الخرافة الثالثة عشرة

الأقسام الفَجَّة في مسرحيات شكسبير تستهدف العامة، والفلسفة للطبقات العليا

يُستهَل فيلم «هنري الخامس» للورانس أوليفييه (١٩٤٤) بدوران تصويري عالي الزاوية عبر مدينة لندن الإليزابيثية، ونهر التيمز الأزرق على نحو لا يَتَّسِق والمنطق، لتستقر الكاميرا أخيرًا على مسرح جلوب المسقوف. ونرى الجمهور يجتمع استعدادًا للعرض المسرحي. ويُظهر لنا تَتابُع المَشَاهِد رجالًا ونساءً في ملابس باهِتة الألوان يجلسون في مقاعدهم في الأَرْوِقَة وعلى الأطراف حول الساحة، تَتَخَلَّلهم وَمَضات من الألوان؛ إذ يدخل زوج من النساء الأنيقات، يرفع لهما الرجال القبعات. ثمة صَبِيَّان ضئيلان يلعبان، وأحد النبلاء يَعْتَمِر قبعة ذات ريش وسترة ضيقة مشقوقة ذات لونين مَرَّ بين حشود الحرفيين والمتدربين والمواطنين، برفقة امرأة تبيع البرتقال من سلة معها. دلالة كل هذا المشهد واضحة: ألا وهي أن مسرح جلوب كان له جمهور متباين اجتماعيًّا، وأن مسرحيات شكسبير استمالت النبلاء والعامة على حد سواء، وأن الرجال والنساء اعتادوا ارتياد المسارح بأعداد كبيرة متساهلة، ومن المفترض أنهم استمتعوا بجوانب مختلفة من المسرحية الجاري أداؤها.

fig5
شكل ١: جمهور في عصرنا الحالي بمسرح جلوب لشكسبير المُعاد بناؤه في لندن، يشاهدون مسرحية «هنري الثامن» عام ٢٠١٠ (الصورة: بيت لو ماي. أُعِيدَ تقديمها بتصريح كريم من مسرح جلوب لشكسبير).
أخذ أوليفييه هذا التصور لمسرح جلوب من كتاب مهم نشره ألفريد هاربيدج قبل إخراجه فيلمه بسنوات قليلة. تَصَيَّدَ هاربيدج في مؤلفه «جمهور شكسبير» وثائق معاصرة لبيان أن الجماهير في تلك الحقبة كانت «مقطعًا عرضيًّا لسكان لندن»، رغم أن «الشباب ربما طغت أعدادهم نوعًا ما على أعداد كبار السن، وتجاوز أعداد الذكور النساء والعلمانيين المتدينين.»1 كان لكل من هاربيدج وأوليفييه أجندة خاصة؛ إذ رَوَّجا لوجهة النظر هذه عن المسرح في أوائل العصر الحديث. بالنسبة إلى هاربيدج، كانت المقابلة ما بين مسرح الحقبة الإليزابيثية والمسرح الذي عاصره، الذي كان محدودًا للغاية من الناحية الاجتماعية، فلم يستطع إنتاج نسخة حديثة من أعمال شكسبير: «لو كان من شأن تصادم عارض بمسرح جلوب أن يجعلنا في مواجهة بقَّال، فإن الاصطدام العارض في مسرح اليوم سيضعنا أمام مُدَرِّس.»2 وبالنسبة لأوليفييه، كانت أهمية القطاع العرضي لمجتمع لندن الذي تمتع به مسرح جلوب تتسق أيديولوجيًّا مع غايته الدعائية في فيلمه عن زمن الحرب. حُذِفَت كل مؤشرات المنافسة والخيانة من المسرحية — فشخصية هنري كما رسمها أوليفييه، على نقيض هنري شكسبير، لا تهدد مواطني هارفلور المحاصرين بالاغتصاب والذبح، ولا يتقاضى نبلاؤه ذهبًا فرنسيًّا ليخونوه — من أجل إنتاج فيلم فائز على نحو غير إشكالي (وهو ما أطلق عليه المخرج تريفور نان فيما بعد اسم «النشيد الوطني في خمسة فصول»).3 وبالطريقة نفسها فإن تمثيله لجمهور مسرح جلوب يجعل المسرحية وكأنها تخاطب — وتبني في الوقت ذاته — هُوِيَّة إنجليزية مثالية، ومُوَحَّدَة، وبلا طبقات. وكما لاحظت آن جينَّالي كوك، في دراسة مُراجِعة لوجهة نظر هاربيدج وأوليفييه — وعنوانها «مرتادو المسارح المميزون في لندن على زمن شكسبير ١٥٧٦–١٦٤٢» يشي بكل شيء — فإن هذه وجهة نظر عاطفية.4 ويقترح تحليلها أن مشاهدي المسرحيات في واقع الأمر «جاءوا، في المقام الأول، من المستويات الأعلى من النظام الاجتماعي»، مُبَيِّنَةً أنه علاوة على التكلفة المتوسطة نوعًا ما للدخول، ورسوم الانتقال عبر نهر التيمز، إضافة إلى وقت الفراغ فترة ما بعد الظهيرة المشجع على حضور المسرح جعل التوافد على المسارح مَسْعًى أكثر لياقة بالنخبة مما أجاز هاربيدج.
والواقع أن مسألة مَن الذي ارتاد فعلًا المسارح على أيام شكسبير كان من الصعب فصلها عن الصورة المثالية للأثرياء والفقراء والنخبة والعامة الذين تتلامس أكتافهم وهم يستمتعون بمسرحية «هاملت». (استشهد أنطوني سكوليكر بالمسرحية نموذجًا للصياغة الأدبية الرصينة التي «ينبغي أن تُعْجِب كلَّ الناس أمثال الأمير هاملت» في أوائل القرن السابع عشر).5 من الصعب بمكان تقويم الأدلة القائمة على هوية مرتادي المسارح — سنتناول مسألة كيف خاطبت المسرحيات القطاعات المختلفة من الجماهير التي حضرت لمشاهدتها على نحو متباين — وذلك إلى حدٍّ كبير لأن جزءًا كبيرًا من تلك الأدلة مصدرها المشايعون. عندما خاطب ستيفن جوسون على سبيل المثال «مواطنات لندن النبيلات» في مسرحيته «مدرسة الإساءة» بقوله: «كثير منكن يردن التسرية عن أنفسهن بالمسارح»، من المهم أن نعي العنوان المطول لمسرحيته: «قدح جميل في الشعراء والزمارين والممثلين والمهرجين وأمثالهم من متحولي الكومنولث وهم يرفعون شعار العصيان بممارساتهم الخبيثة»: هذه ليست رواية محايدة، وربما كان جوسون يبالغ كثيرًا في دور النساء ضمن الجمهور الوليد للمسرح ليترك أثرًا أخلاقيًّا.6 وحينما أرسل اللورد العمدة وأعضاء المجلس المحلي في لندن إلى مجلس شورى الملك ليُعِينهما في حظر المسرحيات، وَصَفَا مرتادي المسارح بأنهم «حثالة القوم ذوو النزعات الشريرة البعيدون عن الرب» ومنهم «السائقون والتلامذة والخدم» و«الرجال الذين ليس لهم سيد»، وعندما كتب هنري كروس عن «المشاهدين من العامة والمتسكعين بالمسارح» وصفهم ﺑ «الأجيال المُدَنَّسَة وذُرِّيَّة الأفاعي: ألا يجب أن يكون هناك حكم سديد في هذا الشأن؟ من أين أتى نسل هذه الكائنات الجَهَنَّمِية المَوْلِد؟ المسرحية أشبه ببالوعة بالمدينة يسيل إليها كل الخَبَث، أو خُرَّاج في الجسم يستحضر كل التَّجَهُّم والغضب.» وتَشِي لغة الشكاوى بأن مؤلفيها لهم نزعات بيوريتانية أولية، وأن وصفهم ليس بالوصف العلمي الاجتماعي.7 ومن منظور مختلف ولكن انتهاءً بنتيجة شبيهة، فإن خطاب ويليام فينور «الشعر الجميل» «كثيرًا ما يُدان ويُسْتَهْجَن ويُحْكَم عليه بالموت / من دون محاكمة عادلة على يد جمهور / أحكامه تعيبها الأمية والوقاحة.» يستشهد بردة فعل الجماهير التي «مطت شفاهها وأشاحت بوجوهها» عن دراما بِن جونسون الكلاسيكية على نحو مُنَمَّق «سيجانوس» (بينما «أثنت عقول النبلاء على العمل عينه / بصيحات عالية احتفاءً بالشهرة المدوية للكاتب»).8 يزعم جون ويبستر، مفسرًا لقرائه فشل مسرحيته «الشيطان الأبيض»، أن المسرحية افتقرت إلى «أذن مصغية ومتفهمة»؛ لأن رواد المسارح كانوا «أغبياء جهلة»، لكنه أيضًا ربما يُعَدُّ شاهدًا متحيزًا.9 هذه التوصيفات المتحيزة، لا يستطيع أي منها أن يفيدنا بطبيعة الجماهير حقًّا.
إننا نعلم شيئًا عن تكلفة ارتياد المسارح؛ فقد كان أرخص رسم لدخول المسارح المفتوحة، للوقوف في الساحة، بنسًا واحدًا، وهو أقل معادل ﻟ «ربع جالون من أرخص أنواع الجعة، وما يوازي ثُلث تكلفة ملء غليون صغير تبغًا، وثُلث سعر وجبة في أرخص [المطاعم التقليدية].»10 ومن المعقول أن نفترض أن المسارح المختلفة استقطبت روادًا مختلفين نوعًا ما، ولا شك أن مسرح بلاك فرايرز المغلق كان يقدم تجربة مسرحية أكثر حصريةً وتميزًا في ظل سعته المنخفضة وأسعاره العالية. وبينما جعلت تكلفة الدخول الدنيا للمسارح المدرجة المفتوحة مثل مسرح جلوب، المقامرين هم الأقرب إلى خشبة المسرح، بلغت تكلفة هذا القرب المميز من المشهد بالمسارح المغلقة كمسرح بلاك فريرز شِلِنًا ونصف الشِّلِن. وكانت أرخص تكلفة لدخول مسرح بلاك فريرز نصف شلن. ولكن ليس من الواضح أن شكسبير ألَّفَ مسرحياته لجمهور ذلك المسرح على وجه الخصوص؛ فمسرحياته اللاحقة يبدو أنها أُدِّيَت في مسارح فرقة «رجال الملك» وجلوب وبلاك فرايرز. وعليه فبينما أن تركيبة الجماهير ربما كانت متباينة جدًّا، لم يكن البرنامج الترفيهي كذلك.
وربما الأهم من ذلك أن التكاليف غير المباشرة لارتياد المسرح كانت تُقَدَّر بالوقت لا بالمال. فلكي يرتاد الزبون المسرح كان عليه أن يكون مُتَفَرِّغًا من الثانية مساءً في يوم من أيام الأسبوع بخلاف العطلات. عندما يحضر البقال وزوجته، مُرْتادَا المسرح المُقَدِّران والمتمتعان بذهنية أدبية في مسرحية فرانسيس بومونت الرومانسية الساخرة «فارس المدق المشتعل» برفقة خادمهما رافي، إلى المسرح، لا يتضح لنا ما حَلَّ بمتجرهما وهما بعيدان عنه. وتفيد إشارات عديدة إلى كون ارتياد المسارح، على الأقل نوعًا ما، مَسْعًى ترفيهيًّا: ثمة تدوينة عن «ممثل بارع» في كتاب مشهور عن القوالب الحضرية بعنوان «زوجة» للسير توماس أوفربري (طالع الخرافة التاسعة والعشرين) تزعم أنه «يُسَرِّي عنا في أفضل أوقات فراغنا، أي ما بين الوجبات، وهو الوقت غير الملائم بالمرة للدراسة أو التمرين البدني»؛ مما يجعل من الواضح أن الضمير المخاطب في كلمة «عنا» توحي ضمنًا بمجتمع لا حاجة له للعمل لكسب العيش.11
الواقع أن أغلب الأدلة المتاحة لدينا عن الأفراد الواقعيين الذين ارتادوا المسارح تتعلق بأناس من طبقات اجتماعية عليا، لكنهم إذًا الأشخاص الذين تَسَنَّى حِفْظُ رسائلهم ومستنداتهم. وهناك أيضًا تلميحات لأساس اجتماعي أوسع للجماهير. ويرجع الفضل لجهود أندرو جور في وجود دليل وثائقي للنطاق العريض من الأفراد الذين ارتادوا المسرح خلال الفترة محل النقاش، ولو أنه من الصعب التأكد من مدى تقليدية مرتادي المسارح هؤلاء من بين الأعداد المهولة التي حضرت المسرحيات؛ يُقدِّر جور أن حوالي ٥٠ مليون تذكرة دخول للمسرح بيعت في الفترة ما بين افتتاح أول مسارح لندن في ستينيات القرن السادس عشر وإغلاقها على يد البيوريتانيين عام ١٦٤٢. وتتضمن قائمة جور التي تحوي قرابة ٢٠٠ اسم من المُدَّعِين المتورطين في العديد من حالات الفوضى بالمسارح، وتم تحديد هوياتهم؛ فكان منهم الجزارون وصانعو اللَّبَّاد والبحَّارة والإِسْكَافِيُّون والجرَّاحون والخدم والقساوسة الكاثوليكيون و«خادم يرتدي سترة زرقاء»، ونبلاء: منهم دوق باكينجهام والسير ويليام كافنديش، وسائحون: منهم توماس بلاتر ويوهانيس دوفيت الذي رسم صورة مبدئية لمسرح سوان عام ١٥٩٦، ونساء من الطبقة العليا: منهن ماري ويندسور التي ارتادت مسرح جلوب عام ١٦١٢، والسيدة جين مايلدماي والسيدة أوفرول، زوجة رئيس كاتدرائية سانت بول، التي كانت تتحلى، وفق ما جاء على لسان كاتب السير جون أوبري «بأجمل عينين رآهما على الإطلاق، لكنها كانت مستهترة بشكل عجيب؛ فعندما كانت تزور البلاط أو المسرح، كان المغازلون يَلْتَفُّون حولها.»12
ما الذي استمتع به هذا الجمهور المختلط؟ أعرب قليل من مرتادي المسارح عن تجاربهم؛ فصَدَّقَ طالب المحاماة جون مانينجهام على أنه من «الممارسات الصحيحة في [مسرحية الليلة الثانية عشرة]، أن يُدفع مدير المنزل إلى الاعتقاد بأن سيدته المطلَّقة واقعة في حبه، بتزييف رسالة من سيدته، تخبره فيها عمومًا بالخصال التي تحبها فيه دون غيرها، واقفةً على لفتاته إذ يتبسم، وبهاء ملبسه، وما إلى ذلك. وبعدها، عندما ظهر ليخطب وُدَّها، جعلوه يؤمن بأنهم كانوا يرونه مجنونًا.» لكنه لم يفصح عن شيء حيال الأداء التمثيلي للتوءم.13 واستمتع الْمُنَجِّم سايمون فورمان — في وثيقة يتعين استعمالها بحذر، حيث يمكن أن تكون من الأعمال المزيفة التي ترجع للقرن التاسع عشر — بتصميم الرقصات في مشهد الوليمة بمسرحية «ماكبث»؛ حيث ظهر شبح بانكو وجلس على مقعد ماكبث، وكذلك بمشهد مَشْي زوجة ماكبث وهي نائمة، لكن ملاحظته الوحيدة المتعلقة بالساحرات كانت أنهن «ثلاث سيدات أو جنيات أو حوريات»، وحينما شاهد مسرحية «حكاية الشتاء» ذكر حيل أوتوليكوس «الْمُتَشَرِّد الذي يظهر بملابس رَثَّة تمامًا فيبدو أشبه بمُهْر جِنِّيٍّ» لكنه لا يُعَلِّق على عودة تمثال هيرميون إلى الحياة في الفصل الخامس (لعله غادر المسرح قبل نهاية المسرحية). وفي عرض لمسرحية «عطيل» في أكسفورد عام ١٦١٠، تأثر هنري جاكسون بخاتمة المسرحية: «ديدمونة الشهيرة التي نحرها زوجها في حضرتنا … التمست شفقة المشاهدين بملامح وجهها وحسب.»14

تتصل هذه التعليقات الثلاثة على لسان رجال مثقفين بموضوع هذه الخرافة. هل كتب شكسبير الأقسام الفَجَّة في مسرحياته مخاطبًا بها عامة الناس، والجوانب الفلسفية مُخْتَصًّا بها الطبقات العليا؟ هذا غير صحيح بحسب مانينجهام الذي من الواضح أنه استمتع أيما استمتاع بتسلسل هزلي لكوميديا حسية في مسرحية «الليلة الثانية عشرة»، وكذلك بحسب فورمان الذي يسترجع أيضًا المؤثرات المسرحية الحسية من مسرحية «ماكبث» والجانب الكوميدي من مسرحية «حكاية الشتاء»، وكذا بحسب جاكسون الذي جاءت ردة فعله تعاطفًا وجدانيًّا. ولم يحدد أي من هؤلاء المشاهدين شيئًا مكتسبًا باعتباره مصدرًا لمتعتهم؛ ومن ثم يمكننا أن نقترح أن أي تكافؤ يسير بين المكانة الاجتماعية وبين جوانب استمتاع الجمهور هو مغالطة. وتلعب المسرحيات المخصصة لطلبة الجامعات في تلك الفترة بشدة على وتر الفكاهة الإباحية، كما في مسرحية «إبرة جامر جيرتن» (التي أُدِّيَت بكلية كريست بجامعة كامبريدج)، على سبيل المثال، حيث يُعْثَر على الأداة المسمى العمل الفني تيمنًا بها في دكة سروال أحدهم.

ربما يكون انتهاك تلك الجوانب من مسرحيات شكسبير لحدود المكانة مستمدًّا من الأفكار الفكتورية عن التهذيب الاجتماعي. من وجهة نظر روبرت بريدجز في بداية القرن العشرين؛ إذ كتب عن «أثر الجمهور على دراما شكسبير» (وهو أثر مؤسف بالنسبة لبريدجز): «كُتبت الأشياء الساذجة في مسرحياته للترفيه عن السذج، والفاحشة للفاحشين، والقاسية للقساة.» وتابع محذرًا من أن «الإعجاب بمثل هذه الجوانب أو التساهل معها» يقتضي «الهبوط بمستوانا إلى مستوى جمهوره، والاحتكاك بملوثات من تلك الكائنات البائسة التي لا نغفر لها أبدًا دورها في منع أعظم الشعراء والمؤلفين المسرحيين في العالم من أن يكون أفضل فنان على الإطلاق.»15 وهكذا، من وجهة نظر بريدجز، كان لجمهور شكسبير دَوْر مُؤْذٍ حيث اسْتَدْرَجَ الشاعر الراقي إلى الأعمال الوحشية الممتعة للعوام، مثل قتل أطفال ماكدوف في مسرحية «ماكبث»، أو إصابة جلوستر بالعمى على خشبة المسرح في مسرحية «الملك لير». وهذه بالتأكيد مشاهد وحشية في المسرحيات الخاصة بها، لكن ليس من الواضح بأي حال من الأحوال أنها تلك الفضلات غير المبررة التي تخيلها بريدجز؛ فاقتلاع عينَيْ جلوستر يطور موضوعي العمى والبصيرة في المسرحية ويؤكدهما حرفيًّا، على سبيل المثال، وبعرضه هذا المشهد الوحشي على خشبة المسرح يضاعف شكسبير من التشخيص القاسي لدوق ألباني: «سيمسي البشر آكلي لحوم بشر / شأنهم شأن أسماك البحار المتوحشة» («تاريخ الملك لير»، المشهد ١٦، البيتان ٤٧-٤٨)؛ هذا البيت ليس موجودًا بالتراجيديا. ولذا، فإن هذه الواقعة عنصر أساسي في أخلاقيات البؤس في المسرحية، وتنبؤها الجازم بمسرح القسوة الذي ظهر بالقرن العشرين.
إن القول بأن شكسبير، كما اقترح بريدجز، كتب مسرحياته بغض النظر عن جماهيره، لا يمكن أن يعلل نجاحه المستمر. وكما قال أندرو جور، نظرًا لأن الجمهور هو «العنصر الأكثر تقلبًا، وضبابية، وتغيرًا في نص الأداء الشكسبيريِّ، فإسهامه يُقَدَّم بوصفه وسيلة يسيرة للتخفيف من أثر سمات صناعة المسرح التي تبدو متناقضة مع الجماهير الحديثة.»16 لقد كتب شكسبير مخاطبًا، لا مُعاديًا، مجموعة متنوعة من سكان لندن الذين ارتادوا مسرح جلوب، ومن بعده مسرح بلاك فرايرز، وعلى العكس من زملائه المؤلفين المسرحيين، ومنهم ويبستر وجونسون، فهو لا يخاطب جمهوره على نحو مُوَسَّع في مادة استهلالية أو تقديمية (وعندما يفعل، نجد نبرته مهذبة، بل وحتى مُجاملة: لغة «سيداتي ساداتي» [المشهد الأول، مقدمة، البيت الثامن] من مقدمة مسرحية «هنري الخامس»، أو اﻟ «نسيم عليل» من خاتمة مسرحية «العاصفة» [خاتمة، البيت الحادي عشر] فإنه يرقى بمكانة الجمهور الاجتماعية). لم يترك لنا شكسبير أي مادة نقدية أو نظرية عن ممارسته الدراماتيكية، بخلاف المسرحيات نفسها: ربما، إذًا، يمكن للنقاش الدائر حول المسرح بمسرحية «هاملت» أن يكون بديلًا فعالًا.

مجموعة من الممثلين الرحَّالة وصلوا إلى إلسينور، وكان هاملت حريصًا على تدريبهم على أداء سيساعد على تأكيد رسالة الشبح والكشف عن جريرة الملك. ويطلب هاملت من الممثلين الإحجام عن الإيحاءات المبالغ فيها والتشدق بالكلام، موحيًا — ربما من فرط بهجة جمهور مسرح جلوب — بأن هذه الممارسات «تَصُمُّ آذان العوام الذين لا يَسَعُ أغلبهم إلا العروض البلهاء والضوضاء غير المبررة.» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، الأبيات ١٠–١٣). يجوز للتمثيل المسرحي المبالغ فيه، غير الطبيعي، أن «يجعل الساذَج يضحك»، لكنه يجب أن «يجعل العقلاء يشعرون بالأسى؛ هؤلاء الذين يجب أن تكون حريصًا على إسعادهم.» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، الأبيات ٢٦–٢٨). ولا يجب على المهرجين أن يرتجلوا، فهذه نقطة ضعف أخرى لدى «المشاهدين البلهاء» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيت ٤١). يتذكر هاملت مسرحية تتناول قصة ديدو وإينيس الأسطورية، وقصة سقوط طروادة المفجعة: المسرحية «لم تُمتع الملايين. لكنها كانت وليمة يقتات عليها العامة» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيتان ٤٣٩-٤٤٠). ولكن من المفترض أن هذه التعليقات التي أداها الممثلون وسط الجمهور الواقف في ساحة مسرح جلوب مسرحية في المقام الأول أكثر منها مباشرة. يلقي هاملت الافتتاحية المشهودة للكلمة الخاصة ﺑ «بيروس المتوحش» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، الأبيات ٤٥٣–٤٦٧)، ونرى أن بولونيوس وحده، المستشار الأحمق الأصل على تعليم جامعي، هو الذي ينتقدها «على نحو مبالغ فيه» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيت ٥٠١)؛ وقد نتخيل جماهير مسرح جلوب وهم منغمسون في إصدار هاملت لحُكْمه الْمُشَدَّد والمُلْزِم بقدر ما يستمتعون بقيود الممثل-الأمير عن أساليب التمثيل المتدنية التي من المرجح أن تستميل «العوَام». شأنها شأن أولئك الشهود الآخرين المفترضين على مسألة جمهور مسرحيات شكسبير، مسرحية «هاملت» أيضًا منحازة. وجل ما نعلمه علم اليقين هو أن مسرحية «هاملت» — المعقدة جدًّا لدرجة أن ينشر عنها كل أسبوع مقال أو كتاب علمي نقدي يتناول المسرحية على مدار ٤٠٠ عام من بعد تمثيلها على المسرح — كُتِبَت لتُعرض على المسرح، وارتبطت به بشدة وبإحساس أكيد بجمهوره المختلط.

هوامش

(1) Alfred Harbage, Shakespeare’s Audience (New York: Columbia University Press, 1941), p. 90.
(2) Ibid., p. 166.
(3) Ralph Berry, On Directing Shakespeare: Interviews with Contemporary Directors (London: Hamish Hamilton, 1989), p. 57.
(4) Ann Jennalie Cook, The Privileged Playgoers of Shakespeare’s London, 1576–1642 (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1981), p. 8.
(5) Anthony Scolaker, Diaphantus (London: 1604). Duncan-Jones cites as evidence of the play’s popularity the high incidence of the name “Hamlet” for boys in the first decade of the seventeenth century: Ungentle Shakespeare: Scenes from his Life, Arden (London: Thomson Learning, 2001), p. 180.
(6) Stephen Gosson, The School of Abuse (London, 1579), sig. F2.
(7) G. Blakemore Evans (ed.), Elizabethan-Jacobean Drama (London: A. & C. Black, 1987), p. 5; Tanya Pollard, Shakespeare’s Theater: A Sourcebook (Oxford: Blackwell Publishing, 2004), pp. 192-3.
(8) William Fennor, “The Description of a Poet,” in Fennors Descriptions (London, 1616).
(9) John Webster, “To the Reader,” in John Webster: Three Plays, ed. David Gunby (Harmondsworth: Penguin, 1972), p. 37.
(10) Quoted in Arthur F. Kinney, Shakespeare by Stages: An Historical Introduction (Oxford: Blackwell Publishing, 2003), p. 85.
(11) Blakemore Evans, Elizabethan-Jacobean Drama, p. 99.
(12) Andrew Gurr, Playgoing in Shakespeare’s London, 3rd edn. (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), pp. 197–212, 4.
(13) Quoted ibid., p. 225.
(14) Forman’s comments are included as appendices to the Oxford editions of the plays (Macbeth, ed. Nicholas Brooke, pp. 235-6; The Winter’s Tale, ed. Stephen Orgel, p. 233). Jackson’s note on Othello is in the Oxford edition, ed. Michael Neill, p. 9.
(15) Robert Bridges, “The Influence of the Audience on Shakespeare’s Drama,” in Collected Essays Papers &c. of Robert Bridges (Oxford, 1927), pp. 28-9.
(16) Gurr, Playgoing in Shakespeare’s London, p. 3.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤