية، ولا سيما في مواجهة الإمبريالية الأمريكية، منافسها الجديد — في السيطرة على العالم — تنوي أن تجعل من الجامعة العربية أداةً لفرض سيادتها؛ إذ فكر قادتها في الاحتفاظ على الأقل بسيطرتهم على الشرق الأوسط؛ حيث المصالح البريطانية الضخمة: قناة السويس، الوضع الاستراتيجي، الموارد الاقتصادية مثل القطن، وبصفة رئيسية البترول، وحيث الجنود الإنجليز لا مثيل لكثرتهم، وخاصة أن التحكم في المنطقة يبدو يسيرًا، إذ إن فرنسا قد تم طردها بمساعدة الشرق التابع للإنجليز، كما أن التأثير الأمريكي كان لا يزال غير محسوس.

أثار التمرد دفاعنا عن فكرة الوحدة العربية، رغمًا عن السياسة البريطانية، فلا تزال الصفات الرقيقة من نوع «عملاء الإمبريالية» وغيرها تطلق علينا ولكننا كعادتنا في هذه الفترة رفضنا الإذعان — كان تقويمنا ضربًا من المستحيل — وجعلنا وحدة الشعوب العربية هدفًا من أهدافنا؛ كان رد فعلنا البسيط والرافض للمواقف التي تحاول الإمبريالية إملاءها قائمًا على إدراك أن قوة مواقف أعدائنا تكمن في أنهم يحاولون دائمًا الاستناد إلى وقائع محسوسة وأننا حين نعترض بلا تبصُّر إنما نحقِّق أهدافهم، لذا بدلًا من الاعتراض على الجامعة العربية الذي يُظهرنا بمظهر المُعادِين للوحدة العربية، أصبح الشيوعيون المصريون هم المدافعين عن هذه الوحدة، وإذا كنا امتلكنا الإمكانات المادية و«السياسية»: إلمام كافٍ بالموضوع، محررون أكفاء، صِلات بالأحزاب الشيوعية الشقيقة — ولكنها كانت جميعًا تحتقرنا باستثناء الحزب الشيوعي اللبناني — لأصدرنا نشرة عن الوحدة العربية، وإنني آسف لعدم إصدارها.

إن أحداث الفترة من ٦ أكتوبر سنة ١٩٤٥م حتى ٤ مارس سنة ١٩٤٦م معروفة جيدًا، ولست أملك الحق في كتابة تاريخ لجنة الطلبة والعمال، فهذا الحق ملك لهؤلاء الذين شاركوا فيها، لذا سأكتفي بملاحظات إضافية.

أولًا: يعود الفضل في توقُّع المد الثوري الذي حدث بعد الحرب إلى الحركة المصرية للتحرر الوطني وإن كان يبدو أننا أخطأنا حين عللَّنا النفس بأن الوفد — بعد إبعاده المهين عن الحكم — سينتهز فرصة بدء الدراسة بالجامعة، حيث يمثل الطلبة الوفديون طليعة حقيقية له، ليبدأ العمل: وزعنا — لأول مرة — في هذه المناسبة منشورين باسم الحركة المصرية، الأول مُوجَّه إلى الجماهير والآخَر إلى «البوليس والجيش»، وقد تم توزيع عشرة آلاف نسخة من كلٍّ منهما في جوٍّ لا يُنسى من الحماس، لقد كانت مرحلة رئيسية تم اجتيازها، إذ قمنا باتخاذ موقف خاص بنا في القضية الوطنية الرئيسية وهي قضية النضال ضد الإمبريالية، هذا الموقف الذي أعلنا به عن وجودنا، وإن ظللنا محتفظين بسريتنا.

قلت قبل ذلك إننا لم نكُن مستعدين لهذا على الإطلاق؛ العمال لم يحاولوا التنظيم بعد، ولم يصِل عدد كوادرنا إلى العشرين، كما أن القدامى منهم لم تمُرَّ عليهم ثلاثة أعوام من النشاط داخل تنظيم لم يزَل في طور الطفولة، حيث لم يكُن لتنظيمنا وجود سوى في القاهرة والإسكندرية ودمياط والمنصورة، وكان بناؤه لا يزال بسيطًا إذ لم يكُن لدينا إلا «لجنة فنية» تهتم بالطباعة «المركزية»، ولم تعمل بعض الأجهزة مثل «لجنة الإشراف» و«المالية» … إلخ. بالإضافة إلى هذا كنا نجهل تمامًا الصِّلات بين العمل الشرعي والعمل السري … وإذا كنا قد «هاجمنا» بالرغم من نقاط الضعف الكبيرة هذه، فإن هذا يعود لسببَين:
  • أولهما: اعتقادنا بأن المد الثوري سيقوم برأب الصدع فينا.
  • والثاني: هو إحساسنا بالضرورة الوطنية للعمل الحاسم.

من المعروف أن شيئًا لم يحدث في هذا اليوم وأن الجامعة ظلَّت هادئة لعدم تلقِّي الطلبة الوفديين أوامر، بخلاف الأمر بعدم العمل؛ فالوفد مقتنِع تمامًا بأنه حقَّق الاستقلال بمعاهدة سنة ١٩٣٦م التي طلب مراجعتها، وهذه المراجعة من وجهة نظره تتعلَّق بنقاط صغيرة وسيتم الحصول عليها، كما أن الوضع الاجتماعي الذي ازداد خطورة بسبب ظروف الحرب قد يعبِّر عن نفسه في شكل «اضطرابات» قد تصبح خطيرة إذا حدثت مظاهرات.

كان هذا الموقف انتصارًا — داخل الحركة المصرية — لعبد الرحمن الشرقاوي الذي انسحب بجنوده، إزاء «إصرارنا» على التمسُّك بتحليل المد الثوري الحتمي، وأسَّس معهم الحزب الشيوعي لشعبي وادي النيل، الذي أطلقت عليه الحركة المصرية الاسم الساخر: «الحزب الشيوعي لمصلحة الضرائب»، كان هذا هو أول انشقاق هام في الحركة المصرية، ولنقُل هنا إن رأي عبد الرحمن الشرقاوي كان أيضًا رأي كل «منافسينا»٢٣ فلم يتظاهر أحد سوانا.

كنا في الواقع على حق، إن المد الثوري موجود بالفعل ولكن التوجيه الذي انتظرته الجموع من الوفد في المعارضة انعدم فأخذ مكانه — على الأقل لفترة — توجيه آخَر يقف على استعداد.

بينما كنا الوحيدين الذين تصرَّفنا بطريقة لائقة على صعيد النضال من أجل استقلال مصر، لم تقِف الرجعية مكتوفة الأيدي؛ إذ حاولت أداتها الطيِّعة جاهدةً تحويل الانتباه إلى القضية الفلسطينية، وهي القضية التي لم تزَل تخدمها حتى انتهت بالقضاء عليها؛ وأود هنا أن أقول إننا أهملنا القضية الفلسطينية آنذاك؛ كنا — كشيوعيين — الأعداء المنطقيين (الطبيعيين) الوحيدين للصهيونية في الوقت الذي كانت فيه المنظمات الصهيونية في مصر تُناضل، بموافقة السلطات ومساندتها، ضد «الرابطة المُعادِية للصهيونية» التي قام بتأسيسها القطاع الأجنبي في الحركة الديمقراطية للتحرُّر الوطني، وتولى مارسيل إسرائيل مسئوليتها السياسية؛ وكان عداؤنا للصهيونية، المبطَّن بنفور عميق من معاداة السامية (حتى أننا لم نتمكَّن من التعاون مع أبسط أعداء السامية) موقفًا مبدئيًّا، فقد كنا نحس أن معاداة الشيوعية للصهيونية هي جزء من تكويننا إلى حدٍّ لم نستشعر معه الحاجة إلى إهدار الجهود «لإثباته»، لذلك عندما قام الإخوان المسلمون بالدعوة للاحتفال بذكرى «يوم بلفور» بقصد صرف الأنظار عن العمل الوطني، لأنهم لم يقوموا قبلها بالدعوة لتخصيص يوم للإمبريالية، اكتفى منشور الحركة المصرية بفضح عملية الإلهاء هذه، وأظن اليوم أن الحكمة كانت تقتضي منا الاشتراك في هذا «اليوم».

إن الأحداث بعد هذا معروفة، المظاهرات التي قام بها الطلاب بدفعة من الطلبة الشيوعيين، والبُعد الوطني الذي أعطاها إياه نشاط الطبقة العمالية المصرية وكتيبتها الطليعية: عمال شبرا، ثم الإعلان الإنجليزي في ٨ مارس سنة ١٩٤٦م بالجلاء غير المشروط عن وادي النيل (الجزء المصري منه بالطبع).

هناك ملاحظات أخرى تبدو لي هامة:

في الفترة التي كانت فيها الجماهير على استعداد لتتبع خطانا، لم نكُن نعرف إلى أين نقودهم لافتقارنا إلى الخبرة، أدرك هذا صدقي باشا الذي كان حينئذٍ في السلطة، إذ يكفيه أن يستقبل وفدًا من لجنة الطلبة والعمال ليعرف أنه ليس لدينا خط سير، وهو لوم يمكن توجيهه إلينا. ولكن فلنتذكر أن خبرتنا في الاتجاه السياسي لم تتجاوز الشهور الستة، وأن وضعنا الداخلي يكاد يوصف بالفوضوية الكاملة؛ حيث ألغيت جميع أقسامنا ولم يعُد لنا هيكل تنظيمي؛ أما في الجامعة فكان الطلبة الشيوعيون من كل المنظمات، والمنظمات الشيوعية جميعها تضم طلبة، يتصلون ببعضهم البعض؛ حيث أدَّت هذه الفترة المضطربة إلى نبذ القواعد التي تمثِّل قيودًا على العمل.

ولأذكر هنا تجربة مشابهة تم الحكم فيها علينا ونحن عارون:

كان هذا في الهايكستب؛ حيث انتهينا من إضراب عن الطعام، لقد كانت معركة حقيقية نُقل أثناءها عددٌ منا، وكنت بينهم، باعتبارهم القادة إلى أماكن أخرى: زنازين عارية ننام فيها مباشرة على الأرض، ثم اجتمع بعضنا أخيرًا في ثكنة بلوكات النظام بالعباسية، وكان أول ما ضايقنا هو توقُّف الإضراب بينما كنا نرى وجوب استمراره لثقتنا من إمكان الحصول على الإفراج.

ذهب رئيس البوليس السياسي إلى الهايكستب وقابل وفودًا من المعتقلين لمناقشة مطالبهم وقد ترك هؤلاء «باعتدالهم» «انطباعًا ممتازًا»، إذ لم يكُن لهم في الواقع مطلب سوى عودتنا … إزاء هذا الضعف المحقق اتخذت الإدارة رد فعل عنيف بدلًا من الاستجابة للمعتقلين «لحُسن سلوكهم» ولم يقف الأمر عند عدم عودتي بل تعدَّاه إلى عدم منح تيسيرات، وإلغاء عدد من الامتيازات التي حصلنا عليها. ولأكمل ذكرياتي عن الإضراب بما أنني بدأت الحديث عنه؛ بدأ هذا الإضراب عندما تم الإفراج عن المعتقلين الصهيونيين بينما ظلَّ الشيوعيون محتجزين، ولأعترف أولًا بغبائي — يا لقسوة الاعتراف! — الذي لا أزال نادمًا عليه: بعد اتفاقات الهدنة، وكان الإفراج عنا متوقعًا بالفعل مع نهاية الحرب، صارحتُ أحد ضباط البوليس بحرجي، لأنني وأنا المصري أدين بخروجي من السجن إلى هزيمة الجيش المصري! لقد كنت مخطئًا في هذا ولكنني لم أكُن مدركًا لتأثير هذا الرأي على مجرى الأحداث، حيث عدلت السلطات — وأنا على يقين من هذا — عن رأيها بسبب هذه الفكرة الصائبة في نظرها! على أنني لست واثقًا من الاستفادة دائمًا من الدرس.

قمنا بإضراب عام عن الطعام، وكان موقفنا قويًّا جدًّا في ظِل ظروف نهاية المعارك؛ حيث فقدَ اعتقالنا، الذي أدَّى إليه بدء الأعمال الحربية، مُبرِّرَه: قمنا بعمل وصلة تليفونية على الخط الوحيد الذي يصل معسكرنا بالقاهرة وبوزارة الداخلية! كنا إذن على علم بما يجرى ولقد أدركنا ما وراء الأمر الذي جاءنا بأن الوزارة ترغب في رؤية المسئولين بكل عنبر — كانت العنابر هي «مأوانا» بالفعل — لذا طلبت كلمة شرف من نائب القائد الذي أرسلوه للتفاوض معنا فلم يجرؤ على إعطائها، وكان اختياره بسبب صِلاتنا الممتازة أثناء الفترة التي قضيتها في سجن الأجانب في عام ١٩٤٧م، وقد طلب مني هذا الأخير الذهاب لمقابلة الوزير. عندها أغلقنا علينا الأبواب عازمين على المقاومة وبخاصة أننا نعلم أن الأوامر المُعطاة حتى هذه اللحظة تقتصر على اتخاذ إجراءات تهديدية.

كان الوضع إذَن يبدو مشجِّعًا عندما علمنا بأن زملاءنا في العنابر الأخرى وافقوا على الذهاب معلنين ثقتهم من استمرار الإضراب في غيابهم بالقوة نفسها، وبالرغم من هذا التبرير «الثوري» داخلني الإحساس بأنهم إنما استسلموا للضغط، لم يعُد بوسعنا إذ ذاك التمسُّك بموقفنا، فقد تم نقلنا في عربات شحن، وكنت مرتديًا سروالًا قصيرًا جدًّا بدون قميص، وقد صاحبت خروجنا أغانٍ حماسية ينشدها المئات من المعتقلين، وإن لم أكُن واثقًا من أن عددًا من هؤلاء لم يكونوا في أعماقهم مستريحين للتخلُّص منا.

قادتنا عربة الشحن المكشوفة التي عبرت بنا القاهرة وأنا نصف عارٍ إلى المحافظة؛ حيث تم توزيعنا على عدد من أقسام البوليس، ولقد كلفنا فشل الإضراب غاليًا؛ إذ إن الوضع تغيَّر مع استمرار الأحكام العرفية لمواجهة حالة الإرهاب التي أدَّت إليها محاولات الاغتيال المدبَّرة من جانب الإخوان المسلمين، كما أن الرجعية كانت تعلم حدود تصميمنا، لذا انتظرت السلطات وهي مطمئنة انتهاء الأسابيع الثلاثة التي نتوقف بعدها حتى لا نتسبَّب في اضطرابات خطيرة لدى ذوي الصحة الضعيفة؛ أما الإضرابات الأخرى فقد أسفرت عن الإفراج عن غير المشتركين في الإضراب من المعتقلين فاستخلصت «المجموعة الأخرى» من هذا أن الإضرابات غير مجدية وأن العمل داخل المعسكرات فكرة جنونية، وانتهت الغالبية العظمى من الشيوعيين اليهود بالموافقة على مغادرة مصر؛ حيث «لا فائدة» من الإصرار، أما نحن فكنا نقول إن الإفراج عنا لن يتم حتى يُطلق سراح المجموعات الأخرى من المعتقلين، كما أن البروليتاريا (الطبقة العمالية) لا يمكنها التحرُّر إلا بتحرير كل الطبقات المستغلة!

ها نحن قد بعدنا عن عام ١٩٤٦م؛ فلنعُد إليه.

كان صدقي باشا على حق في رأيه بأن لجنة الطلبة والعمال لا تمثِّل خطرًا حقيقيًّا، ولكنه مع هذا ارتكب خطأً كبيرًا عندما أنشأ لجنة على غرارها تضم جميع القوى الرجعية، وطليعتها الإخوان المسلمون بغرض إضعاف تأثير لجنة الطلبة والعمال، وعندما شن الهجوم «بالمؤامرة الشيوعية الكبرى» التي سبق لي الحديث عنها والتي أدَّت إلى القبض على مئات الأشخاص بناءً على قوائم مُعدَّة منذ زمن طويل … وقد رويت كل هذا فيما تقدم.

ظنَّ صدقي باشا أنه بهذا قمع الحركة الشعبية فذهب لتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع إنجلترا، وكان هذا من سوء حظه؛ لأننا وإن كنا لا نعرف ما نريده، كنا على علم تام بما لا نريده وهو معاهدة مع إنجلترا، وقد أعطتنا هذه المعاهدة هدفًا واضحًا فاستُؤنف نضال الجماهير بالاشتراك المتصاعد للوفديين، ويعود هذا للأسباب التالية:
  • كان العديد من الوفديين قد أُلقي القبض عليهم في يوليو مع الشيوعيين، ومن ناحية أخرى كان العديد من الشيوعيين (وبخاصة د. ش) تعمل داخل الوفد وتُساهم في تثبيت جذوره على الأقل بين الطلبة والصحفيين، كما كان هناك التأثير المتزايد لموقف العمال النضالي في «لجان الأحياء».

  • كان الوفد خارج السلطة، وكانت قيادته، التي تظنُّ أن إنجلترا ستعيدها إلى الحكم، وأنها ستجد بسهولة وسيلة للتفاهم معها، كما حدث في سنة ١٩٣٦م، سعيدة بإثبات أن الاتفاق بدونها مستحيل.

كان هناك خطأ في الحساب كما هو معروف؛ فالرجعية لا تزال في حوزتها أوراق لم تلعب بها إذ خلفها صدقي النقراشي باشا الذي ذهب بالمشكلة إلى الأمم المتحدة.

ثم حدثت «حرب فلسطين».

كان هناك أثناء ذلك حملة مشوَّشة للوحدة: لقد انتهت فترة الاحتقار المتبادل بين التنظيمات المختلفة وإن ظلَّ هذا الاحتقار موجودًا بين القيادات، لا أستطيع التحدث عن الآخَرين، ولكن حزبنا لم يكُن يحمل للتنظيمات الأخرى إعجابًا شديدًا ومع هذا كنا المحركين النشِطين للوحدة معها، ولي كعادتي في ظروف أخرى مسئولية خاصة في اتخاذ هذا القرار وكنت أستند على ثلاثة اعتبارات:
  • أنه كانت لمنافسينا قيمتهم بالرغم من عيوبهم العديدة.

  • أن مفاهيمنا ستنتهي بالانتصار في جميع المجالات لأنها مفاهيم صحيحة، والمفاهيم الصحيحة تنتهي دائمًا بالانتصار، وهذا في الواقع مفهوم خاطئ.

  • أن مواجهة العدو بوحدة وإن كانت هشة إلا أنها أفضل من تشتيت القوى، هنا أيضًا كان الموقف مفرطًا في السذاجة، وهذا ما أدركناه في الشهور التي سبقت مايو سنة ١٩٤٨م.

تطوَّعنا إذَن للبدء في عملية الوحدة بأسرع ما يمكن وكانت المماطلة من جانب إسكرا Iskra التي عرفنا فيما بعد أن ما دفعها لهذا هو حاجتها لضم أكبر عدد من المجموعات الأخرى حتى تتمكَّن من مواجهة «الوحش» الذي نمثِّله؛ ومن المجموعات التي انضمَّت إلينا مجموعة «القلعة» — سُمِّيت كذلك لأن المسئول عنها يقطن هذا الحي — وكان يزعم هذا المسئول أنها تضم مائة ألف عضو! وقد بلغت عدم واقعية الأعضاء، الذين لم يتجاوز عددهم العشرين، حد تصديقه! ويعود إلى هذا المسئول الفضل التاريخي الكبير في اجتذاب الضابط الشيوعي الأول الذي لعب فيما بعد دورًا رئيسيًّا في ظروف عديدة من تاريخ مصر؛٢٤ هناك أيضًا مجموعة مارسيل، وفي الإسكندرية مجموعة «أناتول»، بالإضافة إلى إسكرا ومجموعة شهدي-الجبيلي، أي إن خمس مجموعات اتحدت معنا.

الإجراء الثاني وهو التجنيد المكثَّف والسريع عن طريق ضم الأشخاص المتواجدين في محيط التنظيم، وإذا كانت الحركة المصرية تُدخل أعضاءها بهذه السرعة، فلماذا لا تشعر المجموعات الأخرى بالحق في إدخال مناضلين بدون المرور بمرحلة «الإعداد» التي وضعتها الحركة المصرية؟ ومع هذا كان هناك فارق رئيسي في الطبقات التي يتم الاختيار منها، وفي أسلوب الاختيار، وهل يتم من خلال العمل، أو أثناء حفل أو استقبال يختلط فيه الرقص والغزل بالحوار السياسي.

لست أذكر الوقت الذي استغرقه الإعداد للوحدة الذي تلخص من جانبنا في إبعاد بعض العمال من المرشحين للقيادة، حيث كان واضحًا عدم استعدادهم لتحمُّلها. تم إذَن هذا الإجراء الثاني وقد أفضى بلا شك إلى نتائج إيجابية — على الأقل — في البداية: انضم الأجانب في «قطاع» هائل بقيادة مارسيل، وكنت مسئولًا عن هليل Hillel نظريًّا، فهو يُعد — لمعرفته التامة بالعربية — أكثر «مصرية» مني، كما أنه الأقدم والأكفأ في عمله الذي كان غزيرًا، وقد وافق هليل Hillel على عدم المشاركة في القيادة مع قصر اهتمامه على «الأجانب».
تطور «قطاع» الأجانب على أساس الجاليات، كان هناك قسم يوناني يضم بين أعضائه ياناكاكيس Yannakakis الذي أصبح بعد ذلك مدرسًا بإحدى كليات فرنسا وواحدًا من أنشط المناضلين المعادين للسوفييتية بجريدة المراقب الجديد Novel Obser Vateur وقسم أرمني يضم «جوجو» Jojo البسيط اللامع، وقسم إيطالي يضم بصفة خاصة العديد من اليهود النشِطين، المتواضعين المتفانين وشديدي الكرم؛ وقد توزع هؤلاء منذ ذلك الحين على بلاد عديدة ولا سيما فرنسا، وبرغم هجرهم النشاط النضالي احتفظ معظمهم بمعتقداته وساعدوا ماديًّا أحزاب البلاد التي استقروا فيها بكرم فائق النظير لقد كانوا حوالي الألف، ونجح جميعهم بلا استثناء في المهن التي عملوا بها، كما أن الغالبية العظمى من أبنائهم يعتبرون من الطبقة المثقفة في جيلهم (بإمكاني الحكم على الوضع في فرنسا حيث يتركَّز، كما قلت، أكبر عدد ممكن وليس هناك ما يدعو لأن يختلف الوضع في البلاد الأخرى).
أصبح التمصير إذَن أمرًا واقعًا، لم يعُد للأجانب الدور الحاسم، لا في الحركة المصرية فقط، ولكن أيضًا في التنظيم الجديد الذي تحقَّقَت به وحدة الحركة الشيوعية آنذاك، ومع هذا لم يكُن هناك مواقف وطنية متطرِّفة، فقد ظلَّ اثنان من الأجانب وهما يونس وشندي٢٥ في القيادة، وأصبحت أميرة مسئولة عن قطاع المرأة بينما ضم قطاع الطلبة شقيقها مع العديد من الشباب غيره، كان هناك أيضًا دور لأوليفييه Oliver وتولى جو المجلة، من الآن فصاعدًا أصبحت جميع القوميات ممثلة بدرجة كافية؛ لهذا تم بناءً على اقتراح يونس الاحتفاظ باسم الحركة المصرية مع تغيير لفظ المصرية إلى لفظ جديد أكثر أهمية وهو «الديمقراطية»، وكانت هذه التسمية بالفعل صحيحة ودقيقة حتى إن الموافقة عليها تمَّت بالإجماع، بالرغم من تشابهها مع اسم إحدى المجموعات التي يضمها التنظيم الجديد، هكذا أصبح التحرُّر الوطني والديمقراطية هما أهدافنا العامة من الآن فصاعدًا.

اتخذنا إجراءً آخَر بدا لنا مُلائمًا، وهو تجميع القطاعات في أمانتين تتكون أولاهما من القطاعات التنظيمية، والأخرى من القطاعات غير التنظيمية، وهي تشمل بالطبع مجالات عمل هامة جدًّا مثل المجلة التي تمثِّل أهم إضافة لإسكرا، وكان ما يضمن الحماية لهذه المجلة هو استنادها القوي على اثنين من أبناء شخصيتين هامتين من البرجوازية الكبيرة؛ بالإضافة إلى المجلة كان هناك القطاع الطلابي الذي انتشر بسرعة مذهلة، وقطاع المرأة، والأجانب، والجيش … ربما أنسى أحدها … نعم، وقطاع الأقاليم، وقطاع السودان.

كان انضمامي إلى هذه القطاعات خطأً كبيرًا لأنها تمثل قطاعًا ثانويًّا إلى جانب القطاعات التنظيمية التي كان يجدر بي أن أوليها اهتمامي، ولكنني كنت أبغي الانسحاب عن الأنظار كما أنني كنت أظن صادقًا أن قطاعًا يضم بدر وحميدو وعادل٢٦ ليس بحاجة لوجودي.

لكن المهم هو تحديد الظروف التي أدَّت إلى وجود الأزمة التي لا أذكر إلا القليل من أحداثها وإن كنت أظنني قادرًا على تحليل أسبابها: هناك سببان رئيسيان تضافرا لإحداث الأزمة.

أولهما: وهو السبب الموضوعي، أن الوضع العام يبدو مشجعًا؛ فالحزب لم يكُن يتطوَّر فحسب بل يكاد يتفجر في جميع القطاعات، وقد تكون النتائج التي حققها قطاع الأقاليم هي النتائج المذهلة بحق وخاصة أن الوحدة ضاعفت من إمكاناتنا المالية، حيث بلغت ميزانية الحركة الديمقراطية للتحرُّر الوطني حوالي ألف جنيه مصري بينما كانت ميزانية الحركة المصرية سبعين جنيهًا؛ كان العمل بهذا القطاع الذي تطوَّر بسرعة كبيرة لا يزال في بدايته، إذ إنه يرتكز أساسًا على اجتذاب أعضاء، وتوزيع المنشورات والمجلات، ازددنا إذَن كفِرق وليس ككوادر؛ حيث إننا لم ننجح في إنشاء مدرسة للكوادر بالأقاليم، وهذه الحلقة الرئيسية هي القوة الأساسية للحزب.

لا أزال إلى اليوم أجد التحليل الذي قمت بعمله عن الطبقات في الريف صحيحًا إلا أنه، لأسباب لا أستطيع تحديدها، لم يكُن «مقنعًا»، وهذا ما يدعو للأسف، وخاصةً أن برنامج الضباط الأحرار للإصلاح الزراعي، وهو البرنامج الذي قام بإعداده عضو اللجنة المركزية للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، وقد أخبرني بذلك بنفسه دون حرج، يعكس المفهوم البرجوازي للإصلاح الزراعي، حتى أنني ظننت أنه أُعِد بواسطة خبراء أمريكان!

كان قطاع «المرأة» أيضًا ينمو داخل الحزب، وكذلك قطاع «الطلبة» الذين بلغ عددهم ألف طالب، وهم العناصر اللامعة النشيطة التي تُسمى اليوم «باليسارية»؛ أما قطاع «الجيش» فكان يتطوَّر بأقسامه الثلاثة: ضباط وصف ضباط (وهو القسم الذي أعطى أفضل النتائج) وعمال؛ أما القسم الذي شعرنا بالحاجة الشديدة إليه فهو قسم يضم «الجنود».

هناك إذَن زيادة سريعة جدًّا في عدد الأعضاء بالحزب، كما أن هناك تفاوتًا متزايدًا بين عدد الأعضاء وعدد وكفاءة الكوادر؛ أما على صعيد الأنشطة فكان يبدو أن كل شيء يسير على ما يُرام؛ حيث تضاعفت أنشطة القطاعات المختلفة وقامت إضرابات هامة جدًّا وعنيفة جدًّا بعد الوحدة.

ولكننا لم نكتشف الضغط المتزايد للرجعية في حينه، لم نُدرك في الوقت المناسب أن الرجعية لا تزيد من ضغطها فحسب (قمع الإضرابات بوحشية متزايدة، اعتقالات مستمرة للمناضلين) بل هناك بالإضافة إلى هذا وضع اقتصادي يتضافر معها، وهو الوضع المرتبط بنهاية حالة الانتعاش التي أدَّت إليها الحرب، وبداية الأزمة وعلى وجه التحديد ظاهرة العمال الذين بلغ عددهم ٣٠٠٫٠٠٠ بالمعسكرات الحربية، هؤلاء العمال الذين وجدوا أنفسهم بين يوم وليلة بلا عمل وبلا إمكانية العثور على عمل.

هناك إذَن في «الخارج»:
  • وضع اقتصادي يزداد خطورة، وقد أفضى هذا الوضع إلى جو من المعارك تزداد شراستها ويندر الانتصار فيها.

  • وضع سياسي يزداد خطورة: إن الرجعية لم تكُن لتقف مكتوفة الأيدي أمام التزايد المدهش للقوى الشيوعية والقوى الوطنية التي يوازي تطورها تطور قوانا.

وبينما كان النضال بالداخل يتطوَّر هو الآخَر بقوة، كنا قد أصبحنا عاجزين عن مواجهة هذا الوضع فضلًا عن تحليله.

كان العنصر الثاني في هذا الوضع هو الصراع ضد يونس، وقد أخذت بسذاجتي المعهودة وقتًا طويلًا — أقصد سنوات طويلة — لإدراكه.

جلبت الجامعة إلى الحركة الديمقراطية مثقفين لامعين يتطلَّعون إلى اليوم الذي يتولون فيه زمام أمور الحزب؛ لقد كانوا كمثقفين متطرفين بعض الشيء، وهم يتساءلون لماذا لا يتم التمصير كاملًا بتصفية يونس؟ وبينما يرون أن دور «الأجانب» ينبغي خفضه إلى الصفر. يميلون من ناحية أخرى إلى الإقلال من أهمية مرحلة التحويل إلى الوضع البروليتاري؛ كان المهم بالنسبة لهم هو أن يكون المرء مصريًّا، أما مقابلة المثقفين بالعمال في مصر فهو في رأيهم مظهر من مظاهر التعميل (القول بأن العمال وحدهم قادرون على قيادة الحركة الاشتراكية)؛ بدأ إذَن الصراع ضد يونس، في البداية بغير وضوح ثم بطريقة حازمة وحاسمة.

كان ما أثار الاضطراب هو تضافر هذين العنصرين (الصراع ضد يونس والسبب الموضوعي) الذين لولاهما لاستطعنا تحليل الأحداث ثم مواجهتها بالاتحاد ولأمكننا التغلب على خلافاتنا الداخلية بسهولة، بالإضافة إلى الصعوبات المتزايدة التي تواجهنا؛ من هنا عظم الصدمة للهجوم الذي يضع مسئولية هذه الصعاب على عاتق مناضل بعينه ودوره.

كان أول انفصال فوجئنا بحدوثه انفصالًا «يساريًّا» كاملًا، وهو انفصال أُدِين بشدة من الجميع بمَن فيهم عادل والإسكريون وقد تم بناءً على مبادرة شُهدي التي أثرت على قطاع الطلبة الذين «يريدون الذهاب إلى العمال»، كما أثرت على قطاع الأجانب؛ إذ لم يوافق بعض أعضائه على دورهم المحدود في إطار القطاع، وعلى المثقفين الذين تمكَّن شهدي من ضمهم إليه.

ضم الانفصال أيضًا عددًا كبيرًا من الأعضاء الذين لم نشعر بغيابهم على صعيد القيادة، إذ إن شخصًا واحدًا هو الذي غادرها، وهو مسئول بالمجلة التي لم ينقصها المحررون، كما أن إدارات القطاعات الغنية بالأعضاء والخبرة لم تتأثر هي الأخرى بهذا الانفصال؛ ستكون لنا عودة لدور القطاعات في الحركة الديمقراطية، أما بالنسبة لقطاع الطلبة فقد كان هدفنا هو إنشاء تنظيم طلابي شيوعي يمكنه احتواء عدد كافٍ من الأعضاء حتى يتخلص القطاع من الزيادة الفائضة.

تم الانفصال الحقيقي بعد الانفصال الأول بفترة قصيرة على أثر تقرير قمت بتقديمه، ويهدف هذا التقرير إلى توسيع تمثيل الحزب والاقتراح بأن يصبح «حزب القوى الوطنية والديمقراطية»؛ في جو عادي تبدو المشكلة بسيطة. ما الصيغة القادرة حقًّا على التعبئة في ظل الظروف التي نمرُّ بها؟ هل هي قاعدة الحزب العمالي أو صيغة أكثر اتساعًا؟ من البديهي أن التنازل عن إقامة الحزب الشيوعي التقليدي لم يكُن هو غرض التقرير الذي يعبِّر في الواقع عن حقيقة أساسية، وهي أن الطبقات ذات الجوهر العمالي يمكن أن تقبل قيادة شيوعية وأن تعتبرها ممثلًا شرعيًّا لها في ظِل انتصارات الاشتراكية الباهرة؛ وقد عرفت فيما بعد أن أحزابًا شيوعية عديدة تبنَّت هذه الصيغة نفسها.

على كل الأحوال كان التقرير قابلًا للمناقشة، لماذا إذَن لا تتم مناقشته بهدوء وتعديله وإلغائه إذا لزم الأمر؟ لهذا السبب أقول إن التقرير كان ذريعة — وخاصة أنني سحبته إزاء ردود الفعل التي أثارها — للصراع ضد يونس الذي أصبح التصالح معه أمرًا مستحيلًا؛ إذ أُنشِئ تيار سُمِّي ﺑ «العادلي» لمواجهة اليونسية، ولنقل فورًا إنه تيار سلبي لا يقترح سوى مقاومة خط القوى الوطنية الديمقراطية، ولنقل أيضًا إن التاريخ أصدر حكمه حين غادر عادل مصر بإرادته للعمل في معمل جوليو Joliot حيث بدأ إعدادًا علميًّا لامعًا، مما أهله ليصبح المسئول عن المشاكل الذرية في مصر على أعلى المستويات.٢٧

كان الطريق مسدودًا؛ إذ لم يكُن في وسع العادليين الانفصال بعد إدانتهم الشديدة لانفصال شُهدي، وخاصةً أن العمال — بعد تذمُّرهم الوقتي — لم يكُن لديهم أدنى رغبة في الانفصال؛ أما نحن فقد واجهنا بالإضافة إلى عقمنا وإلى القمع المتزايد، هجمات عديدة على درجة عالية من الدقة، إذ بدأت الحركة الديمقراطية إلى جانب معاركها ضد المعاهدات أهم معركة لها، وهي المعركة المتعلِّقة بمستقبل فلسطين، وسأعود إليها فيما بعد.

بالرغم من سحب التقرير وعدم تغير شيء في الممارسة، وبرغم مناشدتنا للمعارضين بأن الواقع يفرض علينا مشاكل خطيرة وهامة جدًّا، إلا أننا كنا كمَن ينطح الصخر؛ وكان علينا قبل كل شيء مقاومة هذا الخط المشئوم الذي يُعَد السبب الحقيقي في جميع المصاعب … يمكن التساؤل: لماذا لم أنسحب؟ يجب أن أقول بمنتهى الصدق إنني لم أفكِّر في الانسحاب ثانية واحدة، إذ إنني بالرغم من عدم وضوح الرؤية تمامًا، كنت أعرف أن الحركة المصرية، وهي التي تجتمع على الأساسيات مع استثناء مؤقَّت لحميدو الذي انضمَّ إليه مجاهد، هي الممثلة للتيار الثوري الصادق داخل الحركة الديمقراطية وهذا ما أثبتت الأيام صدقه، كما أن زملائي كانوا سيعتبرون هذا الانسحاب، الذي أقول للمرة الثانية إنني لم أفكِّر فيه أبدًا، خيانة.

لقد كانت فترة حزينة ظهر فيها بقوة الوجود المستمر «لتيارين من الحركة الشيوعية المصرية»، وقد كتبت عن هذين التيارين تقريرًا ركزت فيه على ضرورة إعداد كوادر قيادية على جميع المستويات على أن تكون هذه الكوادر لا من «المثقفين اللامعين» بل بقدر الإمكان من العناصر «سليلة الطبقات الثورية» فهذه العناصر هي وحدها التي لا تتحرك في جميع الاتجاهات، وهي التي لا تشعر بالخوف وتحتفظ بقدرتها على القتال كاملة في الفترات الصعبة … إن «الحزم» أهم كثيرًا من المعلومات الواسعة المستمدة من الكتب: هذا هو الدرس المستفاد من التجربة المريرة في سنة ١٩٤٧-١٩٤٨م.

وظلَّت المشكلة: «هل كانت الوحدة ضرورية؟» بعد تفكير أقول: إن الأسباب التي أدَّت إليها لا تزال صحيحة، ولم يكُن في إمكاننا ألا نقوم بها، ولكن كان علينا أن نكون أكثر يقظة وأكثر قدرة على الاستفادة من الدروس، ولكن فيض الأحداث لم يُتِح لنا الوقت الكافي للتفكير، وأتحمَّل وحدي مسئولية ذلك؛ حيث إن هذه المهمة تقع على عاتقي بصفتي الأكبر سنًّا والأقدم والأقل اتصالًا بالأحداث؛ ولكن ما جدوى الندم المستمر على هذه الحقيقة: «لو كنا أكثر قدرة لحقَّقنا نتائج أفضل.»

بالنسبة لإسكرا التي تمثِّل التيار الآخَر في هذا الوقت، حسم التاريخ بوضوح نقطة: مَن هم الثوريون؟ وعلى الرغم من أنني لم أعاصر حقبة الحزب الشيوعي المصري إلا أنني لا أعتقد أن التاريخ قد أجاب بطريقة مختلفة على السؤال نفسه.

١  حي الزمالك، وكان مولده عام ١٩١٤ قُبيل قيام الحرب العالمية الأولى.
٢  كانت تُدعى زفيرا بيهار، من أسرة يهودية اشتغلت بتجارة السجاد باستانبول.
٣  ليس هناك تاريخ محدَّد لهجرة أسرة كورييل من موطنها في إسبانيا إلى مصر، مرورًا بمدينة توسكانا الإيطالية، ولكننا نرجِّح التاريخ الذي يُورده هنري كورييل؛ لأن مصر أصبحت منذ مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر أكثر اجتذابًا للمستثمرين الأجانب.
٤  استمد جمال عبد الناصر أفكاره من الفكر البرجوازي الإصلاحي الذي كان مطروحًا على الساحة السياسية في مصر منذ الأربعينيات، كما استمد بعضها من الفكر الاشتراكي بقدر محدود تزايد تزايدًا نسبيًّا في الستينيات على وجه الخصوص.
٥  حول موقف الحركة الشيوعية الدولية من الحركة الشيوعية المصرية، راجع الدراسة السابقة.
٦  يقصد بذلك المظاهرات التي نظمها الطلبة عام ١٩٣٥م للمطالبة بتكوين «جبهة وطنية» من الأحزاب البرجوازية المتصارعة للعمل على عودة دستور ١٩٢٣م، وتحقيق الاستقلال الوطني.
٧  سنعود لاحقًا لتحليل الوفد الذي يتعذر وصفه «بالبرجوازية» بسبب تكوينه الاجتماعي المركب الذي تقوم فيه البرجوازية بدور متواضع. (هنري كورييل).
٨  بالنسبة لجزء من الوفد سيتم هذا بمنتهى حُسن النية؛ على سبيل المثال طه حسين الذي كان في هذه الفترة على ما أذكر وزيرًا للتعليم سيتحدث عن مهام وزارته «بعد الحصول على الاستقلال». (هنري كورييل).
٩  يونس الاسم الحركي لهنري كورييل.
١٠  يقصد الفلاحين بعزبة والده بالمنصورية؛ حيث قام هنري وروزيت بزيارات متعدِّدة لهم في بيوتهم لتزويدهم بالأدوية الوقائية.
١١  يقصد الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي.
١٢  لورد كيلرن فيما بعد.
١٣  ميدان مصطفى كامل.
١٤  عند إلغاء معاهدة ١٩٣٦م في عام ١٩٥١م نادى الوفد ﺑ «وحدة الوادي تحت التاج المصري».
١٥  أحد الكوادر القيادية بالحزب الشيوعي الفرنسي ومن مسئولي «مكتب المستعمرات» وقد أقصاه الحزب عام ١٩٥٣م بسبب صِلاته بهنري كورييل.
١٦  كان هنري كورييل قد زوَّد كوكس — صديقه الإنجليزي، عضو لجنة الشرق الأوسط بالحزب الشيوعي الإنجليزي — بالمعلومات الخاصة بموقف حدتو من ثورة يوليو (أوائل أغسطس ١٩٥٢م) مما دفعه إلى كتابة مقال بالدايلي ووركر أيَّد فيه حركة الجيش المصري، وعندما اتخذت الحركة الشيوعية الدولية موقف الإدانة للثورة، عوقب كوكس وزوجته.
١٧  يقصد محمود حسني العرابي السكرتير العام للحزب الشيوعي المصري ١٩٢٣-١٩٢٤م.
١٨  هذه المعلومات غير صحيحة، فكلٌّ من عمر حسن وسليم زكي تدرَّبا على يد الإنجليز وليس الروس، ولم تكُن أعمارهم — عندئذٍ — تنبئ بأنهم أدركوا الأوكرانا، اللهم إلا إذا كان تدريبهم قد تم في مرحلة الطفولة.
١٩  يقصد د. فؤاد مرسي ود. إسماعيل صبري عبد الله اللذين أسسا تنظيمًا حمل اسم «الحزب الشيوعي المصري» عام ١٩٥٠م، عرف في أوساط الحركة الشيوعية المصرية باسم «الراية»، وهو اسم الجريدة التي أصدرها الحزب.
٢٠  تولَّى التدريس بهذه المدرسة هنري كورييل، وجوماتالون، ودافيد ناحوم (من العناصر البرجوازية اليهودية)، بالإضافة إلى ثلاثة من أبناء البرجوازية المصرية هم: طاهر المصري، وأحمد التوني، وزكي هاشم، والأخير كان وزيرًا للسياحة لفترة قصيرة في عهد أنور السادات.
٢١  يقصد لطف الله سليمان، وعندما أورد جيل بيرو في كتابه «هنري كورييل، رجل من طراز فريد» هذه العبارة، رد عليه لطف الله سليمان بمقال نُشر بمجلة «فرنسا والبلاد العربية العدد ١٢٠، يوليو-أغسطس ١٩٨٤م» دون أن يدري أن بيرو ينقل عن مذكرات هنري كورييل.
٢٢  يقصد قرار ١٩٦٥م الذي اتخذه الحزب الشيوعي المصري بعد انتهاء محنة المعتقلات على أساس أن النظام أصبح يسير في اتجاه الاشتراكية. (لمزيد من التفاصيل راجع: رفعت السعيد، تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، الوحدة، الانقسام، الحل، ١٩٥٧–١٩٦٥م، دار الثقافة الجديدة.)
٢٣  يقصد إسكرا والتنظيمات الأخرى.
٢٤  يقصد أحمد حمروش، وكان عندئذٍ برتبة ملازم، وقد لعب دورًا كبيرًا في العمل بين الضباط، وكان من أبرز كوادر قسم الجيش داخل حدتو.
٢٥  يونس الاسم الحركي لهنري كورييل وشندي الاسم الحركي لهليل شوارتز.
٢٦  بدر: هو سيد سليمان رفاعي، وحميدو: محمد شطا، وعادل: عبد المعبود الجبيلي.
٢٧  تولى د. عبد المعبود الجبيلي (عادل) رئاسة هيئة الطاقة الذرية عند تأسيسها في عهد عبد الناصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤